أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ر ائد قاسم - اخصاء الفرد في المجتمع الديني















المزيد.....


اخصاء الفرد في المجتمع الديني


ر ائد قاسم

الحوار المتمدن-العدد: 2368 - 2008 / 8 / 9 - 05:44
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لا شك إن لانعدام قيم الحرية وابتذالها في العالم الإسلامي آثار عميقة ، تحمل أبعادا تاريخية وسيكولوجية تراكمية متأصلة في الذات الفردية والجماعية ، ويكتنفها الكثير من الغموض ، نظرا لانتقال الثقافة عبر الأجيال دون تغيير أو تكيف مع متطلبات التنمية وإعمال الواقع ، وذلك باعتبارها ثقافة مرتبطة بالنظم الدينية والاجتماعية التي لا يمكن تغييرها بسهولة ، وعادة ما تكون النظم الروحية متأخرة بمسافات ليست بالقليلة عن التقدم التقني مما يحدث الكثير من الإشكالات المختلفة والمتعددة ، خاصة وإنها خاضعة لسيطرة شريحة اجتماعية واسعة النفوذ ، وترتبط بها من خلال عوامل ذاتية وفئوية مادية ومعنوية متداخلة ومتشابكة ، ولضمان تدفق سلس للنظم الثقافية والدينية وانتقالها عبر الأجيال دون تغيير جوهري وحقيقي لا بد من بقاء سيطرتها من قبل هذه الشريحة الوراثية المتعاهدة ، وهو ما يدفعها إلى إحاطتها بهالة مشعة من القداسة والوهج السوسيولوجي الخادع والعمل على نبذ الفرد الذي يحاول الخروج على نسقها وكسر حواجزها وتخطي قواعدها، بل وإزاحة الوحدات الماكروسيلوجيا الخارجة عليها أيضا، إلا إن الفرد يناله ما يمكن تسميته بسياسة " تحطيم الذات الفردية " في محاولة لإعادته إلى حظيرة الجماعة الخاضعة ، حتى لا يكون بداية لتمرد جماعي عبر تشكيل ثقافة مضادة تسعى للانتشار والسيادة ، لذلك تسعى أجهزة السلطة إلى إعادته إليها وإخضاعه لقيمها بشكل كامل من خلال هذه السياسة ، ليتشكل كيانه ونشاطه الذاتي من خلالها فقط ، ولا يكون له قيمة فعلية إلا إذا استمر على خضوعه وولائه لرموزها.
إن الشعوب تكره الحاكم الديكتاتور باعتباره منهجا وثقافة وممارسة يلغي ذوات الآخرين ويطرح نفسه كبديل أوحد عن المشاركة الجماعية وإتاحة الفرصة للأفراد للعمل معه برفق الفريق الواحد ، إن الدكتاتور أشبه بالروح التي تسعى لتقمص كافة الأجساد وطرد أرواحها الأصيلة منها، إنه يعمل من اجل أن يكون الآخرين كظله الذي يتبعه أينما حل وارتحل، لذلك يبغض الفرد والمجتمع على السواء الدكتاتور والنظام الدكتاتوري ، خاصة عندما لا يكون متجانسا معهما في تركيبته الدينية والقيمية.
في البلاد العربية والإسلامية يتعرض الفرد إلى عملية استبعاد وتسفيه وتحطيم ممنهج منذ صغره ، وما أن يبلغ أشده حتى يكون قد اخصي ! فلا يعود له جدوى أو فاعلية أمام النظم الحاكمة ورموزها المسيطرة على حركة الواقع... يطلق على الفرد والجماعة بالرعية في النظم السياسية العربية منذ قرون طويلة ، واستخدم الكثير من العلماء مصطلح" العامة" في وصم الرعية بقلة الشأن وضالة العقل والتفكير، واستخدمت بعض المذاهب الدينية أيضا مصلح " الأيتام" في إشارة للمجتمع، فاليتيم يحتاج إلى الرعاية والمداراة والاعتناء ، وقد تعارف فقهاء المذهب الشيعي الاثنى عشري على وصم أتباعهم بهذا التعبير كدلالة على افتقاد أتباعهم لأهلية المشاركة في تسيير شئون الطائفة.
سأل حاكم عربي معاصر عن الديمقراطية وحكم الشعب فقال إنه ليس هناك شخص مؤهل للحكم حاليا سواه !! ولو أجريت انتخابات حقيقة وتقلد السلطة غيره لانهارت الإدارة الحكومية ولتراجع الاقتصاد!! رغم أن عدد نفوس تلك البلاد يناهز الخمسين مليون نسمة !!
في إحدى المقابلات التلفزيونية قال احد المسئولين البارزين إنه لا يحق له أو لغيره التحدث عن شعب بلاده، وان الرئيس ونائبه فقط من له حق التطرق لشئون الشعب وقضاياه المختلفة!!
عند التجول في بعض المجتمعات الدينية سوف تشاهد النساء وهن يرتدين زيا موحدا، بحيث لا يمكن من خلاله التمييز بينهن في الذات والكينونة والهوية ! يحاصرهن بشراسة نظاما دينيا واجتماعيا وثقافيا حديديا ! .. إن المرأة في تلك المجتمعات تعيش في ظل منظومة قيم خشنة أفقدتها ذاتها وكينونتها ولم تبقي لها شخصية أو كيان أو مستقل ومؤثر... عندما تلمح نساء تلك المجتمعات فانك لن تجد أي فرق بينهن ، سواء في المظهر أو الطموح أو المستوى الثقافي ، بل لا تكاد تعرف إحداهن على أنها شخصية اجتماعية تمارس مهام مؤثرة وفاعلة ، فجميعهن في بوتقة واحدة من التهميش والنبذ.. لن تتمكن من التمييز بين النساء في تلك المجتمعات، ولن تستطيع تصنيف المجتمع النسائي وحركة المرأة في دائرتها الاجتماعية الخاصة والمشتركة ، ذلك أن المرأة محطمة الكيان، مسحوقة الحقوق، مجردة من ذاتها، محصورة في أنوثتها، يجنح العرف الحاكم على تحييدها عن حركة المجتمع فلا يمكن التعامل معها إلا من خلال هيئتها الأنثوية المحاصرة ، إنها مجرد إنسان مخصي من إنسانيته ! يعرف كأنثى الإنسان لا كانسان! أنثى مقيدة وذات خاضعة، وذلك بعد أن جردت من معظم نزعاتها الإنسانية وغرائزها الآدمية.. إن منظومة التعليم في تلك المجتمعات ترتكز على الدين السائد والعرف الاجتماعي، إنها ليست سوى معامل لتهجين النساء ، حيث تفرض عليهن أنظمة حديدية وقيم أحادية المصدر ومثل جامدة ، وتبدأ عمليتي التهجين والتختين ابتداء بنعومة الأظفار حتى بلوغ سن الرشد ، لتكون النساء في تلك البلاد قد مرت بالمراحل المطلوبة للانصهار في النظام الشمولي الحاكم ، الذي ينتزع من كيان المرأة كل ما يمس لإنسانيتها بصلة، لتصبح كائن حي ليس له أي قدرة على ممارسة التغيير، بل وليس له رغبة بالانعتاق من البيئة المسيطرة عليه ، حتى انه لا يدركك إن في هذه الحياة أفاق أخرى أوسع وأرحب ، إن المرأة في تلك البلاد أشبه بالسمكة في بيئة اصطناعية، تعيش فيها وتموت دون أن تدرك أن هناك بحار ومحيطات وانهار كبيرة وواسعة تضم أشكال كثيرة للحياة .
البيئة الدينية التي تعيش فيها المرأة تعلمها الخضوع أيضا، فالفتاوى والعقائد والآراء السائدة يجب التقيد تماما، وليس هناك أي هامش للحوار والنقاش، فكل شي صحيح، وليس للمرأة من مكانة اجتماعية تؤهلها للنقد والتأثير على حركة الواقع بحيث تتاح لها فرصة المساهمة في صنع القيم الدينية ، إن المساجد ومؤسسات العمل الديني معامل أخرى لإنتاج كيان أنثوي خاضع للجناح الثاني من السلطة، ألا وهي السلطات الدينية ، وذلك عبر تكبيلها بالعقائد والمفاهيم والفتاوى التي تحد من حركتها ونشاطها وتوقع العقوبات الجزائية عليها، سواء من خلال مؤسسة الأسرة أو الدولة ، حيث تساهم المثل الدينية في سلب المرأة سلطتها على نفسها ونقلها إلى الذكر الخاضع بدوره للسلطات الأعلى منه ، وتمسخها سيكولوجيا من خلال تنشئتها على كونها جسد لا بد من أن تحترز من فقدان عذريته وشرفه ، ليصبح همها الأول والأخير ، وتحرم نفسها من الفرص القليلة المتاحة بسببه ، لتخصى في نهاية الأمر من إنسانيتها ولتتحول إلى أنثى الإنسان .. لا الإنسان ذاتا وكيانا وكينونة.
هذه المرأة هي التي سوف تربي الأجيال القادمة ، ذكورا وإناثا، هذه المرأة الأمة المحيدة عن شئون الحياة في الثقافة والمفاهيم والدين ، وليس لها من أمر في أي شان من أوجه الحياة المتعلقة بها فضلا عن شئون المجتمع الذي تنتمي إليه وليس لها سلطة على نفسها وولاية على ذاتها وكل أمرها بيد الفحل الذي يسيطر عليها ويخضعها للمثل الشمولية السائدة تربي أبنائها بهذه الروحية المجردة من إنسانيتها ووعيها بكرامتها وحقوقها وحريتها ، لتنتج أجيال خاضعة ، ليمروا بنفس الدورة الاجتماعية التي تخصيهم في نهاية الأمر وتجعلهم كما عبر عنهم بالعامة والرعية والأيتام .
يعيش الفرد في أسرة ذكورية أبوية تسلطية، السلطة فيها للأب، وليس للمرأة أي دور سوى كونها ذات تحت الإخضاع والسيطرة، يرى الفتى أخته محاصرة بقيود لا نهاية لها ، يراها محصورة في جسدها، وكأنه عود ثقاب! فان تعرض هذا الجسد لأي اعتداء أو تفريط فإنها تكون قد انتهت فعليا من الوجود والاعتبار، لذلك يجب المحافظة عليه وتسليمه لمن يحظى بالشرعية في لمسه والتمتع به، لذلك يكون هم الأسرة المحافظة على هذا الجسد لئلا تصاب العائلة بالعار والفضيحة، فتقيد الفتاة تقييدا شيئا ، لتجرد منها نزعاتها الآدمية وتخصى من إنسانيتها في النهاية .
أما الفتى فانه بناء على تكليفه بالمحافظة على جسد أخته أو أمه فانه لا إراديا يكون قد تمسك تماما بهذه القيم لتصبح جزء من تكوينه الثقافي والنفسي ، ليكبل بها هو الآخر ويصبح خاضعا لها ، وعندما يلحق بسلك التعليم فان النظام التعليمي والتربوي لا يشد عن هذه القاعدة، فالمدرسة ليست سوى نتاج للواقع السياسي والديني والاجتماعي المطبق، فالطفل في المجتمع الديني يربى ويعلم ثقافة الخنوع والخضوع والاستلام ، ولا تتاح له الحرية في الاختيار والتعيير عن أرائه، وكل شي مفروض عليه تماما ، وتخلوا المناهج الدراسية تماما من تلقين القيم الإنسانية المتفق عليها بين مختلف الأمم والشعوب ، كاحترام الآراء الأخرى والعقائد المناوئة، لا سيما المختلف الديني والمذهبي، خاصة في إطاره الواقعي التطبيقي ، تفرض على الطالب كافة النظم التعليمية دون أن يكون له مشاركة فيها .. لا يتعلم سوى المزيد من التعاليم التكبيلية وليس له سوى الخضوع لها والاستلام لرموزها ، فيخرج من سلك التعليم مهجنا، لم يتعلم منها حرية إطلاق الآراء، وإيغال الفكر ، والتفكير في ماهية المعلومة وحرية التعبير عن مكنونات النفس والرأي، وثقافة الرأي والرأي الأخر، والحقوق الفردية والعامة ، وحق المصير والانتخاب والنقد ، واحترام الآخر المخالف، فالنظام التعليمي الديني تعليم تلقيني حشوي ، المطلوب من الطالب الحفظ لا الفهم .. التكرار لا الحوار والنقاش والإبداع.
في المسجد يلقن هذا الفرد بان كافة المفاهيم والقيم والفتاوى والعقائد صحيحة ومعتبرة وهي خلاصة جهود الأولين وليس عليه سوى الالتزام بها... في وسائل الأعلام لا يسمح لهذا الفرد بان يعبر عن راية وفكره .. في الحياة العامة لا تتاح له حرية التعبير والقيام بالمهارات والأنشطة إلا من خلال المؤسسات الرسمية والشعبية الشمولية والمركزية التي لا مجال فيها للإبداع والاستقلال ... تحظر فعليا مؤسسات المجتمع المدني وحرية الصحافة والأنشطة الفردية البعيدة عن سلطة الدولة والنظم الاجتماعية ليزاد خضوع الفرد وبالتالي اخصائه في نهاية الأمر.
*****
تقوم ثقافتنا الدينية على الخضوع والتسليم للرموز الحاكمة، التي عادة ما تكون على شكل زعيم سياسي أو ديني.. من المعروف إن الشعوب الدينية تمجد رموزها حتى القداسة ، فالحاكم له سطوته ومكانته الكبيرة وصلاحياته شبه المطلقة ، ورجل الدين له سلطته الروحية التي تتجاوز حدود العقل والمنطق المجرد من التفاعل العاطفي في أحيانا كثيرة، وكلاهما يخضع لهما الفرد والمجتمع، وليس للفرد أن يحيد عنهما أو ينال منها بالنقد والتحليل ... في تركيا كان احد المعلمين يسال طلابه عن أمنياتهم وآمالهم، احدهم أجابه بأنه يريد أن يصبح رئيس وزراء تركيا ! لم يبدي المعلم والطلاب عجبهم من أمنية هذا الطلاب ، فرئاسة الوزراء أو الجمهورية ليست سوى وظائف عمومية يصل إليها الفرد بالانتخاب الشعبي والاقتراع البرلماني ، فحثه المعلم على الاجتهاد للوصول إلى هدفه، وفعلا بعد أكثر من 40 عاما أصبح هذا الطالب رئيس لوزراء تركيا ، وتوفي عن عمر يناهز الثمانين عاما ... في بلادنا الإسلامية والعربية يستحيل ذلك ! وسيقابل هذا الفرد بالاستهزاء والسخرية والنقد اللاذع الذي ينال شخصيته وكيانه المعتبر، ذلك أن منظومة المجتمع الثقافية تعمل على تقديس وتأليه الرمز السياسي والديني بحيث لا يكون للفرد ادني اعتبار إلا إذا التف حولها وأصبح سائرا في ركاباها.
ليس للفرد مكانة في المجتمع الديني الرعوي التولتارتي ، فالسيادة للنظم التي تفرضها الرموز والقوى الحاكمة ويطبقها المجتمع بصرامة ، فتطبيق النظم التي تفرضها الرموز يفضي لا محال التي تقديسها بحيث لا يصبح للفرد أي مكانة واعتبار إلا إذا أصبح جزء من الإدارة الحاكمة سياسية كانت أو دينية.
ليس للفرد حق المشاركة في نظامه الديني ، لان الدين تحت سيطرة الفقهاء! وليس له حظا من المشاركة في بناء نظامه السياسي لأنه تحت سيطرة الحزب الحاكم! وليس له حظا من المشاركة في بناء واقعه الاقتصادي لأنه تحت سيطرة البرجوازية الإقطاعية المستبدة ، وليس له حظا في بناء نظامه الاجتماعي لأنه تحت سيطرة الارستقراطية الأنانية ، هنا لا يجد الفرد نفسه سوى كونه ذات خاضعة للقيم الحاكمة والنظم المطبقة، ليخصى في نهاية الأمر ويتجرد من عنفوانه ونزعاته الإنسانية الأصيلة .
إن المجتمع المهمش يهمش أفراده ، ذلك إن المجتمع عندما يهمش من قبل السلطة الأبوية الرعوية ولا تتاح له فرصة الاندماج في مشاريع السلطة ويصبح مجرد رعية ، فانه يهمش أفراده وكفاءاته الفردية والماركوسيكولجا أيضا، ويمكن ملاحظة ذلك في كافة مظاهر الحياة في المجتمع الديني ، منها جرائم الشرف المتصلة بالثقافة السائدة التي تحصر المرأة في جسدها وغشاء بكارتها ، إلى إقدام الأخ أو الزوج على قتلها التزاما بالنظم السارية والقيم الحاكمة، دون أدنى اعتبار لمفاهيم الخطأ والصواب ، والتوبة والندم ، وحكم القانون ، ومن مظاهرها تكبيل الجنسين بالأعراف الخانقة والفتاوى المكبلة .. إن تهميش الفرد يأخذ إبعادا شتى من خلال عدم إتاحة الفرصة له للنقد وتطبيق أرائه الخاصة وحرية تكوين جماعات ثقافية فرعية أو حتى مضادة.
عندما يعبر الفرد عن راية المستقل وشخصيته الذاتية المعتبرة فانه يوضع في موضع الانتقاص والنقد الغير موضوعي ، الذي يهدف إلى تسقيط شخصية الناشئة وتدمير عوده النامي ، أتذكر أن احد الأفراد في إحدى المجتمعات الدينية المتزمتة اتخذ موقفا مناوئا من سياسة الرموز المسيطرة فكان النقد الموجه ضد كيانه الشخصي فكانوا ينتقدونه من خلال المقارنة بينه وبين تلك الرموز .. إن هذه الرموز الكبيرة اتخذت هذا الموقف وانتهجت هذا النهج فكيف تأتي أنت لتتجاوزها؟! إلا إن هذا الفرد كان يقول لهم: أن هؤلاء الرموز ليسوا أرباب لي من دون الله ، وكثرتهم ليس بالضرورة أن تكون كثرة حق ، إن لي شخصيتي المستقلة ورأيي الخاص، بغض النظر عن مكانتي في المجتمع ومكانتهم العالية ، سواء كانت حقيقية أو مفتعلة...
حدثت عن فتاة الفت كتابا ثقافيا دو أبعاد اجتماعية فانهالت عليها الردود المعنفة وجميعها تدور حول سؤال واحد/ من أنت لتكتبي ؟! .. من أنت لتقومي المجتمع وتطالبي بتحديثه ؟! .. فكان هذا الكتاب الأول والأخير!!
إن المعضلة في المجتمعات الدينية تكمن في سحق شخصية الفرد وعدم الأخذ بعين الاعتبار لميوله وآرائه وكيانه الذاتي المعبر عن وجوده، فللفرد مهما نزل ودنى شخصيته الخاصة المحترمة ورأيه الذي يجب أن يحترم، بعض النظر عن قدراته ومكانته الاجتماعية، إلا إن المجتمع المهمش يهمش أفراده بالضرورة ولا يمنحه إي وسيلة للتعبير عن استقلاليته وشخصيته الفردية المعتبرة حتى يخصيه في نهاية الأمر.
إن هياكل السلطة المركزية في المجتمعات العربية والإسلامية تدور حول الرموز الدينية والسياسية الممثلة للشرعية العامة والحضور القانوني الدولي ، هذه الرموز تمسك بزمام القيم والفكر والمنهج المعبر عنه بحفنة التعاليم الدينية والنظم السياسية السائدة ، وعلى المجموع الالتزام بها وعدم الخروج عن طوقها ، فالتعاليم هي النظام المركزي والرموز هي منبعه الحي والمجتمع هو من يطبقها ويجسدها والفرد جزء من المجتمع ، ليس له اعتبار أو استقلال خارج انتماءه الجماعي ، والمجتمع هويته التي يعرف بها هو انتماءه لمجمل هذه القيم التي يسيطر عليها الرمز الحاكم .
إن سياسة التمييز الطائفي تجعل الفرد والمجتمع على السواء ينظر إلى نفسه ويتعامل مع الآخر المخالف من خلال المنظار المذهبي والطائفي الضيق ، فلا ينظر أو ينظر إليه إلا عبر هذه الزاوية المحدودة، لتجمد كافة انتماءاته وأبعاده الإنسانية والحضارية ، وحتى يتمكن الفرد من الاستمرار في العيش بالنفس الطائفي لا بد له من الارتباط الدائم والمستمر بالرموز الدينية والتطبيق الدقيق لقيمها ، ليحصر في نطاقها فلا يرى العالم إلا من خلالها ولا يراه الآخرين إلا عبر انتماءه الطائفي أو المذهبي ، ليصبح إنسان مخصي ، ليس له من قيمة سوى في تمسكه بشخص وتعاليم الرمز الحاكم .
كنت بصحبة احد الاصدقاء فقال لي أنا هنا مقدر ولي اعتباري واحترامي! فالمشايخ يحترمونني وكأنني واحد منهم! حتى إنهم يستشيرونني في شئونهم الخاصة! تصور يا صديقي أن المشايخ الفضلاء ياخدون برأيي في كثير من الأحيان!! من أنا حتى أشير عليهم؟!!
يمكن ملاحظة أن التيارات السياسة والدينية لا تهتم ببناء افردها كثيرا، إذ إنها تقوم على دينامكية رعوية أبوية ، فقائد التيار هو المنظر والمفكر ومن حوله الأفراد الممجدين التابعين الخاضعين له ، وما أن يرحل هذا القائد حتى يأتي قائد آخر بالوراثة عادة، ولا تهتم هذه التيارات بتنمية قدرات أفرادها إلا بما يخدم توجهات التيارات ومصالحه المرتبطة بالرمز غالبا، يلاحظ أن في الغرب مدارس إعداد قادة المستقبل ، ويتم اختيارهم من خلال اختبارات علمية وسيكولوجية رصينة ، أما في المجتمعات الدينية فان مثل هذه المدارس والبرامج تعد نادرة إن لم تكن شبه معدومة فالقيادات السياسة إما عائلات حاكمة أو أحزاب شمولية، تنتقل السلطة فيها بالوراثة التقليدية ، وكذا الزعامات الدينية ليس للأفراد أو حتى الجماعات شأن في اختيارها ، بل إن انتقال السلطة فيها مقصورا على الشريحة الحاكمة ألا وهي رجال الدين ، وليس للأفراد وعموم الجماعة دورا فيها إلا بما تفرضه معادلات القوة داخل اللحمة الاجتماعية.
يستيقظ وعي الفرد ليجد نفسه مسيرا في كل شي وليس له أي هامش يتيح له حق الاختيار وممارسة التغيير، من منظومة الأسرة إلى المدرسة إلى المسجد إلى الحكومة إلى كافة المؤسسات والهيئات الرسمية والمدنية إذ ليس لها فيها أي مساحة للنقد والرصد ومحاولات التغطي أو حتى إنشاء نظم بديلة أو مؤسسات ذات طابع مختلف في نطاق محدود أو موسع ، وليس له سوى الخضوع والركون للتعاليم المطبقة ليخصى إنسانيا في نهاية الأمر.
سالت ذات مرة / هل ترضى على نفسك بان تعمل عامل قمامة؟
أجبت بالنفي فقيل لي فلم ترضى على الآخرين؟
إن النظر للأمور من زاوية النظم الأحادية المصدر والتطبيق والمنهجية يجعل منهج التفكير العام يدور في دوائر الاستبداد والتهميش ومحاولة فرض الرأي والفكرة والطريقة على الآخرين لا شعوريا ، فانا إن لم اقبل على زوجتي أو أختي أو ابنتي أن تعمل في وظيفة معينة ، فهذا لا يعني باني افرض رأيي على الآخرين وأحاول بالتالي إلغاء نزعاتهم وآرائهم وملامحهم الذاتية، أن المطلوب دائما أن تكون هناك حرية للاختيار تكون متاحة للجميع، فان لم اقبل أنا بقيمة معينة فان غيري قد يقبلها وهكذا دواليك من الحرية الواسعة النطاق التي يجب التحلي بها باعتبارها ضرورة قسرية لا بد منها لتغيير الحياة وارتقائها نحو الأفضل.
في الغرب تدور القوانين والأنظمة وفقا لمفهوم الحقوق الفردية، بمعنى أن للفرد حقوق لا يمكن تجاوزها أو النيل منها ويجب أن ترتسم كافة التشريعات بحيث لا تتخطاها أو تنتهكها ، لذلك يحظى الفرد هناك بالحرية الواسعة والاحترام الكبير، حتى الطفل إذا ما عامله والداه بقسوة فان للسلطات انتزاعه منهما، فهذا الطفل هو إنسان ومواطن والجيل القادم الذي يجب حمايته من بطش الآخرين ، ويصل الأمر إلى الوجوب القانوني على الأبوين بإلحاق طفلهما المدرسة ويخضع الأب أو إلام أو كلاهما للعقوبة الجزائية المقرة قانونا أن لم يلتحق طفلهما بالتعليم الإلزامي، بينما لا تسري في مجتمعاتنا الدينية مثل هذه القوانين، ليظل الابن أو الابنة تحت سيطرة آبائهم المتغطرسين المتحجرين ليمارسوا عليهم كافة نتاج عقدهم التدميرية التراكمية ، فقبل مدة قصيرة نشرت الصحف أن أب سجن ابنته في غرفة مهجورة لمدة تزيد على عشرة سنوات! وأب آخر حلق حاجبي وشعر أبنته لرسوبها في الامتحان!.. ذلك أن الابنة في المثالين السابقين ليست سوى فرد، لا يتمتع بالحماية القانونية اللازمة التي تحفظ حقوقه وتراعي فرديته وشخصيته وتحترم كينونته ، لذلك أقدم الأب على جريمته وهو آمن من العقوبة ، فابنته ليست سوى فرد ، وفرد أنثى أيضا، وليس لها في منظومة القانون والمجتمع من اعتبار ذاتي يمكنها من ممارسة حقوقها والاستقلال بنفسها وبالتالي مواجهة سلطته الأبوية المتغطرسة التي تسيطر عليها في كافة أوجه وشئون حياتها من دون حدود.
في العصور العباسية كان الخلفاء يخصون عبيدهم لضمان عدم اتصالهم الجنسي والجسدي بحريمهم وجواريهم ، وفي زماننا هذا فان الرموز الحاكمة تخصي شعوبها لتجردها من إنسانيتها وعنفوانها لتصبح المرأة أنثى والرجل ذكر ! ويتحول الشعب إلى رعية ! والفرد إلى إمعة والمجتمع إلى قطيع! .. بالحرية فقط نستعين إنسانيتنا..بالحرية يعود لنا عنفوانا ... بالحرية نعود رجالا ونساء وشعوبا حية ومقتدرة مشحونة نفوسها بالشموخ والعزة والإباء.



#ر_ائد_قاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مسجد وكنيسة ومعبد يهودي بمنطقة واحدة..رحلة روحية محملة بعبق ...
- الاحتلال يقتحم المغير شرق رام الله ويعتقل شابا شمال سلفيت
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- أول رد من سيف الإسلام القذافي على بيان الزنتان حول ترشحه لرئ ...
- قوى عسكرية وأمنية واجتماعية بمدينة الزنتان تدعم ترشح سيف الإ ...
- صالة رياضية -وفق الشريعة- في بريطانيا.. القصة الحقيقية
- تمهيدا لبناء الهيكل المزعوم.. خطة إسرائيلية لتغيير الواقع با ...
- السلطات الفرنسية تتعهد بالتصدي للحروب الدينية في المدارس
- -الإسلام انتشر في روسيا بجهود الصحابة-.. معرض روسي مصري في د ...
- منظمة يهودية تستخدم تصنيف -معاداة السامية- للضغط على الجامعا ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ر ائد قاسم - اخصاء الفرد في المجتمع الديني