أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبوالحسن سلام - الاخراج المسرحي وتجليات الفاعل الحضاري















المزيد.....



الاخراج المسرحي وتجليات الفاعل الحضاري


أبوالحسن سلام

الحوار المتمدن-العدد: 2354 - 2008 / 7 / 26 - 09:13
المحور: الادب والفن
    



تخضع حركة التجديد في الآداب والفنون لحركة الفاعل الكاهن أو الفرعون ، لذا صور المسرح الفعل محمولاً على لسان ممثل الآلهة أو ما قرره الفرعون. ولأن الفاعل الحضاري عند اليونان تمثل فيما ينتهي إليه الحوار مع الآخر، دون أن يتعارض مع ما تمليه الآلهة ؛ لذلك سيطر عالم الغيب على عالم الحياة المعيشة ، فيما عبر عنه المسرح .
ولأن الفاعل الحضاري عند الرومان تمثل فيما يمليه القانون المدني مقصوراً على المواطن الروماني دون غيره من مواطني المستعمرات الامبراطورية المترامية الأطراف ، فقد تمثل ذلك في أعمال سينيكا المسرحية وفي أعمال تيرانس. ولأن الفاعل التاريخي في العصور الوسطى قد تمثل فيما يمليه فهم الكهنة والكهانة والمشايخ للكتب الدينية السماوية ، لذا سخر المسرح مطية للخطاب الديني مغلفاً بألوان الخرافة.
ولأن الفاعل الحضاري في عصرالنهضة قد تمثل فيما يمليه العلم سواء بالاستدلال الاستنباطي محمولاً على قياس الكل الغائب على الجزء الحاضر أو بالاستدلال التجريبي محمولاً على أسبابه المادية ، لذلك زاحم المنطق الصورة الأدبية والفنية وتغلغل متقنعاً خلفها.
ولأن الفاعل التاريخي في عصرنا الحالي يتمثل فيما تمليه القوة الغاشمة المنفردة بالسيطرة على الميديا والفضاء الخارجي والثورة المعلوماتية لذلك سيطر فكر التفكيك وما بعد الحداثة ولا مركزية الخطاب ونفي الأنساق البنائية بالتشظي والتداخل المكاني والزماني على الإبداع الأدبي والفني والنقدي وسادت ثقافة الـ(كليب) في كل مناحي الثقافة والفكر والإبداع .
وتبعاً لتغير الفاعل الحضاري عبر العصور وتعدد صور التعبير الإنساني أدبياً وفنياً ؛ بتعدد صور التعبير المسرحي ما بين عرض مسرحي وعرض آخر تبعاً لتعدد العامل والتصور فهناك الفاعل الفرجوي في التعبير المسرحي ، وهناك الفاعل الفلسفي والفاعل التاريخي والفاعل الأنثروبولوجي ، الفاعل الإثنولوجي ، وهناك الفاعل النفسي والفاعل الديني والفاعل الجمالي والفاعل الفرجوي التعبيري أو السردي أو التشكيلي التجريدي أو التجسيدي.
فمع أنه لا تصور بدون صورة ولا صورة بدون تصور ؛ إلاّ أن لكل منها مفهوماً مغايراً لمفهوم الأخرى فهيجل يفصل بين التصورات والصور ؛ إذ يرى أن التصورات مجالها الفكر المجرد ومجال الصور هو الحياة المجسدة والتجريد وقوده التأمل ، والتأمل منبعه إيجابية الروح عند النظر إلى الغائب ومحاولة استحضاره في حين أن التجسيد وقوده التخييل ، والتخييل . والتخيل منبعه العقل عند النظر إلى الحاضر الموجود ومحاولة استبدال صورته الحقيقية بصورة حقيقية بديلة ، إذ أن لكل صورة ذات ، أي وجود حقيقي وجود ذاتي . وجود بالإمكان أصبح واقعاً . في حين أن التصور وجود عيني ، وجود في ذاته ، وجود بالقدرة ؛ وجود الموضوع الذي سيصبح وجوداً ذاتياً . والتصور يستحيل إلى صورة تستهدف التعبير وصولاً إلى التأثير . وللتعبير بالتصور وبالتصوير باعث قد يكون إنثربولوجيا ، وقد يكون جمالياً وقد يكون فرجوياً سردياً أو تشكيلياً.
والباعث الفرجوي سردياً كان أم تشكيلياً حتمي في مجال الفن عامة . وفي مجال المسرح خاصة ، فإن الباعث الفرجوي يكون تعبيراً درامياً فرجوياًَ ، حضوري الإرسال والتلقي.
والباعث في كل أنواعه ليس سوى سلوك أو انفعال بشري إبداعي عن حالة أو عدد من حالات الضعف فيما رأى جيمس وهو حالة من حالات سوء التكيف ودلالة على الفشل وهنا يجب التأكيد على أن السلوك في الصورة ما هو إلاّ لون من ألوان الخيال فلا فن إذا انتفى الخيال ولا أدب ، بل لا علم بدون خيال يتشكل عبر منطلقات الدهشة بإزاء ما يغاير مدركاتنا . والخيال كما يرى سارتر ما هو إلاّ نسخة ثانية من واقع محتمل ، وهو إعادة تجسيد صورة ما تجسدت في الذهن أولاً ، قبل تجسدها المادي . يقول إيسر : "من القوانين العامة أن كل ناتج مفترض للتصور تليه سلسلة من الصور الذهنية تستنسخ كل منها مضمون سابقتها ، ولكن بحيث تضفي على الدوام صفة الماضي على الصورة الجديدة .. ومن هنا فإن الخيال يثبت خصوبته ".
صور التعبير عن السلوك في المسرح :
يتغير التعبير عن السلوك مسرحياً تبعاً للباعث النفسي أو الاجتماعي أو الأنثروبولوجي أو الاحتفالي أو الجمالي أو الإثنولوجي أو الفرجوي سرداً أو تشكيلاً تجريداً أو تجسيداً تعبيرياً.
أولاً: السلوك النفسي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور فردية ذات بواعث ذاتية ، وخير مثال له في المسرح قائم في التعبيرية ، ومثالها (القرد الكثيف الشعر) ، (بيرجنت) ، (عربة اسمها الرغبة) ، (الأميرة تنتظر) . يقول فرويد عن الشعراء والروائيين: " هم في معرفة البشرية معلمونا وأساتذتنا نحن معشر العامة لأنهم ينهلون من موارد لم نفلح بعد في تسهيل ورودها على العلم " .
ثانياً : السلوك الاجتماعي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صورة متكررة من فرد إلى آخر . وسط اجتماعي محدد زماناً ومكاناً وخير مثال له المسرح الواقعي والمسرح الطبيعي. مثال: (مس جوليا) ، (بيت دمية) ، (مشهد من الجسر) ، (الحضيض) ، ( الناس اللي تحت) ، (الجنزير).
ثالثاً: السلوك الأنثروبولوجي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور متكررة لدى الإنسان وفق العادة تلازمه منذ نشأته ، حيث تتواصل معه عبر الأجيال ومنها : (العقوق – الغيرة – التفاؤل – التشاؤم – الانفلات – الحقد – الغيرة – الفخر – العدوان – الاستحواز – التصابي) وخير مثال له المسرحية الشعبية ( الهلالية – علي الزيبق – الظاهر بيبرس – يا عنتر – حسن ونعيمة – اليهودي التائه – يهودي مالطه – تاجر البندقية – منين أجيب ناس – شفيقة ومتولي).
رابعاً : السلوك الاحتفالي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور متكررة في المناسبات وفي فنون الأداء الاستعراضي . وخير مثال له المسرحية العرائسية مثل (الليلة الكبيرة ) (القاهرة في ألف عام) . والمسرحية الاستعراضية التي تعتمد على المبالغة بالتضخيم أو التصغير للإيهام بحالة الانتشاء الجمعي الطقسي . وفيها يتلاحم المرسل والمستقبل.
خامساً : السلوك الجمالي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور تتخذ مواضع معينة قائمة على الاحتمال لا الضرورة ، وهي جالبة للمتعة عن طريق التناسب والتماثل والغرابة وأفق التوقعات . وخير مثال له عروض الباليه وعروض الرقص المسرحي الحديث ، والمسرحية الرومنتيكية ، ومسرح السرد التشكيلي (الصورة) كعروض (وليد عوني وكانتور وشاينا ومونجييك وباربا وفيدا ) .
سادساً : السلوك الإثنولوجي للتعبير المسرحي :
يتمثل في الصورة المتنوعة المحدودة بالطبيعة العرقية والتراثية. وخير مثال له في المسرحية المعتمدة على الأسطورة والخرافة والمسرحية الكلاسيكية والمسرحية الرمزية ، وفي مسرح الكابوكي ومسرح النو والمسرحية الدينية : (آدم – كرنفال الأشباح – منين أجيب ناس).
سابعاً : السلوك الفرجوي للتعبير المسرحي : (spectacle)
تتمثل في الصور الكرنفالية القائمة على التفاخر والتباهي ، وفيها يميل التعبير نحو لغة الجسد على حساب لغة الكلام ، وهو جمالي في الأساس يعلي من شأن الصورة على المادة سواء بالمعنى الأرسطي أو بغيره .
ويتمثل غالباً في عروض المسرح الشامل حيث تتعدد الفنون الأدائية والتشكيلية والأكروباتية والموسيقية وتتداخل بتعدد الأنا الخاصة بالفنان من خلال الشخصية المسرحية نفسها . إذ أن الذات المتصدعة المنقسمة للفنان الحداثي تتلبس أصوات شخصيات مختلفة وحركاتها النابعة من الذات الواحدة . وفي المسرحية المابعد الحداثية حيث تتشظى الصور وتتداخل لتكشف عن تناقض الدلالات وإساءة القراءة وإرجاء الاختلاف على المعنى التام للعرض المسرحي .
العرض المسرحي بين نظريات التطهير ومسارات الأداء
لاشك أن الإخراج المسرحي شأنه شأن كل نشاط إنساني يتقوى بالعلم ويحصن مصداقيته بمساراته لذا ينهج الإخراج التعبيري نهجاً تأصيلياً في اتجاه التواصل إلى ما وراء الفعل من بواعث نفسية ومدى تفعيلها لتحقق الأثر التطهيري. إن عرض مسلك الفعل على المسرح يستهدف التطهير ، عندما يقترن بناؤه أدائياً بدراسة تأثيره على أداء الممثل وعلى جمهوره ؛ يحيل المخرج في وجهته التعبيرية نحو دراسة النظريات العلمية التي ترتب محددات التطهيرر في منظومات علمية ، لكل منها منطلقاتها الفكرية والمنهجية . وفي تحليل المخرج لشخصية مثل (جوليا أو بلانش أو ميديا أو ليدي ماكبث أو عطيل أو إلكترا أو إحدى شخصيات كافكا) عليه أن يدرك الفرق بين النظرية السادية للتطهير عن فهم النظرية الإحلالية واختلافهما عن النظرية التعليمية وعن النظرية الطبية ، وعن النظرية التجريدية ، وعن النظرية التماثلية ، وعن النظرية المقارنة ، ومن ثم تأصيل تحليله المجسد لأي من تلك الأدوار عن قناعة منه بأن أصداء تلك النظريات حول فهمها المتمايز لفكرة التطهير تحوم بقوة في ساحة النظرية الدرامية ، باعتبارها ملتقى الأصداء الكونية في الحياة البشرية ، وأن دقة فهم المخرج لمسارات فهم مسألة الأثر التطهيري مهمة في أداء دور من تلك الأدوار المعقدة .
ففهم الإخراج التعبيري الذي يتصدى لمسرحية تنتمي لأسلوب مسرح القسوة أو فيها سمة منه يقوم على النظرية السادية : التي ترى أن التطهير يحدث في نفس مشاهد المسرحية المأساوية عندما يتمتع برؤية الآخرين يتعذبون أمامه ، وتتضاعف هذه المتعة ، حين يتحقق من أن ما يراه فوق خشبة المسرح ما هو إلاّ تمثيل في تمثيل وليس الحياة المعيشة .. وبذلك الفهم يتمكن المخرج من توجيه الممثل نحو التحليل الأدائي الأكثر دقة لفهم دور (المركيز دي صاد) أو دور الزباء أو ميديا . أما فهم المخرج الذي يتبع أسلوب التغريب الملحمي الذي يركز على الصفة الاجتماعية للدور المسرحي فإنه سيجد في النظرية الإحلالية مدخلاً لرؤيته الإخراجية بملامحها الأيديولوجية المسار ، تلك النظرية الإحلالية التي ترى أن المتفرج عادة ما يتمثل إحدى الشخصيات المأساوية التي تعاني الأزمة المعذبة ، وبعدما تنتهي المسرحية ، يداخل المتفرج نوع من السرور الناتج عن شعورين:
أ‌) شعور بأن الأحداث المفجعة لم تحدث له حقيقة
ب‌) شعور مترتب على الشعور الأول يتمثل في أن متاعبه الشخصية ليست كارثية ، كتلك التي رأها تحدث للشخصية المسرحية التي شاهدها ، وهي محتملة الحدوث .
فذلك ما يحدث لعامل شاهد مسرحية (الاستثناء والقاعدة) وتمثل شخصية (الأجير) أو شاهد (السيد بونتيلا وتابعه ماتي) وتمثل (ماتي) أو تمثلت مشاهدة الأم في (الأم شجاعة) . وينطبق ذلك أيضاً بالنسبة له بوصفه مخرجاً على طريق الأيديولوجيا حالة ارتكازه على النظرية التعليمية التي ترى أن المشاهد لموقف درامي تطهيري ، عندما يشاهد معاناة البطلا لمأساوي، فإنه يتعلم عن طريق أحاسيس الخوف والشفقة المستثارة – أن انفعالات البطل الشرير كما هو حال "ياجو" أو " شايلوك" أو "يهودي مالطه" في مسرحية (مارلو) ومن ثم عليه أن يتجنبها.
أما تصديه لإخراج مسرحية مثل (سوء تفاهم) لألبير كامي فهي تحتاج منه إلى استظهار (النظرية الطبية) تلك التي ترى أن عاطفتي الخوف والشفقة تزيد في نفوس بعض المتفرجين على الدرجة أو الكمية التي لهاتين العاطفتين ، بما يترتب عليه إحداث باثولوجية ، انطلاقاً من الفكرة التي تقول : (وداوني بالتي كانت هي الداء) ومن ثم يشعر المتفرج غير المتوازن انفعالياً بالامتاع الذي يعيد إليه توازنه الانفعالي الصحيح.
أما النظرية الدرامية التجريبية : فترى أن المتفرج يستمتع بخوض تجربة الانفعالات المقدمة له عبر منظومة متشظية لصور غير مألوفة وغير مسبوقة لمشاهد الخوف والشفقة دون أدنى إحساس منه بأنه مطالب بالتوحد مع ما يعرض عليه . وبذلك يرى نفسه في منأى عن أية أضرار شخصية يمكن أن تقع عليه . ويدخل في إطار تلك النظرية كل العروض المسرحية الحداثية التي تتعدد دلالات تلقيها إلى جانب العروض المسرحية المابعد الحداثية التي تفكك الأنساق الفنية في بنائها المتشظي ، والذي تتداخل أزمنة أحداثه وأمكنتها .
وعلى الرغم من أن النظرية التطهيرية المقارنة التي تأسست على مآخذ أفلاطون وهجومه على المسرحية المأساوية بدعوى أنها تثير في نفس مشاهدها عاطفتي الخوف والشفقة الأمر الذي يضعفه انفعالياً ، ومقارنة مآخذ أفلاطون تلك بالردود التي عارض بها أرسطو أستاذه حيث رأى أن إثارة هاتين العاطفتين في نفسية المشاهد تخلصه منهما ، ومن ثم يحدث التطهير، الذي يجعل الشخص أفضل صحياً وأقوى انفعالياً .
فإن دارسي المسرح الدرامي في اعتمادهم على النظريات العلمية المتصلة بنظرية التطهير يتوجهون بأنظارهم نحو تلك النظريات تبعاً لقرب إحداها من طبيعة الأسلوب الذي تنبني عليه المسرحية في اتجاه تحقيق الأثر التطهيري درامياً وجمالياً.
فالنظرية التماثلية التي ترى أن التطهير يجب أن يقع بطريقة مماثلة لشخصيات المسرحية ذاتها قبل أن يؤثر في الجمهور المشاهد. ولنا أن نلاحظ حالتي الخوف والشفقة اللتين تشعان على هاملت ، قبل أن تؤثر على متفرجيها ، وسيطرتهما على (أوديب) وعلى (بيكيت) وعلى (مس جوليا) وعلى (كوراج) في (الأم شجاعة) لبريخت على الرغم من بنائها التغريبي وعلى (جولييت) وعلى (ديدمونة) . كذلك يتماثل حالة التطهير ما بين جمهور (جريمة قتل في الكاتدرائية) و (بيكيت أو شرف الله) وكلتاهما تتناول حياة القديس توماس بيكيت قبل تعيينه قديساً لانجلترا (رئيساً لأساقفة كانتربيري) حيث يتطهر من رذائل ماضيه في مصاحباته العربيدة مع الملك هنري الثامن فور تعيين الملك له رئيساً للأساقفة .
إن التحول من حياة العربدة التي عاشها (توماس بيكيت) عندما كان صاحباً للملك هنري الثامن إلى حياة الطهر والتقى فور تعيينه رئيساً للأساقفة لم يكن متوقعاً من قبل صديقه الملك الذي عينه ليؤمم له أموال الكنيسة الإنجليزية وأوقافها التي تؤول حصيلتها إلى الكنيسة الأم في روما لذلك يصاب الملك بحالة من الإدهاش نظراً لوقع المفاجأة عليه ، كذلك تصيب المتفرج حالة من الإدهاش ، نظراً لمتانة الرابطة التي رأها في علاقة (بيكيت) بـ(الملك) وفي ذلك إبطال لأفق التوقعات الذي ركن إليه المتفرجون ، كما ركن "الملك" نفسه إليه . ومناقضة التوقع تحدث الصدمة ، وتحرك الشعور المتلقي للصورة أو الموقف ، لأنه يكشف عما وراء المظهر الذي يتسم به الفعل الدرامي بطريقة غير سابقة التخطيط ، وهي في الوقت ذاته تشي باحتمال تدبرها وفق تخطيط سابق في ضمير الشخصية ، يقول أرسطو : " الإدهاش المتولد ، يكون أعظم مما لو وقعت هذه الأحداث من تلقاء ذاتها ، أو بالمصادفة . وحتى الأحداث التي تقع اتفاقاً ، أو بالمصادفة تبدو أكثر إدهاشاً عندما تتم ، وكأنها وقعت عن سابق تخطيط "
فالتأثير الأمثل للحدث في التراجيديا من حيث إثارة الخوف والشفقة يتحقق بتحقق عنصرين – وفق أرسطو-:
أ‌- الوقوع الفجائي ، غير المتوقع للحدث
ب‌- تتابع الفعل وترتب كل فعل على فعل آخر في الوقت ذاته .
على أن التماثل في المثير الشعوري بالتعاطف والتخوف مع الشخصية المسرحية لا يتحقق عن طريق التحول المتماثل ما بين الشخصية والمتفرج إلاّ إذا تشابه المتفرج مع الشخصية . وذلك شرط التحول التراجيدي كما نص عليه أرسطو .
وهنا يجوز لنا القول بأن فكرة التوحد أو عدوى الاندماج بين الممثل وجمهوره وفق شروح النظرية الأرسطية، تتناقض مع ذلك الشرط الأساسي للتحول عند المتفرج ، ذلك أن التحول ، الذي لا يتحقق عند المشاهد غير المتشابه مع الشخصية التراجيدية المعروضة أمامه بالتجسيد الأدائي . وهنا تسقط نظرية الاندماج أو التوحد الجماعي بين جمهور العرض المسرحي مع الشخصية إذ يقتصر ذلك على المتفرج المتشابه مع الشخصية المعروضة .
الإخراج المسرحي وتجليات الفاعل الحضاري
د.أبو الحسن سلاّم
تخضع حركة التجديد في الآداب والفنون لحركة الفاعل الكاهن أو الفرعون ، لذا صور المسرح الفعل محمولاً على لسان ممثل الآلهة أو ما قرره الفرعون. ولأن الفاعل الحضاري عند اليونان تمثل فيما ينتهي إليه الحوار مع الآخر، دون أن يتعارض مع ما تمليه الآلهة ؛ لذلك سيطر عالم الغيب على عالم الحياة المعيشة ، فيما عبر عنه المسرح .
ولأن الفاعل الحضاري عند الرومان تمثل فيما يمليه القانون المدني مقصوراً على المواطن الروماني دون غيره من مواطني المستعمرات الامبراطورية المترامية الأطراف ، فقد تمثل ذلك في أعمال سينيكا المسرحية وفي أعمال تيرانس. ولأن الفاعل التاريخي في العصور الوسطى قد تمثل فيما يمليه فهم الكهنة والكهانة والمشايخ للكتب الدينية السماوية ، لذا سخر المسرح مطية للخطاب الديني مغلفاً بألوان الخرافة.
ولأن الفاعل الحضاري في عصرالنهضة قد تمثل فيما يمليه العلم سواء بالاستدلال الاستنباطي محمولاً على قياس الكل الغائب على الجزء الحاضر أو بالاستدلال التجريبي محمولاً على أسبابه المادية ، لذلك زاحم المنطق الصورة الأدبية والفنية وتغلغل متقنعاً خلفها.
ولأن الفاعل التاريخي في عصرنا الحالي يتمثل فيما تمليه القوة الغاشمة المنفردة بالسيطرة على الميديا والفضاء الخارجي والثورة المعلوماتية لذلك سيطر فكر التفكيك وما بعد الحداثة ولا مركزية الخطاب ونفي الأنساق البنائية بالتشظي والتداخل المكاني والزماني على الإبداع الأدبي والفني والنقدي وسادت ثقافة الـ(كليب) في كل مناحي الثقافة والفكر والإبداع .
وتبعاً لتغير الفاعل الحضاري عبر العصور وتعدد صور التعبير الإنساني أدبياً وفنياً ؛ بتعدد صور التعبير المسرحي ما بين عرض مسرحي وعرض آخر تبعاً لتعدد العامل والتصور فهناك الفاعل الفرجوي في التعبير المسرحي ، وهناك الفاعل الفلسفي والفاعل التاريخي والفاعل الأنثروبولوجي ، الفاعل الإثنولوجي ، وهناك الفاعل النفسي والفاعل الديني والفاعل الجمالي والفاعل الفرجوي التعبيري أو السردي أو التشكيلي التجريدي أو التجسيدي.
فمع أنه لا تصور بدون صورة ولا صورة بدون تصور ؛ إلاّ أن لكل منها مفهوماً مغايراً لمفهوم الأخرى فهيجل يفصل بين التصورات والصور ؛ إذ يرى أن التصورات مجالها الفكر المجرد ومجال الصور هو الحياة المجسدة والتجريد وقوده التأمل ، والتأمل منبعه إيجابية الروح عند النظر إلى الغائب ومحاولة استحضاره في حين أن التجسيد وقوده التخييل ، والتخييل . والتخيل منبعه العقل عند النظر إلى الحاضر الموجود ومحاولة استبدال صورته الحقيقية بصورة حقيقية بديلة ، إذ أن لكل صورة ذات ، أي وجود حقيقي وجود ذاتي . وجود بالإمكان أصبح واقعاً . في حين أن التصور وجود عيني ، وجود في ذاته ، وجود بالقدرة ؛ وجود الموضوع الذي سيصبح وجوداً ذاتياً . والتصور يستحيل إلى صورة تستهدف التعبير وصولاً إلى التأثير . وللتعبير بالتصور وبالتصوير باعث قد يكون إنثربولوجيا ، وقد يكون جمالياً وقد يكون فرجوياً سردياً أو تشكيلياً.
والباعث الفرجوي سردياً كان أم تشكيلياً حتمي في مجال الفن عامة . وفي مجال المسرح خاصة ، فإن الباعث الفرجوي يكون تعبيراً درامياً فرجوياًَ ، حضوري الإرسال والتلقي.
والباعث في كل أنواعه ليس سوى سلوك أو انفعال بشري إبداعي عن حالة أو عدد من حالات الضعف فيما رأى جيمس وهو حالة من حالات سوء التكيف ودلالة على الفشل وهنا يجب التأكيد على أن السلوك في الصورة ما هو إلاّ لون من ألوان الخيال فلا فن إذا انتفى الخيال ولا أدب ، بل لا علم بدون خيال يتشكل عبر منطلقات الدهشة بإزاء ما يغاير مدركاتنا . والخيال كما يرى سارتر ما هو إلاّ نسخة ثانية من واقع محتمل ، وهو إعادة تجسيد صورة ما تجسدت في الذهن أولاً ، قبل تجسدها المادي . يقول إيسر : "من القوانين العامة أن كل ناتج مفترض للتصور تليه سلسلة من الصور الذهنية تستنسخ كل منها مضمون سابقتها ، ولكن بحيث تضفي على الدوام صفة الماضي على الصورة الجديدة .. ومن هنا فإن الخيال يثبت خصوبته ".
صور التعبير عن السلوك في المسرح :
يتغير التعبير عن السلوك مسرحياً تبعاً للباعث النفسي أو الاجتماعي أو الأنثروبولوجي أو الاحتفالي أو الجمالي أو الإثنولوجي أو الفرجوي سرداً أو تشكيلاً تجريداً أو تجسيداً تعبيرياً.
أولاً: السلوك النفسي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور فردية ذات بواعث ذاتية ، وخير مثال له في المسرح قائم في التعبيرية ، ومثالها (القرد الكثيف الشعر) ، (بيرجنت) ، (عربة اسمها الرغبة) ، (الأميرة تنتظر) . يقول فرويد عن الشعراء والروائيين: " هم في معرفة البشرية معلمونا وأساتذتنا نحن معشر العامة لأنهم ينهلون من موارد لم نفلح بعد في تسهيل ورودها على العلم " .
ثانياً : السلوك الاجتماعي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صورة متكررة من فرد إلى آخر . وسط اجتماعي محدد زماناً ومكاناً وخير مثال له المسرح الواقعي والمسرح الطبيعي. مثال: (مس جوليا) ، (بيت دمية) ، (مشهد من الجسر) ، (الحضيض) ، ( الناس اللي تحت) ، (الجنزير).
ثالثاً: السلوك الأنثروبولوجي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور متكررة لدى الإنسان وفق العادة تلازمه منذ نشأته ، حيث تتواصل معه عبر الأجيال ومنها : (العقوق – الغيرة – التفاؤل – التشاؤم – الانفلات – الحقد – الغيرة – الفخر – العدوان – الاستحواز – التصابي) وخير مثال له المسرحية الشعبية ( الهلالية – علي الزيبق – الظاهر بيبرس – يا عنتر – حسن ونعيمة – اليهودي التائه – يهودي مالطه – تاجر البندقية – منين أجيب ناس – شفيقة ومتولي).
رابعاً : السلوك الاحتفالي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور متكررة في المناسبات وفي فنون الأداء الاستعراضي . وخير مثال له المسرحية العرائسية مثل (الليلة الكبيرة ) (القاهرة في ألف عام) . والمسرحية الاستعراضية التي تعتمد على المبالغة بالتضخيم أو التصغير للإيهام بحالة الانتشاء الجمعي الطقسي . وفيها يتلاحم المرسل والمستقبل.
خامساً : السلوك الجمالي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور تتخذ مواضع معينة قائمة على الاحتمال لا الضرورة ، وهي جالبة للمتعة عن طريق التناسب والتماثل والغرابة وأفق التوقعات . وخير مثال له عروض الباليه وعروض الرقص المسرحي الحديث ، والمسرحية الرومنتيكية ، ومسرح السرد التشكيلي (الصورة) كعروض (وليد عوني وكانتور وشاينا ومونجييك وباربا وفيدا ) .
سادساً : السلوك الإثنولوجي للتعبير المسرحي :
يتمثل في الصورة المتنوعة المحدودة بالطبيعة العرقية والتراثية. وخير مثال له في المسرحية المعتمدة على الأسطورة والخرافة والمسرحية الكلاسيكية والمسرحية الرمزية ، وفي مسرح الكابوكي ومسرح النو والمسرحية الدينية : (آدم – كرنفال الأشباح – منين أجيب ناس).
سابعاً : السلوك الفرجوي للتعبير المسرحي : (spectacle)
تتمثل في الصور الكرنفالية القائمة على التفاخر والتباهي ، وفيها يميل التعبير نحو لغة الجسد على حساب لغة الكلام ، وهو جمالي في الأساس يعلي من شأن الصورة على المادة سواء بالمعنى الأرسطي أو بغيره .
ويتمثل غالباً في عروض المسرح الشامل حيث تتعدد الفنون الأدائية والتشكيلية والأكروباتية والموسيقية وتتداخل بتعدد الأنا الخاصة بالفنان من خلال الشخصية المسرحية نفسها . إذ أن الذات المتصدعة المنقسمة للفنان الحداثي تتلبس أصوات شخصيات مختلفة وحركاتها النابعة من الذات الواحدة . وفي المسرحية المابعد الحداثية حيث تتشظى الصور وتتداخل لتكشف عن تناقض الدلالات وإساءة القراءة وإرجاء الاختلاف على المعنى التام للعرض المسرحي .
العرض المسرحي بين نظريات التطهير ومسارات الأداء
لاشك أن الإخراج المسرحي شأنه شأن كل نشاط إنساني يتقوى بالعلم ويحصن مصداقيته بمساراته لذا ينهج الإخراج التعبيري نهجاً تأصيلياً في اتجاه التواصل إلى ما وراء الفعل من بواعث نفسية ومدى تفعيلها لتحقق الأثر التطهيري. إن عرض مسلك الفعل على المسرح يستهدف التطهير ، عندما يقترن بناؤه أدائياً بدراسة تأثيره على أداء الممثل وعلى جمهوره ؛ يحيل المخرج في وجهته التعبيرية نحو دراسة النظريات العلمية التي ترتب محددات التطهيرر في منظومات علمية ، لكل منها منطلقاتها الفكرية والمنهجية . وفي تحليل المخرج لشخصية مثل (جوليا أو بلانش أو ميديا أو ليدي ماكبث أو عطيل أو إلكترا أو إحدى شخصيات كافكا) عليه أن يدرك الفرق بين النظرية السادية للتطهير عن فهم النظرية الإحلالية واختلافهما عن النظرية التعليمية وعن النظرية الطبية ، وعن النظرية التجريدية ، وعن النظرية التماثلية ، وعن النظرية المقارنة ، ومن ثم تأصيل تحليله المجسد لأي من تلك الأدوار عن قناعة منه بأن أصداء تلك النظريات حول فهمها المتمايز لفكرة التطهير تحوم بقوة في ساحة النظرية الدرامية ، باعتبارها ملتقى الأصداء الكونية في الحياة البشرية ، وأن دقة فهم المخرج لمسارات فهم مسألة الأثر التطهيري مهمة في أداء دور من تلك الأدوار المعقدة .
ففهم الإخراج التعبيري الذي يتصدى لمسرحية تنتمي لأسلوب مسرح القسوة أو فيها سمة منه يقوم على النظرية السادية : التي ترى أن التطهير يحدث في نفس مشاهد المسرحية المأساوية عندما يتمتع برؤية الآخرين يتعذبون أمامه ، وتتضاعف هذه المتعة ، حين يتحقق من أن ما يراه فوق خشبة المسرح ما هو إلاّ تمثيل في تمثيل وليس الحياة المعيشة .. وبذلك الفهم يتمكن المخرج من توجيه الممثل نحو التحليل الأدائي الأكثر دقة لفهم دور (المركيز دي صاد) أو دور الزباء أو ميديا . أما فهم المخرج الذي يتبع أسلوب التغريب الملحمي الذي يركز على الصفة الاجتماعية للدور المسرحي فإنه سيجد في النظرية الإحلالية مدخلاً لرؤيته الإخراجية بملامحها الأيديولوجية المسار ، تلك النظرية الإحلالية التي ترى أن المتفرج عادة ما يتمثل إحدى الشخصيات المأساوية التي تعاني الأزمة المعذبة ، وبعدما تنتهي المسرحية ، يداخل المتفرج نوع من السرور الناتج عن شعورين:
أ‌) شعور بأن الأحداث المفجعة لم تحدث له حقيقة
ب‌) شعور مترتب على الشعور الأول يتمثل في أن متاعبه الشخصية ليست كارثية ، كتلك التي رأها تحدث للشخصية المسرحية التي شاهدها ، وهي محتملة الحدوث .
فذلك ما يحدث لعامل شاهد مسرحية (الاستثناء والقاعدة) وتمثل شخصية (الأجير) أو شاهد (السيد بونتيلا وتابعه ماتي) وتمثل (ماتي) أو تمثلت مشاهدة الأم في (الأم شجاعة) . وينطبق ذلك أيضاً بالنسبة له بوصفه مخرجاً على طريق الأيديولوجيا حالة ارتكازه على النظرية التعليمية التي ترى أن المشاهد لموقف درامي تطهيري ، عندما يشاهد معاناة البطلا لمأساوي، فإنه يتعلم عن طريق أحاسيس الخوف والشفقة المستثارة – أن انفعالات البطل الشرير كما هو حال "ياجو" أو " شايلوك" أو "يهودي مالطه" في مسرحية (مارلو) ومن ثم عليه أن يتجنبها.
أما تصديه لإخراج مسرحية مثل (سوء تفاهم) لألبير كامي فهي تحتاج منه إلى استظهار (النظرية الطبية) تلك التي ترى أن عاطفتي الخوف والشفقة تزيد في نفوس بعض المتفرجين على الدرجة أو الكمية التي لهاتين العاطفتين ، بما يترتب عليه إحداث باثولوجية ، انطلاقاً من الفكرة التي تقول : (وداوني بالتي كانت هي الداء) ومن ثم يشعر المتفرج غير المتوازن انفعالياً بالامتاع الذي يعيد إليه توازنه الانفعالي الصحيح.
أما النظرية الدرامية التجريبية : فترى أن المتفرج يستمتع بخوض تجربة الانفعالات المقدمة له عبر منظومة متشظية لصور غير مألوفة وغير مسبوقة لمشاهد الخوف والشفقة دون أدنى إحساس منه بأنه مطالب بالتوحد مع ما يعرض عليه . وبذلك يرى نفسه في منأى عن أية أضرار شخصية يمكن أن تقع عليه . ويدخل في إطار تلك النظرية كل العروض المسرحية الحداثية التي تتعدد دلالات تلقيها إلى جانب العروض المسرحية المابعد الحداثية التي تفكك الأنساق الفنية في بنائها المتشظي ، والذي تتداخل أزمنة أحداثه وأمكنتها .
وعلى الرغم من أن النظرية التطهيرية المقارنة التي تأسست على مآخذ أفلاطون وهجومه على المسرحية المأساوية بدعوى أنها تثير في نفس مشاهدها عاطفتي الخوف والشفقة الأمر الذي يضعفه انفعالياً ، ومقارنة مآخذ أفلاطون تلك بالردود التي عارض بها أرسطو أستاذه حيث رأى أن إثارة هاتين العاطفتين في نفسية المشاهد تخلصه منهما ، ومن ثم يحدث التطهير، الذي يجعل الشخص أفضل صحياً وأقوى انفعالياً .
فإن دارسي المسرح الدرامي في اعتمادهم على النظريات العلمية المتصلة بنظرية التطهير يتوجهون بأنظارهم نحو تلك النظريات تبعاً لقرب إحداها من طبيعة الأسلوب الذي تنبني عليه المسرحية في اتجاه تحقيق الأثر التطهيري درامياً وجمالياً.
فالنظرية التماثلية التي ترى أن التطهير يجب أن يقع بطريقة مماثلة لشخصيات المسرحية ذاتها قبل أن يؤثر في الجمهور المشاهد. ولنا أن نلاحظ حالتي الخوف والشفقة اللتين تشعان على هاملت ، قبل أن تؤثر على متفرجيها ، وسيطرتهما على (أوديب) وعلى (بيكيت) وعلى (مس جوليا) وعلى (كوراج) في (الأم شجاعة) لبريخت على الرغم من بنائها التغريبي وعلى (جولييت) وعلى (ديدمونة) . كذلك يتماثل حالة التطهير ما بين جمهور (جريمة قتل في الكاتدرائية) و (بيكيت أو شرف الله) وكلتاهما تتناول حياة القديس توماس بيكيت قبل تعيينه قديساً لانجلترا (رئيساً لأساقفة كانتربيري) حيث يتطهر من رذائل ماضيه في مصاحباته العربيدة مع الملك هنري الثامن فور تعيين الملك له رئيساً للأساقفة .
إن التحول من حياة العربدة التي عاشها (توماس بيكيت) عندما كان صاحباً للملك هنري الثامن إلى حياة الطهر والتقى فور تعيينه رئيساً للأساقفة لم يكن متوقعاً من قبل صديقه الملك الذي عينه ليؤمم له أموال الكنيسة الإنجليزية وأوقافها التي تؤول حصيلتها إلى الكنيسة الأم في روما لذلك يصاب الملك بحالة من الإدهاش نظراً لوقع المفاجأة عليه ، كذلك تصيب المتفرج حالة من الإدهاش ، نظراً لمتانة الرابطة التي رأها في علاقة (بيكيت) بـ(الملك) وفي ذلك إبطال لأفق التوقعات الذي ركن إليه المتفرجون ، كما ركن "الملك" نفسه إليه . ومناقضة التوقع تحدث الصدمة ، وتحرك الشعور المتلقي للصورة أو الموقف ، لأنه يكشف عما وراء المظهر الذي يتسم به الفعل الدرامي بطريقة غير سابقة التخطيط ، وهي في الوقت ذاته تشي باحتمال تدبرها وفق تخطيط سابق في ضمير الشخصية ، يقول أرسطو : " الإدهاش المتولد ، يكون أعظم مما لو وقعت هذه الأحداث من تلقاء ذاتها ، أو بالمصادفة . وحتى الأحداث التي تقع اتفاقاً ، أو بالمصادفة تبدو أكثر إدهاشاً عندما تتم ، وكأنها وقعت عن سابق تخطيط "
فالتأثير الأمثل للحدث في التراجيديا من حيث إثارة الخوف والشفقة يتحقق بتحقق عنصرين – وفق أرسطو-:
أ‌- الوقوع الفجائي ، غير المتوقع للحدث
ب‌- تتابع الفعل وترتب كل فعل على فعل آخر في الوقت ذاته .
على أن التماثل في المثير الشعوري بالتعاطف والتخوف مع الشخصية المسرحية لا يتحقق عن طريق التحول المتماثل ما بين الشخصية والمتفرج إلاّ إذا تشابه المتفرج مع الشخصية . وذلك شرط التحول التراجيدي كما نص عليه أرسطو .
وهنا يجوز لنا القول بأن فكرة التوحد أو عدوى الاندماج بين الممثل وجمهوره وفق شروح النظرية الأرسطية، تتناقض مع ذلك الشرط الأساسي للتحول عند المتفرج ، ذلك أن التحول ، الذي لا يتحقق عند المشاهد غير المتشابه مع الشخصية التراجيدية المعروضة أمامه بالتجسيد الأدائي . وهنا تسقط نظرية الاندماج أو التوحد الجماعي بين جمهور العرض المسرحي مع الشخصية إذ يقتصر ذلك على المتفرج المتشابه مع الشخصية المعروضة .
الإخراج المسرحي وتجليات الفاعل الحضاري
د.أبو الحسن سلاّم
تخضع حركة التجديد في الآداب والفنون لحركة الفاعل الكاهن أو الفرعون ، لذا صور المسرح الفعل محمولاً على لسان ممثل الآلهة أو ما قرره الفرعون. ولأن الفاعل الحضاري عند اليونان تمثل فيما ينتهي إليه الحوار مع الآخر، دون أن يتعارض مع ما تمليه الآلهة ؛ لذلك سيطر عالم الغيب على عالم الحياة المعيشة ، فيما عبر عنه المسرح .
ولأن الفاعل الحضاري عند الرومان تمثل فيما يمليه القانون المدني مقصوراً على المواطن الروماني دون غيره من مواطني المستعمرات الامبراطورية المترامية الأطراف ، فقد تمثل ذلك في أعمال سينيكا المسرحية وفي أعمال تيرانس. ولأن الفاعل التاريخي في العصور الوسطى قد تمثل فيما يمليه فهم الكهنة والكهانة والمشايخ للكتب الدينية السماوية ، لذا سخر المسرح مطية للخطاب الديني مغلفاً بألوان الخرافة.
ولأن الفاعل الحضاري في عصرالنهضة قد تمثل فيما يمليه العلم سواء بالاستدلال الاستنباطي محمولاً على قياس الكل الغائب على الجزء الحاضر أو بالاستدلال التجريبي محمولاً على أسبابه المادية ، لذلك زاحم المنطق الصورة الأدبية والفنية وتغلغل متقنعاً خلفها.
ولأن الفاعل التاريخي في عصرنا الحالي يتمثل فيما تمليه القوة الغاشمة المنفردة بالسيطرة على الميديا والفضاء الخارجي والثورة المعلوماتية لذلك سيطر فكر التفكيك وما بعد الحداثة ولا مركزية الخطاب ونفي الأنساق البنائية بالتشظي والتداخل المكاني والزماني على الإبداع الأدبي والفني والنقدي وسادت ثقافة الـ(كليب) في كل مناحي الثقافة والفكر والإبداع .
وتبعاً لتغير الفاعل الحضاري عبر العصور وتعدد صور التعبير الإنساني أدبياً وفنياً ؛ بتعدد صور التعبير المسرحي ما بين عرض مسرحي وعرض آخر تبعاً لتعدد العامل والتصور فهناك الفاعل الفرجوي في التعبير المسرحي ، وهناك الفاعل الفلسفي والفاعل التاريخي والفاعل الأنثروبولوجي ، الفاعل الإثنولوجي ، وهناك الفاعل النفسي والفاعل الديني والفاعل الجمالي والفاعل الفرجوي التعبيري أو السردي أو التشكيلي التجريدي أو التجسيدي.
فمع أنه لا تصور بدون صورة ولا صورة بدون تصور ؛ إلاّ أن لكل منها مفهوماً مغايراً لمفهوم الأخرى فهيجل يفصل بين التصورات والصور ؛ إذ يرى أن التصورات مجالها الفكر المجرد ومجال الصور هو الحياة المجسدة والتجريد وقوده التأمل ، والتأمل منبعه إيجابية الروح عند النظر إلى الغائب ومحاولة استحضاره في حين أن التجسيد وقوده التخييل ، والتخييل . والتخيل منبعه العقل عند النظر إلى الحاضر الموجود ومحاولة استبدال صورته الحقيقية بصورة حقيقية بديلة ، إذ أن لكل صورة ذات ، أي وجود حقيقي وجود ذاتي . وجود بالإمكان أصبح واقعاً . في حين أن التصور وجود عيني ، وجود في ذاته ، وجود بالقدرة ؛ وجود الموضوع الذي سيصبح وجوداً ذاتياً . والتصور يستحيل إلى صورة تستهدف التعبير وصولاً إلى التأثير . وللتعبير بالتصور وبالتصوير باعث قد يكون إنثربولوجيا ، وقد يكون جمالياً وقد يكون فرجوياً سردياً أو تشكيلياً.
والباعث الفرجوي سردياً كان أم تشكيلياً حتمي في مجال الفن عامة . وفي مجال المسرح خاصة ، فإن الباعث الفرجوي يكون تعبيراً درامياً فرجوياًَ ، حضوري الإرسال والتلقي.
والباعث في كل أنواعه ليس سوى سلوك أو انفعال بشري إبداعي عن حالة أو عدد من حالات الضعف فيما رأى جيمس وهو حالة من حالات سوء التكيف ودلالة على الفشل وهنا يجب التأكيد على أن السلوك في الصورة ما هو إلاّ لون من ألوان الخيال فلا فن إذا انتفى الخيال ولا أدب ، بل لا علم بدون خيال يتشكل عبر منطلقات الدهشة بإزاء ما يغاير مدركاتنا . والخيال كما يرى سارتر ما هو إلاّ نسخة ثانية من واقع محتمل ، وهو إعادة تجسيد صورة ما تجسدت في الذهن أولاً ، قبل تجسدها المادي . يقول إيسر : "من القوانين العامة أن كل ناتج مفترض للتصور تليه سلسلة من الصور الذهنية تستنسخ كل منها مضمون سابقتها ، ولكن بحيث تضفي على الدوام صفة الماضي على الصورة الجديدة .. ومن هنا فإن الخيال يثبت خصوبته ".
صور التعبير عن السلوك في المسرح :
يتغير التعبير عن السلوك مسرحياً تبعاً للباعث النفسي أو الاجتماعي أو الأنثروبولوجي أو الاحتفالي أو الجمالي أو الإثنولوجي أو الفرجوي سرداً أو تشكيلاً تجريداً أو تجسيداً تعبيرياً.
أولاً: السلوك النفسي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور فردية ذات بواعث ذاتية ، وخير مثال له في المسرح قائم في التعبيرية ، ومثالها (القرد الكثيف الشعر) ، (بيرجنت) ، (عربة اسمها الرغبة) ، (الأميرة تنتظر) . يقول فرويد عن الشعراء والروائيين: " هم في معرفة البشرية معلمونا وأساتذتنا نحن معشر العامة لأنهم ينهلون من موارد لم نفلح بعد في تسهيل ورودها على العلم " .
ثانياً : السلوك الاجتماعي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صورة متكررة من فرد إلى آخر . وسط اجتماعي محدد زماناً ومكاناً وخير مثال له المسرح الواقعي والمسرح الطبيعي. مثال: (مس جوليا) ، (بيت دمية) ، (مشهد من الجسر) ، (الحضيض) ، ( الناس اللي تحت) ، (الجنزير).
ثالثاً: السلوك الأنثروبولوجي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور متكررة لدى الإنسان وفق العادة تلازمه منذ نشأته ، حيث تتواصل معه عبر الأجيال ومنها : (العقوق – الغيرة – التفاؤل – التشاؤم – الانفلات – الحقد – الغيرة – الفخر – العدوان – الاستحواز – التصابي) وخير مثال له المسرحية الشعبية ( الهلالية – علي الزيبق – الظاهر بيبرس – يا عنتر – حسن ونعيمة – اليهودي التائه – يهودي مالطه – تاجر البندقية – منين أجيب ناس – شفيقة ومتولي).
رابعاً : السلوك الاحتفالي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور متكررة في المناسبات وفي فنون الأداء الاستعراضي . وخير مثال له المسرحية العرائسية مثل (الليلة الكبيرة ) (القاهرة في ألف عام) . والمسرحية الاستعراضية التي تعتمد على المبالغة بالتضخيم أو التصغير للإيهام بحالة الانتشاء الجمعي الطقسي . وفيها يتلاحم المرسل والمستقبل.
خامساً : السلوك الجمالي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور تتخذ مواضع معينة قائمة على الاحتمال لا الضرورة ، وهي جالبة للمتعة عن طريق التناسب والتماثل والغرابة وأفق التوقعات . وخير مثال له عروض الباليه وعروض الرقص المسرحي الحديث ، والمسرحية الرومنتيكية ، ومسرح السرد التشكيلي (الصورة) كعروض (وليد عوني وكانتور وشاينا ومونجييك وباربا وفيدا ) .
سادساً : السلوك الإثنولوجي للتعبير المسرحي :
يتمثل في الصورة المتنوعة المحدودة بالطبيعة العرقية والتراثية. وخير مثال له في المسرحية المعتمدة على الأسطورة والخرافة والمسرحية الكلاسيكية والمسرحية الرمزية ، وفي مسرح الكابوكي ومسرح النو والمسرحية الدينية : (آدم – كرنفال الأشباح – منين أجيب ناس).
سابعاً : السلوك الفرجوي للتعبير المسرحي : (spectacle)
تتمثل في الصور الكرنفالية القائمة على التفاخر والتباهي ، وفيها يميل التعبير نحو لغة الجسد على حساب لغة الكلام ، وهو جمالي في الأساس يعلي من شأن الصورة على المادة سواء بالمعنى الأرسطي أو بغيره .
ويتمثل غالباً في عروض المسرح الشامل حيث تتعدد الفنون الأدائية والتشكيلية والأكروباتية والموسيقية وتتداخل بتعدد الأنا الخاصة بالفنان من خلال الشخصية المسرحية نفسها . إذ أن الذات المتصدعة المنقسمة للفنان الحداثي تتلبس أصوات شخصيات مختلفة وحركاتها النابعة من الذات الواحدة . وفي المسرحية المابعد الحداثية حيث تتشظى الصور وتتداخل لتكشف عن تناقض الدلالات وإساءة القراءة وإرجاء الاختلاف على المعنى التام للعرض المسرحي .
العرض المسرحي بين نظريات التطهير ومسارات الأداء
لاشك أن الإخراج المسرحي شأنه شأن كل نشاط إنساني يتقوى بالعلم ويحصن مصداقيته بمساراته لذا ينهج الإخراج التعبيري نهجاً تأصيلياً في اتجاه التواصل إلى ما وراء الفعل من بواعث نفسية ومدى تفعيلها لتحقق الأثر التطهيري. إن عرض مسلك الفعل على المسرح يستهدف التطهير ، عندما يقترن بناؤه أدائياً بدراسة تأثيره على أداء الممثل وعلى جمهوره ؛ يحيل المخرج في وجهته التعبيرية نحو دراسة النظريات العلمية التي ترتب محددات التطهيرر في منظومات علمية ، لكل منها منطلقاتها الفكرية والمنهجية . وفي تحليل المخرج لشخصية مثل (جوليا أو بلانش أو ميديا أو ليدي ماكبث أو عطيل أو إلكترا أو إحدى شخصيات كافكا) عليه أن يدرك الفرق بين النظرية السادية للتطهير عن فهم النظرية الإحلالية واختلافهما عن النظرية التعليمية وعن النظرية الطبية ، وعن النظرية التجريدية ، وعن النظرية التماثلية ، وعن النظرية المقارنة ، ومن ثم تأصيل تحليله المجسد لأي من تلك الأدوار عن قناعة منه بأن أصداء تلك النظريات حول فهمها المتمايز لفكرة التطهير تحوم بقوة في ساحة النظرية الدرامية ، باعتبارها ملتقى الأصداء الكونية في الحياة البشرية ، وأن دقة فهم المخرج لمسارات فهم مسألة الأثر التطهيري مهمة في أداء دور من تلك الأدوار المعقدة .
ففهم الإخراج التعبيري الذي يتصدى لمسرحية تنتمي لأسلوب مسرح القسوة أو فيها سمة منه يقوم على النظرية السادية : التي ترى أن التطهير يحدث في نفس مشاهد المسرحية المأساوية عندما يتمتع برؤية الآخرين يتعذبون أمامه ، وتتضاعف هذه المتعة ، حين يتحقق من أن ما يراه فوق خشبة المسرح ما هو إلاّ تمثيل في تمثيل وليس الحياة المعيشة .. وبذلك الفهم يتمكن المخرج من توجيه الممثل نحو التحليل الأدائي الأكثر دقة لفهم دور (المركيز دي صاد) أو دور الزباء أو ميديا . أما فهم المخرج الذي يتبع أسلوب التغريب الملحمي الذي يركز على الصفة الاجتماعية للدور المسرحي فإنه سيجد في النظرية الإحلالية مدخلاً لرؤيته الإخراجية بملامحها الأيديولوجية المسار ، تلك النظرية الإحلالية التي ترى أن المتفرج عادة ما يتمثل إحدى الشخصيات المأساوية التي تعاني الأزمة المعذبة ، وبعدما تنتهي المسرحية ، يداخل المتفرج نوع من السرور الناتج عن شعورين:
أ‌) شعور بأن الأحداث المفجعة لم تحدث له حقيقة
ب‌) شعور مترتب على الشعور الأول يتمثل في أن متاعبه الشخصية ليست كارثية ، كتلك التي رأها تحدث للشخصية المسرحية التي شاهدها ، وهي محتملة الحدوث .
فذلك ما يحدث لعامل شاهد مسرحية (الاستثناء والقاعدة) وتمثل شخصية (الأجير) أو شاهد (السيد بونتيلا وتابعه ماتي) وتمثل (ماتي) أو تمثلت مشاهدة الأم في (الأم شجاعة) . وينطبق ذلك أيضاً بالنسبة له بوصفه مخرجاً على طريق الأيديولوجيا حالة ارتكازه على النظرية التعليمية التي ترى أن المشاهد لموقف درامي تطهيري ، عندما يشاهد معاناة البطلا لمأساوي، فإنه يتعلم عن طريق أحاسيس الخوف والشفقة المستثارة – أن انفعالات البطل الشرير كما هو حال "ياجو" أو " شايلوك" أو "يهودي مالطه" في مسرحية (مارلو) ومن ثم عليه أن يتجنبها.
أما تصديه لإخراج مسرحية مثل (سوء تفاهم) لألبير كامي فهي تحتاج منه إلى استظهار (النظرية الطبية) تلك التي ترى أن عاطفتي الخوف والشفقة تزيد في نفوس بعض المتفرجين على الدرجة أو الكمية التي لهاتين العاطفتين ، بما يترتب عليه إحداث باثولوجية ، انطلاقاً من الفكرة التي تقول : (وداوني بالتي كانت هي الداء) ومن ثم يشعر المتفرج غير المتوازن انفعالياً بالامتاع الذي يعيد إليه توازنه الانفعالي الصحيح.
أما النظرية الدرامية التجريبية : فترى أن المتفرج يستمتع بخوض تجربة الانفعالات المقدمة له عبر منظومة متشظية لصور غير مألوفة وغير مسبوقة لمشاهد الخوف والشفقة دون أدنى إحساس منه بأنه مطالب بالتوحد مع ما يعرض عليه . وبذلك يرى نفسه في منأى عن أية أضرار شخصية يمكن أن تقع عليه . ويدخل في إطار تلك النظرية كل العروض المسرحية الحداثية التي تتعدد دلالات تلقيها إلى جانب العروض المسرحية المابعد الحداثية التي تفكك الأنساق الفنية في بنائها المتشظي ، والذي تتداخل أزمنة أحداثه وأمكنتها .
وعلى الرغم من أن النظرية التطهيرية المقارنة التي تأسست على مآخذ أفلاطون وهجومه على المسرحية المأساوية بدعوى أنها تثير في نفس مشاهدها عاطفتي الخوف والشفقة الأمر الذي يضعفه انفعالياً ، ومقارنة مآخذ أفلاطون تلك بالردود التي عارض بها أرسطو أستاذه حيث رأى أن إثارة هاتين العاطفتين في نفسية المشاهد تخلصه منهما ، ومن ثم يحدث التطهير، الذي يجعل الشخص أفضل صحياً وأقوى انفعالياً .
فإن دارسي المسرح الدرامي في اعتمادهم على النظريات العلمية المتصلة بنظرية التطهير يتوجهون بأنظارهم نحو تلك النظريات تبعاً لقرب إحداها من طبيعة الأسلوب الذي تنبني عليه المسرحية في اتجاه تحقيق الأثر التطهيري درامياً وجمالياً.
فالنظرية التماثلية التي ترى أن التطهير يجب أن يقع بطريقة مماثلة لشخصيات المسرحية ذاتها قبل أن يؤثر في الجمهور المشاهد. ولنا أن نلاحظ حالتي الخوف والشفقة اللتين تشعان على هاملت ، قبل أن تؤثر على متفرجيها ، وسيطرتهما على (أوديب) وعلى (بيكيت) وعلى (مس جوليا) وعلى (كوراج) في (الأم شجاعة) لبريخت على الرغم من بنائها التغريبي وعلى (جولييت) وعلى (ديدمونة) . كذلك يتماثل حالة التطهير ما بين جمهور (جريمة قتل في الكاتدرائية) و (بيكيت أو شرف الله) وكلتاهما تتناول حياة القديس توماس بيكيت قبل تعيينه قديساً لانجلترا (رئيساً لأساقفة كانتربيري) حيث يتطهر من رذائل ماضيه في مصاحباته العربيدة مع الملك هنري الثامن فور تعيين الملك له رئيساً للأساقفة .
إن التحول من حياة العربدة التي عاشها (توماس بيكيت) عندما كان صاحباً للملك هنري الثامن إلى حياة الطهر والتقى فور تعيينه رئيساً للأساقفة لم يكن متوقعاً من قبل صديقه الملك الذي عينه ليؤمم له أموال الكنيسة الإنجليزية وأوقافها التي تؤول حصيلتها إلى الكنيسة الأم في روما لذلك يصاب الملك بحالة من الإدهاش نظراً لوقع المفاجأة عليه ، كذلك تصيب المتفرج حالة من الإدهاش ، نظراً لمتانة الرابطة التي رأها في علاقة (بيكيت) بـ(الملك) وفي ذلك إبطال لأفق التوقعات الذي ركن إليه المتفرجون ، كما ركن "الملك" نفسه إليه . ومناقضة التوقع تحدث الصدمة ، وتحرك الشعور المتلقي للصورة أو الموقف ، لأنه يكشف عما وراء المظهر الذي يتسم به الفعل الدرامي بطريقة غير سابقة التخطيط ، وهي في الوقت ذاته تشي باحتمال تدبرها وفق تخطيط سابق في ضمير الشخصية ، يقول أرسطو : " الإدهاش المتولد ، يكون أعظم مما لو وقعت هذه الأحداث من تلقاء ذاتها ، أو بالمصادفة . وحتى الأحداث التي تقع اتفاقاً ، أو بالمصادفة تبدو أكثر إدهاشاً عندما تتم ، وكأنها وقعت عن سابق تخطيط "
فالتأثير الأمثل للحدث في التراجيديا من حيث إثارة الخوف والشفقة يتحقق بتحقق عنصرين – وفق أرسطو-:
أ‌- الوقوع الفجائي ، غير المتوقع للحدث
ب‌- تتابع الفعل وترتب كل فعل على فعل آخر في الوقت ذاته .
على أن التماثل في المثير الشعوري بالتعاطف والتخوف مع الشخصية المسرحية لا يتحقق عن طريق التحول المتماثل ما بين الشخصية والمتفرج إلاّ إذا تشابه المتفرج مع الشخصية . وذلك شرط التحول التراجيدي كما نص عليه أرسطو .
وهنا يجوز لنا القول بأن فكرة التوحد أو عدوى الاندماج بين الممثل وجمهوره وفق شروح النظرية الأرسطية، تتناقض مع ذلك الشرط الأساسي للتحول عند المتفرج ، ذلك أن التحول ، الذي لا يتحقق عند المشاهد غير المتشابه مع الشخصية التراجيدية المعروضة أمامه بالتجسيد الأدائي . وهنا تسقط نظرية الاندماج أو التوحد الجماعي بين جمهور العرض المسرحي مع الشخصية إذ يقتصر ذلك على المتفرج المتشابه مع الشخصية المعروضة .
الإخراج المسرحي وتجليات الفاعل الحضاري
د.أبو الحسن سلاّم
تخضع حركة التجديد في الآداب والفنون لحركة الفاعل الكاهن أو الفرعون ، لذا صور المسرح الفعل محمولاً على لسان ممثل الآلهة أو ما قرره الفرعون. ولأن الفاعل الحضاري عند اليونان تمثل فيما ينتهي إليه الحوار مع الآخر، دون أن يتعارض مع ما تمليه الآلهة ؛ لذلك سيطر عالم الغيب على عالم الحياة المعيشة ، فيما عبر عنه المسرح .
ولأن الفاعل الحضاري عند الرومان تمثل فيما يمليه القانون المدني مقصوراً على المواطن الروماني دون غيره من مواطني المستعمرات الامبراطورية المترامية الأطراف ، فقد تمثل ذلك في أعمال سينيكا المسرحية وفي أعمال تيرانس. ولأن الفاعل التاريخي في العصور الوسطى قد تمثل فيما يمليه فهم الكهنة والكهانة والمشايخ للكتب الدينية السماوية ، لذا سخر المسرح مطية للخطاب الديني مغلفاً بألوان الخرافة.
ولأن الفاعل الحضاري في عصرالنهضة قد تمثل فيما يمليه العلم سواء بالاستدلال الاستنباطي محمولاً على قياس الكل الغائب على الجزء الحاضر أو بالاستدلال التجريبي محمولاً على أسبابه المادية ، لذلك زاحم المنطق الصورة الأدبية والفنية وتغلغل متقنعاً خلفها.
ولأن الفاعل التاريخي في عصرنا الحالي يتمثل فيما تمليه القوة الغاشمة المنفردة بالسيطرة على الميديا والفضاء الخارجي والثورة المعلوماتية لذلك سيطر فكر التفكيك وما بعد الحداثة ولا مركزية الخطاب ونفي الأنساق البنائية بالتشظي والتداخل المكاني والزماني على الإبداع الأدبي والفني والنقدي وسادت ثقافة الـ(كليب) في كل مناحي الثقافة والفكر والإبداع .
وتبعاً لتغير الفاعل الحضاري عبر العصور وتعدد صور التعبير الإنساني أدبياً وفنياً ؛ بتعدد صور التعبير المسرحي ما بين عرض مسرحي وعرض آخر تبعاً لتعدد العامل والتصور فهناك الفاعل الفرجوي في التعبير المسرحي ، وهناك الفاعل الفلسفي والفاعل التاريخي والفاعل الأنثروبولوجي ، الفاعل الإثنولوجي ، وهناك الفاعل النفسي والفاعل الديني والفاعل الجمالي والفاعل الفرجوي التعبيري أو السردي أو التشكيلي التجريدي أو التجسيدي.
فمع أنه لا تصور بدون صورة ولا صورة بدون تصور ؛ إلاّ أن لكل منها مفهوماً مغايراً لمفهوم الأخرى فهيجل يفصل بين التصورات والصور ؛ إذ يرى أن التصورات مجالها الفكر المجرد ومجال الصور هو الحياة المجسدة والتجريد وقوده التأمل ، والتأمل منبعه إيجابية الروح عند النظر إلى الغائب ومحاولة استحضاره في حين أن التجسيد وقوده التخييل ، والتخييل . والتخيل منبعه العقل عند النظر إلى الحاضر الموجود ومحاولة استبدال صورته الحقيقية بصورة حقيقية بديلة ، إذ أن لكل صورة ذات ، أي وجود حقيقي وجود ذاتي . وجود بالإمكان أصبح واقعاً . في حين أن التصور وجود عيني ، وجود في ذاته ، وجود بالقدرة ؛ وجود الموضوع الذي سيصبح وجوداً ذاتياً . والتصور يستحيل إلى صورة تستهدف التعبير وصولاً إلى التأثير . وللتعبير بالتصور وبالتصوير باعث قد يكون إنثربولوجيا ، وقد يكون جمالياً وقد يكون فرجوياً سردياً أو تشكيلياً.
والباعث الفرجوي سردياً كان أم تشكيلياً حتمي في مجال الفن عامة . وفي مجال المسرح خاصة ، فإن الباعث الفرجوي يكون تعبيراً درامياً فرجوياًَ ، حضوري الإرسال والتلقي.
والباعث في كل أنواعه ليس سوى سلوك أو انفعال بشري إبداعي عن حالة أو عدد من حالات الضعف فيما رأى جيمس وهو حالة من حالات سوء التكيف ودلالة على الفشل وهنا يجب التأكيد على أن السلوك في الصورة ما هو إلاّ لون من ألوان الخيال فلا فن إذا انتفى الخيال ولا أدب ، بل لا علم بدون خيال يتشكل عبر منطلقات الدهشة بإزاء ما يغاير مدركاتنا . والخيال كما يرى سارتر ما هو إلاّ نسخة ثانية من واقع محتمل ، وهو إعادة تجسيد صورة ما تجسدت في الذهن أولاً ، قبل تجسدها المادي . يقول إيسر : "من القوانين العامة أن كل ناتج مفترض للتصور تليه سلسلة من الصور الذهنية تستنسخ كل منها مضمون سابقتها ، ولكن بحيث تضفي على الدوام صفة الماضي على الصورة الجديدة .. ومن هنا فإن الخيال يثبت خصوبته ".
صور التعبير عن السلوك في المسرح :
يتغير التعبير عن السلوك مسرحياً تبعاً للباعث النفسي أو الاجتماعي أو الأنثروبولوجي أو الاحتفالي أو الجمالي أو الإثنولوجي أو الفرجوي سرداً أو تشكيلاً تجريداً أو تجسيداً تعبيرياً.
أولاً: السلوك النفسي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور فردية ذات بواعث ذاتية ، وخير مثال له في المسرح قائم في التعبيرية ، ومثالها (القرد الكثيف الشعر) ، (بيرجنت) ، (عربة اسمها الرغبة) ، (الأميرة تنتظر) . يقول فرويد عن الشعراء والروائيين: " هم في معرفة البشرية معلمونا وأساتذتنا نحن معشر العامة لأنهم ينهلون من موارد لم نفلح بعد في تسهيل ورودها على العلم " .
ثانياً : السلوك الاجتماعي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صورة متكررة من فرد إلى آخر . وسط اجتماعي محدد زماناً ومكاناً وخير مثال له المسرح الواقعي والمسرح الطبيعي. مثال: (مس جوليا) ، (بيت دمية) ، (مشهد من الجسر) ، (الحضيض) ، ( الناس اللي تحت) ، (الجنزير).
ثالثاً: السلوك الأنثروبولوجي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور متكررة لدى الإنسان وفق العادة تلازمه منذ نشأته ، حيث تتواصل معه عبر الأجيال ومنها : (العقوق – الغيرة – التفاؤل – التشاؤم – الانفلات – الحقد – الغيرة – الفخر – العدوان – الاستحواز – التصابي) وخير مثال له المسرحية الشعبية ( الهلالية – علي الزيبق – الظاهر بيبرس – يا عنتر – حسن ونعيمة – اليهودي التائه – يهودي مالطه – تاجر البندقية – منين أجيب ناس – شفيقة ومتولي).
رابعاً : السلوك الاحتفالي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور متكررة في المناسبات وفي فنون الأداء الاستعراضي . وخير مثال له المسرحية العرائسية مثل (الليلة الكبيرة ) (القاهرة في ألف عام) . والمسرحية الاستعراضية التي تعتمد على المبالغة بالتضخيم أو التصغير للإيهام بحالة الانتشاء الجمعي الطقسي . وفيها يتلاحم المرسل والمستقبل.
خامساً : السلوك الجمالي للتعبير المسرحي :
يتمثل في صور تتخذ مواضع معينة قائمة على الاحتمال لا الضرورة ، وهي جالبة للمتعة عن طريق التناسب والتماثل والغرابة وأفق التوقعات . وخير مثال له عروض الباليه وعروض الرقص المسرحي الحديث ، والمسرحية الرومنتيكية ، ومسرح السرد التشكيلي (الصورة) كعروض (وليد عوني وكانتور وشاينا ومونجييك وباربا وفيدا ) .
سادساً : السلوك الإثنولوجي للتعبير المسرحي :
يتمثل في الصورة المتنوعة المحدودة بالطبيعة العرقية والتراثية. وخير مثال له في المسرحية المعتمدة على الأسطورة والخرافة والمسرحية الكلاسيكية والمسرحية الرمزية ، وفي مسرح الكابوكي ومسرح النو والمسرحية الدينية : (آدم – كرنفال الأشباح – منين أجيب ناس).
سابعاً : السلوك الفرجوي للتعبير المسرحي : (spectacle)
تتمثل في الصور الكرنفالية القائمة على التفاخر والتباهي ، وفيها يميل التعبير نحو لغة الجسد على حساب لغة الكلام ، وهو جمالي في الأساس يعلي من شأن الصورة على المادة سواء بالمعنى الأرسطي أو بغيره .
ويتمثل غالباً في عروض المسرح الشامل حيث تتعدد الفنون الأدائية والتشكيلية والأكروباتية والموسيقية وتتداخل بتعدد الأنا الخاصة بالفنان من خلال الشخصية المسرحية نفسها . إذ أن الذات المتصدعة المنقسمة للفنان الحداثي تتلبس أصوات شخصيات مختلفة وحركاتها النابعة من الذات الواحدة . وفي المسرحية المابعد الحداثية حيث تتشظى الصور وتتداخل لتكشف عن تناقض الدلالات وإساءة القراءة وإرجاء الاختلاف على المعنى التام للعرض المسرحي .
العرض المسرحي بين نظريات التطهير ومسارات الأداء
لاشك أن الإخراج المسرحي شأنه شأن كل نشاط إنساني يتقوى بالعلم ويحصن مصداقيته بمساراته لذا ينهج الإخراج التعبيري نهجاً تأصيلياً في اتجاه التواصل إلى ما وراء الفعل من بواعث نفسية ومدى تفعيلها لتحقق الأثر التطهيري. إن عرض مسلك الفعل على المسرح يستهدف التطهير ، عندما يقترن بناؤه أدائياً بدراسة تأثيره على أداء الممثل وعلى جمهوره ؛ يحيل المخرج في وجهته التعبيرية نحو دراسة النظريات العلمية التي ترتب محددات التطهيرر في منظومات علمية ، لكل منها منطلقاتها الفكرية والمنهجية . وفي تحليل المخرج لشخصية مثل (جوليا أو بلانش أو ميديا أو ليدي ماكبث أو عطيل أو إلكترا أو إحدى شخصيات كافكا) عليه أن يدرك الفرق بين النظرية السادية للتطهير عن فهم النظرية الإحلالية واختلافهما عن النظرية التعليمية وعن النظرية الطبية ، وعن النظرية التجريدية ، وعن النظرية التماثلية ، وعن النظرية المقارنة ، ومن ثم تأصيل تحليله المجسد لأي من تلك الأدوار عن قناعة منه بأن أصداء تلك النظريات حول فهمها المتمايز لفكرة التطهير تحوم بقوة في ساحة النظرية الدرامية ، باعتبارها ملتقى الأصداء الكونية في الحياة البشرية ، وأن دقة فهم المخرج لمسارات فهم مسألة الأثر التطهيري مهمة في أداء دور من تلك الأدوار المعقدة .
ففهم الإخراج التعبيري الذي يتصدى لمسرحية تنتمي لأسلوب مسرح القسوة أو فيها سمة منه يقوم على النظرية السادية : التي ترى أن التطهير يحدث في نفس مشاهد المسرحية المأساوية عندما يتمتع برؤية الآخرين يتعذبون أمامه ، وتتضاعف هذه المتعة ، حين يتحقق من أن ما يراه فوق خشبة المسرح ما هو إلاّ تمثيل في تمثيل وليس الحياة المعيشة .. وبذلك الفهم يتمكن المخرج من توجيه الممثل نحو التحليل الأدائي الأكثر دقة لفهم دور (المركيز دي صاد) أو دور الزباء أو ميديا . أما فهم المخرج الذي يتبع أسلوب التغريب الملحمي الذي يركز على الصفة الاجتماعية للدور المسرحي فإنه سيجد في النظرية الإحلالية مدخلاً لرؤيته الإخراجية بملامحها الأيديولوجية المسار ، تلك النظرية الإحلالية التي ترى أن المتفرج عادة ما يتمثل إحدى الشخصيات المأساوية التي تعاني الأزمة المعذبة ، وبعدما تنتهي المسرحية ، يداخل المتفرج نوع من السرور الناتج عن شعورين:
أ‌) شعور بأن الأحداث المفجعة لم تحدث له حقيقة
ب‌) شعور مترتب على الشعور الأول يتمثل في أن متاعبه الشخصية ليست كارثية ، كتلك التي رأها تحدث للشخصية المسرحية التي شاهدها ، وهي محتملة الحدوث .
فذلك ما يحدث لعامل شاهد مسرحية (الاستثناء والقاعدة) وتمثل شخصية (الأجير) أو شاهد (السيد بونتيلا وتابعه ماتي) وتمثل (ماتي) أو تمثلت مشاهدة الأم في (الأم شجاعة) . وينطبق ذلك أيضاً بالنسبة له بوصفه مخرجاً على طريق الأيديولوجيا حالة ارتكازه على النظرية التعليمية التي ترى أن المشاهد لموقف درامي تطهيري ، عندما يشاهد معاناة البطلا لمأساوي، فإنه يتعلم عن طريق أحاسيس الخوف والشفقة المستثارة – أن انفعالات البطل الشرير كما هو حال "ياجو" أو " شايلوك" أو "يهودي مالطه" في مسرحية (مارلو) ومن ثم عليه أن يتجنبها.
أما تصديه لإخراج مسرحية مثل (سوء تفاهم) لألبير كامي فهي تحتاج منه إلى استظهار (النظرية الطبية) تلك التي ترى أن عاطفتي الخوف والشفقة تزيد في نفوس بعض المتفرجين على الدرجة أو الكمية التي لهاتين العاطفتين ، بما يترتب عليه إحداث باثولوجية ، انطلاقاً من الفكرة التي تقول : (وداوني بالتي كانت هي الداء) ومن ثم يشعر المتفرج غير المتوازن انفعالياً بالامتاع الذي يعيد إليه توازنه الانفعالي الصحيح.
أما النظرية الدرامية التجريبية : فترى أن المتفرج يستمتع بخوض تجربة الانفعالات المقدمة له عبر منظومة متشظية لصور غير مألوفة وغير مسبوقة لمشاهد الخوف والشفقة دون أدنى إحساس منه بأنه مطالب بالتوحد مع ما يعرض عليه . وبذلك يرى نفسه في منأى عن أية أضرار شخصية يمكن أن تقع عليه . ويدخل في إطار تلك النظرية كل العروض المسرحية الحداثية التي تتعدد دلالات تلقيها إلى جانب العروض المسرحية المابعد الحداثية التي تفكك الأنساق الفنية في بنائها المتشظي ، والذي تتداخل أزمنة أحداثه وأمكنتها .
وعلى الرغم من أن النظرية التطهيرية المقارنة التي تأسست على مآخذ أفلاطون وهجومه على المسرحية المأساوية بدعوى أنها تثير في نفس مشاهدها عاطفتي الخوف والشفقة الأمر الذي يضعفه انفعالياً ، ومقارنة مآخذ أفلاطون تلك بالردود التي عارض بها أرسطو أستاذه حيث رأى أن إثارة هاتين العاطفتين في نفسية المشاهد تخلصه منهما ، ومن ثم يحدث التطهير، الذي يجعل الشخص أفضل صحياً وأقوى انفعالياً .
فإن دارسي المسرح الدرامي في اعتمادهم على النظريات العلمية المتصلة بنظرية التطهير يتوجهون بأنظارهم نحو تلك النظريات تبعاً لقرب إحداها من طبيعة الأسلوب الذي تنبني عليه المسرحية في اتجاه تحقيق الأثر التطهيري درامياً وجمالياً.
فالنظرية التماثلية التي ترى أن التطهير يجب أن يقع بطريقة مماثلة لشخصيات المسرحية ذاتها قبل أن يؤثر في الجمهور المشاهد. ولنا أن نلاحظ حالتي الخوف والشفقة اللتين تشعان على هاملت ، قبل أن تؤثر على متفرجيها ، وسيطرتهما على (أوديب) وعلى (بيكيت) وعلى (مس جوليا) وعلى (كوراج) في (الأم شجاعة) لبريخت على الرغم من بنائها التغريبي وعلى (جولييت) وعلى (ديدمونة) . كذلك يتماثل حالة التطهير ما بين جمهور (جريمة قتل في الكاتدرائية) و (بيكيت أو شرف الله) وكلتاهما تتناول حياة القديس توماس بيكيت قبل تعيينه قديساً لانجلترا (رئيساً لأساقفة كانتربيري) حيث يتطهر من رذائل ماضيه في مصاحباته العربيدة مع الملك هنري الثامن فور تعيين الملك له رئيساً للأساقفة .
إن التحول من حياة العربدة التي عاشها (توماس بيكيت) عندما كان صاحباً للملك هنري الثامن إلى حياة الطهر والتقى فور تعيينه رئيساً للأساقفة لم يكن متوقعاً من قبل صديقه الملك الذي عينه ليؤمم له أموال الكنيسة الإنجليزية وأوقافها التي تؤول حصيلتها إلى الكنيسة الأم في روما لذلك يصاب الملك بحالة من الإدهاش نظراً لوقع المفاجأة عليه ، كذلك تصيب المتفرج حالة من الإدهاش ، نظراً لمتانة الرابطة التي رأها في علاقة (بيكيت) بـ(الملك) وفي ذلك إبطال لأفق التوقعات الذي ركن إليه المتفرجون ، كما ركن "الملك" نفسه إليه . ومناقضة التوقع تحدث الصدمة ، وتحرك الشعور المتلقي للصورة أو الموقف ، لأنه يكشف عما وراء المظهر الذي يتسم به الفعل الدرامي بطريقة غير سابقة التخطيط ، وهي في الوقت ذاته تشي باحتمال تدبرها وفق تخطيط سابق في ضمير الشخصية ، يقول أرسطو : " الإدهاش المتولد ، يكون أعظم مما لو وقعت هذه الأحداث من تلقاء ذاتها ، أو بالمصادفة . وحتى الأحداث التي تقع اتفاقاً ، أو بالمصادفة تبدو أكثر إدهاشاً عندما تتم ، وكأنها وقعت عن سابق تخطيط "
فالتأثير الأمثل للحدث في التراجيديا من حيث إثارة الخوف والشفقة يتحقق بتحقق عنصرين – وفق أرسطو-:
أ‌- الوقوع الفجائي ، غير المتوقع للحدث
ب‌- تتابع الفعل وترتب كل فعل على فعل آخر في الوقت ذاته .
على أن التماثل في المثير الشعوري بالتعاطف والتخوف مع الشخصية المسرحية لا يتحقق عن طريق التحول المتماثل ما بين الشخصية والمتفرج إلاّ إذا تشابه المتفرج مع الشخصية . وذلك شرط التحول التراجيدي كما نص عليه أرسطو .
وهنا يجوز لنا القول بأن فكرة التوحد أو عدوى الاندماج بين الممثل وجمهوره وفق شروح النظرية الأرسطية، تتناقض مع ذلك الشرط الأساسي للتحول عند المتفرج ، ذلك أن التحول ، الذي لا يتحقق عند المشاهد غير المتشابه مع الشخصية التراجيدية المعروضة أمامه بالتجسيد الأدائي . وهنا تسقط نظرية الاندماج أو التوحد الجماعي بين جمهور العرض المسرحي مع الشخصية إذ يقتصر ذلك على المتفرج المتشابه مع الشخصية المعروضة .



#أبوالحسن_سلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العرض المسرحي المقروء والعرض المسرحي القاريء بين الامتاع وال ...


المزيد.....




- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أبوالحسن سلام - الاخراج المسرحي وتجليات الفاعل الحضاري