أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - رتيبة عجالي - معذبو الأرض في الحالة العراقية















المزيد.....



معذبو الأرض في الحالة العراقية


رتيبة عجالي

الحوار المتمدن-العدد: 2386 - 2008 / 8 / 27 - 04:45
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


انبعاث جديد للكولونيالية الأمريكية في الألفية الثالثة

تبقى القراءات الموضوعية والواعية لكتابات فرانز فانون محطات لاستعادة تجديد الوعي الإنساني حول مآسي الاستعمار وويلاته . وربما ظن البعض أن مرحلة ما بعد الكولونيالية قد انتهت ، وأن عصر التحرر الإنساني قد بدأ، انطلاقا من معيار عصرنا بتصفية الاستعمار وحق نيل الدول لاستقلالها الوطني وانفصالها عن سيطرة الدول الاستعمارية السابقة . وهو كما يبدو، من مجمل ما نراه اليوم، وهم لابد من إدراكه والتخلص منه قبل فوات الوقت ، كون الكولونيالية عادت من جديد، وهي تسطر برامجها وقوتها الاقتصادية والعسكرية لفرض نفوذها المباشر وقهر شعوب العالم ولو بالعودة بفرض الاحتلال العسكري المباشر والغزو.
وأمام أنظار العالم ومنظماته السياسية والحقوقية والأممية، تتم آليات تنفيذ الاحتلال العسكري بغطاء دولي أو بمباركة أو تواطؤ من مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة أو بفرض صيغة التزام الصمت أمام ما يجري من مآسي في بلدان معينة مثل أفغانستان والعراق ويوغسلافيا والصومال والصحراء الغربية.
إن مبدأ الأمم المتحدة حول قضايا تصفية الاستعمار ينتهك علنا وعلى شاشات التلفزيون وعبر وسائل الإعلام المختلفة .
وفي كل مرة تستعيد الإنسانية بمرارة صورا من البؤس والعذاب والحرمان والتشرد والإبادة الفردية والجماعية . وفي كل مرة لابد من استعادة موقف فرانز فانون الى الذاكرة، وإعادة قراءة مؤلفاته القيمة ككتاب "معذبو الأرض"،و "سود الوجوه بيض الأقنعة" وغيرها من الدراسات والمقالات التي تركها والتي كشفت الواقع الاستعماري البغيض ومخلفاته، لا في إفريقيا فقط؛ بل في مجمل بلدان القارات الثلاث التي عانت ولازالت تعاني من ويلات الاستعمار وآثاره .
إن هذه المساهمة، هي محاولة إسقاط ما كتبه فرانز فانون على الحالة العراقية ، وهي الحالة التي نراها صباح مساء ماثلة أمامنا وحافلة بكل صور القسوة والعبث بالمصير الانساني ، وكما تعرفون انها تظل راهنة ولا زالت خياراتها المستقبلية مجهولة، لكني واثقة أن قانون الحياة غير قابل للمسخ الكولونيالي، لان الإرادة الوطنية لكل شعب ستنتصر مهما تكالبت عليه قوى الاستعمار، ومهما كان عدم التكافؤ بين القوى الامبريالية الغازية والشعب الاعزل كالشعب العراقي .
لقد تعامل العالم مع الغزو الأمريكي للعراق وفق منظور تقليدي كلاسيكي للاستعمار، أي يجري تفسير وتسطيح الحالة العراقية على أنها قضية أطماع امبريالية لإحتلال مصادر الطاقة والنفط في العراق. لكن الحقائق المرصودة على الأرض، وبعد خمسة سنوات ستنتهي بنا إلى استنتاجات ودروس، مفادها أن الاستعمار لم يغير من طبعه ولا مظهره، حتى وان ملأ الدنيا كلها صراخا ومطالبة حول حقوق الإنسان وتحدث عن التمدن وحماية الحضارة وفرض العولمة ، فكل هذه الشعارات يسقطها الواقع عن مصداقيتها في المستنقع العراقي ووحوله وأهواله .
لم يكن الغزو للعراق في مارس 2003 واحتلال العاصمة بغداد يستهدف إسقاط نظام سياسي معين؛ بل استهدف إلغاء مجتمع عريق، وتفكيك بنياته الثقافية والاجتماعية لتسهيل اغتصابه اقتصاديا . ولا شك أن خطوات تفكيك مجتمع كالمجتمع العراقي ليست عملية ستتم بتلك السهولة التي صورتها مراكز الدراسات الإستراتيجية في الولايات المتحدة لقادة البيت الابيض. فهذه المراكز اعتمدت رؤى نظرية وعنصرية مغرقة بحقد تأريخي ضد الحضارة التي كانت بغداد رمزا هاما من رموزها العربية والاسلامية. ولم تستفد تلك الاوساط من حقائق التاريخ القريب والبعيد حول قضايا الاستعمار؛ بل إنها حاولت قراءة المنطق التاريخي مرة أخرى بصورة معكوسة لمسار التقدم الانساني، ووفق نظرة عنصرية متصهينة، لم تستفد أبدا من تجارب ودروس الدول الكولونيالية السابقة وهزائمها المنكرة على يد الشعوب .
ولو عاد الأمريكيون لقراءة فرانز فانون قبل إقدامهم على غزو العراق لوفروا على أنفسهم الكثير من الجهد الضائع والأموال الباهضة التي تحترق في حرب لا طائل منها سوى إضافة المزيد من رصيد الجرائم التي سيكتبها معذبو الأرض العراقية مرة أخرى بعد انتصار مقاومتهم الحتمي على مخططات الاستعمار الجديد .
وقد يظن البعض، إن القوات الأمريكية الغازية للعراق، التي أوكلت أمرها إلى السفير "بول بريمر" لتسيير سلطات الاحتلال والذي أشرف على عملية تفكيك الدولة العراقية وأجهزتها ووزاراتها ولم يبق من هيكل الدولة الوطنية العراقية سوى وزارة النفط وحدها. لم يكن "بول بريمر" ذو خبرة محدودة أو اجتهد اجتهادات خاطئة ومعه جيش ضخم من المستشارين والسياسيين والإعلاميين والاستراتجيين الذين تجاوز تعدادهم أكثر من ثلاثة آلاف موظف وخبير وعالم ضمتهم سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بغداد والتي احتلت اكبر المباني في المنطقة الخضراء. عمل كل من "بول بريمر" و"نيغروبونتي" و"خليل زادة" ومن خلفهم خبرات كبيرة موظفة في البنتاغون ووزارة الخارجية الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية ومراكز الدراسات الاستشراقية وخبراء الحركة الصهيونية واليمين المسيحي المتصهين وشركات النفط الطامعة العراق .
إذن إن ما يبدو للرأي العام العربي والعالمي انها سياسات خاطئة ناجمة عن ردود فعل لوات الاحتلال هو الخطأ بعينه؛ لأن ما جرى ويجري في العراق كان عملا عشوائيا وغير مخطط، تدحضه الوقائع والقرائن والادلة الدامغة التي تدين السياسات الاستعمارية مرة أخرى .
كما أن رد الفعل عند الآخر لتقدير مقاومة شعب العراق لما جرى ويجري هو الآخر لازال قاصرا ولم يكن محسوبا بدقة من قبل خبراء الولايات المتحدة التي إفترضوا ان شعب العراق سيفرش شوارع بغداد بالورود لاستقبال قوات المارينز الغازية. ومن المؤكد القول وبثقة اليوم أن المقاومة العراقية كانت ألاسبق من احتمالات رد الفعل التلقائي المفترض، وشعب العراق ككل شعب ابتلي بالغزو والاحتلال سينتفض لا محالة ضد احتلال وطنه وتعرض وجوده للخطر. وان المقاومة الوطنية العراقية يبدو أنها قد إنتظمت واستعدت لمثل هذا الاحتمال قبل شروع غزو قوات الولايات المتحدة للأراضي العراقية. وهنا نستذكر المقاومة الشرسة لقوات الاحتلال في ميناء أم قصر في أقصى الجنوب العراقي ثم تتابعت بعدها المقاومات في المدن العراقية الأخرى إيمانا بمبدأ ( ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة ) .
ومرة أخرى يستفاد من دروس فانون في "معذبو الأرض "ص 03 ، ولا بد من استعادة قوله :
(... إن المستعمر الذي يقررهذا البرنامج يكون له المحرك ، مهيأ للعنف منذ زمن طويل ، لقد أدرك منذ ولادته، إدراكا واضحا، أن هذا العالم المحاصر والمزروع بأنواع المنع لا يمكن تبديله إلا بالعنف المطلق ).
ولا شك أن العالم قد كان مشدوها إلى درجة الذهول من هذا العنف المطلق الممارس من قبل قوات الولايات المتحدة الأمريكية. هذا العنف سمته الإدارة الأمريكية رسميا بـ (الصدمة والترويع)، بما أنزلته الطائرات الأمريكية من مئات الألوف من الأطنان الحربية المتفجرة ومن المواد المتفجرة التي سمتها الادارة الامريكية بـ "الاسلحة الذكية" تارة او " العمليات الجراحية" تارة اخرى فوق ارض العراق.
جرى هذا الهول أمام كاميرات الإعلام وشاهدته القرية الكوكبية من خلال النقل التلفزيوني المباشر لقناة CNN وأخواتها من الفضائيات العربيات والغربيات، مما يعني أن قاعدة ومبدأ "الصدمة والترويع" يشكلان هدفا استراتيجيا أمريكيا لا يستهدف به ، الشعب العراقي فقط؛ بل الضمير العالمي والمجتمع الإنساني. وكما يقال ان الجرح لا يؤلم إلا صاحبه والجمر لايحرق الا من يمسكه او يدوس عليه؛فان الأرض العراقية ومعذبيها هم من تلقوا آلاف الأطنان من الأعتدة، ومنها أعتدة محرمة دوليا تجاوزت استخداماتها ما بين 200 إلى 400 طن من الأعتدة المشعة نوويا والحاوية على اليورانيوم المنضب والتي ستبقى آثارها المدمرة إلى عشرات الألوف من السنين، لتضيف إلى عذابات الأرض العراقية ومن عليها مهمة القتل والموت الصامت بالإشعاع النووي الذي تشكل حصيلته اليوم دمار شامل حقيقي للأرض والإنسان.
تذكرنا مثل هذه الجرائم بما فعلته فرنسا الاستعمارية في الجزائر بتفجيرها أكثر من 17 قنبلة نووية في الصحراء الجزائرية، وبالضبط في مناطق رقان وتمنراست.
ان حصيلة الجرائم الأمريكية في العراق، لا يمكن حصرها حاليا بسهولة لضخامة تعدادها، ولكن يمكن ان نختصرها هنا بمحصلة أولية، وفي جملة من الصور التالية :
* التسبب في موت أكثر من مليون ونصف المليون عراقي ، أغلبهم من الأطفال نتيجة للتعرضات الإشعاعية المباشرة والغير المباشرة لليورانيوم المنضب والمواد الكيميائية والجرثومية القاتلة .
** التلوث البيئي الذي دمر أراضي زراعية واسعة ومصادر المياه والقضاء على التنوع الحيوي والزراعي والحيواني الذي عرفته بلاد ما بين الرافدين التي عرفت بخصبها وإنتاجها الزراعي منذ آلاف السنين. هذه البيئة الخلاقة التي تركت للإنسانية واحدة من أولى الحضارات الانسانية في سومر وأكد وبابل ونينوى آشور. إن هذه الأرض التي أنجبت تلك الحضارات وظلت رمزا للتعايش والتفاعل الحضاري والانساني هي واحدة من أهم اقطار العالم الربي والاسلامي شهدت ايضا حضارة العرب والمسلمين ببغداد،للأسف أضحت اليوم نموذجا للعسف الكولونيالي ومقبرة جماعية لسكانها في مدن كتلك التي وصفها فرانز فانون في كتبه ومقالاته وخاصة في "معذبو الارض"، والتي سأعود إلى وصفها لاحقا من هذه المداخلة .
أن مفهوم تعبير "معذبو الأرض" بما لم يصدق في صور التاريخ بالصورة الواضحة، كما هو الحال، وما يجري ألآن على أرض العراق .
*** إن استمرار المأساة العراقية، لا يكمن بما حدث بعد 1991 وحتى اليوم؛ بمظاهر البؤس والعذابات الانسانية المسجلة؛ بل في حجم أن الامراض الغريبة وخصوصا السرطانات المنتشرة والتشوهات الخلقية والولادات شبه الميتة والاجهاض ومعاناة لبشر يعانون من كل الأمراض، وهم يعيشون على أرض وبيئة مدمرة بجميع مرافقها الحيوية. وهي تلك بالضبط صورة العراق في "عصر التحرير والديمقراطية الامريكية" .
إن هذه القراءة أريد لها أن تكون استقراء لما كتبه فرانز فانون في "معذبو الأرض" بالتوازي مع حالة العراق اليوم وهي ترصد ذات التطبيقات الاستعمارية القسرية التي شهدتها الجزائر وعدد من بلدان إفريقيا وضمن تصورات النظام الاستعماري الذي ظل ويظل يتسم بأن هناك عالم منقسم بمجتمعين متمايزين في البلد المنكوب بالاحتلال: هما مجتمع الاحتلال وأدواته ونخبه الملتحقة به، ومجتمع " الأهالي "، أهل البلاد الأصليين من الوطنيين الرافضين للاحتلال.
الصورة الأمريكية في العراق، هي نفسها صورة فرنسا الاستعمارية ؟، حتى وان قلل البعض من حجم وجود المستوطنين الغرباء كجزء من كتلة الاحتلال الاستيطاني . في العراق اليوم، تجربة أمريكية جديدة في بلد قيل عنه صباح يوم 09/04/2003 أنه أصبح محررا، ولا يعلم أحدا سوى الرئيس الأمريكي ما تعريف هذا التحرير وما حدوده والى اين تذهب تطبيقاته بجرافات ودبابات الجيش الأمريكي .
ولا يدري أحد منا ما هو مفهوم التحرير الجديد عند النخبة السياسية الأمريكية الحاكمة اليوم بمصير العالم، هل هو تحرير (المنطقة الخضراء ) ببغداد من إقامة الرئيس الراحل صدام حسين ومقرات حكومته الوطنية من تلك المنطقة لكي يحكمها الغرباء من قوات الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في الغزو . نعم هي ذات التجربة الفرنسية في الاحياء الفرنسية في المدن الجزائرية الخالية من السكان" الاهالي" المنبوذين. هو ذات التقسيم الاستعماري لكل مجتمع حيه.
في بغداد اليوم حي يسمونه "المنطقة الخضراء" يضم مباني وملاحق السفارة الأمريكية وقيادة قوات الاحتلال ومؤسسات الإعلام وسفارات دول التحالف، يضاف لها ملحق تابع بعدد من البنايات التي تضم مؤسسات العملاء والمتعاونين مع قوات الاحتلال من المهيكلين في ما يسمى رئاسة الدولة والحكومة وبرلمان مصطنع ومحكمة خاصة تلحق بها محميات سكنية لهم ولعوائلهم خلف جدران إسمنتية مسلحة لحمايتهم من بطش شعبهم والمقاومة وأبناء الشعب المعزول اليوم في أحياء تمت إحاطتها بالجدران العازلة وتقطيعها عن نسيج أحياء بغداد التاريخية التي تكتظ هي الأخرى بمحميات الفقر والجوع المنتشرة حول أطراف العاصمة العراقية ومركزها .
هي ذات الصورة الفانونية ( لعالم مستعمر منقسم بدوره إلى عالمين ، الخط الفاصل ، أو الحدود الفاصلة هي الثكنات ومراكز الشرطة. ) ، هذه صورة بغداد بالضبط، ومثلها عشرات المدن العراقية التي توصف بمسميات أمريكية إعلامية باتت مستهلكة ومتداولة مثل "المثلث السني"و " مثلث الموت" و "مناطق التمرد" ، أراضي دولة العراق الإسلامية" ...الخ من المسميات.
وفي جميع هذه المسميات تكمن الحقيقة الفانونية، هناك منطقة خضراء للبيض وتوابعهم من اصحاب"الاقنعة البيضاء وأخرى منطقة حمراء للزنوج والمقموعين . الأولى تنعم بكل الامتيازات لتحكم والثانية يصبغها لون الدم كي تخضع وهي ثائرة ومتمردة على واقع ترفضه .
وبنفس الأساليب الاستعمارية عملت قوات الاحتلال الامريكي في العراق على إعادة الروح أو خلق بعض "الكيانات السياسية" والأحزاب والهياكل الاجتماعية التي أطلق عليها بـ "منظمات المجتمع المدني في العراق"، لتكون واجهة مزيفة لعهد الديمقراطية الامريكية الجديد في العراق. وما هي الا مساحيق عفنة لتجميل وجه الاحتلال البشع بتقنين وبمسميات لعبة "العملية السياسية" التي يشرف عليها خبراء ومستشارون وعسكريون أمريكيون .
إن "منظمات المجتمع المدني في العراق"، غالبا ما تكون مجرد واجهة مدنية لتنفيذ نشاط الاشخاص والمنظمات الفئوية والطائفية والمذهبية والقومية التي تسعى للتقسيم والانفصال للقوى الاجتماعية في العراق، وتمكنها قوات الاحتلال في الظل منتشكيل تنظيمات ملحقة بها، شبه عسكرية، ممولة بالمال والسلاح لتكون أدوات للفتنة والصراع واحتمالات الحرب الأهلية عند الطلب والحاجة لذلك.
وكما وصف فرانز فانون الحالة الاستعمارية بإدارتها وتسييرها والإشارة إلى نخبها الموزعة على الجهتين، جهة المستعمِر وجهة المستعمَر. في جهة الاستعمار هناك منظرون وسياسيون وإعلاميون يسبحون بحمد ديمقراطية الولايات المتحدة الأمريكية، وهم وينعمون بامتيازاتها المالية والاجتماعية والسياسية. وهم من تنطبق عليهم صورة فرانز فانون في قوله: ( إننا نرى في البلاد الرأسمالية طائفة كبيرة من أساتذة الأخلاق والموجهين والمصلحين تقف حائلا بين المستغَل والسلطة الحاكمة ، أما في المناطق المستعمَرة فان الدركي والشرطي، وبحضورهما المباشر، وتدخلاتهما السريعة والكثيرة ، يظلان على اتصال بالمستعمَر وينصحانه بالعصا أو بالمواد المحرقة .وهكذا ترون أن وسيط السلطة الحاكمة يستعمل هنا لغة هي عنف صرف . إن الوسيط لا يخفف هنا الاضطهاد ولا يسدل على السيطرة حجابا، انه يعرضهما، انه يظهرهما، إن الوسيط يحمل العنف هنا إلى بيوت المستعمر والى أدمغته ) .(ص 04.)
مثل هذه الصورة متجسدة على أرض العراق في العاصمة بغداد ومدن البصرة، الموصل، كربلاء، النجف، وميسان، والكوت، وديالى ،الانبار أبو غريب والفلوجة، وفي أحياء ابوغريب، والصدر، والشعلة، ببغداد والحيانية في البصرة ...وغيرها ، حيث يتدخل الوسطاء والتابعين وجماعات الصحوة وبعض شيوخ العشائر، كدروع بشرية بين قوات الاحتلال والجماهير، وما بين سلطة الاحتلال والحكومة العميلة والشعب. هذه الحكومة تستخدم شرطتها ورجال جيشها ومليشيات أحزابها المتحالفة في الحكومة والبرلمان ( بمسميات مثل "آلبيش مرڤة" Albich Margua للأحزاب الكردية ، و"منظمة بدر" التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى، وأجنحة من "جيش المهدي" التابع للتيار الصدري وعشرات المنظمات المسلحة الاخرى ).
بهذه الأدوات وغيرها يُمارَس العنف الأمريكي المنظم على الشعب العراقي بفتح السجون والمعتقلات ومراكز التعذيب في جميع أنحاء العراق، وأكبرها سجون القوات الأمريكية في أبو غريب وسجن بوكا في البصرة، إضافة إلى عشرات المعتقلات الخاصة والتابعة للسلطة العميلة وأحزابها ومليشياتها .
لقد أضاف الأمريكيون الى التجارب الكولونيالية و لى أدوات القمع إضافة إلى الوحدات العسكرية التقليدية وحدات خاصة تعمل وفق رؤية امبريالية جديدة بما يسمى بـ " خصخصة الحرب " أي استخدام المرتزقة والوحدات الخاصة في إطار الشركات والقوات الخاصة التي يعمل بها عسكريون سابقون، ومجرمون من خريجي السجون الأمريكية والأمريكية اللاتينية والإسرائيلية يتم توظيفهم لتنفيذ المهام القذرة من قتل واعتقال وخطف وتفجيرات مفتعلة في الأماكن العمومية لاستهداف المدنيين الأبرياء ومن ثم افتعال المعارك المذهبية لتوفير مناخات الحرب الأهلية التي تخطط لها الادارة الأمريكية في العراق .
وبهذا المجال فان العقلية الإجرامية للسفير الأمريكي السابق في العراق " نيغرو بونتي " قد تفتقت عبقريته الاجرامية بالاستفادة من تاريخ "منظمة الجيش السري" الفرنسية في الجزائر، وجرائم التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، وأساليب الموساد الإسرائيلي، لتكون المحصلة ابتكار المزيد من لأساليب من الإجرام ووسائل الاستنطاق والتعذيب التي لا عهد للتاريخ البشري بهاش هدتها معتقلات "غوانتيناما وسجن ابي غريب .
وهكذا فان شركات مثل " هاليبيرتون" التي يمتلك نائب الرئيس الأمريكي "ديك شيني" حصصا منها توظف العصابات الاجرامية مثل شركة "الماء الأسود" "بلاك ووتر Black Water " كواجهة لحماية الاشخاص والممتلكات والمصالح الامريكية، وهي وراء جملة من مظاهر العنف الدموي والتفجيرات في العراق والتي استهدفت حياة السكان الآمنين في الأحياء الشعبية والأسواق والجامعات وتركت محصلتها الدموية بما يتجاوز مليون ونصف من الضحايا والشهداء في إطار مخطط إجرامي شامل استهدف ضمن مهامه القذرة اغتيال مئات الخبرات والعلماء والأساتذة والأطباء والتقنيين العراقيين، حتى بلغ عدد القتلى من الأساتذة الجامعيين العراقيين ومن كبار العلماء العراقيين الألف ضحية ،يضاف لهم إغتيال مئات الطيارين وخبراء التصنيع العسكري والخدمات المدنية والصحية ممن اغتيلوا سرا وعلنا ويبقى الجاني مجهولا في جميع الحالات .
إن الأرض العراقية، وهي تفقد خيرة أبنائها قتلا وهجرة قسرية واعتقالات وخطف تتمثل كلها في محاولات الاستعمار الجديد لإذكاء الحرب الأهلية والطائفية والمذهبية في العراق وما يحيطه من اقطار العالمين العربي والاسلامي .
إن القوات الاستعمارية شجعت كل مظاهر الاغتيال الداخلي لكي تستكمل احتلالها لأرض العراق وخيراتها بوضع المرتزقة من المليشات ومجالس الصحوات ومنظماتهم بوجه المقاومة ورجالها ومناضليها .
إن وصف فرانز فانون لمثل هذا المجتمع في ظل الاستعمار المتجسد بوجود أحياء ومدن السكان الأصليين كما في" القرية الزنجية" أو بلدات "الأهالي" وأحياء الفقر في الجزائر لتكون معزولة عن أحياء العنصر الابيض والمستوطنين البيض . إنها ذات الصورة تتجسد ببغداد اليوم، حيث تقيم إدارات الاحتلال في القصور الرئاسية السابقة وفي "المنطقة الخضراء"؛ حيث يقيم الأمريكيون وحلفائهم من العملاء، إضافة إلى عدد من العراقيين المرتبطين بالعملية السياسية من المتعاونين مع قوات الاحتلال، تبعا لمناصبهم ومواقعهم الوظيفية والإدارية، في المنطقة الخضراء، أو في ما يجاورها من أحياء محمية خاصة يتم عزلها بالجدران الإسمنتية العالية ونقاط السيطرة العسكرية والأمنية، عن بقية أحياء بغداد الأخرى .
في المقابل ازدادت أحياء الفقر في ضواحي البصرة كالحيانية، وحي الصدر ومدينة الشعلة وحي العامل في البياع وضواحي أبو غريب ببغداد والفلوجة في الانبار لتشكل حزام الفقر حول بغداد ويرسم الإعلام ذات الصورة عن هذه المناطق بما يتطابق ونص فانون :( أما الحي الذي يحضر على الأوربيين "هنا الأمريكيين وعملائهم" أن يتجولوا فيه فهو مكان سيئ السمعة ، يسكنه أُناس سيئي السمعة، فيه يولد المرء أي كان ، وكيف كان ، وفيه يموت المرء أي كان ، وبأي شيء كان ، هو عالم بلا فواصل ، الناس يتكدسون فيه بعضهم فوق بعض والأكواخ تتكدس فيه بعضها فوق بعض ) .
هذه الأحياء التي تعمقت فيها مظاهر الفاقة والفقر الشديد، هي التي دفعت مئات الألوف من أبنائها ضحايا في الحروب الصراعات التي شهدها العراق ، ومنها سجلت مواقف الشرف والبطولة عندما اندفع ابنائها نحو الانخراط في صفوف المقاومة . وهكذا تراكمت عليها عذابات الأرض العراقية المنكوبة منذ العدوان الثلاثيني على العراق عام 1991 واستمرار العدوان عليها بأشكال مختلفة إلى اليوم، مما زاد من فقرها وعمق من معاناتها، خصوصا في سنوات الحصار الاقتصادي والسياسي الجائر الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق لمدة 12 سنة(1991 ـ2003)، تلتها 05 سنوات من الاحتلال العسكري الأمريكي المباشر الذي أذكى فيه المستعمر وأدواته المحلية نيران الصراعات الداخلية على قاعدة الاستعمار المعروفة: "فرق تسد" باشتداد حدة الصدامات الطائفية التي حركها المستعمر وعملائه.
إن أحياء الفقر والمدن المقاومة في أسوار بغداد تقصف اليوم بأحدث الطائرات الأمريكية المقاتلة ويتعرض السكان إلى القصف شبه اليومي بالصواريخ، وتعمل قوات الاحتلال على بناء الأسوار وإجبار السكان على البقاء في محتشدات بشرية هي أشبه بالمعتقلات العسكرية التي تحيطها الأسوار والجدران الإسمنتية التي بدأت ترتفع وتمتد بين حي وآخر .
ومهما كانت المسميات التي ترددها شبكات الإعلام الأمريكي وتوابعها في وصفهم بـ "المتمردين "و"الإرهابيين" و"أنصار القاعدة". كل هذه المسميات غير دقيقة ومضللة، والحقيقة التي لا غبار عليها، أنهم مواطنون عراقيون رافضون للاحتلال، ومن بينهم أبنائهم من المقاومين والمجاهدين الأحرار الذين يرفضون الاحتلال أو قبول التجنيد والتطوع في جيش الحكومة العميلة أو العمل في مليشياتها أو منظماتها القمعية ضد المقاومة.
لا بد أن يتذكر العالم أسماء المجرمين من جنرالات الجيش الفرنسي ممن حاول القانون 2005/ 158 لمصادق عليه من طرف البرلمان الفرنسي بتاريخ 23 فيفري 2005 في سابقة لا أخلاقية تحاول بها السلطات الفرنسية تبييض الوجه البشع للمجرمين والقتلة من الذين تلوثت أيديهم بدماء أبناء الشعب الجزائري من أمثال بيجو، وروبار لاكوست ومجرمي منظمة الجيش السري الفرنسية... وغيرهم من أولئك القتلة والمجرمين الذين نفذوا جرائم 08/05/1945 في سطيف وقالمة وخراطة وقبلها وبعدها ، وكانت قواتهم تجتاح القرى والمدن والقصبات الامنة في سائر أرجاء الجزائر وتمارس فيها القتل والحرق والنهب. ولا زالت ذاكرة "معذبو الأرض" في جميع أحياء ومدن الجزائر وأفريقيا تذكر أسماء القتلة من المستعمرين، ولا زالت آثار الاستعمار جاثمة على صدر إفريقيا ، مجسمة في مدن الفقر التي وصفها فرانز فانون بدقة : (... إن مدينة المستعمَر مدينة جائعة ، جائعة إلى الخبز واللحم والى الأحذية ، والى الفحم ، والى النور ، مدينة المستعمَر مدينة جافية ، مدينة راكعة ، مدينة متدحرجة في الوحل ، إنها مدينة الزنوج، مدينة العرب ) فرانز فانون( ص 05 ).
ألا يمكن القول، وبلا مبالغة، أو تردد، أن صورة مدينة فانون لـ "معذبو الأرض" تتجسم اليوم في العراق كله، في أغلب مدنه (ما عدا المنطقة الخضراء)، في كل مدن العراق من شماله الى أقصى جنوبه مدن لا تعرف شكل الكهرباء ولا الماء الصافي ، ولا أدنى الخدمات الإنسانية، في الوقت الذي تعلن جميع منظمات الشفافية العالمية والمراقبين الموضوعيين للشأن العراقي : ان أكبر عمليات النهب للثروات والاموال في العالم تجري الآن في العراق من خلال إتمام صفقات الادارة الأمريكية وشركاتها المشبوهة، وما يبذر على الحرب والقمع من مئات المليارات التي لا يعرف أحد أين وكيف صرفت.
وتدخل بذلك ادارة وجيش الولايات المتحدة الأمريكية في عصر مظلم، وصل بها الحد، أنها باتت لا تخجل من اتهام العالم لها بالسرقة العلنية الموصوفة، اضافة الى أنها باتت لا تحترم أدنى شروط حقوق الإنسان وفق المعايير المعروفة؛ بل أنها سعت الى تقنين التعذيب وتشريعه في تعليمات توجه الى ضباطها وقواتها واشاعته من دون حرج؛ بل سعت الى تكريم المجرمين وحمايتهم من أي عقاب يَطالهم أو يمسهم أي اجراء قانوني اليوم أو غدا .
لقد فرضت الولايات المتحدة على العالم، وخاصة على المنظمات الحقوقية العالمية، اجراءات وتعليمات تمنع محاكمة أو متابعة أو إعتقال للمجرمين من أفراد الجيش الأمريكي المحتل للعراق وأفغنستان وشملت هذه الحماية أفراد المرتزقة العاملين في الشركات الخاصة، مهما كان حجم جرائمهم . وبذلك الاجراء اللا قانوني تسحق الادارة الأمريكية هذا الإنسان المعذَبْ سحقا من نوع جديد، بحرمانه من حق متابعة جلاديه وقتلة شعبه. ورغم ذلك تدعي الكولونيالية الامريكية أنها جاءت لتحريره وتمدينه وتحضيره ودمقرطته.
ولأول مرة في التاريخ المعاصر، يشاهد العالم أكبر هجرة بشرية لشعب من أرضه وبلاده ، حيث ترك أكثر من أربعة ملايين انسان عراقي بيوتهم ومدنهم و لجأوا إلى الخارج، إضافة إلى 03 ملايين مهاجر آخر تشردوا داخل العراق في الخيام والمحتشدات البشرية، تركوا بيوتهم بسبب اشتداد العنف الطائفي والمذهبي ولأنهم من دون حماية. هذا العنف المنظم والمسير تحت ادارة الاحتلال ألغى انسانية الانسان في العراق. ان ظاهرة الرؤوس المقطوعة والجثث المجهولة الموزعة في شوارع المدن العراقية سمة تسجل لعصر الحضارة الامريكية في العراق.
وهكذا يتفكك المجتمع العراقي على مختلف بنياته، بمعدلات كبيرة وسريعة، تشير إلى فقدان مليون ونصف المليون عراقي حياتهم ، اضافة الى ملايين الأسر والأرامل والأيتام التي تسجلها منظمات الصليب والهلال الأحمر يوميا للعراقيين المتشردين في داخل بلدهم وخارجه، وتقف منظمات الامم المتحدة والمجتمع الدولي عاجزة عن تقديم أي حل لهم في الأ فق القريب .
كأن نصوص فرانز فانون قد كتبت اليوم بمناسبة حرب التحرير العراقية، مع انه كتبها خلال سنوات حرب التحرير الجزائرية . فكل كلمة منه تصلح للاستخدام في حرب التحرير التي تشهدها مدن العراق اليوم . ويعود السبب إلى تشابه الحالتين الاستعماريتين بقسوتهما وعذاباتهما في ظروف كثيرة متماثلة ؛ حتى اذا ما أخذنا بنظر الاعتبار أن التجربة الاستعمارية الأمريكية في العراق جاءت متأخرة بزمانها قرنا و نيف عن سابقتها الفرنسية في الجزائر، وكذلك الاخذ بنظر الاعتبار أيضا خلو التجربة الأمريكية في العراق من حالة تواجد الاستيطان البشري الكولونيالي الذي كان في الجزائر.
كما أن النقاشات التي جرت على هامش موضوعات الثورة الجزائرية والموقف من الكفاح المسلح الذي خاضه جيش وجبهة التحرير الوطني في الجزائر ، لا سيما في أوساط المثقفين الأوربيين والعرب و غيرهم حول قضايا العنف و التحرر من الاستعمار، عادت تكرر نفسها اليوم حول العراق ومنها في النقاط التالية .


الموقف حول العنف والكفاح المسلح وأشكال المقاومة:
للأسف لا زال الكثير من المثقفين والإعلاميين العرب يتوهمون أن للكلمات المتداولة في عصر العولمة والديمقراطية وحقوق الانسان ذلك التأثير السحري على الجماهير، وحسبهم أن يتناقشوا مع أمريكا ونخبها وممثليها عن موضوعات مثل الديمقراطية و حقوق الإنسان أو أنهم سيقنعون الادارة الأمريكية بضرورة سحب جنودها و قواتها البحرية و الجوية والبرية وأجهزة استخباراتها من اراضي العراق، وعليها أن تحترم النقاش الديمقراطي، وحق تقرير المصير للشعب العراقي ...الخ من هذه الرطانات التي نسمعها على الفضائيات والصحف المأجورة.
ونقول لهم ، انهم واهمون، أو مُضَلَلَون، لأنهم يعرفون، أن ادارة الولايات المتحدة وجيشها لم يستمعا لصوت الرأي العام العالمي الذي عبر عن رفضه القاطع لغزو العراق طوال عام 2002 و بداية2003 ، وكانت المظاهرات المليونية قد اجتاحت أغلب مدن العالم الكبرى، بما فيها مدن وعواصم أمريكية وأوربية، ومنها لازالت تشهد الكثير من مظاهر الاحتجاج . رغم كل ذلك لم تسمع الادارة الأمريكية هذا الصوت الاحتجاجي ضد الحرب والغزو والاحتلال. بل تستمر الولايات المتحدة في محاولات تجنيد تحالف دولي عسكري وسياسي معها رغم افلاسها وخسارتها الحرب في العراق .
اذن كان الغزو، ومن ثم الاحتلال، عملا عنيفا، تم بواسطة القوة المسلحة الغاشمة، و من دون أي غطاء أخلاقي أو مبرر مقنع ويفتقد الى الشرعية الدولية ، بما فيها موقف الأمم المتحدة .
و قبل أن يتحدث أحد عن تجربة غاندي، والنضال السياسي لاسترجاع الاستقلال الوطني لشعب العراق ، يمكن أن يرد على هؤلاء :
أن تجربة غاندي كانت الاستثناء و ليس القاعدة للتحرير، وكانت حالة وحيدة متفردة وغير مسبوقة ، و سوف لن تتكرر. وهي حالة واحدة مقابل عشرات الحالات التي تمت بها إزالة الاستعمار وطرده وانجاز التحرر، باستعمال العنف أي "الكفاح المسلح". يقول بهذا الصدد فانون :
( محو الاستعمار إنما هو حدث عنيف دائماً لأن ذلك يبدل الكون تبديلاً تاماً ، لذلك لا يمكن أن يكون ثمرة تفاهم ودي ).
و يقول أيضا : ( تغيير المستعمَر ( بفتح الميم ) للعالم الاستعماري، ليس معركة عقلية بين وجهتي نظر ، ليس خطاباً في المساواة بين البشر ، و إنما هو تأكيد عنيف للأصالة تفرض مطلقة ).
المستعمِر هو سبب العنف، و هو خالقه، و كل عنف من أهل البلاد، ومن حركتهم الثورية, مهما بلغت شدته هو رد فعل على العنف الأصلي . يقول فانون :
( في المستعمرات، وسيلة التواصل بين المستعمِر والسكان الأصليين هو الشرطي و الدركي و بالتالي هي لغة عنف صِرفْ ...).
والسؤال الجوهري والمنطقي الذي يمكن طرحه الآن مرة أُخرى : هل احتلت أمريكا العراق بأطبائها وعلمائها و نخبها الفكرية و بأجهزة الكمبيوتر وبرامج التطوير العلمي والتكنولوجي ؟.هل احترمت أمريكا خصوصية وثقافة ومجتمع وتاريخ وحضارة شعب وادي الرافدين" العراق"؟.
والجواب تؤكده يوميات الاحتلال وممارساته:
كانت أُولى الأهداف لقوات الاحتلال في بغداد وسائر المدن العراقية هي المتاحف والمكتبات وبيت الحكمة والمجمع العلمي واللغوي العراقي ومئات الجامعات والمدارس العليا ومراكز البحوث العلمية كلها أصبحت ركام للحرائق وهدفا للسراق والتخريب المتعمد لقوات الاحتلال وحلفائه . أصبح العقل العراقي مستهدفا باغتيال الألوف من العلماء والأكاديميين والتقنيين والأطباء أو تشريدهم أو اعتقالهم أو تركهم فريسة للبطالة والعجز أمام متطلبات الحياة اليومية العادية كبشر.
إن قوات أمريكا احتلت العراق و تسير أمورها اليومية به بواسطة قوات المارينز وشركات الحمايات الخاصة من المرتزقة فقط ، كما أنها اعتمدت وسيلة العنف المنظم بأقصى طاقاته لمواجهة وتحطيم إرادة شعب العراق.
و يقول فانون بهذا الصدد:
( إن الاستعمار ليس آلة مفكِرة ، ليس جسماً مزوداً بعقل ، إنما هو عُنف هائج لا يمكن أن يخضع إلا لعنف أقوى ...).
ـ ما ينتظر من مواقف من النخب الفكرية الأمريكية والغربية حول المقاومة العراقية :

وكما هو الجدل الذي ساد في أوساط النخبة السياسية والفكرية الفرنسية في سنوات حرب التحرير في الجزائر.لا زال العالم ينتظر اليوم من النخبة الأمريكية موقفا من غزو العراق ومن المقاومة العراقية وتحرير لغة الإعلام الأمريكي من وصمها بـ "الإرهاب" أو "بقايا القاعدة" أو "فلول النظام البعثي السابق" وغيرها من الأسماء السلبية بوصفها. لم يزل العراقيون المقاومين ينتظرون مثل ذاك الموقف الجريء والواضح الذي أعلنه فانون وساتر وآخرون تجاه عنف القوات الفرنسية .
بهذا يستبق فانون وصف الموقف حول المثقفين ومواقفهم بقوله:
( قبل المفاوضات تكتفي أكثر الأحزاب ، في أحسن الأحوال بأن تلتمس المعاذير "لهذه الوحشية " إنها لا تطالب بالكفاح الشعبي . و ليس نادراً أن نراها تنتقد ، في حلقات مغلقة ، تلك الأعمال التي تصفها صحافة البلد المستعمر و يصفها رأيه العام بأنها منكرة كريهة . و هذه السياسة التجميدية تعلل بالحرص على رواية الأمور رواية موضوعية .
و هذا الموقف ليس موضوعياً . إنما هؤلاء الناس ليسوا على ثقة بأن هذا العنف الجامح الذي تعمد إليه الجماهير هو السبيل الأجدى للدفاع عن مصالحهم الخاصة . ثم إنهم غير مقتنعين بجدوى الأساليب العنيفة . و عندهم أن كل محاولة لتحطيم الاضطهاد الاستعماري بالقوة إنما هو سلوك يأس ، سلوك انتحار . ذلك أن دبابات المعمرين و الطائرات المقاتلة تحتل في أدمغتهم مكاناً كبيراً ، فمتى قلت لهم يجب أن نعمل رأوا القنابل تتساقط فوق رؤوسهم و رأوا الدبابات تزحف على طول الطريق و رأوا الرشاشات و الشرطة فظلوا قاعدين لا يتحركون .
إن عجزهم عن الانتصار بالعنف أمر لا حاجة للرهان عليه . إنهم يبرهنون على هذا العجز في حياتهم اليومية و في مناوراتهم ............
هؤلاء يتصورون أن للعنف شروطه التحضيرية و الواقعية إن له أدوات يجب إنتاجها . و زبدة القول هم يعتقدون أن انتصار العنف يقوم على إنتاج الأسلحة و هذا يستند على القوة الاقتصادية، على الدولة الاقتصادية و على الوسائل المادية التي توضع تحت تصرف العنف ، الواقع إن الإصلاحيين لا يقولون شيئاً آخر :
(( بأي شيء تريدون أن تحاربوا المعمرين ؟ بسكاكينكم ؟ ببنادق الصيد التي عندكم ؟ )) .
كأن هذا النص لفانون مكتوب اليوم، وكأنه يوصف موقف شرائح من المثقفين العرب من حرب التحرير والمقاومة العراقية. ان هؤلاء كمن يمسك العصا من المنتصف، وهم من خلال مواقفهم في " إدانتهم للعنف" ويجاهرون بإضافة جملة "من أي طرف كان" ، فهم بذلك الموقف الانتهازي يساوون بين الضحية و الجلاد، ويتجاهلون أن خالق العنف الأساسي في العراق هو المحتل الأمريكي وعملائه.
وهؤلاء المثقفون يبدون تقززا في كتاباتهم و في أحاديثهم عن العنف الذي تمارسه المقاومة، و يبدون تخوفهم من مشروعها لتحرير العراق ويصفونه بأنه "يشكل خطرا على مستقبل المنطقة والعالم" .
وقسم آخر منهم، لازال يقول: أن شروط الثورة والتغيير لم تكتمل بعد، و لن يكون الشعب حرا مالمً يمتلك قراره كي يبدأ المقاومة، ولا يتوانى هؤلاء المتفرجون من ان يضعوا شروطا لمن سيقود المقاومة. انهم بمثل هذا الخطاب، كأنهم بذلك يريدون أن يستكمل المحتل الأمريكي بناء قواعده العسكرية وينظم المجتمع السياسي العراقي المطلوب وفق التوجهات الأمريكية المطلوبة لإدامة الاحتلال وإحكام سيطرته .
وهناك قسم آخر لازال يحيل مسألة الثورة ومقاومة الاستعمار إلى اختلال توازن القوى بين سلاح المقاومة وسلاح المحتل، متجاهلين أن الإرادة الوطنية لشعب العراق، كما هي مقاومة شعب الجزائر، قادرة على استخدام السلاح المناسب في الوقت المناسب لإذلال قوات الاحتلال وفق قاعدة حرب العصابات التي اعتمدتها شعوب الفيتنام والجزائر وغيرها من الشعوب .
الثورة هي فعل تغيير، يعتمد على قوة إرادة الإنسان ، هذا الإنسان الذي نفض عنه كل وهم و كسر قيوده وحسم اختياره الوطني والمستقبلي إما بالشهادة أو نيل الحرية . هذا الإنسان الذي يأس من كل شيء، و لم يعد يعنيه الخطاب الانهزامي، يهمه أن يحصل على حريته أو يموت من أجلها. الارادة الوطنية للتحرير هي سلاح التدمير الشامل الذي يقلب كل موازين القوى العسكرية و الاقتصادية و السياسية لصالح الشعب المقاوم .
أما انتظار تبدل الموازين المادية، حتى يحصل التحرير، فهذا مكانه عالم آخر لا وجود له إلا في أذهان بعض المثقفين المنهزمين. تجربة الثورة الجزائرية علمت فانون ايضا:
ليقول فانون :
( إن في الكفاح المسلح شيئا، يصح أن نسميه " النقطة التي لا عودة بعدها " . وهذا تحققه أعمال القمع الواسعة . إن الإنسان يتحرر في العنف و بالعنف . ففي الجزائر جميع الرجال ، تقريباً ، الذين دعوا الشعب إلى الكفاح الوطني محكومين بالإعدام . و هنا نلاحظ أن الثقة تتناسب مع مقدار ما في كل حالة من يأس).

المراجع :
ـ فرانس فانون ، معذبوا الأرض ،1990 ، موفم للنشر ، الجزائر ، صفحات عديدة .
ـ فرانس فانون، من أجل افريقيا ، 1980 ، ط 02 ، الشركة الوطنية للنش والتوزيع ، الجزائر،عدة صفحات .
ـ فاضل الرباعي ،الخوذة والعمامة ، 2006 ، دار الفرقد ، دمشق ، عدة صفحات .
ـ عبد الكاظم العبودي ، البعد الاديولوجي لليسار الأوربي التقليدي من قضايا الثقافة والعنصرية في العالم الثالث ، 2006 ، بحث مقدم إلى الملتقى الوطني الرابع فرانس فانون ، الطارف ، يومي 01 و02 / 2008 .
ـ عبد الكاظم العبودي ، يرابيع رقان ، جرائم فرنسا النووية في الصحراء الجزائرية ، 2000 ، دار الغرب وهران .
ـ عبد الكاظم العبودي ، الاستبداد الثيوقراطي من اجتثاث البعث إلى اجتثاث الشعب إلى وكالة الأخبار العراقية ،22/08/2007 .
ـ ثائر دوري ، مجموعة مقالات عن فرانس فانون ، مواقع انترنت مختلفة .



#رتيبة_عجالي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- غافريلوف: السفارات الأجنبية في كييف تطلب من مواطنيها مغادرة ...
- خبير عسكري: واشنطن و-الناتو- يعسكران القطب الشمالي منذ قرابة ...
- -طار جزء من سقفه واندلعت النيران-.. -حزب الله- يعرض مشاهد من ...
- زيلينسكي يتحدث عن إمكانية التفاوض مع روسيا على حدود العام 20 ...
- تاريخ ظهور نجوم هوليود مع ألعاب الفيديو
- أميركا تجيز إرسال مزيد من القنابل والطائرات الحربية لإسرائيل ...
- في بيان لـCNN.. الجيش الإسرائيلي يوضح حقيقة فيديو -قتل فلسطي ...
- -إصابات مباشرة وإطلاق صواريخ متنوعة-.. -حزب الله- ينشر ملخص ...
- روبوت على هيئة ذئب أو ثعلب لإبعاد الحيوانات عن مدارج مطار أل ...
- دمشق وموسكو تنددان بغارات -إسرائيلية- داخل سوريا


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - رتيبة عجالي - معذبو الأرض في الحالة العراقية