عامر هلال
الحوار المتمدن-العدد: 2410 - 2008 / 9 / 20 - 01:05
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في مراحل بدايات تشكّل الدولة في المجتمعات العربيّة وقبل أن تصادر السلطات
الناشئة آنذاك , الدين لصالحها وتفسده لاحقاً .
كان الإصلاحيين الدينيون هم رواد التنوير والتحديث وهم المطالبون بتحديد الأسس
التي تقوم عليها الدولة وشكلها وصلاحياتها وحقوق الأفراد فيها ومسؤولياتهم .
في المرحلة التي تلت تشكل الدولة في المجتمعات العربيّة عمدت الدولة إلى مصادرة
الدين من أيدي البشر وجعلته مؤسسة من ضمن مؤسساتها الرسمية .
أي أن السلطة – الحاكمة هي المسؤولة عن شكل وتوجهات ومهام هذه المؤسسة الرسمية
وهي مسؤولة من جهة أخرى عن "توالد " التيارات الدينية المعارضة للمؤسسة الدينية الرسمية .
الدولة " كنّست " الدين , أي جعلته مؤسسة رسمية تشبه الكنيسة تنظيماً ومهمة ,
وجعلت مهمته بالدرجة الأولى منح شرعيّة وجود للسلطات الناشئة , أو إصباغ هذه الشرعية
لاحقاً على بعض السلطات التي أتت نتيجة معارك تحرر وطني كان للدافع الديني دوراً كبيراً فيها .
من جهتها حافظت المؤسسة الدينية على المهمة المرسوم لها , بإصباغ الشرعيّة على أفعال وممارسات
السلطة الحاكمة , هذه الأفعال والممارسات التي تخضع بالدرجة الأولى لحسابات البقاء والإستمراريّة
بالحكم , أكثر من خضوعها لميزان المصالح الوطنية – القطريّة والقوميّة لهذه الدولة أو تلك ,
" إن وجدت" حسابات لهذه المصالح في أجندات السلطات الحاكمة والتي تشترك جميعها في الصفة
القهريّة - الإستبداديّة وإفتقارها لمبرر الإستمرار في الحكم من حيث مقياس ما قدمته من تنميّة وتحديث للبلدان
التي تسيطر عليها . أو حتى في أضعف الأيمان المحافظة على السلم الأهلي والألفة بين مكونات الشعب الواحد .
السلطة هي التي أوجدت المؤسسة الدينية وهي التي تنظم عمل وشكل ومهمة هذه المؤسسة ضمن
حركة النشاط العام لمؤسسات الدولة " على ضعف وجود الدولة في مجتمعاتنا ".
والسلطة هي التي تتحكم في أدق تفاصيل المؤسسة الدينية بداية من رفد هذه المؤسسة بكوادرها
الذين هم خريجي المؤسسات التعليميّة التي تتبع للدولة والتي تكتب مناهج التعليم فيها ,
والسلطة على إمتداد الأرض العربيّة هي التي تسيطر على مجمل مناحي الحيّاة بشتى الطرق
هذا هو واقع الحال وإن لم يكن كذلك فينبغي لنا الحديث عن ضعف ووهن هذه السلطات
من حيث بنيتها الإستبداديّة المُسيطرة .
وهذا الكلام عبثي فلا وجود لسلطة ضعيفة على إمتداد الأرض العربيّة بإستثناء حالات معدودة
(لبنان – الصومال – العراق- غزة لاحقاً ) .
والكلام صحيحاً إذا كان المقصود بالضعف الدولة وليس السلطة .
تبادل الأدوار في عمليّة إصباغ الشرعيّة بين السلطة والمؤسسة الدينيّة أنتج إتفاق ضمني لتحديد
الوظائف والصلاحيّات ومجال كل منها .
فمقابل مهمة (الكنيسة الدينية ) في شرعنة أعمال السلطة , وسيطرة هذه المؤسسة على أتباعها
وتوجيههم بما يتناسب مع بوصلة السلطة الحاكمة ,
أصبغت هذه السلطة على كوادر المؤسسة الدينيّة هالة من القدسيّة والمنزلة الإجتماعيّة المصطنعة
والدعم المالي المفتوح الضخم , بحيث أصبح الإنتساب للمؤسسة – الكنيسة , والعمل في مؤسساتها
الفرعيّة , وحتى العمل الحر ضمن مقايسها وسياستها .
مجلبة للأرزاق بغير حساب , ومدخل للثراء الفاحش , وأصبح رجل الدين والشيخ هو صورة الإقطاعي
أيام زمان , بالمعنى الحرفي لكلمة إقطاعي ودوره ,
فالقصور الفارهة والخدم والحشم والتلاميذ , والنفوذ في مفاصل الدولة الأخرى , والنفوذ والعمل في الميادين
الإقتصاديّة التي لا تتضارب مع نفوذ المافيّات الحاكمة .
لقد نجحت السلطات الحاكمة بمختلف أشكالها , في إفساد الدين وصورة رجل الدين , بنقل صورتها وفسادها
وإلباسها للشيخ والذي من المفترض أن يكون دوره في صف المقهورين والفقراء ضحايا فساد الدولة .
ودوره في شد أزر اللحمة الوطنيّة الجامعة ( فوق المذهبيّة ) مقابل إستبداد الحكام وجبروتهم .
ونتيجة لهذا التعاضد بين الشيخ والسلطة , أصبحت هذه الأخيرة تتجرأ على زج المئات من أبنائها
في السجون والمعتقلات دون أن تخشى إعتراض أحد ,
إفساد الدولة للدين " بمأسسته " وقبول رجالات الدين بالوقوف بجانب السلطات , لم يأتي في إطار
تنظيم الأدوار بين مكونات السلطة – الدولة نفسها , من أجل نهوض وتحديث المجتمعات العربيّة
بقدر ما جاء نتيجة هاجس السلطات الأمني والخوف من فاعليّة دور الدين ورسوخه في الضمير
الجمعي للأفراد في مبادئه الإنسانيّة العامة كدعوة للأخوة والتاّلف والتكاتف بين أفرداه وأتباعه
ودعواته للمساواة والعدالة الإجتماعيّة وكحافز أخلاقي بوجه إشاعة السلطات للمارسات اللا أخلاقيّة
من فساد ورشوة ومحسوبيّات , وعدالة توزيع الثروات المجيرة لصالح رفاهيّة السلطات
الحاكمة والمتنفذين والقريبين منها ,
لقد رهنت نفسها المؤسسات الدينيّة الرسميّة بمختلف مسمياتها وأشكالها , للسلطة
ووضعت مهمة الدين المقدسة الذي أول ما جاء كان بصف المهمشين والمستغلين , بيد الحكام
لتبرير إستبدادهم , وتأصيل اعمالهم وشرعنتها , وإيجاد التبريرات لهم في السلم والحرب
وتغيير خارطة المصالح ووقوفهم بجانب هذا الطرف الدولي أو ذاك وفق ماتقتضيه مصلحة الإستمرار
وعلى الصعيد الداخلي للبلدان العربية , رضيت أن تقوم المؤسسة الدينية بمهمة " البعبع " لتخويف
مكونات الشعب الأخرى ( المذهبيّة والعرقيّة ) , وتفتيت اللحمة الداخليّة للشعوب المستمدة من مبادىء
الأخوة في الإنسانيّة للدين .
وإستخدامها سلاحاً بوجه التيارات الأخرى , عبر الفتاوى التي تلقى قبولاً لدى أفراد المجتمع بسبب
منزلة الدين في نفوسهم وقدسيته .
ينحو الكثيرين بإتجاه نقد المؤسسة الدينية في بعض البلدان بصفتها هي المسيطرة على الدولة – السلطة
أو أن هذه الدولة أو تلك هي من نتاج الدين نفسه , والأمر معكوس تماماً ويقعون في منهج تضليلي بقصد
أو بجهل ,
فالمؤسسة الدينيّة هي من نتاج الدولة نفسها ونتاج هذه المؤسسة هو مسؤولية الدولة – السلطة وتحت صلاحيتها.
مثلما أن تعثر التنميّة وغياب الأمن وفرضه والدفاع عن البلد هو مسؤولية السلطة الحاكمة .
وحتى الحركات الدينية المعارضة والجهادية هي من نتاج ممارسة السلطات الغير سليم لمسؤولياتها .
والقهر الذي يمارس على الشعوب في البلدان العربيّة .
هذا المنهج التضليلي أو التضليليون الجدد , يشيحون بالهدف بعيدا على غير وجهته تماماً ,
ومازال أغلبهم يعتقد أنه للولوج لمصاف المجتمعات الحديثة فالمفروض أن نعيد التاريخ لمجتمعات أخرى
كما بدأت في الحرب على الدين عندما كان هو الذي ينتج الدولة ويسيطر عليها .
إن النقد يجب أن يتوجه للسلطات الحاكمة ومسائلتها , بصفتها هي الممسكة بزمام الأمور , وماتنتجه
المؤسسات الرسميّة هو من تجليّات وإفرازات هذه السلطات بطريقة إدارتها لكافة مناحي الحياة ,
ولعل النقد الأول الذي يجب أن يكون هو عن مسؤولية السلطة – الدولة في جعل ثقافة المجتمع
ضعيفة إلى حد جعل أفراده تكتسحهم فتوى هذا الشيخ أو ذاك , بدون أدنى تحصين ضد هذه
الفتاوى , والتي هي كالسيف له حدين جارحين , فإن كانت اليوم تحت سيطرة وعين السلطات
وبمعرفتها في أغلب الأحيان , فالغد له حسابات أخرى ومخاطر يعرفها من يضطلع ويمسك بزمام
القيادات , بمختلف أشكالها أيضاً .
#عامر_هلال (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟