أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - معتز طوبر - سينما تايوان . سينما ما بعد - مدينة الحزن - . سينما هاو تشاي - سين















المزيد.....



سينما تايوان . سينما ما بعد - مدينة الحزن - . سينما هاو تشاي - سين


معتز طوبر

الحوار المتمدن-العدد: 2391 - 2008 / 9 / 1 - 06:53
المحور: الادب والفن
    


ترجمة وتقديم معتز طوبر
في نهاية السبعينيات واوائل الثمانينيات بدأت تظهر في بلدان شرق آسيا سينما جديدة بطابع وطقوسية محلية نتيجة لتغيرات مذهلة عرفتها, مثل الفلبيين وهونغ كون وبشكل خاص الصين وتايوان . وظهر جيل جديد مميز من المخرجين مضوا في ابتكار وخلق اعمالا سينمائية مبهرة مترابطة شكلت تحد في عالم صناعة السينما المعاصر .
ظهر اتجاهان مختلفان لأولئك المخرجين الذين حققوا شهرة واسعة في حقبة سينما" الموجة الجديدة " .الاول سلك فيه البعض طريق الاثارة و الاغواء للدعاية والاعلان عن أعمالهم واضاءتها بميزانيات هوليودية ضخمة ( صنّاع سينما هونغ كونغ مثل ،جون وو . رنغو لامب. والتايواني آنغ لي والصيني تشينغ كيغ ) بينما تذكر اخرون- كنوع من النوستالجيا - اوطانهم واتجهوا لصنع افلام عظيمة ولا تقل اهمية عن الاخرى. تتعامل مع تاريخ بلدانهم السياسي والاجتماعي والحقائق الكامنة من خلال تجارب شخصيات يومية وهامشية .
واذا كان الجيل الخامس من صناع افلام السينما الصينية قد مثل الانبعاث السينمائي وثقافة السينما الاسيوية لـ 20 سنة مضت بشكل يفوق عن جيرانهم الاسيويين . فانه يجب ان نلاحظ الى ان الانعاش السينمائي هذا بما يملكه من تلك النزعة المباشرة يعود الفضل له الى صناعة السينما في تايوان وخصوصا في اعمال هاو تشاي - سين صانع الافلام ، الذي اسس وبلا شك هوية سينمائية محلية مميزة وواضحة لبلده وطورها لتكون ذات اسلوبية سينمائية خاصة في عالم السينما المعاصر .

تأسيس سينما وطنية
نجد ان تاريخ صناعة السينما – على الاغلب - في تايوان من نهاية الحرب العالمية الثانية وما بعدها معقدا وشاذا ومشحونا مثل تاريخ البلاد نفسها . بداية تحت ضغط الحكومة الصارم نتيجة للاعلان عن قانون المارشالات العسكري الجديدالشمولي بعد ثورة ماو زينغ 1949م ( حيث قد فرّ اكثر من 2 مليون صيني الى التايوان , متحولة بذلك الى ولاية فاشستية ) . وبعدها بفعل الصناعة المحلية التي قضت على انتاج عقدين من الزمن. ولكن ثمة افلام وثائقية قدمت من هونغ كونغ كانت كبيانات ومنشورات ضد الشيوعيين اضافة الى افلام تحاكي الى حد التقليد الكوميديا الشعبية والسينما التاريخية وخصوصا افلام الفن العسكري المارشالي الشامل .
في البداية كان انتاج الافلام السينمائية تحت رعاية شركة (cmpc) في الفترة الممتدة الى ما قبل عام 1960 م . ولكن تم بعد ذلك بناء استوديوهات سينمائية خاصة في تايوان بإشراف شركات من هونغ كونغ ، ساهمت هذه الاستوديوهات بوضع حجر الاساس لصناعة السينما ونجومها واعطت دعما مستمرا لديناميكة التطوير هذه . وتم تكريس صناعة السينما هذه مقابل ضريبة بثقل الفادن حقيقة . وفي منتصف السبعينيات عندما عملت تايوان الحديثة على الانتقال من الاقتصاد الزراعي والريفي الى دولة مبنية على التكنولوجيا وتصدير السلع الصناعية ، كان التقدم يحصل بسرعة ولم تعد عوائد تكريس الصورة(من توزيع واستهلاك) كافية لتغطية نفقات الانتاج .
اضافة الى هذا سببت سلسلة من التغيرات الاجتماعية والسياسية كارثة للبلاد جعلته يخطو خطوات الى الوراء. فالتأزم الدبلوماسي مع الكثير من البلدان مثل اميركا واليابان في بداية السبعينيات حدث بعد استبعاد تايوان من الالعاب الاولمبية .وعليه نشأت ضائقة وطنية قادت البلاد الى ما يسمى " عهد الانعكاس الذاتي " نما فيه الشعور الوطني والعاطفة الجياشة تجاه الوطن ووجد ت هذه اليقظة اوجها في الفن حتى انها دعيت (تشاين توhsiang-t u ) أي "الادب الوطني " ، ليركز على خصوصيات التجربة التايوانية في حرب السنوات الاخيرة بعيدا من هيمنة الكتابة الغربية ومن لاجيئ البر الصيني . وهنا يمكننا ان نرى ان السينما الجديدة في البلاد كانت وريثة هذه الاعراف والتقاليد .
ونرى ان الجيل التايواني المتعلم وبعض طبقات الموظفين قد نما وترعرع مع هذه السينما الجديدة -الصور المتحركة ، على الرغم من ان هذا النوع من السينما لم يتقدم بصورة كافية وقد دعيت هذه بثقافة الفيلم الريفي – السينما البلدية والتي صنعت هوية تايوانية مميزة و( كان ذلك بطريقة مشابهة لما حدث في امريكا والاقطار الاوربية المختلفة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين) كنوع من التحدي والتحفيز الذكائي لفن السينما .
تصادف هذا مع ظهور الارشيف الوطني عام 1979م . وفي عام 1982م مع تأسيس مهرجان الفيلم السنوي ومع عدة مجلات سينمائية وبداية الشاشة السينمائية لكلاسيكيات بيت الفن الاوربي . كان الجميع من جمهور البلاد والصناعة والبلد نفسه مهيأ لظهور " السينما التايوانية الجديدة ".
وهكذا اهتمت شركة (CMPC) بـالجيل الاول من المخرجين في زمن ما بعد الحرب الاخيرة حيث تدرب العديد منهم في مدارس سينمائية امريكية ، و كانوا متحمسين لدخول عالم صناعة السينما (وا ن كان بداية في صنع افلام رخيصة وبزمن قصير) ، تضع تايوان على خط واحد مع دول اسيا الاخرى . وهكذا بدأت الموجة الجديدة بفيلمين انثولوجيين : (In Our Times 1982) و (The sandzzich Man1983) التي قادت الى ظهور العديد من صناع السينما ومنهم المخرجين الكبيرين ادوارد يانغ وهاو تشايو سين .
هذا وبطرق مختلفة انجز مخرجون مختلفون تقدما في صنع افلام ضمن هامش حرية محدد تجنبا وخوفا من الرقابة . بتقنية ابتكارية عالية لقصص من الادب الوطني المحلي كفيلم" ساندويتش مان" مأخوذا عن قصص هانغ تشاين مينغ والتي كانت اكثر طموحا في اكتشاف مشاكل تايوان المعاصرة وتأثيرات حربها الاخيرة . ونجد ان سينمائيين اخرين تفاعلوا مع هذه الموجات جديدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ووقفوا بقوة ضد المعايير السائدة واسسوا لسينما وطنية خاصة تحاكي اوطانهم وتركوا بصمة سينمائية على الخارطة .
ادوارد يانغ كان قد درس صناعة الافلام السينمائية وعمل كمهندس كمبيوتر في امريكا قبل ان يعود الى تايوان ليكتب سيناريوهات ويعمل في التلفزيون ، حصل على فرصته الكبيرة عندما اخرج (In Our Times) ومضى ليصبح بعد ذلك المؤرخ المعاصر لتايوان المدنية في افلام مثل " قصة تايبيه" 1985م , " الارهابي"1986م والاكثر حداثة"ماجونغ " 1996م والفلم المهرجاني " واحد واثنين" 2001م .
ونجد ان افلامه قد التقطت بأسلوب ساكن وتأملي القصص التي تخطت الواقع وتفاعلت مع الحاضر الغني الفسيفسائي لبنية الحياة ، وجانبت كثيرا، قول ايريك بروم حول التفاصيل الطارئة والصغيرة اليومية حيث الافعال والاستجابات لاحداث حياتنا الحقيقية تكون مشحونة بوعي كبير (الاطناب والوفرة في فيلم " ماجونغ"،الفقدان النسبي في "واحد واثنين"... ) فهو يقف عند بساطة الحياة اليومية ومجريات احداثها وما يمكن ان يتوارى وراء الجزئي والهامشي ليبني بروية وهدوء صورة حقيقية حسية , مركبة وعضوية بطابع محلي وتصور بصري لفيزيائية المكان وخصوصيته ( الزمن – المكان ) لينطلق الى العالمية .... .
قصة تايوان
من جهة اخرى لم يقدم هاو تشايو سين افلاما سحرية تستكشف التاريخ الحديث لبلاده فقط . بل هو وان كان قد وقف عند طرق معاصريه بشكل مطابق وعلني الا ان قصصه التي قدمها تمثلت بشخصيات هامشية وصغيرة تعيش حياتها الخاصة بشكل مضطرب وشاذ وفي ظل تاريخ مهيب .
حقيقة ، كان السؤال الجوهري والذي ظهر بقوة ووضوح في اعمال يانغ او زينغ : ماالذي تعنيه انسانيتك وانت تعيش في هذا العالم المعاصر ؟(الذي لن يتجنب اي استكشاف لما تشكله اجزاؤهم من الهوية التايوانية ) والسؤال الشائع في سينما هاو هو : ما عليك ان تفعله لأن تكون تايوانيا معاصرا؟ .
ولد هاو تشاين سين في 8 ابريل عام 1947م كفرد من الاقلية العرقية هاكا في جنوب البر الصيني مقاطعة غونغدونغ. فر من بلاده ناجيا من الحرب الاهلية مع والديه وكان في عمر سنتين ، بعد ثورة ماو زيدونغ عام 1949م .و بعد وقت طويل من الاستمتاع بالافلام ، دخل هاو الى كلية الفنون الوطنية التايوانية ملتحقا ببرنامج سينمائي وذلك بعد ان انهى خدمته العسكرية الاجبارية عام 1969 م.
بعد تخرجه في عام 1970م عمل كمساعد مخرج ومن ثم كاتب سيناريوهات في نهاية السبعينيات (فهو وبالرغم من عمله كمخرج معروف فقد كتب سيناريو فيلم " قصة تايبيه" للمخرج ادوارد يانغ عام 1985م وانتج فيلم " ظهور المنارة الحمراء"
وفي عام 1980 م حصل على فرصة اخراج فيلم طويل . وعلى الرغم من ان نتيجة الفيلم (الفتاة الظريفة 1980(م كانت غير مرضية , وكانت الميلودراما التقليدية التي قدمها عرضة للنقد السلبي فقد سنحت له فرصة اخرى ليخرج وليقدم نفسه كمخرج شاب سمحت له الظروف ان يعمل على مشروع سينمائي مستفيدا من التقدم الذي حصل في قانون الرقابة الجديد وليصنع ذلك النوع من الافلام الذي طالما تاق اليها كثيرا .
العنوان الفرعي لفيلم "ساندويتش مان" لـ هاو لقب ب "لعبة الابن الكبيرة " مأخوذا( مثل زينغ زونغزينغ و وان رين ) عن قصص هانغ تشينغ مينغ وهي على الاغلب لا تقوم على حبكة , بل انطباعية تركز على ازمة وضائقة الستينيات في تايوان ، حيث الاب الشاب الذي يعاني شدة الحاجة والبؤس لاطعام زوجته وطفله يعمل في عمل ذليل كموزع اعلانات في الطرقات . هذه القصة البسيطة التي لا تزيد عن 30 دقيقة تظهر رؤية معينة لـ لسينما هاو والتي ستصبح علامة تجارية بارزة لسنوات قادمة كثيرة .
الحوار ظهر - على سبيل المثال- ( كما في عمل الاخيرين.. ) في اللغة التايونية والتي فُضلت على اللغة الصينية الفصحى (ماندرين) , بعد ان كانت قد استعملت كلغة رسمية للولاية تحت القمع ورد الفعل الحكومي الوطني في عهد تشاينغ كي شيكس( 1887 – 1975 ) . وعلى الاغلب يمكن القول بان الشخصيات في افلام هاو تتكلم بعدة لغات غير لغة ماندرين : عادة التايوانية وكذلك الهاكا والفوكنيس وحتى اليابانية .
تصميم المخرجين الملح والفعال اظهر تايوان كانه بلد منفتح على العالم ،غير معزول وغير متحكم به وغير مغلق بالنسبة للغات والثقافات الاخرى ، ولكن بالرغم من ذلك تميز التايواني بالفردية والاستقلالية بشكل منقطع النظير . فهذه الامة كانت قد تخلصت من الحكم الياباني الكولونيالي لتنضم الى البر الصيني ومن ثم لتتحول الى جزيرة معزولة عنه في وقت قصير بعد الحرب العالمية الثانية ,ولتعيش حالة من الارتياب في العقل التايواني وقلقا وشك في اهمية وجودها يتضمن العوز الى الاستقرار والهوية المميزة . هاو قدم بتوق وعقلانية سينما سبرت الفوضى والاعتلاج هذا ، كنوع من التمثيل الثقافي الذي تجلي بطرح اسئلة صحيحة لا تقديم اجابات( وعلى الاغلب لا اجابات ابدا) لانه ليس من السهولة تقديم اجابات ...
السمة الرسولية التنبؤية الاخرى التي يمكن ان تؤخذ من فيلم " لعبة الابن الكبيرة " او " رجل الساندويتش " على الاقل بالنسبة لاعمال هاو في فترة الثمانينات (حيث اصبحت افلامه اكثر طموحا ومقتصرة على فئة قليلة من الناس في التسعينيات ) هي التركيز على العائلة والشخصيات الضئيلة ، متنازلة عن اعتبار كون هذه الشخصيات هامشية كمعيار وحيد لها (وهذا ما نجده هنا في هذا الفيلم) . مع انه يشبه ياسيجيرو اوزو(المخرج السينمائي الياباني ....) ، وقلما ما نجد تلك الاسرة الموسعة في افلامه ،تحكي القصة هنا عن حالة الفقر والتشرد التي تعيشه العائلة وعن تلك العلاقات الحميمية التي تجعل من افراد العائلة ابطالا نتيجة اكتساب شعور القرب من بعضهم البعض ,ايضا كما في فيلم " حان الوقت لتعيش وحان لتموت" 1985م وبشكل خاص في فيلم " الابنة في النيلي "1987م .

الاختلاف الهام في افلام هاو الاخيرة في الثمانينيات عن تجربة فيلمه القصير" رجل السندويتش" يكون في ان شخصيات افلامه المحورية هي اطفال : اما تحت 12 سنة (السيرة الذاتية في فيلميه : "حان الوقت لتعيش وحان لتموت "1985م ، "الصيف في غراندبا" 1984م ) او مراهقين ( فيلمه "الاولاد من مينجيكي" 1983م ، ) . مع هؤلاء الابطال وعائلاتهم , عمل هاو على استكشاف (وان يكن ضمنيا ) الضغط المتأصل في المجتمع التايواني المعاصر , حيث وجب على الشباب النمو وتطوير انفسهم (لتطوير الوطن) حيث يمكن للقيم والعادات ان تتحطم وتزول في مغامرة البحث عن الهوية .
وبتقارب الى حد كبير مع اوزو , نرى ان صراع الاجيال يسيطر هنا ( الصراع في فيلم "الصيف في غراندبا " يكون بين المدني والريفي) والوعي الفعال لهذا التقسيم يعكس التغيرات والتباينات القلقة للوطن الذي عانى وما زال يعاني .والتركيز على الاولاد يمكننا من الشعور بـ تايوان الجديدة , ويمكننا من الوقوف على تمشكل الشخصيات واطالتها في رحلة قصيرة رخيصة الثمن الى داخل مملكة البلوغ (الصدام مع الجريمة في فيلم ا"لاولاد من فينجيكي" وفيلم " الصيف في غراندبا" وبداية الوعي الجنسي في فيلم "الاولاد من فينجيكي",و"الغبار في الريح" و"الاخت في النيلي" ) . وجهة النظر هذه تعزز فكرة (التحويل ) الامة الجديدة التي تتحرك بخطوات واثقة الى الامام بعد ان كانت اقليما لم يدون على الخريطة بعد .
الاسلوب السينمائي ذوالنزعة التاملية والملاحظة لهذه الزمرة من الافلام ( قريبة من واقعية أيب مارك نورنيز) يولد شيئا ما من المصاهرة او التقارب مع ادوار يانغ و زينغ زونغ . اللقطات المأخوذة واللقطات الطويلة المختلفة نوعا ما والطويلة التي تسيطر على هذه الاعمال ( بمقارنتها مع مقترحات ميزوغيتشي نفسها على الرغم من انها كثيرة في اعماله الاخيرة عن اعماله الاولى الابكر ذات الاسلوبية الراديكالية والصارمة مثل فيلم "الاخوات في جوين 1936"م ) قائمة على قطع وتحريك الكاميرا (و بخلاف ميزوغيتشي ) ، تميل الى ان تكون وظيفية العمل وبحرفية مهنية .
نلاحظ ان الدراما في هذه الافلام تكاد ان تنعدم ومبنية ( في الواقع، تتفق مع اوزو ) بقدر الامكان حول مشاهد عرضية حيث يمكننا ان نتخلى عن الكثير من اللقطات بقصد التجريد اذا احببنا ( لقطة رحلة القطار في بداية فيلم " الصيف في غراندبا") وهذه المشاهد لا تقدم معلومات قصصية نافعة ولا تدور حول حبكة معينة لقصة او تدور حول سببية ما او حول الفن السينمائي الذي يؤكد على الطبيعة السيكيولوجية للشخصيات والممثلين. سينما هاو في الواقع جريئة وعاطفية تترصد الحقيقة الظاهراتية المحسوسة وما يمكن ان تبطنه هذه المحسوسات البصرية كرؤية أي مخرج يقدم افلاما اليوم .
في هذه الافلام نحس بإيقاعات بطيئة وغير مقصودة وبالنشاطات اليومية للحياة الريفية , ونرى ان هذه اللقطات تشكل اطارا لشخصيات مهملة وصغيرة ضمن هذه المناظر الطبيعية الريفية الواسعة (والتي تشبه الى حد كبير افتتاحيات افلام اوزو عندما يستخدم مناظر طبيعية خالية وداخلية والتي تكون خلفية ثابتة للمثلين والشخصيات والتي يمكن ان تشير الى ذلك الارتباط الشائع ما بين الناس وبيئتهم ومجتمعهم) أي فيما اذا كان ذلك صريحا علنيا في فيلم " حان الوقت لتحيا وحان لتموت او ضمنيا ضامرا في فيلم " الغبار في الريح " اذ نجد على الاغلب في سينما هاو تلك الفكرة الرئيسية التي تحكي عن اناس صغار يعانون البؤس ويرزحون تحت رحمة قوى كبرى تهب حولهم كالغبار في الريح (حتى ان هذا الموضوع سيظهر لاحقا وبشكل علني في افلام هاو اللاحقة )
هذه اللقطات التي تسمى لقطات الوسادة "pillow" أي الراحة اولقطات التحول الى مشهد اخر لا تستعمل كثيرا عند اوزو بشكل متكرر ومعقد ، على الرغم من انها تمنح في افلام هاو (وكذلك اوزو) شعورا دافئا بطبيعة الحياة البشرية العابرة وشعورا بالوجود الانساني ,وعودة الى الطفولة المبكرة وكل ما يشير الى ذلك ضمنيا . اضافة الى ان نقد تايوان المعاصرة قد تطور في الاعمال الاخيرة ( وعلى الرغم من ذلك لم يلاحظ ) , هذه الاعمال الاولى المبكرة اتجهت على الاغلب لتشيخ وتأخذ منحى الروايات الرومانسية والذي به تُدخل الحقائق الغير سائغة فنيا او جماليا عنوة من العالم الراشد الى عالم الطفولة وتشوه براءته.
مع ذلك ، عندما انتقل هاو في عام 1989م الى الطور التالي من تجربته السينمائية , فأن وعيه بالتغيرات الهائلة والكبيرة لطريقة الحياة المتآكلة وادراكه بان افق المرء العقلي قد اظلم , وسيقوده الى اتجاه اخر في افلامه الجديدة التي سياخذها .

ما بعد " مدينة الحزن " :
اخذت سينما هاو تشايو سين مجرى اخر- نوعا ما - في نهاية الثمانينيات وما بعد ، نحو مواضيع تاريخية -اكثر علنية – بصبغة سياسة واجتماعية واكثر تصفية ً وسمو لنغمة الطموح والرتابة والاسلوب حتى، (وفق نهج محدد عرفناه سابقا عند هاو) بداية بثلاثيته التايوانية : " مدينة الحزن " 1989م ، "السيد الدمية" 1993 م ، و"رجال طيبون ونساء طيبات " 1995م حيث قام المخرج هنا باظهار خصوصية عالية بمزجه الملحمي مع الحميمي المعلن والمكشوف ،ضمن تغيرات شاملة وساحقة للصورة وذلك من حيث اعادة تشكيل رؤية بصرية كلية للشخصيات الهامشية .
الرؤية الرسولية الواضحة في اعمال هاو الاولى الى ثلاثيته التايوانية ( وخصوصا " مدينة الحزن ") تأكدت مرة اخرى في فيلمه " حان الوقت لتحيا وحان لتموت " اذ نرى فيه نوعا من المفارقة والتجاور بين متضادات حياتية هادئ – ساكن و مرير – قاس جدا . حيث يصورفيه ويلقي نظرة على نموذج لعائلة ريفية تعيش حالة من القلق الثقافي ما بين الرغبة في الرحيل ورغبة في البقاء اثر الحرب الاخيرة الممتدة من البر الصيني الى شمال تايوان اولا ومن ثم الى جنوب البلاد ، إذ نجد ان المخرج قد سلط ضوء كاميرته على شخصيات هامشية تعيش في ظل التاريخ وبشكل علني وان لم نقل فاضح ، متمثلة هنا في تلك الهجرة البشرية الى تايوان عقب الثورة الشيوعية الصينية عام 1949م .
فيلم " مدينة الحزن " يرصد فترة الفوضى والشغب للسنوات الاربع التي سبقت الثورة (1945- 1949 ) أي الفترة الممتدة ما بين انسحاب اليابان من تايوان (بعد 51 سنة من الاستعمار) وانفصال البلد عن البر الصيني الرئيسي . هذه الفترة كانت مضطربة وغير مستقرة ويمكن القول عنها انها سياسية بامتياز و مدخل الى تاريخ تايوان في القرن العشرين . هاو هنا في عمله الذي يمكن القول عنه بانه العمل الحقيقي الاول له من حيث تكريس كامل طاقات طاقمه التمثيلي لبناء شريط سينمائي حقيقي ، كان قد ارخ بصورة مثلى عبر عدسة كاميرته للاحداث بتمريرها عبر شخصيات عائلة " لين"
تأخذ شخصيات عائلة " لين" المساحة الاكبر في هذا الفيلم وتتمسرح حولها جميع احداث الفيلم ، فثلاثة اخوة ( من اربعة) لعائلة " لين" سُلط عليهم الضوء وكانوا الابرز . الاخ الاكبر وين – يونغ عاد من الحرب ليؤسس مطعما في ذكرى احتفالية اعادة توحيد تايوان مع البر الصيني الام . الاخ الثاني وين – لينغ تورط في سلك جريمة منظم بعد ان خرج من المستشفى اثر خضوعه لمعالجة دورية فيه . الاخ الثالث وين – صن فـُقد في معركة في الفلبيين . والشاب الخجول المشغول البال والمرتبك وين – تشينغ ( لعب دوره توني لوو) يدير استديو تصوير بعدما تملص من الخدمة العسكرية الاجبارية بسبب الطرش ( هو بالحقيقة كان اطرش واخرس و هذه طريقة مداعبة سمجة عهدناها عند هاو لحل مشكلة اللغة بالنسبة للممثل القادم من هونغ كونغ والذي اوجد بقرار ذاتي راديكالي للمخرج – لاجل سينما تايوان – ليُطلق متزامنا مع ضجة الفيلم ).
رسمت حيوات هذه الشخصيات على خلفية تاريخية محددة كانت مفتاحا للعبورالى تلك الحقبة التاريخية ومشاهدة احداث حقيقية ، كما في شهر فبراير المشؤوم في عام 1947م عندما ضربت ناقلة للجند المحتجين ضد الحكومة منهية بذلك وبشكل مباشر مصيرهم واقدارهم ( وللاسف كان المشهد الاكثر تأثيرا وحرفية في الفيلم هنا عند وين- تشينغ الذي احتجز من قبل السلطة في زنزانة مزدحمة ولم يكن قادرا على سماع صوت نار منفذي الاعدام بالمنشقين والمتمردين وما خلفه من شعور لدى الجمهور بعبثية القدر واهماله لصور واحداث ومشاهد وهي على الرغم من هامشيتها تحمل في طياتها قدرا عالٍ من الشعور بالحياة).
على الرغم من ان هاو قد اهتم دائما بشخصياته خارج اللعبة السياسية الا انه في مقابلة مع دافيد نو قد قال " انا مهتم جدا بالناس والعائلة ... في تحلل العائلة وتأثير ذلك على السلوكيات الفردية لأبنائها " وهذا التصريح يستند كثيرا على هذا الفيلم ، ونتبين منه انعكاس شخصية المخرج وطبعه في حياته الخاصة على هذا الفيلم وذلك في احساس ووعي صادق ممكن ملاحظته . المشهد المشهور السابق يكون ، على سبيل المثال ، نموذجا لتصوير الحدث او الفعل السينمائي فقط كشيء مجرب مباشرة من قبل شخصيات دون ان يكون بؤرة الفيلم بحد ذاته . فالخوف من اللقطة الاولى الهادئة يتبدد لحظة عرض الفيلم أي لحظة الولادة وبشكل مشابه اللقطة النهائية الحميمية مع رب العائلة و وين – لينغ الشخصية القلقة المتوترة على طاولة العشاء ، فهذا يعزز الكلام ويزيد من حدة توتر المشهد ويقود الى الشعور بان هؤلاء الناس حقيقيون في لحظتهم هذه كما في هذا الفيلم . انهم هم الذين يعانون على طول هكذا فوضى وشغب .
ان فيلم هاو " مدينة الحزن " الاكثر تعقيدا وطموحا، ظهر ليصبح نوعا ما شاهدا ذاتيا في مسيرته الاخراجية . والمخرج يستخدم باسلوبية فنية لقطات في فترات فاصلة وياخذها الى معنى ضمني جديد ومركب – شعرنة الصورة ويمكن القول عنها انها صدمات بصرية تتجلى بطريقة شاعرية: مستعملا على سبيل المثال لقطة الدخول الى المستشفى مرات عديدة ليشير الى كلا، الموت ( الجنود المصابين و ينغ – لونغ المعترف هناك ) والحياة ( ولادة الطفل ) .

ونجد ايضا ان اللقطة ذات التأثير الاكبر هي عندما التقط وين – تشينغ صورة تذكارية لعائلته بعد أن تأكد من أن موته قريب و في متناول اليد ، اذ تم التعامل مع هذه اللقطة بفنية مشهدية عالية وشفافة لصورة هادئة ومستمرة ضمن مجريات واحداث الفيلم، فالعائلة تجلس بعصبية وتشنج ، وكانت قد التقطت المشهد كاميرا ثابتة كجزء من مركبات مشهد كلي . يتجلى التأثير هنا ولا يخفى على المخرج والمشاهد معا باحساسنا بمدى حميمية هذه الصورة الملتقطة والتي هي من مجريات حياتنا اليومية فالصورة تلتقط لا لتنسى بل لتقتطع لحظات خاصة من زمن متوقف ازلي كريستالي .: وبالحقيقة انه لامر شائع ان نجد عند هاو هذا الشعور بطبيعة الزمن المتغيرة والمتحولة السريعة الزوال .
يمتاز الفيلم بكثرة اللقطات الطويلة فهي تتغلغل في كل جزء من هذا الفيلم اكثر من أي وقت من قبل . فالمخرج يؤكد على اهمية اللقطة الطويلة هنا بصريا ، اهميتها في تصوير فكرة وهاجس الشخصيات وما يعتمل في داخلها تجاه واقع مترد , فالشخصيات ( ثانية ليست بخلاف ميزوغيتش ) يُهيمن عليها داخل بيئتها ووسطها الاجتماعي .
وهذا هوالعمل الاول للمخرج – كسابقة من نوعها- حيث يحكم السيطرة فيه على عناصر وطاقم الفيلم موزعا الادوار- ومعطيا وزنا متساويا للفكرة الرئيسية وللقصة – على الكثير ( على الاقل سبعة ) من الشخصيات التمثيلية بدون التركيز على او افتراض لحالة مركزية بؤرية جاعلا من العاطفة او الاخلاق مركز حساسية الفيلم او نقطته المرجعية .. ( والذي اندفع به لتجاوز المألوف في فيلمه " زهور في شينغهاي" 1998م ).
وعلى نحو اعمق من ذلك قام هاو بتأسيس حركة تمثيل بتجارب حكائية زادت خلال الاعمال اللاحقة في العقد التالي . فجاء فيلمه التالي " السيد الدمية " ليحكي عن سيرة حياة شخص (الحكواتي)(الفنان لي تيان لو لعب هذا الدور - والذي لعب عدة ادوار في افلام هاو ) قبل 30 سنة في وقت السيطرة اليابانية التي قادت الى الحرب ، هذا الشخص نسج وألف وابدع عدة قصص تاريخية مميزة لـ ( اشخاص ، اماكن ، الفنون ، والثقافة) وقدم الكثير منها في طرق رمزية ومعقدة وملتوية وموحية ومواربة احيانا . في هذا المشهد نرى نوعا من التعايش الذي يتطور وفقا لهذا النمو المطرد لمرآة الحقيقة التي تشير الى شكل اخر معاكس للطريقة السائدة من الاذلال السياسي والاجتماعي للناس في اعمال سابقة ( على الرغم من انها مازالت وما زالت حاضرة ).
بعد فيلمه " مدينة الحزن " حيث لعب فيه الكادر التمثيلي دورا بطوليا واحدا، اتجه هاو اتجاها جديدا ليكون"الموضوع" هو البطل المفرد في فيلمه هذا. فالدور الرئيسي للبطل تمركز في وعي الفنان وليس عبر الوعي اليومي لشخصيات المخرج جميعها التي تضاءلت ومضت بعيدا (وتتفق هنا مع شخصيات انجل بوليسيس اليوناني في فيلمه اللاعبون المسافرون) لتتجاوز عوائق التاريخ , من يستطيع ان يقف ويصرح علنا بهذه الفوضى والاعتلاج العظيم حوله , من الذي على الرغم من هذه الظروف استطاع ان يتكيف مع ما يحدث في المجتمع وبشكل مباشر .
ثمة طريقة انعكاسية علنية في فيلم " السيد اللعبة " وذلك في حديث " لي " مباشرة الى الكاميرا او في تلك النتيجة الغامضة من العمل الروائي الاستطرادي المتناقض مع تعتيم حريص ومتأن (الصورة كانت متخيلة وقريبة جدا من ان تكون وثائقية وتسجيلية ) يمهد للفكرة الرئيسية والاسلوبية التي تظهر فيها . حيث يظهر المونولج الداخلي لـ " لي" كأنه تشكيل مسرحي ويبدو انه يخص مستوى نص اخر مختلف عن بقية العمل ، احيانا مكملا له واحيانا مشوشا له ، مخرجا ومقدما فيلما يتكرر فيه التساؤل ويحتدم النقاش حول موضوعة الفيلم وفترته الزمنية وما يمكن ان يحيل ذلك الى مستويات من النقاش تتراوح ما بين الشخصي والسياسي كما في معظم اعمال هاو .
" رجال طيبون نساء طيبات" الفيلم الذي يكمل الثلاثية التايوانية لـ هاو ويلقي فيه نظرة ايضا على فترة الاضطراب السابقة لنهاية الاحتلال الياباني وتماما بعد الانفصال عن الصين ، القصة هنا تُظهر الفيلم ضمن الفيلم وتتحرك بحرية بين الحقيقة والخيال وبين الماضي والحاضر والمراكز والاطراف ، تشبه تماما فيلم " هيروشيما حبيبتي"1995م للمخرج آلان رينيه. البطل في هذا الفيلم ممثلة – امرأة (لاين) تحكي عن حادث تاريخي حقيقي . موضوعة و حبكة الفيلم تحكي عن الممثلة - امراة خائفة وسهلة الانقياد عاطفيا وهي مادة حافزة من اجل رحلة عقلية مختلفة تتشكل من خلال مجرى هذا الفيلم حيث يتم رصد فكرة الارهاب عبر رجل مجهول يظهر فجأة ليدخل الى يومياتها ومن ثم الى افكارها واسرارها .
بالحقيقة هذا الفيلم مبني بوضوح جدا وبطريقة تجعل كل من القصة والفكرة الرئيسية مشروحة بشكل مدهش ورائع (بعكس ما انتقده بالبعض بانه تجربة ليست هامة على صعيد الاخراج والشكل ) ,والمقارنة السابقة مع فيلم "هيروشيما حبيبتي" لـ الان رينيه ليست سطحية بقدر ما تبدو,فكلاهما ، يحاكي فكرة استعادة الذكريات بلونها التراجيدي كجزء من الوعي الوطني على الاغلب .
ربما " رجال طيبون ونساء طيبات "لا يصل الى مستوى فيلم الان رينيه من حيث تأكيده على القول المباشر والعلني ولكنه يتضمن روح هذا القول وخصوصا في ما يتعلق بمقاومة الطلاب المحتل الياباني( والذين نراهم بوضوح في بداية الفيلم ) وهذا بالطبع يشير الى طبيعة هاو التي قضاها في مسيرته محاولا ان ينجز فيلمه : على استرجاع الماضي المضطرب غريزيا كوسيلة من تكريس الهوية الوطنية الثابتة ( على الرغم من درجة الغموض في تلك الدراما العلنية السينمائية وهذه الميزة ليست واحدة من مشروع هاو السينمائي على الرغم من انها من نقاط فيلم " هيروشيما حبيبتي" التي تدل ضمنا على التصوير المباشر الذي يكون مستحيلا او غير مجد ).
ومع ذلك تتناغم ضربات ومنولوج الخفقان الداخلي لهذا الفيلم بطريقة متقاربة مع مجمل اعمال هاو وان كان الهدف المركزي يتجاوز ما جاء في فيلمي " مدينة الحزن " و " السيد اللعبة " الى احكام هذه الثلاثية بالتعليق على حالة تايوان اليوم بالمقارنة مع تايوان الاربعينيات . حيث تتقاطع ثلاث فترات مميزة وتتلاقى في هذا الفيلم : الفترة الاولى من قتال المقاومة الفعلي في الاربعينيات والخمسينيات واعادة البناء والفترة الاكثر اهمية حاليا تايوان المعاصرة .
وقد حدد الكاتب آكويرلو (Acquarello) هذه النقاط بذكاء :
" عندما رصد هاو هذه الفترات الثلاث لم يشر فقط الى النموذج السلوكي لـ" لاين" وعلاقاتها المجهولة ، من الحرمان العاطفي و الاهتياج الداخلي بل أشار ايضا الى سلوك تدميرها الذاتي المتوازي مع ضائقة ازمة الهوية الوطنية والانقطاع الثقافي مع تايوان المعاصرة "
جوهر الوجدان الاجتماعي لفيلم " رجال طيبون نساء طيبات " كان في الكشف عن ذاكرة حبها الاولى آ – وي (Ah Wei) وذلك بمواجهة القمع المتمثل في الاضطهاد التايواني الذاتي لشعبها خلال ما يسمى الان فترة "فعل العنف" (White terror) :اتهام مقاتلي المقاومة ضد اليابانيين في الخمسينيات بانهم متعاطفين مع الشيوعية من قبل تشاينغ – ك شينغ ( الجنرال الطاغية ) . حتى غدا دورها في الفيلم كتصوير حقيقي لأزمة الهوية الوطنية الغير مستقرة ( لقد اصبحت حالا ، مدمنة ومضيفة رخيصة في بار ) وبالحقيقة لا نجد املا يلوح في الافق القريب طالما بقي ماضيها مضطربا ومرتبكا .
مع ان فيلما اخر " وداعا وداعا ايها الجنوب" 1996م جاء كعرض لـ تايوان التسعينيات الحديثة ، واخرج بوعي وايقاع هاديء وبصورة مختلفة عن عمل هاو السابق ذي الصيغة التاملية والهادئ ، قد امتاز بحشد من اللقطات المتنوعة والمتنقلة الى حد كبير . عدا عن لغة الاقناع الذي تمتع بها هذا الفيلم والتي لم تكن صدى فقط لقصة فيلم " الاولاد من فينجيكي " الذين على هامش العالم في الجحيم بل كذلك صدى لفيلم " الشوارع الرئيسية" 1973م لـ مارتين سكوريز و فيلم " مثلما الدموع اذهب بعيدا " لـ ونغ كار وي . حتى ان طريقة الاخراج من حيث الاساليب الفنية تتناغم مع الاعمال المذكورة فوق وبشكل خصوصي مع(ونغ) من حيث التأثيرات الصوتية وعناصر الطاقة الحركية الحاملة للتسجيل الصوتي للفيلم . وابعد من ذلك بكثير فشكل عمل وتحرك الكاميرا الحر يقترب من نموذج هاو في التصوير والحركة ،انه فيلم مشبع بالحركة والمناورة التي لا تعكس فقط تجارب الابطال اللاغرضية بل كذلك الثقافة الغير مترابطة والغير مستقرة لـ تايوان نفسها .
الفيلم التالي لـ هاو جاء ضخما وشجاعا لذهابه بعيدا من نوع الافلام التي صنعها والتي احتفل فيها ، فيلم " زهور من شنغهاي" 1998م مجرد ظهوره لاول مرة بدا وكأنه سيكتسح صالات العرض في الداخل والخارج وفعلا كان العمل الاول لـ هاو الذي يعرض خارج تايوان . ظهر كأنه مقصور على بيوت الدعارة او بيوت الازهار ، في شنغهاي اواخر القرن التاسع عشر ومولفا على قصص حميمية وشخصية لفتيات بائعات الزهور وعشاقهن ، يظهر هذا الفيلم على الاغلب كليا بشكل لقطات متتابعة او متعاقبة مع بناء حكائي اهليلجي يحاكي فيها افلام اوزو (ozu) في فيلم " الربيع الاخير " 1949م و " قصة طوكيو" 1953م و " خريف الظهيرة " 1962م .
قصة الفيلم مبنية على رواية الكاتب هان زيان 1894م والتي تتحدث عن عالم بيوت الدعارة في اواخر القرن التاسع عشر ، هذا العالم المنهار والمتبدد والمتلاشي . تجري احداثه الرئيسية عندما يبدأ ماستر وونغ ( لعب هذا الدور توني لو وكان قد مثل ايضا في فيلم مدينة الحزن ) باحصاء مشاكل الزواج الاحادي ( على الرغم من انها يمكن ان تكون من بنات افكاره) مع احدى فتيات بائعات الزهور ومن ثم انتقاله الى اخرى .. , القصة الثانية لبائعة الزهور.. "ايميرالد " والتي حاولت ان تشتري حريتها وفك ارتباطها بعد زمن طويل من العمل في منازل الزهور .
ثم ،لاحقا في احداث الفيلم تظهر قصة الوريث الغني ماستر زو فهو عندما يرى بائعة الزهور " جيد" . تنشأ بينهما قصة رومانسية مؤلمة جدا ويتفقا على الانتحار بعد ان بدأ المغازلة في اخر لقاء غرامي بينهما . هذه القصص نسجت بعناية لتكون مرآة تنعكس عنها هواجس وشغف وافكار فتيات زهور شنغهاي بحياتهن وما آلت اليه .
قصة وونغ و جيد اللذان ارتبط كلاهما بشريك دائم له هيبتها / هيبته في العلاقة العاطفية

كما ظهروا ابطالا حقيقين في فهم تلك الوحدة الروحية مع الشريك الاخر وكيفة الحلول العاطفي في كل شخصية مع الشخصية الاخرى على ما يمكن ان تفرضه هذه العلاقة من عذاب روحي ومشقة . " ايميرالد" من جهة اخرى تظهر في الفيلم كشخصية اخرى ، ارادت الخروج من حياة السيطرة والاذعان ، عندما رفضت اية مساعدة واشترت حريتها واستقلالها النفسي .
واكثر من ذلك نجد ان بنية واسلوب الفيلم قد ظهرا بفردية عالية ومنقطعة النظير . وعلى الرغم من ان كل افلام هاو السابقة قد جرى تصوير معظم لقطاتها السابقة في الطبيعة ، فان هذا الفيلم جرى تصويره كاملا في الاستديو وتشبه مشاهده كثيرا المشاهد الداخلية لفيلم كوبريك " باري ليندون" 1975م حيث الامكانيات الضوئية والبصرية الهائلة الموجودة في الداخل والتي تفوق الوصف والخيال والتي يجري التحكم فيها بسهولة , هذه الادوات والتقنية العالية يمكنها ان تصنع عالما من الخيال يحول دون الوهم والخداع الذاتي الى حقيقة ويتلاعب بالشخصيات واهوائها النفسية كيفما شاء وخصوصا تلك التقلبات السيكيولوجية التي رأيناها على وجوهي كل من " جيد" و " وونغ ".
تميز هاو باسلوب اخراجه لهذا الفيلم بتغيير الكثير من تلك المعايير الجوهرية التي اعتمدت في صناعة السينما ، فاللقطة لديه محملة بمجاز عميق وتحتمل تاويلات كثيرة عدا عن تلاعبه بعنصر الزمن – والمكان وتوظيفه للتأثير في مشاعر الجمهور فنحن لن ننسى " وونغ " عندما كان يلقي بنظراته من تحت الباب ليرى حبيبته " كريمسون" بماذا تفكر والتي ستكون غير مخلصة لهذا الحب لاحقا كما سنرى, ولن ننسى كيف قطع هاو اللقطة السينمائية وتركنا معلقين ( بعد الزمن هنا) في ذاك المشهد الفريد للاقدام المتقابلة عند الباب( بعد المكان هنا)
في إحالة واضحة منه الى لقطة بورنوغرافية.

وكان ذلك لعدة دوافع ممكنة ، هاو كان مخلصا ومستقيما في عمله هذا فتعامله مع الشخصيات كان على درجة كبيرة من المعقولية بحيث لم يقدمها كما تتفق او تتطابق مع اهوائه الذاتية بقدر ما كانت رؤيته محايدة ومختلفة وتحفزنا حقيقة على تفهم رؤيته المتقدة والمشعة بعيدة عما يرى او كيف يرى مثلا , اخلاص كريمسون او عدم اخلاصها ( فتاة وونغ التي ستتزوج جاسمن لاحقا ..) .
يمكن القول انه مع فيلم " زهور من شنغهاي " قد نضجت واختمرت سينما هاو وحددت اسلوبه الاخراجي ومسيرته السينمائية . وقد جاء بعده فيلم " ميلينيوم مابو" 2001م الموجز والقصير برؤية بصرية مختلفة . فالاسلوب المتبع فيه يشعرك حقا بتشابهه مع سينما تساي مينغ- لاينغ بوجودايقاع الخوف من الاماكن المغلقة بشدة والتركيبات المائلة ( تظهر نصف الشخصيات من مداخل الابواب ) ولكن بفكرته الرئيسية يظهر الفيلم كجزء من فيلم " زهور من شنغهاي " فكلا الفيلمين يتميز بان الابطال فاقدي الامل ويائسون في بحثهم عن الحرية وبحثهم عن الانفكاك من تثافة غير متعاطفة اصلا مع مشكلتهم .
في عام 2003م اخرج هاو فيلما يابانيا بعنوان " كافي لومير " وعرض في مئوية المخرج الياباني ياسيجيرو اوزو مستندا على قصة فيلم " قصة طوكيو "وقد امطره النقاد بكثير من المقالات والكتابات الايجابية واعتبر خطوة فنية جديدة في مسيرة هاو الاخراجية ورشح لنيل جائزة الاسد الذهبي عام 2004م في مهرجان فينيسيا السينمائي ، ويحكي الفيلم عن امرأة يابانية شابة ( لعب الدور هنا الممثلة يو هيتوتو) تقوم بكتابة بحث عن الملحن التايواني جيانغ وين – أي الذي الف الكثير من موسيقا الافلام السينمائية .
وفي عام 2005 اخرج هاو فيلما بعنوان " ثلاث فترات " ويحكي عن ثلاثة قصص حب في فترات زمنية مختلفة 1911م ، 1966م ، 2005 م ولعب الدور في الفترات الثلاث نفس الممثلين شوكي وتشانغ تشين ورشح الفيلم لمهرجان كان السينمائي وكتب عنه الكثير من المقالات الايجابية .
وجاء بعده فيلم " الطيران بالبالون الاحمر " 2006م ويحكي عن عائلة فرنسية تطير بهذا البالون معتمدا على فيلم كلاسيكس قصير " البالون الاحمر " الذي اخرج بوساطة البير لوميرس .
وبلا شك يبدو ان سينما تايوان الجديدة قد اخذت مجرى جديدا مترابطا بفضل عدة مخرجين الذين قدموا اعمالا سينمائية مبتكرة وشكلت تحديا في عالم صناعة السينما على الرغم من مرورها في ازمات ومشاكل التمويل والدعم المادي وازمة الهوية الوطنية وغيرها والتي جعلت البعض يصفها بانها تحتضر الان ( المخرج المعروف يانغ ).
ولكننا نأمل ان هاو تشايو –سين وكبار المخرجين في تايوان (مثل كوريا التي بدأت مؤخرا تضع بصمتها في عالم السينما مثل جانصن – وو ولي ميونغ –سي )) قد استطاعوا بفضل وعيهم وحساسيتهم السينمائية ان ينتجوا اعمالا تشكل حقيقة ارتباطا جديا مع واقعهم الذي يعيشونه .
واذا كان الناقد السينمائي اندرو هيكسون قد حدد مفهوم السينما الوطنية وحصره في ما اسماه "مصطلحات الهوية الثقافية " فان السينما التايوانية ستقق نجاحا اكبر عندما تنطلق من خصوصيتها المحلية وتحذو حذو بلدان اسيوية اخرى ( اليابان: سينما كوروساوا وسينما اوشيما ) في الانطلاق من المحلية الى العالمية ولن ننسى بلدان الشرق الاوسط التي ستحتاج هي ايضا الى هذه التغذية العكسية للنهوض بسينماها .

نشرت هذه المادة في العدد الاخير من مجلة "قوافل" الصادرة عن النادي الادبي بالرياض .



#معتز_طوبر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- يحل في روحك .. يتقمصك .. يجري في دم سلالتك واحدا واحدا
- كائنات على الجليد - سمك الماكرييل
- في نوستالجيا اللاذقية


المزيد.....




- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - معتز طوبر - سينما تايوان . سينما ما بعد - مدينة الحزن - . سينما هاو تشاي - سين