عبداللّطيف الوراري
الحوار المتمدن-العدد: 2350 - 2008 / 7 / 22 - 11:03
المحور:
المجتمع المدني
بعد نُزْهته في غابات الماديّة والبنيوية والتّفكيك،
عبدالوهاب المسيري ودّعنا وهو يصرخ:كــــفى !
1.
برحيل المفكّر المصري عبد الوهاب المسيري، عن عمر يناهز السبعين بعد صراع مع مرض السرطان،تكون ثقافتنا المعاصرة قد طوت صفحة أخرى من نضال مثقّفيها الأنواريّين الّذين جعلوا من الالتزام في الحياة والكتابة معبراً للخلاص،وتجاوز ما هو كائن من واقع اليأس والإحباط والهزيمة الّذي ينخر قطاعات واسعة من المجتمع تحكمه أنظمة جبريّة تضطهده، وتقمع حريّاته بشكل صارخ يجعل أيّ أمل في الديمقراطيّة والعدالة والرّفاه الاجتماعيّ بعيد المنال.لقد ظلّ الرّاحل من طينة المثقّفين الحقيقيّين ، شديد الانتباه لما يحدث حوله،وظلّ،حتّى في لحظات من مرضه وإعيائه، يناظر،ويحاضر،ويتّهم ويقود حركة «كفاية»المعارضة لنظام الحكم في مصر تحت هراوات شرطة الشغب،مُنحازاً إلى مصالح الناس، وليس مصلحة أهل الحكم والسلطة الّتي زهد في ما لديها من منافع ومناصب لا تورث إلّا الذلّة.
2,
في شخصيّته الموسوعيّة، جمع المسيري بين أصالة الفكر النّقدي والتحلّي بالشجاعة العلميّة والإخلاص للحقيقة الّتي لا يهادن أحداً من أجل أن تُقال.ولهذا،عاش طيلة حياته مفكّراً جامعاً ومتأمّلاً في مشكلات العلم المعاصر،وملتزماُ بقضايا النّاس وعذاباتهم حتّى صار يُضفي،خارج البهرجة الإعلامية والدعاية المغرضة،على شخصه وفكره صفة "المثقف العضوي" الّذي تشبّع بأسلحة النّقد الّتي مكّنته منها العلوم الاجتماعيّة،فكان دائماً في حالة انْدفاعٍ وحركة،وتورّط بصورةٍ فاعلة في المجتمع حيث رأيْناه ينزل الشارع،ويقود المظاهرة،ويخطب في النّاس وضمائرهم،ويحرّض.إنّه كان يُحرج زملاءه من الأكاديميّين والموظّفين والكهنة الّذين ظلّوا في أماكنهم داخل الأسوار يهدّئون الأوضاع،ويعزّزون الإجماع الكاذب وراء البراهين النّاعمة والأفكار المطمئنّة.
3.
إلى ذلك،كان تضطرم في شخصيّة المسيري الفكريّة روح القلق الذي جعله لا يستقرّ في موضع،بل يتنقّل بين مواقع مختلفة من عمل الفكر الّذي رهنه بحركة المجتمع والتّاريخ. بدأ نشاطه ماركسيّاً يفكّر بالماديّة الجدلية،ثمّ منشغلاً بالفنّ والأدب المقارن،قبل أن يتفرّغ لمحاولاته المجتهدة من أجل عصرنة الإسلام،بما في ذلك دعوته إلى فصل الدولة عن الدين في «علمانية جزئيّة» لا يمقتها الإسلام.لكنّ أهمّ ما اشتهر به المسيري في الوسط الثّقافي هو مشروعه النظري والنقدي الضّخم الّذي كرّسه لتفكيك الصّهيونيّة وادّعاءاتها وأساطيرها،بدءاً من كتابه«نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفكر الصهيوني» عام 1972,ومروراً ب«موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية: رؤية نقدية» و«الأيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة»،حتّى أثمر المشروع موسوعة «المفاهيم والمصطلحات الصهيونية» التي استغرقت منه نحو ربع قرن بجهوده الذاتية،ونشرت تحت عنوان «موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد» عام1999 ،الّتي لم تكن رؤيته فيها تفكيكيّة بقدرما أرادها رؤية تأسيسية تطرح بديلاً.ونذكر كيف جلب عليه ذلك انتقاداتٍ من أغلب النخب العربية والإسلامية حين فرّق بين اليهودية والصهيونية وإسرائيل،و تهديداتٍ من الصّهاينة له بالقتل إن مضى قدماً في موسوعته حين تبنّى أطروحة نهاية دولة إسرائيل بسبب خاصّتي الاعتمادية والإحلالية الّتي تتميّز بهما،لكنّ المسيري الّذي تقوده بصيرة المثقّف وإرادته العارفة لم يخْش أحداً ،ولا أعوزته الشجاعة في طرح أفكاره،والتمسّك بخطاب الحقيقة.ولن يدخل المشروع الهائل التّاريخ بأن سدّ نقصاً بائناً في المكتبة العربية فحسب،بل يتوجّه إلى المستقبل وهو يُوقظ الذاكرة الجماعيّة لأجْيالٍ قادمة. قبل أيّام من رحيله ،كتب المسيري بمناسبة الذكرى الستين للنكبة: "إن ذاكرة الشعوب أقوى من كل محاولات ومؤامرات المحو والتضليل، وستظل الشعوب العربية وشعوب العالم الحر تتذكر أن فلسطين ارض عربية تم اغتصابها بقوة السلاح الغربي وتحت مظلته، ولكنها لن تبقى كذلك لأننا لن ننسى ولن نسكت".رجل المستقبل،بامتياز.
4.
في لجّة الفكر ومعترك الحياة اليوميّة مات المسيري(1938/2008)،لكنّ مشروعه في العلم والتّنوير والالتزام لن يموت.إنّه،أيضاً،درْسٌ بليغٌ لأولئك المثقّفين الّذين انفضّوا عن مسؤوليّاتهم،وسكنوا الأبراج العاجية في عالم متحوّل،وكرّسوا عملهم للموضوعات المعقّدة والإشكاليّات الملغزة الّتي زوّجت التّاريخ بالميتافزيقا الضّحلة،أمّا أنصافهم وأرباعهم فإنّهم ملأوا على النّاس سماءهم بالثّرثرة الّتي تضطرّهم أن يقولوا كلّ شيء لإثبات حضورهم الغائب.أمّا المسيري،ومن في طينته أمثال طه حسين ومالك بن نبي وإدوار سعيد ومحمد عزيز الحبابي وهشام شرابي وغيرهم،فإنّه قام بوظيفته الطبيعيّة كمثقّف حقيقيّ وضروري.إنّنا لن ننسى صرخته المدوّية ليس في وجه نظام الحكم بمصر فحسب ،بل أيضاً في وجه الطّاغوت، والظّلم ، والسلطات الجائرة وغير الشرعية ، وصمت المثقّفين ، والاستقالة من العصر ، وضياع مقدّرات الأمة ، وامتهان كرامة النّاس ... :كــــــفى !
ـــــــ
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟