أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدّين بن عثمان الغويليّ - تاريخ الصّهيونيّة والصّهيونيّة المسيحيّة: الجزء الثّالث















المزيد.....



تاريخ الصّهيونيّة والصّهيونيّة المسيحيّة: الجزء الثّالث


عزالدّين بن عثمان الغويليّ

الحوار المتمدن-العدد: 2419 - 2008 / 9 / 29 - 07:58
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


قد يعتقد البعض أنّ الدّافع الذي يحرّكني في كتابة هذه السـّـلسلة الحقدُ والكراهيّة لكنـّـي أوضـّـح للقارئ أنّ التـّـعصّب أو الحقد على الغير ليسا أبدا ما يقودني في هذا العمل؛ أنا أنادي بالدّيمقراطيّة فهل أناقض نفسي فأتعصّب لفكر ما أو أختلق الأكاذيب على الغير، إلاّ أنّ فهمي لبعض الكتابات الصّهيونيّة يكون حتما مختلفا عمّا يفهمه أناس آخرون وفي هذا ليس ثمـّـة أيّ عيب أو ضرر بل فيه منفعة لأنّ الغرض من الكتابة إنـّـما هو الحوار والمناقشة الذين لا هدف لهما سوى السـّـموّ بالوعي. الأمانة العلميّة فضيلة؛ هذا ما أؤمن به، لكنّ الصّهيونيّة الحديثة اتـّـخذت منحى جديدا تسعى من خلاله إلى تطبيع إسرائيل وضرب القوميّة العربيّة بجعل القضيّة الفلسطينيّة قضيّة لا تخصّ سوى أبناء فلسطين. أمّا التـّـطبيع فيتمثـّـل في جعل إسرائيل مقبولة من الشـّـعوب العربيّة من أجل تمهيد الأجواء وتعبيد السـّـبل أمام مزيد من التـّـوسّع الصّهيونيّ، وأمـّـا ضرب القوميّة العربيّة فيتمثـّـل في ترسيخ أفكار تـُـرجع العرب إلى أصول مختلفة. أنا لا أزعم أنّ الشـّـعوب العربيّة تعود لأصل واحد بل هم منحدرون من أصول مختلفة لكن جمعتهم هويّة واحدة هي أرقى من كلّ الهويّات وربط بينهم تاريخ مشترك؛ فهل في اختلاف الأصول العربيّة أيّ شيء مخجل أو أيّ نفي للهويّة العربيّة؟ أليس في الصّين 56 أثنيّة تعتبر جميعُها أنفسَها أمـّـة صينيّة (عدا التـّـبت الإنفصاليّة)؟ أليست الأمـّـة الرّوسيّة متكوّنة من أكثر من 120 إثنيّة تعتزّ كلـّـها بانتمائها لروسيا (عذا الشـّـيشان)؟ لماذا إذا لا نقود حملة توعية نحيي بواسطتها هويّتنا التي كدنا نفقدها؟ فليعلم القارئ أنـّـي أكتب عن الصّهيونيّة لإبراز مخطـّـطاتها وأخطارها وتزوير التـّـاريخ التي اعتمدته في صناعة "هويّة اليهود". أنا أومن بأنّ لليهود هويّة لكن لديّ احتفاظات على كيفيّة صناعة تلك الهويّة، وأكتب هذه السـّـلسلة لتنبيه اليهود الذين يقرأون العربيّة إلى ضرورة أن تراجع إسرائيل تاريخها وأن تعلن القطيعة مع الصّهيونيّة لأنـّـها لن تصنع مجد اليهود أبدا. والقطيعة مع التـّـاريخ الاستعماريّ لن تتمّ سوى برفع المظلمة على الفلسطينيّين؛ المظلمة التي امتدّت منذ ما يزيد عن نصف قرن.

وقد نجحت الصّهيونيّة إلى حدّ كبير في المهمـّـتين التين اتـّـخذتهما على عاتقها (تطبيع إسرائيل وضرب الهويّة العربيّة) وقد ساعدها في ذلك الجهل المتفشـّـي في أوساط الجماهير العربيّة والانتهازيّة المتفشـّـية في صفوف المثقـّـفين العرب. لكنّ الجماهير العربيّة لئن أرادات أن تنتزع فعلا الحقوق الفلسطينيّة وتخليص ذلك الشـّـعب المقاوم الذي طالت مأساته يجب أن تدرس الصّهيونيّة لكي تستطيع مواجهتها. لهذا السّبب أرى أنّ المسؤوليّة الملقاة على عاتق الحركات القوميّة واليساريّة والدّيمقراطيّة وكلّ حركات التـّـحرّر في العالم تتطلـّـب تركيزا مكثـّـفا على الصّهيونيّة بهدف وضع حدّ لأخطارها إذ هي في طبيعتها تهديد ليس للعرب والمسلمين فحسب بل للعالم بأسره. لست أبالغ في شيء فهذا تاريخ مدوّن ومُـثـبَت في الكتب ويقرّ به الصّهاينة أنفسهم وقد نبشته من كتب الصّهاينة أنفسهم لأعرضه على القارئ العربيّ بشيء من التـّـحليل ولم أزد عليه ولم أنقص منه شيئا. التـّـاريخ كان أهمّ دعامة في بناء دولة إسرائيل لأنّ الدّول والأمم لا تكون من دون تاريخ؛ لهذا تعمل الصّهيونيّة على ضرب التـّـاريخ العربيّ وتعمل على تشويهه لأنّ ضرب التـّـاريخ يؤدّي إلى ضرب الأمـّـة. أوّل ما ابتدأت به الصّهيونيّة التي تعلم أنّ التـّـاريخ لم يكن سوى تاريخا ميتافيزيقيّا موجودا في التـّـوراة هو صناعة تاريخ أو ترسيخ ذلك التـّـاريخ في الأذهان. وأنا أعرض لذلك التـّـاريخ وأبيّن للقارئ خصائصه الرّئيسيّة وهي محاولة متواضعة منّي في إثبات الحقائق. فليعلم القارئ أنّ هذا التـّـاريخ مدوّن ولم أبتدعه ولم أختلقه ولم أزد عليه شيئا، بل إنّ الصّهاينه أنفسهم قد كتبوه في كتبهم وأكـّـدوه بآلاف الأدلـّـة والإستشهادات والوثائق. ألا فاقرأوا التـّـاريخ أيّها القرّاء وستقفون على أنّ ما كتبت هو الحقيقة عينها.

الصّهيونيّة الدّينيّة:

يفتخر الكثير من الصّهاينة بأنّ الصّهيونيّة كانت حركة تحديثيّة في جوهرها سعت منذ البدء إلى التـّـخلـّـص من طرق الحياة التـّـقليدية التي كان يحياها اليهود وتمرّدت على أفكار الماضي، لكنّها في الحقيقة استعملت الرّموز الدّينيّة الموجودة في اليهوديّة الأرثدوكسيّة واستلهمت أفكارها من النـّـصوص التوراتيّة القديمة ومن خرافات الرّبابنة والتـّـلمود المرتبطة بما يسمّونه "الآمال اليسوعيّة" وبذلك كانت متجذرة في التـّـفكير الدّينيّ الأصوليّ. وليعلم القارئ أنّ التـّـلمود يمثـّـل التـّـوراة الشـّـفويّة التي يتوارثها الرّبابنة وعلماء الميدراش الواحد عن الآخر. وقد اضطلع الرّبابنة والأحبار والحاخامات بإيجاد الأرضيّة الدّينيّة التي من شأنها أن تجمع شتات اليهود الذين اندمجوا كلـّـية في المجتمعات الغربيّة ولم يكونوا مهتمّين البتـّـة بالدّفاع عن اليهوديّة بل بطموحات الصّهيونيّة التي كانت في صميمها استعماريّة بحتة فتحدّثوا عن أنّ طرد بني إسرائيل من أرضهم (سنة 70 ق.م. من طرف الرّومان) كان عقابا لهم على عصيانهم وقالوا إنّ عودتهم إلى فلسطين ستكون دليلا على أنّ يهوا قد غفر لهم ورضي عنهم، وقالوا إنّ يهوا بما أنـّـه قد عقد مع شعبه المختار عهدا وميثاقا ووعدهم بتلك الأرض فلا بدّ عليه من أن يخلـّـصهم من المنفى الذي عاقبهم به. بهذه الطـّـريقة وضعوا مصطلحات استقوها من التـّـوراة تتمثـّـل فيما يلي: العهد والوعد، الخطيئة والتـّـكفير، العقاب والثـّـواب، المنفى والخلاص. ولم يكن الغرض من كلّ ذلك سوى أن يجعلوا اليهود "شعبا" ليس فقط تاريخيّا يصنع التـّـاريخ بل متفوّقا على كلّ الشـّـعوب لأنـّـه إذا ما تمـّـت عودته لفلسطين فإنّ في ذلك تأكيد على العلاقة الخاصّة الفريدة من نوعها الموجودة بين اليهود وبين يهوا ربّهم. وإذا كان "الشـّـعب" اليهوديّ على علافة بالرّبّ فذلك دون أدنى شكّ تفوّق على باقي الشـّـعوب إذ يجعل اليهود شعبا خارقا للعادة. وما أسموه "الإنقاذ الوطنيّ" الذي سوف يحدث بتدخـّـل من ربـّـهم يهوا فيتمثـّـل في تغيير "التـّـركيبة" اليهوديّة ذاتها التي تمثـّـل عقبة في طريق ذلك المشروع عبر إعادة اليهود إلى الحياة الرّوحيّة وعبر التـّـنوير والتـّـحديث.

كتب آفيتزار رافينسكي، أستاذ الفكر اليهوديّ بجامعة القدس العبريّة، أنّ رجلا ذا مكانة كتب للفيلسوف اليهوديّ موسى ماندلزون مقترحا عليه إنشاء دولة يهوديّة في إسرائيل فردّ عليه ماندلزون بأنّ العقبة في تحقيق مثل ذلك المشروع تكمن في اليهود أنفسهم إذ صارت اليهوديّة عندهم ثانويّة ولن يستطيعوا، إيبسو فاكتو (ipso facto نظرا لهذه الحقيقة ذاتها)، أن يحقـّـقوا مشروعا تاريخيّا يجعل منهم قوميّة وليسوا مستعدّين لأن يُـقبلوا على أيّ مشروع عظيم. وقد تحدّث ماندلزون عن خضوع اليهود وعن قبولهم بالعذاب في صلواتهم. لكنّه (ماندلسون) عرض تفسيرا مختلفا للمواقف السّياسيّة اليهوديّة إذ أرجعها إلى سلبيّة الأحكام الملزمة (اسم فاعل) الموجودة في اليهوديّة ذاتها والتـي تعكس حسّا سليما يتمثـّـل في إرجاء الأوّلين للنـّـشاط الجماعيّ اليهوديّ الوطنيّ حتـّى عودة المسيح اليهوديّ التي مكـّنـت اليهود من التـّـأقلم مع حياة التـّـشتـّـت. العودة إلى فلسطين، كما أكـّـد الفيلسوف ماندلزون، لم تكن سوى مجرّد أمل موجود في الصّلوات وفي كنيس اليهود لاغير. ويقول إنّ العودة إلى فلسطين لن تتمّ من دون أعجوبة تعجيزيّة تؤكـّـد الإشارات والرّموز الموجودة في التـّـوراة ومن دون العمل على إثبات تلك الإشارات لا يجب على اليهود أن يعملوا على فرض العودة وبعث أمـّـة يهوديّة. ويمكن للقارئ أن يرجع إلى أغنية الأغاني الأولى والثـّـانية المنسوبتين، في العهد القديم من الإنجيل وفي التـّـوراة، لسليمان؛ فقد فسّرهما التـّـلمود بأنّ فيهما دعوة إلى عدم التــّـفكير في العودة إلى فلسطين أو إجبار اليهود على العودة في محاولة لتسريع التـّـاريخ لأنّ العودة القسريّة لن تعجـّـل في مجيئ المسيح اليهوديّ.

[المرجع:
Avietzer Ravitsky: Messianism, Zionism and Jewish Radicalism
آفيتزر رافيتسكي (Avietzer Ravitsky): "اليسوعيّة والصّهيونيّة والرّاديكاليّة اليهوديّة" ترجمة ميخائيل سفيرسكي وجوناثان تشابمان.
(أفيتزار رافيتسكي أستاذ وفيلسوف مرموق وهو مؤسـّـس حزب مايماد سنة 1999 وهو حزب دينيّ مرجعيّته حركة ميماد التي قادها الرّبـّـان يهودا أميتال. Meimad = Medina Yehudit, Medina Demokratit). ولعلّ كون هذا الحزب الدّينيّ الأصوليّ اليساريّ صهيونيّا يثبت للقارئ أنّ الماركسيّة كانت دوما آداة في يد الصّهيونيّة.]

تبدأ الأغنية الأولى بهذه الكلمات: "دعه يقبـّـلني بقبلات من فمه لأنّ حبـّـك (بالأحرى "حبـّـه") أعذب من الخمرة"، وفيها تتألـّـم أمرأة من المنفى والتـّـرمـّـل وتعبـّر عن حبـّـها لسليمان وتسأله أن يتصرّف تصرّف العريس تجاه عروسه. أمـّـا الأغنية الثـّـانية لسليمان فتبدأ بهذه الكلمات: "أستحلفكم، يا بنات القدس، بالغزلان وبوعلات الحقول ألاّ توقظن وألاّ تـُـقـِـمْـنَ الحبّ عندما يكون مجرّد رغبة..." (أي دعنَهُ يجيئ من تلقاء نفسه). بالرّغم من أنّ أغاني سليمان تحمل معان فلسفيّة عميقة فإنّ أغاني الحبّ تلك التي كـُـتبتْ في السـّـنوات 950 ـ 750 ق. م. اعتبرها الرّبابنة رمزا للعلاقة بين إسرائيل وربـّـهم يهوا، وكان ذلك تأكيدا منهم للمصطلحات التي وضعوها والتي ذكرتها في الفقرة السـّـابقة: العهد والوعد، الخطيئة والتـّـكفير، العقاب والثـّـواب، المنفى والخلاص. وإنـّـي أكتب في هذه السـّـلسلة عن الصّهيونيّة وليس عن اليهوديّة وأومن بأنّ اليهوديّة مختلفة عن الصّهيونيّة لأنـّـها ديانة، أمـّـا الصّهيونيّة فهي حركة أستعماريّة مافياويّة إجراميّة. وإنـّـي أعبّر هنا عن احترامي لكلّ الكتب الدّينيّة ولكلّ الدّيانات وللكتاب المقدّس بالرّغم من أنـّـي لا أومن به. لكنـّـي أنبـّـه القارئ إلى أنّ الصّهاينة قد غيّروا "بنات القدس" في الأغاني إلى "بنات صهيون".

كتب أفيتزار رافيتسكي بالصّفحة 12 من كتابه المذكور: "باختصار، أسواء تحدّثنا عن خاصّية يهوديّة مكتسبة أم لا، قمع الميل الطـّـبيعيّ نحو الحرّية خلقته المصاعب والإضطهاد... لكن رآه الفيلسوف موسى ماندلزون سمة أساسيّة موجودة في اليهود". وكان موسى ماندلزون Moses Mendelssohn (1729 - 1786) مفكــّـرا دينيّا تـُـرجع إليه الدّراساتُ التـّـاريخيّة وضعَ مذهب الحسكالا اليهوديّ. وهذا القول يبيّن أنّ رجال الدّين اليهود كانوا أوّل من قاد النـّـهضة اليهوديّة أو التـّـنوير اليهوديّ كما يفضّل البعض تسميتها. وقبل ماندلزون كتب بينيديكت سبينوزا إنّ شخصيّة الهيود هي التي تمنعهم من العمل السّياسيّ وقال لولا تفكيرهم الدّينيّ لتمكـّـنوا من إقامة إمبراطوريّة من جديد ولاصطفاهم الرّبّ من جديد. ولئن لم يكن سبينوزا مهتمّا بالدّيانة اليهوديّة بل بالحركات الاجتماعيّة والعلميّة والفلسفيّة في عصره فإنّ إحياء ما يسمـّـى القوميّة اليهوديّة جاء، آب إينشيو (ab initio لاتينيّة: منذ البدء) وليس بطريقة انعكاسيّة، نتيجة لإحياء التـّـفكير الدّينيّ اليهوديّ الأصوليّ الذي رسّخ مفهوم اليسوعيّة بمصطلحاتها التي ذكرتها في بداية هذا الفصل والتي ستؤدّي لاحقا إلى قيام الحركات الصّهيونيّة بمختلف اتـّـجاتها. لهذا السـّـبب قلت في الفصل الثـّـاني إنّ الصّهيونيّة كانت في بداياتها فكرا حالما ببعث "القوميّة" اليهوديّة. وحتـّـى هذا اليوم لا يريد زعماء إسرائيل الصّهاينة أن يفصلوا بين التـّـاريخ وبين الحركة الصّهيونيّة التي كانت استعماريّة صرفة ولا يريدون أن يتركوا ذلك التـّـاريخ وراءهم وهو تاريخ استعماريّ يزيد الشـّـخصيّة اليهوديّة تلطيخا. وفي هذا المجال لا أنكر جهود بعض اليهود النـّـزهاء، من أمثال شلومو زنذ وبول سيغاف، الذين انكبـّـوا على تقييم ذلك التـّـاريخ واعترفوا بأنـّـه تاريخ مشبوه وحافل بالكذب. ولا تتمّ قطيعة إسرائيل مع ذلك التـّـاريخ إلاّ بمنح الفلسطينيّن حرّيتهم وأراضيهم، كما قلت، وتسويّة صراعهم مع العرب نهائيّا. لقد وافق العرب على إيجاد دولتين في فلسطين إيمانا منهم بأنـّـهم ضعفاء ولكونهم على غاية من التـّـسامح لكنّ زعماء إسرائيل ماضون في تحقيق المشروع الصّهيونيّ المتمثـّـل في إبادة الفلسطينيّن أو طردهم وفي التـّـوسـّـع وابتلاع الأراضي العربيّة.

لماذا لا تريد إسرائيل القطيعة مع الصّهيونيّة؟

القطيعة مع الجرائم القديمة ومع التـّـاريخ القديم لا تتمّ إلاّ بتبنـّـي نظرة جديدة، علمانيّة، إنسانيّة، تضع حدّا للمآسي الفلسطينيّة وتقيم السـّـلام الذي هو مطمح كلّ الشـّـعوب. هل يرضى اليهود العاديّون المتنوّرون بتقتيل الفسطينيّن أو تشريدهم؟ وهل أنّ كلّ اليهود صهاينة؟ أنا لا أعتقد ذلك لأنّ الدّيانة اليهوديّة ديانة كغيرها من الدّيانات فيها أخلاقيات وقيم إنسانيّة. اليهود يعيشون في البلدان العربيّة والإسلاميّة منذ أقدم العصور ولم يتعرّض إليهم أحد وعندما طردتهم الدّول الأروبيّة (إسبانيا مثلا) لم يجدوا ملاذا سوى في البلدان العربيّة؛ فلماذا لا يعترف الصّهاينة وزعماء إسرائيل بفضل العرب عليهم في فترات متعدّدة من التـّـاريخ؟ الجواب هو أنّ ما يمنع ذلك الإعتراف وما يمنع القطيعة مع التـّـاريخ الأسود هو المصالح الصّهيونيّة الاستعماريّة التي تستند إلى نصوص دينيّة أثبت العقل بطلان أساطيرها. الصّهيونيّة مذ انطلقت أوّل مرّة اتـّـخذت أساطير التـّـوراة والتـّـلمود مرجعيّة لها وإلى اليوم تقول الصّهيونيّة العلمانيّة إنّ التـّـوراة أسواء كانت من عند الله أم لا تمثـّـل دعائم الهويّة اليهوديّة ولا يجب أن تكون من عند الله لكي تواصل تشكيل تلك الهويّة (المصدر: مسألة الصّهيونيّة لجاكلين روز ص 34). قد كان الإيطاليّ جيوسابـّي ماسّيني Giuseppe Mazzini 1805 – 1872 يحلم ببعث الإمبراطوريّة الرّومانيّة في القرن التـّـاسع عشر وجعلها مركز العالم، وما فعلته الصّهيونيّة (على يد موسى هاس الممهّد للصّهيونيّة) هو مزج الأفكار القوميّة بالدّين بإضفاء اليسوعيّة القديمة على القدس بالرّغم من أنّ تلك اليسوعيّة كانت قد فـُـقدت تماما في عهده، كما أوضحتُ في الفصل الأوّل، إذ انخرط اليهود في الحياة الثـّـقافيّة الأروبيّة كلـّـية. هذا ما كتبه أفيتزر رافيتسكي، أيضا، وهو يهوديّ نزيه: أنّ النـّـشاط والبلاغة الصّهيونيّين قاما على فكرة الإنقاذ والخلاص الموجودة في التـّـوراة.

Zionism called the Jewish imagination to the land of Israel just as messianism promised the return to Zion and the ingathering of the exiles.

لقد كان التـّـاريخ اليهوديّ ميتافيزيقيّا في جوهره أي لا وجود له من دون التـّـوراة وقصص التـّـلمود أو بالأحرى موجود فقط في التـّـوراة وقصص التـّـلمود. ما يسمـّـى التـّـاريخ اليهوديّ، خاصّة تاريخ ما قبل الصّهيونيّة العمليّة، لا يمكن إثباته أبدا مهما حاول الصّهاينة. أمّا تاريخ ما بعد الصّهيونيّة وما قبل 1948 فهو تاريخ جماعات دينيّة وعصابات وليس بتاريخ أمـّـة أو قوميّة من القوميّات ولذلك ارتبط التـّـجديد القوميّ بالدّين اليهوديّ لأنّ ذلك التـّـاريخ لا يمكن صنعه وإثبات صلاحيّته إلاّ عن طريق اليسوعيّة والإعجاز الدّينيّ والأعاجيب المدهشة. وكان همّ الصّهيونيّة ألاّ تجعل تاريخ الجماعات الدّينيّة والعصابات الصّهيونيّة التي اختلقت "القوميّة" اليهوديّة أمرا عرضيّا أو جاء عن طريق الصّدفة. جعلُ التـّـاريخ ناشئا عن تدخـّـل الرّبّ يضفي القدسيّة ويجعل اليهود أرفع هويّة موجودة على وجه الأرض إذ يجعل اليهود على علاقة وطيدة بربـّـهم يهوا ويجعل هويّتهم متأتـّـية منه. استنباط تاريخ لليهود حافل بالمآسي في المنفى كانت فكرة تـُبرز حنكة ودهاء لا مثيل لهما إذ جعلت الصـّـهاينة الاستعماريّين ثوريّين في أعين كلّ النـّـاس من اليهود وغير اليهود. لكن على ماذا ثاروا؟ التـّـاريخ يثبت أنّ غالبيّة اليهود لم تكن مهمّشة في أروبّا خاصّة مذ قامت الثـّـورة الفرنسيّة والدّليل على ذلك تركـّـز الثـّـروة في أيدي اليهود وكذلك تحكـّـمهم بالمجتمعات الغربيّة منذ القرن الثـّـامن عشر، أمّا اليهود المهمـّـشون فقد قبلوا بوضعهم ذاك واندمجوا في مجتمعاتهم لكنّ الصّهاينة وجدوا في الدّين ما يجعلهم ثوّارا على ما أسموه "مصير اليهود" ومشكل اليهود. وللأمانة العلميّة أقول إنّ بعض الرّبابنة ثاروا على الصّهيونيّة الاستعماريّة التي استعمل زعماؤها اليهوديّة في أغراض مصلحيّة براغماتيّة وأكـّـدوا أنّ استعمال التـّـاريخ وتأويله بتلك الكيفيّة يهدم اليهوديّة نفسها لكنـّـهم كانوا أقلـّـية.

لذلك السـّـبب أصبح مزج اليسوعيّة بالصّهيونيّة موضوع نقاش رئيسيّ لا يزال قائما حتـّـى اليوم ترتـّـبت عنه صياغات فيها بلاغة وحصافة لا مثيل لهما. ولا أزعم أنّ اليهود كلـّـهم صهاينة أو أنـّـهم راضون عن الممارسة الصّهيونيّة لكنّ الحركات الدّينيّة المتشدّدة وإن نقدت بشدّة استعمال اليسوعيّة والمبادئ الدّينيّة في خدمة الصّهيونيّة فذلك لا يعني أنـّـها لم تكن صهيونيّة أو أنـّـها لم تكن استعماريّة (معظمها صهيونيّة)؛ كلّ ما في الأمر أنّ تلك الجماعات الأورتوكسيّة ارتأت أنّ الصّهيونيّة العلمانيّة التي استعملت الدّين قد أضرّت بالصّهيونيّة أي أنـّـها ثارت على استعمال الدّين خوفا على الصّهيونيّة نفسها. لقد كان الصّهاينة العلمانيون الذين استعملوا اليسوعيّة في أغراضهم الاستعماريّة سيّئو السـّـمعة حتـّـى أنّ بعض الرّبابنة وصفوهم بأنـّـهم طائفة شرّيرة. من أولئك الرّبابنة الذين ثاروا على الصّهيونيّة العلمانيّة أذكر Joseph baer soloveichik الرّبـّـان والتـّـلموديّ الرّوسيّ (جوزيف باير شولوفايتشيك مولود ببراست، بلاروس) الذي شبـّه الصّهيونيّة العلمانيّة باليسوعيّة الباطلة وأكـّـد ألاّ فرق بينها وبين يسوعيّة الكبـّـالا للرّبـّـان شبـّـطاي زيفي Sabbatai Zevi (ولد بمنتينيغرو سنة 1926) الذي زعم أنـّـه اليسوع اليهوديّ المنتظر. كان شولوفايتشيك وإخوته وأبناؤه وأحفاده من بعده قد أسـّـسوا مذهبا تلموديّا أصوليّا مناهضا للحاسيديّة يسمّى بريسك ياشيفاس Brisk Yashivas، وبريسك هو الإسم الييديّ لمدينة براست البلاّروسيّة Brest-Litovsk. ويقال إنّ الكثير من أفراد عائلة سلوفايتشيك لا يساندون دولة إسرائيل، إلاّ أنّ الحقيقة هي أنـّـهم لا يساندون فحسب علمانيّة الدّولة الإسرائيليّة التي تتـّـبع نظاما تربويّا علمانيّا، ويعارضون دولة إسرائيل لأنـّـهم يريدون تعليما دينيّا صرفا فهم يعتقدون أنّ العلمانيّة تهدم "بيت إسرائيل".

معنى معارضة الصّهيونيّة الدّينيّة للعلمانيّة:

كتب أفيتزار رافيتسكي بالصّفحة 14 من كتابه "اليسوعيّة والصّهيونيّة والأصوليّة اليهوديّة": "كان ذلك التـّـحذير والهجوم (على العلمانيّة من طرف التــّـلمود والرّبابنة) موجـّـها أساسا ضدّ التـّـحريض "القوميّ" العلمانيّ وليس ضدّ الخاصّية اليسوعيّة للصّهيونيّة". لكنّ الطـّـوائف الصّهيونيّة توحـّـدتْ، بالقوّة، في مواجهة تلك الهجومات متجاهلة كلّ تحذير من تسريع التـّـاريخ أي تحقيق النـّـهاية التي تبشـّـر بها التـّـوراة وهي عودة إسرائيل إلى فلسطين. نعم. بعض الحركات التـّـلموديّة أرتأت أنّ صنع التـّـاريخ بالقوّة عبر إقامة دولة إسرائيل مناف للتـّـوراة ويجعل "النـّـهاية" متأتـّـية ليس من عند يهوا بل مفروضة بقوّة السـّـلاح من طرف الصّهيونيّة العلمانيّة. غير أنّ الصّهيونيّة متحالفة مع قوى دينيّة أخرى ارتأت أنّ فرض "النـّـهاية" بالقوّة يخدم اليهود والرّبّ يهوا. وقد تزعّم حركة التمرّد على الصّهيونيّة جماعة دينيّة واحدة هي جماعة بريسك ياشيفاس التي ذكرتها آنفا والتي تسمـّـى "ميشناغديم براست" أي "المعارضون من براست" وهي حركة تتمثـّـل في عائلة واحدة هي عائلة شولوفايتشيك. لكنّ الياشيفا سرعان ما تبنـّـتها طائفة الأشكينازي التي استمدّمت أسمها من سفر التـّـكوين وانتشرت في جميع أنحاء أروبّا. صار الأشكينازي الذين يتمسـّـكون بتفاسير التـّـوراة التي تعود للقرون الوسطى يمثـّـلون 80 بالمائة من اليهود ولا يختلفون مع باقي اليهود سوى في العادات والتـّـقاليد المتعلـّـقة بالأكل واللـّـباس والطـّـقوس (لباس الطـّـاليت عند الصّلاة مثلا). ويُعرف الجناح الألمانيّ للصّهيونيّة الذي تزعـّـمه الرّبابنة الألمان بأنـّـه اعترض خلال المؤتمر الأوّل الصّهيونيّ الذي عقد سنة 1897 على إنشاء دولة يهوديّة في فلسطين لكنّ صهاينة الشـّـرق الأروبيّ وروسيا تمكـّـنوا في عهد رئاسة دافيد فولفزون للمنظـّـمة الصّهيونيّة العالميّة وبعد موته سنة 1914 من بسط نفوذهم على تلك المنظـّـمة وتمهيد الطـّـريق أمام تشايم وايزمان لكي يرأسها في فترتين 1920 ـ 1931 و 1935 ـ 1946. وقد دعّم وايزمان على مستوى القاعدة اليهوديّة الإستعمارَ الفعليّ لفلسطين كما ذكرت في الفصل الأوّل، أمّا على المتسوى الدّيبلوماسيّ فقد تركـّـزت جهوده في انتزاع وعد بلفور.

ومن بين المعارضين للصّهيونيّة العلمانيّة التي استعملت اليسوعيّة لأغراض استعماريّة أذكر الرّبـّـان ميناحيم ماندل شنيرسون 1902 ـ 1994 الأوكرائينيّ الحاسيديّ المعروف باسم لوبافيتشر ربـّـي Lubavitcher Rebbe زعيم حركة "هباد" Habad أو تشاباد لوبافيتش، وهو معروف بأنـّـه لم يزر إسرائيل أبدا لكنّ ميناحيم بيغن وشارون وناتانياهو زاروه كلـّـهم للإسترشاد برأيه. وفي حرب 67 وكذلك خلال الحرب التـّـحريكيّة لسنة 73 لم ينقطع عن حثّ إسرائيل على احتلال سوريا والقاهرة وطوال حياته ظلّ معارضا لأيّ انسحاب إسرائيليّ من الأراضي العربيّة المحتلـّـة. وهو الذي أصدر الفتوى بأنّ اليهوديّ هو الذي ولدته أمّ يهوديّة وقال إنّ ذلك مطابق للهالاخا (القانون اليهوديّ بما في ذلك قانون اليهوديّة التـّـوراتيّ)؛ وليعلم القارئ أن الحياة الاجتماعيّة الإسرائيليّة والحياة العائليّة والأوضاع الاجتماعيّة الفرديّة وكذلك حياة الجماعات اليهوديّة خاضعة لقوانين وتفسيرات الرّبابنة والحاخامات المستمدّة من الهالاخا. وكلّ جماعة دينيّة تأوّل القوانين التـّـوراتيّة كما تشاء: الأشكينازي والميزراحيّ والشـّـفردي وغيرها كلّ لها تأويلاتها. المهمّ هو أنّ الرّبـّـان لوبافيتشر ربّي قد وضع مذهبا جديدا الهريدي أو " فوق الأصوليّة" وهو مذهب مغال جدّا. ولم يكن معترضا على الصّهيونيّة العلمانيّة لتركها اليسوعيّة بل لإيمانه بأنـّـها لم تنجز الرّؤيا اليسوعيّة بحذافرها، أي أنـّـها، في اعتقاده، لم تحقـّـق المشروع الصّهيونيّ بالكامل لأنّ التـّـوراة تقول إنّ دولة إسرائيل تمتدّ من البحر حتـّـى النـّـهر (الفرات) ومن مصر حتـّـى شمال إفريقيا ولذلك السّبب جعلت الصّهيونيّة علم إسرائيل خطـّـين أزرقين داخللهما نجمة داوود.

وفي سنة 2007 عقدت الصّهيونيّة مؤتمرا احتفلت فيه بمأئويّة الصّهيونيّة وجعلت له شعارا متكوّنا من ستّ صور، كلّ صورة مكوّنة من ستّ مثلــّـثات تمثـّـل نجمة داوود لكنّ المثلـّـثات السّتّ كلّ منها يمثـّـل صورة ترمز لشيء مرتبط بالصّهيونيّة: الشـّـعار يجده القارئ هنا:
http://www.mfa.gov.il/MFA/History/Modern+History/Centenary+of+Zionism/Year+of+Zionism+Logo.htm

ـ الخطـّـان المائلان في الأعلى يرمزان لعلم إسرائيل.
ـ السـّـهم الأحمر يرمز للشـّـرق في إشارة للتـّـوسّع الصّهيونيّ المستقبليّ.
ـ المثلـّـث البرتقالي يرمز للصّحراء وإحيائها.
ـ النـّـقاط السّتّ ترمز لعناقيد العنب التي تلقـّـاها الجواسيس الذين حلـّـوا في الماضي بفلسطين فوجدوها مليئة باللـّـبن والعسل.
ـ حرف الألف العبريّ يرمز لإحياء العبريّة.
ـ المثلـّـث الأخضر يرمز لشجرة الصّبـّـار ولإسرائيل الحديثة.
وأنا أورد هذا الشـّـعار لأبيّن أنّ الصّهيونيّة لم تتخلـّـى عن فكرة التـّـوسّع ويبرز تمسّكها بالتـّـوسّع في شعار المؤتمر نفسه: "الصّهيونيّة تساوي العمل أو الفعل؛ في الماضي واليوم وفي المستقبل.

وبالعودة إلى شنيرزون أقول إنـّـه عارض التـّـدخـّـل البشريّ في التـّـاريخ لأنـّـه رأى أنّ جمع اليهود بتلك الكيفيّة جعلهم عبيدا للقوى العالميّة، وفي نظره لا يتمّ تحرير اليهود إلاّ عبر خضوعهم لمشيئة الرّبّ وللتـّـوراة ولذلك عارض تسريع النـّـهاية عبر الإستراتيحيا البشريّة. العلمنة عنده لا يمكن أن تكون محايدة وبالتـّـالي قوّضت اليهوديّة. وهو يعلم جيّدا أنّ منح القوميّة العلمانيّة على الهويّة أسبقيّة على التـّـوراة لن يخدم تلك الهويّة لأنّ اليهود منقسمون جدّا ولا يمكن أن توحّد بينهم سوى اليهوديّة. وتقول جاكلين روز في كتابها "مسالة الصّهيونيّة" إنّ أعضاء "المجلس الوطنيّ" عندما اجتمعوا سنة 1948 من أجل تحرير وثيقة "الاستقلال" فضّلوا أن يضفوا عليها هالة من القدسيّة لأنّ ذلك يجعل الحديث عن أمـّـة ممكنا. ويمكن العودة لحركات دينيّة عديدة تمزج بين الصّهيونيّة والإستيطان وبين الدّين أو بالأحرى تروّج للصّهيونيّة وتطبـّـقها على أرض الواقع مستعينة بالتـّـأويلات الدّينيّة وبقوانين التـّـوراة الشـّـفويّة. وفي هذا الصّدد أذكر جماعة غوش أمونيم Gush Emunim المقاتلة. أمّا تسميتهم هذه فتترجم بـ"معسكر المؤمنين" وهي حركة نشأت خلال حرب 67 لكنـّـها صارت حركة علنيّة في إسرائيل تعترف بها الدّولة سنة 1978. تلك الحركة شجـّـعت الإستيطان وافتكاك الأراضي الفلسطينيّة لإيمانها بأنّ يهوا قد منح تلك الأراضي لبني إسرائيل، ويعتمد ربابنتها في ذلك على ما جاء في سفر يرميا، وهذه أهمّ فقرة فيه تتحدّث عن هبة يهوا لليهود:
" ... جعتلك نبيّا للشـّـعوب فقلتُ آه يا سيّد الرّبّ إنـّـي لا أعرف أن أتكلـّـم فقال لي الرّبّ لا تقل إنّي ولد لأنـّـك إلى كلّ من أرسلك إليه تذهب وتتكلـّـم بكلّ ما آمرك به. لا تخف من وجوههم لأنـّـي أنا معك لأنقذك بقول الرّبّ... أنظر قد ملـّـكتك هذا اليوم على الشـّـعوب وعلى الممالك لتقلـّـع وتهدم وتـُـهلك وتبني وتغرس... ثم صارت كلمة الرّب اليّ ثانية قائلا ماذا أنت راء. فقلت إنّي راء قدرا منفوخة ووجهها من جهة الشمال فقال الرّب لي من الشمال ينفتح الشرّ على كل سكـّان الارض. لأني هانذا داع كل عشائر ممالك الشمال يقول الرّب يأتون ويضعون كلّ واحد كرسيّه في مدخل أبواب أورشليم وعلى كل أسوارها حواليها وعلى كلّ مدن يهوذا وأقيمُ دعوايَ على كل شرّهم لانّهم تركوني وبخروا لآلهة أخرى وسجدوا لأعمال أيديهم.... هاأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الارض"

وترتبط غوش أمونيم ارتباطا وثيقا بالحزب القوميّ الدّينيّ المتطرّف وفي سنة 1968 قام أعضاء من أمونيم يقودهم الرّبـّـان موشي ليفينغر بإنشاء مستوطنة قرية عربة وكان صراعها من أجل الإستيطان منعطفا جعل جنوب الضـّـفـّـة الغربيّة يقع للإستيطان. ويومن ربابنة غوش أمونيم بأنّ مجيئ المسيح اليهوديّ المنتظر يمكن تسريعه عبر الإستيطان. أمّا المنظـّـمة الدّينيّة الثـّـانية التي أذكرها فهي "موليدات" Moledet اليمينيّة التي تنادي بنفي الفلسطينيّن، وقد أنشئت سنة 1988 على يد ريفاءام زائيفي Rehavam Ze evi الذي تزعـّـمها حتـّـى مقتله سنة 2001 ثمّ خلفه في قيادة تلك الحركة الرّبـّـان بنّي إيلون Rabbi Benny Elon . وعلى عكس حركة كاخ المتشدّدة تنادي موليدات بالتـرانسفير الاختياريّ. ومن الحركات الدّينيّة الأخرى أذكر "هردال إسرائيل" التي نظـّـر لها الرّبـّـان يهودا كوك والتي تؤمن قطعيّا باليهوديّة الارثودوكسيّة وتدعم الصّهيونيّة الدّينيّة علنا. وكانت تلك الحركة وراء الإستيطان في يهودا وسامرا. وأعلم القارئ في هذا الصّدد أيضا أنّ غوش أمونيم التي ذكرتها في هذه الفقرة لها جناح سرّيّ مسلـّـح يعمل على قتل الفلسطينيّن انتقاما منهم فقد دخل ثلاثة من أعضائها المعهد الإسلاميّ في الخليل سنة 1983 وأطلقوا النـّـار عشوائيّا ورموا القنابل اليدويّة فقتلوا 33 من الأشخاص لكنّ سلطات إسرائيل أطلقت سراحهم من السـّـجن بعد ذلك بقليل فاستقبلتهم الأحزاب الدّينيّة كأبطال. وللأمانة العلميّة أذكر أنّ الرّبـّـان ميناحيم فرومان يعمل على إرساء الحوار بين اليهود والفلسطينيّن ومن بينهم حركة حماس لكنّه كان عسكريّا شارك في حرب 67 وكان من المؤسّسين لحركة غوش أمونيم الصّهيونيّة المتشدّدة.

في أنّ الصّهيونيّة الدّينيّة والعلمانيّة وجهان لشيء واحد:

تقول جاكلين روز، وهي صهيونيّة معروفة بدفاعها عن الفلسطينيّن لأسباب إنسانيّة، إنّ فكرة الإنقاذ اليهوديّ (redemption) موجودة لدى كثير من الصـّـهاينة المتديّنين ولكنـّـها موجودة أيضا لدى الصّهاينة العلمانيّين. أمـّـا حركة غوش إيمونيم فقد اعتبر أعضاءها ميناحيم بيغين الزّعيم الأوّل لحزب اللـّـيكود أبناءه الأعزّاء؛ هذا ما ذكرته في كتابها المذكور آنفا بالصّفحة 37. وممّا لعب دورا في تغيير الحركات الدّينيّة المتشدّدة من أفكارها نحو المغالاة والمطالبة بترحيل الفلسطينيّن حرب 73 التـّـحريكيّة إذ شعرت تلك الحركات بالمذلـّـة عندما كادت القوات المصريّة البطلة والقوات العربيّة الأخرى أن تهزم الجيش الإسرائيليّ لولا الجسر الجوّي الذي أقامته أمريكا بينها وبين فلسطين الذي مكـّـن إسرائيل من أحدث أنواع الأسلحة. ولقد أصبحت تلك المجموعات الدّينيّة ترى أنفسها حامية إسرائيل ولا تريد أن تتنازل عن شبر واحد من الأرض وقد حاولت هيئة ممثـّـلة لكلّ الحركات الدّينيّة المتشدّدة تفجير بيت المقدس سنة 1982 كردّ فعل على اتـّـفاقيّة كامب دافيد ولازالت تسعى إلى نسف ذلك المكان التـّـعبّديّ العريق الذي يرمز لعظمة العروبة في فترة ما من التـّـاريخ. وترى حركة غوش إيمونيم، انطلاقا من تعاليم الرّبـّـان كوك، أنّ أسس الحضور الإلهيّ على الأرض يتمثـّـل في دولة إسرائيل وبما أنّ تلك المجموعات جميعها، دون استثناء، قد نصّبت أنفسها حامية للمستوطنات فإنـّـها تؤمن بأنـّـها تمسك في أيديها ليس فقط مستقبل إسرائيل بل "الأمـّـة" اليهوديّة بأسرها. وقد تبدو تلك الجماعات هامشيّة لكنـّـها في واقع الأمر هي التي تحدّد سياسة إسرائيل اليوم ومنذ تأسيسها وهي التي رسّخت مسرحيّة الإنقاذ كما تقول جاكلين روز.

وتعمد تلك الحركات الصّهيونيّة المتديّنة إلى إحداث الصّخب والاضطرابات لتحويل الأنظار عن الصّهيونيّة العلمانيّة واليسوعيّة على حدّ سواء فمنذ بداية القرن التـّـاسع عشر عمل الرّبـّـان يهودا ألكلاي Judah Ben Solomon Chai Alkalai (1798–1878) على نشر الصّهيونيّة وكان من مؤسّسيها الأوائل. ويعدّ كتابه "غورال لا أدوناي" (الكثير للرّبّ) 1857 تنظيرا لإعادة اليهود وكيفيّة تحسين أوضاعهم في فلسطين وقد أخذ تيودور هارتزل الكثير من أفكاره وخاصّة منها تلك الفكرة القائلة بضرورة خداع السـّـلطان لكي يتخلـّـى عن فلسطين ويمنحها للصّهاينة وكذلك فكرة الشركة الصّهيونيّة المساهمة. ويسمـّـى ألكلاي وموسى هاس وأخرون كثر بالمبشـّـرين بالصّهيونيّة لأنـّـهم هم الذين وضعوا لبناتها النـّـظريّة الأولى (Harbingers of Zionism) وقد وجدوا الأسس الشـّـرعيّة لمزجهم اليسوعيّة بالصّهيونيّة في القول بأنّ اليسوعيّة مهمّات تنتمي لعالم الأرض (worldly tasks) أي عمليّات تطبيقيّة؛ وعندما استغلـّـت الصّهيونيّة تنظيرات المبشـّـرين الأوائل استطاعت أن تحرّك النـّـشاط اليهوديّ قائلة "إنـّـك لا تملك الشـّـيء إلا عندما تقوم ببنائه بيديك" (جاكلين روز ص 40). وقد عادت الحركات الصّهيونيّة الدّينيّة لمصطلح "تيكـّـون" (Tikkun olam) وهو مصطلح يعود لعلم اللاّهوت اليهوديّ القروسطيّ ويعني "إصلاح العالم" إلاّ أنّ الكبـّـلا أعطته معان جديدة. لقد ربطت الصّهيونيّة الدّينيّة بسألة "إنقاذ" اليهود أو تخليصهم بفكرة إصلاح العالم لتجعل نفسها فلسفة مقبولة ولتخفي طبيعتها الاستعماريّة. ولقد تمثـّـلت مسألة الخلاص في الإشكالية التـّـالية: هل أنّ التـّـخليص يسبق تغيير العالم أم أنّ تغيير العالم يؤدّي إلى تخليص اليهود؟ وعلى هذا السـّـؤال قالت الكبـّـالا اليهوديّة إنّ نشاط البشريّة على وجه الأرض يلعب دورا حاسما في تنقية وتطهير التـّـاريخ. معنى ذلك أنّ التـّـاريخ موجود بصفة ميتافيزيقيّة في التـّـوراة ويحتاج إلى النـّـشاط اليهوديّ ليجعله تاريخا كاملا أي يتـّـصف بالكمال. ولشرح هذه الفكرة أكثر أقول إنّ المسيح اليهوديّ المنتظر لم يعد هو الذي سوف يجيئ ليخلـّـص إسرائيل بل إنّ النـّـشاط اليهوديّ هو الذي سوف يجيئ به أو يعجـّـل في مجيئه.

هذا ما آمن به وايزمان وبن غوريون عندما تسلـّـما وثيقة وعد بلفور، ويروى أنّ وايزمان قال إنـّـه عندما تسلـّـم الوثيقة كأنـّـما شاهد المسيح اليهوديّ المنتظر قد جاء فعلا. ولو قرأ يهوديّ غير مطـّـلع على كتابات وايزمان لسخر ممّا كتبت عنه هنا لأنّ العالم كلـّـه يعتبره علمانيّا، لكنّ الحقيقة هي أنّ الصّهيونيّة العلمانيّة قد نشأت في أحضان الصّهيونيّة الدّينيّة. وقد لخّص بن غوريون التـّـوفيقيّة الصّهيونيّة بينها وبين اليسوعيّة في قوله إنّ كلّ يهوديّ هو يسوع نفسه، أي أنـّـه لا يعارض اليسوعيّة والصّهيونيّة الدّينيّة بكلّ أشكالها. أمـّـا الصّهيونيّة الحالية فتقول إنّ اخضرار الصّحراء الإسرائيليّة دليل على إرادة الرّبّ الذي أوضح في سفر حيزيقيال أنـّـه عندما تثمر الجبال يجيئ اليسوع المنتظر (بالرّغم من أنّ سفر حيزيقيال لا يُـعدّ من كتب التـّـوراة).
"فقال لي يا بن آدم قم على قدميك فأتكلـّـم معك... وقال لي يا ابن آدم أنا مرسلك إلى بني اسرائيل... وأفعل بك ما لم أفعل وما لن أفعل مثله بعد بسبب كلّ أرجاسك... وأجري فيك أحكاما وأذري بقيّتك كلـّـها في كلّ ريع..."
ثمّ يمضي سفر حيزيقيال في وصف غضب الرّبّ ونقمته على بني إسرائيل لكنـّـه يعدهم في النـّـهاية بالعودة. ولم يكن إيمان بعض المجموعات الدّينيّة بقصّة حيزيقيال سوى جعل الأرض فوق كلّ شيء والأرض، حسب التـّـفكير اليهوديّ، لا تكون مقدّسة إلاّ إذا كانت قد روتها دماء المدافعين عليها ولذلك اتـّـخذت الصّهيونيّة القتال من أجلها لجعلها مقدّسة. وتقول جاكلين روز إنـّها كلـّـما قرأت النـّـصوص التي كانت تنظـّـر لكون فلسطين أرض بلا شعب كلـّـما آمنت بأنـّـها كذبة اختلقتها الصّهيونيّة لتغطية نواياها (ص 44). ولكي تـُـتمّ الصّهيونيّة قدسيّة الأرض تشبـّـثت بما ترويه الأساطير الدّينيّة من أنّ بني إسرائيل قد ثاروا على الرّومان سنة 70 ممّا جلب عليهم الدّمار والتـّـشريد؛ أفلا يسأل عاقل ما الذي يجعل بني إسرائيل يثورون على أقوى إمبراطوريّة مع علمهم بأنّ مآلهم يكون القتل والتـّـشريد؟ هذا السـّـؤال لم تجب عليه أيّ من الكتابات الصّهيونيّة بل تمسـّـكت كلـّـها بالتـّـفسير التـّـوراتيّ من أجل إضفاء القدسيّة على الأرض فالعقاب الإلهيّ والوعد الإلهيّ جعلا "الإنقاذ" ممكنا. وحتـّـى صهيونيّة بن غوريون الإشتراكيّة تبنـّـت هذه الفكرة لأنـّـها تجعل الإنقاذ عامّا أي شاملا لكلّ اليهود.

وتقول الصّهيونيّة الإشتراكيّة إنّ الإشتراكيّة لم تتمّ صياغتها إلاّ لتحقيق إرادة اليهود وبذلك تنتقل الصّهيونيّة إلى الشـّـموليّة المطلقة التي استدعتها الهويّة اليهوديّة. ولكلّ الصّهيونيّات دون استثناء يبقى التـّـاريخ متمثـلا في الهجرة الجماعيّة (l exode) وفيما حدث في جبل سيناء وغزو الأرض من طرف جوشوا... إلخ، وهذه كلـّـها أشياء لا يمكن إثباتها بل إنّ الإثبات الوحيد تمثـّـل ويتمثـّـل في اعتناق دولة تزعم أنـّـها علمانيّة لليسوعيّة وللأفكار الدّينيّة المتشدّدة (ابحث في مصطلح مملكتيوت Mamlaktiyut)؛ فهل سيظلّ العالم بأسره غافلا عن هذا أبد الدّهر؟ الجواب كلاّ، ولذلك يجب على إسرائيل أن تراجع مواقفها كما قلت آنفا. هذا ما يقول به الدّكتور شلومو بن أفينيرى أستاذ التـّـاريخ والعلوم السـّـياسيّة إذ تحدّث عن اعتناق الدّولة الإسرائيليّة لليسوعيّة وبذلك لم تعد معنيّة سوى بالدّفاع عن نفسها. ولعلّ القارئ يعلم أنّ بن غوريون الإشتراكيّ كان يقول دوما: أنا أومن بسفر زكريّاء وفي ذلك السـّـفر نقرأ: "قد غضب الرّبّ غضبا على آبائكم فقل لهم هكذا قال ربّ الجنود ارجعوا إليّ يقول ربّ الجنود فأرجع إليكم يقول ربّ الجنود... سوف آتي بحبوبكم من الشـّترق وأجمعكم من الغرب (سفر زكريّاء)". لهذا السـّـبب بقيت إسرائيل دولة غير طبيعيّة لأنـّـها لا تؤمن بالعيش إلى جانب الأمم الأخرى بل تريد أن تسيطر عليها فإيمانها باليسوعيّة، بالتـّـالي، سوف تكون له إشكاليّات مستقبليّة. ولكي تـُـبقي على نفسها تعمل الدّولة الإسرائيليّة على تقتيل الفلسطينيّن لأنّ حياتها تستدعي أغلبيّة يهوديّة ولكي تتمكـّـن من طرد الفلسطينيّين أو إبادتهم تتمسـّـك بالقصص التـّـوراتيّة لأنـّـها تمكـّـنها من التـّـهرّب من منح الفلسطينيّن حقوقهم حتـّـى تقوم بالقضاء عليهم نهائيّا. ولعلّ هذا النـّـصّ يساهم في تحسيس اليهود أنفسهم بأسس الدّولة الإسرائيليّة لأنـّـهم لا يعلمون الكثير عن الصّهيونيّة.

ولقد كان وايزمان أشدّ المدافعين عن والمطالبين بتهجير الفلسطينيّين لكي يضمن التـّـفوّق العدديّ لليهود؛ معنى هذا أنّ منطق الصّهيونيّة قائم على القول بأنّ اليهود فقط لهم الحقّ في العيش في فلسطين، وهو منطق أجوف؛ ماذا يضرّ بالهويّة اليهوديّة لئن قامت دولتان في تلك المنطقة، وقد رضي الفلسطينيّون بذلك لأنـّـهم في موقع ضعف نتيجة تخلـّـي العالم كلـّـه عنهم.

الإيمان عند راينس وكوك:
Avraham Yitshak Ha-Kohen Kook + Yitzchak Yaacov Reines

اتـّبع كوك Avraham Yitshak Ha-Kohen Kook 1839-1905 مقاربة عقلانيّة في دراسة التـّـلمود فقال إنّ الصّهيونيّة يجب أن تكون مرتبطة بشدّة بالفكر وقد كان المسؤول عن خلق الإطار اللاّهوتيّ للصّهيونيّة بصفة عامّة لكي تكفل، في رأيه، التـّـوافق بين التـّـطلـّـعات الوطنيّة والقيم الدّينيّة. وقد رأى أنّه يمكن تقديس العلمانيّة الصّهيونيّة عن طريق توجيه جهودها نحو الإستيطان والزّراعة تمهيدا لقدوم اليسوع المنتظر. الإستيطان وغرس القيم الدّينيّة يمكن، في رأيه، أن يسرّعا عودة المسيح، وتحت تلك المظلـّـة الدّينيّة التي جعلها تـُعنى بالمصير، وبالتـّـعاون مع الصّهيونيّة العلمانيّة وحتـّـى مع الملاحدة اليهود وغير المتديّنين، وضع اسلوبا اعتبره مجزيا أو مثمرا. هذا الموقف أصاب المتديّنين اليهود في عهده بالدّهشة إذ أنّ التـّـوراة تقول عكس ذلك كما أسلفت. لكنّ كوك أوضح أنّ التـّـوراة إذا لم تـُـستعمل في خدمة الأرض والدّولة اليهوديّة التي يجب أن تكون دينيّة ويسوعيّة تفقد أهمّيتها. هذا المذهب الدّينيّ يسمّى ميزراشي وهو مذهب دينيّ طوّرته حركة دينيّة سنة 1902 بفيلنيوس. كلّ من ميزراشي (Mizrachi) وبني أكيفا (Bnei Akiva)، حركة الشـّـباب الميزراشيّ، اتـّـخذتا طابعا دوليّا موجودا حتـّـى اليوم. وتتلخـّـص نظرة ميزراشي في القول بأنّ اليهوديّة يجب أن تكون في خدمة الدّولة والصّهيونيّة والقوميّة. وليعلم القارئ أنّ حركة ميزراشي مرتبطة بالحزب الدّينيّ المتشدّد حزب ميزراشي. وحركة ميزراشي خرجت بالحركة الدّينيّة، بالتـّـالي، من المثاليّة والحلم إلى النـّـشاط والبراغماتيّة متعلـّـلة بأنّ معاداة السّامية تفرض ذلك.

أمـّـا ريتشاك راينس 1839-1915 اللـّـيتوانيّ Yitzchak Yaacov Reines فقد استعمل مقاربة عقلانيّة في دراسة التـّـلمود ووضع خطـّـة حديثة للصّهيونيّة كما قال. وقد كان راينس عضوا في حركة "هوفيفاي زايون" (أحبّاء صهيون)، وقد عبّر هارتزل عن حاجة الصّهيونيّة إلى الحاخامات ولذلك استدعى راينس لحضور المؤتمر الصّهيونيّ الثـّـالث 1899. ومنذ ذلك العام أصبحت الميزراشي الذّراع السّياسيّة للصّهيونيّة الدّينيّة التي ربطت اليهوديّة بالأرض كما أسلفت وقد زعم راينس أنّ دولة متمحورة حول الدّين تكون لها روح خلاّقة تجعلها تحقـّـق المطالب الفوريّة للأمـّـة. وكغيره من الصّهاينة ركـّـز راينس على "معاداة السّامية" وكراهية اليهود لكنـّـه وصف الأوضاع اليهوديّة بصورة مأساوية جدّا إذ تحدّث عن سفك دماء اليهود التي تسيل مثل الجداول وقال إنّ الصّهيونيّة يجب أن تكون حركة براغماتيّة لا علاقة لها بمسألة الخلاص أو عودة المسيح المنتظر وبذلك جعلها حركة استعماريّة بحتة مستندة إلى الدّين.

كتب دوف شفارتز في كتابه "الإيمان في مفترق الطـّـرق" ص 5 إنّ راينس انطلق من ملاحظات منطقيّة بسيطة تمثـّـلت في اعتبار الدّين إحساسا بالهويّة ولكي يقيم الدّليل على ذلك تعرّض للمعرفة فقال إنـّـها نوعان: معرفة علميّة ومعرفة نظريّة لا يمكن الحصول عليها سوى عن طريق التـّـجربة العمليّة أو الفعليّة.
(Dov Schwartz; Faith at the Crossroads: a Theological Profile of Religious Zionism)

معنى هذا أنّ راينس قد جعل الدّين والإيمان في خدمة الأهداف العمليّة ولا همّ له في ذلك، كغيره من منظـّـري الصّهيونيّة الدّينيّة، سوى جعل الدّين في خدمة الأهداف الصّهيونيّة الاستعماريّة. ولكي يكرّس نظرته تلك وضع مصطلح "الأسس والجذور" المرتبطين ببعضهما شديد الارتباط. أمـّـا المنطلق العقلاني الذي به دلـّـل على نظرته فتمثـّـل في قوله إنّ البحث في الدّين وفي مفهوم الله لا طائل من ورائه ولذلك على اليهوديّ أن يسلـّـم بالعقيدة وألاّ يسعى إلى البحث فيها. "إصلاح العالم" أي تهيئته لعودة المسيح الذي طال انتظاره، يعدّ، بالتـّـالي، في رأيه سابقا على التـّـمسـّـك بما تقوله التـّـوراة من أنّ اليهود لا يجب عليهم أن يسعوا إلى تسريع النـّـهاية.

الخاتمة:

رأيناأنّ الصّهيونيّة الدّينيّة كانت فصائل نشطة جدّا داخل الصّهيونيّة اضطلعت بمهمّة تبرير الجهود المبذولة من أجل بناء دولة يهوديّة. ذلك البناء يستوجب أرضا ولذلك برّرت الصّهيونيّة الدّينيّة الأعمال الاستعماريّة. وقد تطلـّـبت تلك المهمّة فكرا استعماريّا وجدته الصّهيونيّة في التـّوراة التي تقول إنّ أرض فلسطين وعد بها الله اليهود إلاّ أنّ عودتهم إليها لا يمكن أن تتحقـّـق إلاّ بمجهود ذاتيّ. نلاحظ إذا أنّ الصّهيونيّة جعلت نفسها في خدمة الدّولة اليهوديّة والإستيطان وأوجدت لهما الأسس النـّـظريّة التي تتعارض مع ما جاء في التـّـوراة نفسها. وكانت الاستدلالات الدّينيّة الصّهيونيّة تتلخّص إجمالا في القول بأنّ تأسيس الدّولة يدخل في إطار مخطـّـط إلهيّ قرّره الرّبّ منذ ألاف السـّـنين. وإذا كان الرّبّ قد قرّر ذلك فإنّ الاستيطان يصبح شرعيّا رغم أنف كلّ المعارضين. ولكي تحقـّـق أغراضها تكاتفت الصّهيونيّة الدّينيّة مع الصّهيونيّة العلمانيّة والغير دينيّة وبالتـّـالي نستطيع أن نستخلص من ذلك أنّ الخلاص وكلّ المصطلحات التي تمّ وضعها لم تكن تهدف سوى لخدمة الإستيطان.




#عزالدّين_بن_عثمان_الغويليّ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كيف تصبح كاتبا مبدعا: الفصل الأوّل


المزيد.....




- صدمة في الولايات المتحدة.. رجل يضرم النار في جسده أمام محكمة ...
- صلاح السعدني .. رحيل -عمدة الفن المصري-
- وفاة مراسل حربي في دونيتسك متعاون مع وكالة -سبوتنيك- الروسية ...
- -بلومبيرغ-: ألمانيا تعتزم شراء 4 منظومات باتريوت إضافية مقاب ...
- قناة ABC الأمريكية تتحدث عن استهداف إسرائيل منشأة نووية إيرا ...
- بالفيديو.. مدافع -د-30- الروسية تدمر منظومة حرب إلكترونية في ...
- وزير خارجية إيران: المسيرات الإسرائيلية لم تسبب خسائر مادية ...
- هيئة رقابة بريطانية: بوريس جونسون ينتهك قواعد الحكومة
- غزيون يصفون الهجمات الإسرائيلية الإيرانية المتبادلة بأنها ضر ...
- أسطول الحرية يستعد للإبحار من تركيا إلى غزة


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدّين بن عثمان الغويليّ - تاريخ الصّهيونيّة والصّهيونيّة المسيحيّة: الجزء الثّالث