هناك أسئلة تقفز الى الذهن عن قانون أصدره الحاكم المدني بول بريمر قبل يومين بألغاء كافة مجالس النقابات المهنية، وهذه الأسئلة كالآتي ونحن نجيب عليها.
- هل الوضع الأحتلالي الراهن صادق النية في تأمين ديمقراطية ليبرالية للعراق ولماذا؟؟
- كم يستغرق من الوقت لملئ الفراغ بعد انهاء قانونية وجود النقابات ؟.
- هل خبراء القانون المستشارون لدى الحاكم المدني لهم دراية بتطورات الحركة النقابية وتاريخ نضال العمال العراقيين للحالة والوعي النقابي الموجود ؟
- هل نحن أمام مرحلة ديمقراطية نحو نقابات حرة أم ان هذا القرار انهاء كل معالم الديمقراطية؟؟
العراق المعاصر كان من الدول العربية القليلة التي تملك تجربة ديمقراطية تقدمية بعمقها وعدد منتسبيها، ونحن وأنا منهم لا أحابي العراق اليساري اذا قلت انه كان رائدا في انماء واغناء هذه التجربة الفريدة، لقد بدأت هذه التجربة الفريدة والحركة النقابية العراقية أبتدأت في الثلاثينات بشكل مبسط متماشية مع حركات نقابية عالمية كانت تدافع عن حقوق العمال وتضمن مصالحهم وتذود عنهم عند وجود الأضطهاد السياسي، ونستطيع ان نقسم هذه الحركات النقابية الى ثلاثة عقود بتاريخية تطورها.
المرحلة الملكية وهي المرحلة التي نشأت يوم أخذت معالم الأستقلال تلوح في الأفق عند قدوم المغفور له فيصل الأول، هذا الملك الذي استطاع ان يكون دولة بدأت بالأنتداب البريطاني وانتهت بدخولها الى عصبة الأمم، استطاع ان يشكل جيشا وطنيا من أولاد خيرة النخب في المجتمع العراقي آنذاك، واستطاع أيضا أن يؤسس معالم قضائية تشريعية كان لها رجال قانونيون منهم توفيق السويدي وسلمان فيضي وعبد الرزاق الظاهر وغيرهم من أساطين القانون ، منهم من تخرج من أوربا من جامعة السربون الفرنسية، كما أنشأ مدرسة الحقوق.
في ظل هذه المسيرة تمت وترعرعت ببطئ حركة نقابية واصلت نضالها في الحصول على حقوق العمال.
ان النظام الملكي وان كان يتسم بفسحة ملحوظة من الديمقراطية أيام حكمه، الا ان هذه الفسحة تتضائل وتقلب الى بطش بواسطة دوائر الأمن للذين يشم منهم رائحة العداء للسلطة طالبين تغيير النظام. فقد كانت مدرسة نوري السعيد وهي مدرسة واقعية تجد الدعم والأرشاد من سفارة بريطانيا العظمى في حينها الرابطة على نهر دجلة، هذه السفارة التي كانت لها خبرائها في مكافحة اليسار الهدام والتحرك النقابي ضد مصالح الأمبريالية العالمية وخاصة منها النفطية، فنجد ان الدولة ودوائرها الأمنية تستنفر بكل شراسة ضد أي اضراب يقوم به العمال يهددون به المصالح البريطانية وخاصة يوم قتل عشرات العمال العراقيين من منتسبي شركة نفط BOC في مدينة كورباغي في مدينة كركوك، اذ أخذت سيارات قوى الشرطة بضربهم بقسوة من رشاشات أفرادها، هذا ما يدفع المرء على التصور بأن الوعي النقابي في العراق كان متواجدا في تلك الفترة، وعملت الملكية بكل طاقاتها على انشاء نقابات صفراء كارتونية هي بالأساس جاءت تغطية لأثبات تواجد الحرية والتنظيم النقابي في زمن الملكية.
ان مثل هذا التكتيك الملكي كان يمتص غليان الطبقة العاملة وثورتها على رب العمل القاسي وعلى ظلم الأقطاع وسجونه بالنسبة الى الفلاحين، وكانت حوادث الحي يوم ضرب الأقطاع منتسبي الحركة الفلاحية بكل قسوة وكان دور لجنة معاونة العدالة رائع في الدفاع عن شهداء الحركة الفلاحية النقابية وعدد قتلاها خير مثال على ذلك.
ان تلك السلطة كانت ذكية في وقتها ووقادة الذهن وازدادت تجربتها عمقا عند ممارسة السلطة ووجود الخبراء البريطانيين في أروقتها وتقديمهم الأرشاد.
ان السلطة السعيدية الملكية كانت تخشى نقابات العمال الكادحين أكثر من خشيتها من منتسبي نقابات أخرى مثل المحامين والمهندسين والصيادلة، فكانت تغض النظر عن نشاط هذه النقابات وخاصة نقابة المحامين، اذ كان للمحامين وزن سياسي وثقلا خاصا في الساحة السياسية والشارع السياسي، وكانوا بأكثريتهم اليسارية حيث سيطر هذا اليسار على زمام النقابة أكثر من مرة يوم ترأسها المرحوم عبد الوهاب محمود وتوفيق منير وعزيز شريف وغيرهم من الشخصيات اليسارية الوطنية النظيفة، وكان كاتب هذا المقال مسؤول تنظيمي لهذه الأنتخابات.
وكانت نقابة المحامين منبرا قويا في فضح ممارسات المدرسة السعيدية، وكان المحامون يقفون معارضين بشدة ضد هذه التجاوزات الدستورية والقانونية وخاصة في العدوان الثلاثي على مصر الشقيقة.
كانت دوائر الأمن السعيدية تراقب المحامين النشطين وتلاحقهم في بعض الأحيان وترسلهم الى السجون في أحيان أخرى وقد أرسلت عدد كبير منهم في أيام هذا العدوان الى سجون بعقوبة في معسكر السعيدية ثم نقلهم بباصات كانت تستعمل لنقل الخراف المحامون وععدهم أكثر من ستين محامي وهم مكبلي الأيدي الى السجن الرهيب سجن نقرة السلمان وكان يطلق على هذا السجن بسجن قلعة أبو حنيك الحاكم البريطاني القاسي القاضي والمنفذ للأنتداب البريطاني.
كان العراق يمارس حقه الطبيعي في التنظيم النقابي، وكانت الملكية الدستورية لاتبطش بهذا الحق بشكل يبعدها عن نظامها الملكي الدستوري ومؤسساتها القانونية الشبه ديمقراطية، كان الوضع خد وعين، تارة نجد ان النقابات ترعد بالشوارع وتارة نجدها في هدوء حسب المواقف والظروف.
ان النقابات التي كانت تمارس دورها في ذلك التاريخ تمتلئ نشاطا وضجيجا وحركة في نصرة القائمة التي تقدمها فئة سياسية معينة، اذ كان للقوميين قوائمهم، وللديمقراطيين أخرى، والشيوعيين يدعمون القائمة الديمقراطية.
ولا أخفي سرا ان النقابات المهنية كافة عليها طابع اليسار مع وجود تمثيلا لقوى سياسية أخرى غير يسارية.
يتبع الحلقة الثانية
نائب رئيس نقابة المحامين العراقية البريطانية مقرها لندن