ان معاناة العراقيين الطويلة وحاجتهم للديموقراطية ومؤسساتها بعد سنين من القحط الأجتماعي , ساهما في تأسيس الكثير من الأحزاب السياسية والمؤسسات المدنية والحقوقية الى جانب العديد من المجلات والجرائد . ولا نجده مناسباً التشكيك بما يحدث ومبررين ذلك بأن مشاكل العراق الحالية لا تعالج بكثرة الأحزاب , خصوصاً وان ما يحدث الأن بالعراق لم يزل في دائرة رد الفعل الطبيعي على سنين الغياب والتغييب .
لكننا نعتقد ان المشكلة ليست في تأسيس الأحزاب ولكن في الأفكار والمصالح والدوافع التى تقف خلفها , ما يدفعنا ان نسأل بحرص وحذر هل تأسيس هذه الأحزاب جاء لحاجات وضرورات داخلية - كما عودتنا الأحزاب الكبيرة بأن وجودها جاء لضرورات تأريخية او دينية او قومية - وأنها بنى سياسية وأجتماعية تكونت في مجرى الصراع والتطور ؟ وهل هي فعلا أحزاب مختلفة ؟ وهل تمتلك برامجاً سياسية - مرحلية او
ستراتيجية - لتطوير الحياة الأجتماعية وتغيير أليات العمل السياسية والتنظيمية ؟ اضافة الى الكثير من الأسئلة المؤجلة بسبب عدم اكتمال تشٌكل الظاهرة وهشاشة ملامحها . لكننا نستطيع ان نستبق الأمور بالقول ان كل الأحزاب السياسية بالعراق تشكلت من طينة واحدة هي طينة الشعب العراقي وإن اختلفت التوجهات الفكرية والمصالح السياسية والأهداف المحلية او القادمة من خلف الحدود . واذا أخذنا بالحسبان الخروج الحديث العهد من الريف الى المدينة لغالبية أبناء الشعب العراقي , حاملين معهم بساطة الحياة وروح التملك البدائية ومطاردين بذكريات حزينة لشيوخ وسراكيل قساة ورثوا الأمر منذ ان كان العراق بستان لقريش ولحين جنون النفط , لأدركنا تنوع وقساوة وحزن المشهد السياسي العراقي الذي أرجع البعض أسبابه الى التناقضات الطبقية - على الرغم من عدم اكتمال التشكل الطبقي لبلد متخلف كالعراق - وأرجعه أخرون الى التنوع المذهبي والعرقي .. الخ وكلهم على حق يدعمهم في ذلك لون الطين وقدرته على التشكل والتنوع .
الوضع السياسي المأزوم بالعراق يعطي انطباعاً سريعاً للمراقب مفاده ان احتدام الصراعات والتناقضات السياسية غالباً ما يؤدي الى انحسار مساحة التشابه بين الأحزاب من الناحيتين السياسية والتنظيمية على افتراض البداهة السياسية المعروفة لدى الجميع بخصوص تشكيل الأحزاب الممثلة لأتجاهات مختلفة ومتصارعة أحياناً , لكننا لم نسأل أنفسنا في حالة الأحتدام والتصارع هل تتبادل هذه الأحزاب المتناحرة أحيانا ً المواقف والمواقع ؟ اوتتفق وتتحد وتنفصل ليأخذ بعضها من بعض ويؤثر بعضها بالأخر. ولكي لا نحرك عش الدبابير من البداية دعونا نبدء من المشتركات العامة , فأحزابنا على العموم كلها تنادي بمعادات الأستعمار والأمبريالية والعمل على مصلحة الوطن , وكلها تتمترس خلف شعارات الديموقراطية والعدالة ومستقبل الأمة ستتخلى عنها حال وصولها الى سدة الحكم . وعلى الرغم من ان السياسة عمل مستمر يحتمل الصواب والخطء فأن جميع السياسيين تسلحوا بفن التبرير والأبتعاد عن الأعتراف والنقد والنزوع الى ستر الأخطاء ولوم الأخرين عليها , وعدم ترك المناصب الحزبية والسياسية إلا بعد هزات وانشقاقات وهزائم . ان تنوع الأحزاب وسياساتها وصراعاتها لا تلغي المشتركات بقدر ما تؤكدها , وهذا يعرفه الكثير من اليساريين الذين تركوا مواقعهم صوب الأحزاب الأسلاموية من دون ان يشعروا بالأغتراب او التناقض .
ومن المشتركات الأخرى تزامن تأسيس الأحزاب في مرحلة معينة وامتلاكها أنظمة داخلية متشددة جميعها بنظام العقوبات الذي يصل الى حد التصفيات أحياباً بعيداً عن القانون والدولة , وولعها بأساليب العمل السري وصون اسرار الأخوان والرفاق وأنتحال أسماء وألقاب مستعارة ورموز واشارات داخلية ( لغوية , حركية , شرائط او أعلام ملونة , ربطات عنق او عمائم, أيات وصور وشعارات تحمل في اماكن معينة ) تمنح المؤسسة السياسية قوة داخلية من جهة واخرى تكسبها المهابة والأحترام عند الخصوم , اضافة الى الحماية المتجددة بتجدد أساليب العمل السري . وهذه الأساليب - العمل السري ,المركزية , العقوبات .. الخ - المرتبطة بظروف العمل الصعبة غالباً ما تبقى مصاحبة للعمل السياسي حتى بعد وصول تلك الأحزاب الى سدة الحكم , وعدم ادراك الفارق بين ان يكون الحزب معارضاً وبين ان يكون قائداً للحكومة .
صحيح ان التسميات الداخلية والمصطلحات والشعائرالاحتفالية مختلفة من حزب الى اخر, لكنها في المحصلة تغرف من نبع واحد وتعطي نتائج متقاربة . خذ مثلاً عملية الأنتساب لهذه الأحزاب , نجد الخطوة الأولى -عند الجميع - دوماً مصحوبة بمعسول الكلام ومصطلحات مترعة بحب الوطن وخدمة الأخرين والتفاني بالعمل والأيمان و.. الخ , وفي الخطوة التي تليها يجري تدريبهم على الطاعة - للسيد , المؤسسة , الحزب - وتعميق شعورهم وثقتهم بالمؤسسة وبأن لهم قيمة حقيقية في المجتمع , تتطلب توسيع ثقافتهم ومعارفهم وايمانهم , الى جانب تقوية الشكوك بالأخر المتربص بهم .
في الخطوة الثالثة يجعلون منهم جزء فعال من الدائرة الصغيرة التي يعملون فيها والتي يجب على كل فرد ان يحبها ويحترم قراراتها ويصون أسرارها .. اضافة الى توسيع العلاقات بمن هم خارج الدائرة لأكتساب الخبرة والمرونة والصلابة . في الخطوة الرابعة يكون المنتسب أكثر قوة والتزاماً ومسؤولية , وقدرة على قيادة من هم أدنى وتدريبهم وتثقيفهم من دون تجاوز الخطوط الحمراء التي تمس أمن المؤسسة . في الخطوة الخامسة يجري فيها الأقتراب من الذين يمتلكون قوة صنع القرار والفتوى وتسيير الأمور الهامة , والمعرضة حياتهم دوماً للخطر. وفي الخطوة السادسة سيكون من دائرة صنع القرار الصغيرة والمكثفة , لتكون فيها المؤسسة السياسية اهم شئ ويستوجب بقائها التضحية بكل شئ , الى حد القتال دونها وتصفية الأخر من أجلها .
هذا الاسهاب عن الأنتساب الى الأحزاب العراقية اردت منه هدف واحد فقط , هو الربط بين الخطوة الأولى وبين الأخيرة , وكيف يأتي المنتسب بريئاً وطنياً لينتهي مشروع جلاد . ولكن هذا لايعني ان جميع الأحزاب والفرق الباطنية لها نفس التسميات والمراحل والخطوات , لكن النتائج عموماً متقاربة . المشكلة ان الخطوة الأولى - بسبب النية الطيبة - ارتبطت عند الجميع بالكذب المتدرج .. قطرة فقطرة على أساس ان علم السياسة مر ولا يمكن تجرعه دفعة واحده , تليها خطوات تغير فيها طعم الكذب وتبريره ليتحول الى الكذب على النفس وعلى الأدنى مرتبة .. ليبدء الجميع بتلقين الجميع بأنهم ارتبطوا بالمؤسسة عن وعي وأيمان ومعرفة واصرار ووو .. مع ان التجربة السياسية ( حداثة العهد بالمدنية , الأمية والتخلف , صغر سن الأنتساب ) بالعراق تقول عكس ذلك , وان الأغلبية ما زالوا اميين بالسياسة وتحركهم مشاعر يومية بسيطة .
وبهذا نعود الى النقطة الأولى ونسأل أحزابنا الجديدة والكثيرة .. هل التنظيمات الباطنية قدر ؟ وهل في الطين العراقي من جديد يستطيع اخراجنا من دائرة الأحزاب الكلاسيكية ؟ وهل سيأتي اليوم الموعود الذي سنودع فيه بطاقتنا الأنتخابية لحزب عراقي يمثلنا .. أو سنأخذها معنا الى القبر؟؟