السلطة العراقية والادارة الاميركية تتصرفان بهدوء غير معهود ولا مفهوم خاصة من الجهة الاميركية التي تستعد كما هو معلوم لشن عدوان جديد على العراق بينما هي تواصل خفض نبرتها وتتحاشى كل ما يساعد على الاثارة فيمتنع المسؤولون الاميركيون عن التصريح بشيء عن موعد الهجوم الاميركي او عن وجود قرار متخذ بهذا الشأن مع انهم لا يتركون مجالا للشك حول عزمهم وعزم الرئيس الاميركي على تغيير السلطة العراقية وبالاخص إزالة صدام حسين من المشهد ومؤخرا وفي هذا السياق ترددت أنباء تقول بأن الهجوم المنتظر قد أجل الى بداية عام 2003.
والتحضيرات التي تتعلق بهذا الموضوع من الناحية الاستراتيجية مثل العمل على تغيير موقف روسيا او أوروبا لا تتسم هي الاخرى بطابع الاستعجال مع ان خطوات كبيرة وهامة جدا حدثت على صعيد المهمة الاولى، الرئيس الاميركي يصل الى أوروبا وهو يقول بأن من بين أبرز مهامه العمل على توضيح الموقف الاميركي من قضية العراق فحسب نظر الادارة الاميركية هنالك سوء فهم يجعل الاوروبيين يخلطون بين مواقف الادارة الموجهة للرأي العام الاميركي وبين التوجهات والخطط الحقيقية المتعلقة بالموضوع العراقي، بوش الابن متأكد من انه سيتمكن من إزالة هذا الالتباس وان لم يفلح تماما فهو يأمل بالحد الادنى بإحداث نقلة هامة في النظرة الاوروبية لهذا الموضوع..
بعض السياسات توضح عندما لا تكون واضحة، فالولايات المتحدة ترسي حاليا أسس تحالفات حقبة العولمة المعسكرة والهجوم الشامل والطويل تحت شعار <<محاربة الارهاب>> وهي تعلم بأن مثل هذا الطور من تاريخ هيمنتها لن يتحقق بالضغط على ازرار موجودة تحت أصابع الرئيس الاميركي وحتى الانجازات الباهرة التي يتم تحقيقها سريعا على المستوى الاستراتيجي لا تكفي اذا لم ترسخ كما يحدث مثلا على الجبهة الروسية وإنجاز غير متوقع مثل ذلك الذي تحقق بمناسبة الحرب على أفغانستان لن يكون له معنى من دون اتفاقات خفض الترسانة النووية وتغيير موقع روسيا في حلف الاطلسي من وضعية (19 1) التي كان الكل يسمونها (19 ضد 1) الى (20) وغيرها من الاتفاقات الاقتصادية والنفطية التي توحي اليوم للمراقبين بأن روسيا بصدد التحول الى قوة استراتيجية تتهيأ للوقوف بجانب الغرب وأميركا في الصراع مع العملاق الصيني، وأوروبا التي تربح الآن موسعة مدى سيطرتها العسكرية شرقا نحو بقايا الاتحاد السوفياتي لا تخلو مهما أبدت من تذمر ازاء نزعة التفرد والغطرسة الاميركية، من أحلام <<الامبراطورية متعددة الرؤوس>> وهذا وذاك يولدان مناخا عالميا جديدا على الجبهة الصينية، وفي الحصيلة، تنتهي الحرب الباردة فعليا بعد عقد على نهايتها الرسمية بلعبة دومينو، المزيد من تثمير اللقاء الروسي الاميركي استراتيجيا هو مرة اخرى انقلاب في اوضاع العالم برمته هنا ترسي اليوم ضوابط وتوازنات تبرر بوزن داعميها الكبير، الحرب الشاملة التي تخوضها الولايات المتحدة باسم <<الحرب على الارهاب>> وحين يفترض بروسيا الوقوف على خط الصراع بمواجهة الصين يصبح من الطبيعي ان نسأل، ما الذي تحتله وقتها من زاوية النظر الروسية قضية بحجم المسألة العراقية.
من جهتها السلطات العراقية تتحسس اتجاهات التبدل في الوضع العالمي والاخبار تقول بأن الرئيس العراقي أصبح للمرة الاولى مقتنعا بأن قضية استهداف النظام واحتمالات زعزعته وإسقاطه جدية وحتى حتمية، وهو لا يجد أمامه سوى ان يخلي أمام الآخرين من دول الجوار والعالم العربي الطريق لكي يدركوا المخاطر المترتبة على هذا التطور، انه لا يفعل شيئا سوى استعمال قوة الكيان العراقي وموارده الباقية وهنا اليوم تضع سياسات السلطة العراقية كل ثقلها، فانفجار الكيان العراقي هو أكبر القنابل مقارنة بأي نوع من السلاح النووي او البيولوجي والكيميائي، واستهداف العراق الذي يتبين كلما جرى الاقتراب منه بأنه يعاني من معضلة غياب البديل لا بد ان يفهم على انه كالذي يجري الآن في فلسطين، نمط من الارهاب الشامل للمنطقة وخطة تستهدف اعادة انتاج مبررات استمرار وزيادة الحماية والوجود الاميركي المباشر.
ان عراقا ممزقا يعني المزيد من الخوف ومن احتمالات اتساع نطاق التمزقات يفترض انه سيجعل الوجود والمزيد من الوجود الاميركي المباشر بمثابة ضرورة لا غنى عنها، ومن دون ان يساهم الاعلام العراقي السيء دائما في تجسيد مثل هذه التخوفات ويذكر بها، يعرف المحيطون بالعراق والخليجيون منهم بالذات اي نوع من المخاوف لاحت لهم خلال الحرب العراقية الايرانية او وخصوصا إبان انتفاضة آذار 1991 وأكثر هؤلاد وبالاخص من تدخلوا في الحالة الثانية وطلبوا الى الاميركيين اطفاء فتيل تلك <<القنبلة العراقية الكبرى>> يعرفون أكثر من غيرهم بأن الهجوم الحالي على العراق هو هجوم على المنطقة ومقدمة حاسمة لطور من التغييرات في بنى وحدود الدول والنظم القائمة فيها، ولكي يكون النظام العراقي فعالا حسب هذا النوع من المعطيات فهو يفتح باب <<الاقتصاد>> على مصراعيه والكثيرون يفرحون بظل اوضاع اقتصادية عربية كلها كارثية، الجانب الآخر السياسي من الموقف لا يملك نظام قائم أصلا على فلسفة <<الكتمان>> وتنقصه <<الكاريزما>> ما يفعله بخصوصه سوى ان يعتمد لغة التعقل، ها هم في بغداد يجربون اخيرا ومتأخرين كيف يطرحون طبعتهم من سياسة <<ازالة الذرائع>> وبالغوا كما هو متوقع فكتبوا حسب جريدة <<بابل>> التي يصدرها ابن الرئيس الاكبر عدي لأكثر من مرة مطالبين الولايات المتحدة بالحوار، وفي آخر تصريح لنائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان المعروف بأنه وجه الصقور الابرز قال بأن الولايات المتحدة لا تؤمن بالحوار وبدا أشبه بمن يطالب به لا من يعترض على مطالبات عدي به.
في العمق، السلطات العراقية تعلم بأن المواجهة مع الولايات المتحدة لم تكن في يوم من الايام ملتهبة كما هي الآن، لكنها لا تستطيع ان تفعل غير ما تفعله، والولايات المتحدة عازمة على تنفيذ تهديداتها، وهي تريد ان تبدأ حملتها بضوء وعلى قاعدة اكتمال متغيرات الحقبة الحالية استراتيجيا، وكل شيء يتم تحضيره بهدوء وفوق صفيح بارد، ولمَ لا اذا كان ذلك لا يمنع المنطقة من اكتشاف احتمالات من نوع امكانية توجيه ضربة مباغتة وصاعقة للعراق تركز على شخص صدام حسين المحدودة دائرة تحركه منذ فترة حتى وان استعمل في مثل هذا الهجوم سلاح نووي تكتيكي او اي نوع من القنابل شديدة التدمير، فهذا الاحتمال المباغت يعني فتح ثغرة ذات تداعيات اقليمية يصعب حصرها، ومجرد وضعها موضع الاحتمال الجدي من قبل أنظمة وحكومات المنطقة سيجسد المدى الذي يمكن ان يبلغه <<اللهيب>> واستهدافاته خارج حدود العراق وصدام حسين ولن تكون التبادلات التقليدية والافتراضية بين جبهتي فلسطين والعراق وقتها منطقية، فالاهداف وحدها تعطي الافعال معناها ومكانتها والسؤال الذي تريد الولايات المتحدة ربما ان تدركه الحكومات العربية سريعا هو: هل النظام الاقليمي الحالي ما يزال قابلا للحياة او هو موضع حرص الولايات المتحدة والغرب؟
مسألة عرضية يجب ان تذكر بهذا الخصوص فعلائم الازمة التي أثارها الديمقراطيون بوجه الجمهوريين على قاعدة التقصير برغم توفر معلومات أبلغت للرئيس قبل 11 أيلول عن احتمال تعرض الولايات المتحدة لهجوم من قبل <<القاعدة>> و<<بن لادن>> قد تغير وتيرة الاحداث وثمة من يقول بأن تصاعد هذه الازمة سيسرع الهجوم الاميركي على العراق، ربما، علينا جميعا ان نراقب، فقد يحدث الاعظم قبل ان تتوفر حتى الفرصة للأنظمة العربية ولقطاعات هامة في العالم العربي ويعوا جميعا حقيقة، المدى الفعلي لهذه الحرب اذا وقعت.
©2002 جريدة السفير