ثمة صعوبة مفهومية واضحة في تعريف الطافر والسوي. فالطافر, طافر بالنسبة إلى من ؟ والسوي سوي بالنسبة إلى من ؟ وما هو المعيار الذي يحدد على أساسه ذلك ؟ أليست وحدة القياس والمعايرة نفسها متغيرة بما يجعل المفهوم المحدد للطفور نفسه متغيراً ؟ يقول مات ريدلي في كتابه (الجينوم): " أحد المفاهيم التي اتضحت في العقود الأخيرة , هو بالضبط مدى صعوبة تعريف ما يكون سويا وما يكون طافرا ". بيد أن المتعارف عليه هو القياس على السائد. بمعنى أن يكون النمط الأكثر سيادة , أي الأكثر انتشارا هو السوي , والنمط الأقل انتشارا وسيادة هو الشاذ أو الطافر. أي , بتعبير آخر , تكون الأغلبية هي السوية والأقلية هي الشاذة بصرف النظر عن طبيعة كل منهما!
من المعروف في البيولوجيا " أن الطفرات مصدر هام للتغيير الوراثي الضروري للمرونة في عملية التكيّف ". فثمة طفرات تحدث رغم آليات الضبط الشديد التي تحكم عمليات التضاعف الوراثي. أمّا نسبتها فتكون صغيرة جدا , بل قريبة من واحد من عشرة بلايين , كما يؤكد رادمان وفاغنر الباحثان البيولوجيان اللذان أخذنا المقبوس السابق من مقالهما (الأداء العالي الدقة في تضاعف الدنا) , ذلك أن من شأن نسبة أعلى من الطفرات أن تكون ذات خطر على النوع البشري , الذي تتضاعف ذخيرته الوراثية خلال عملية بنائه بدءا من بيضة ملقحة إلى كائن بشري كامل حوالي مليون بليون مرّة.
بيد أن القدرة على الطفور , بحد ذاتها , تعادل القدرة على الحياة في الظروف الاستثنائية. أي هي مؤشر تكيّفي يضمن بقاء النوع , على الرغم من التغير الحاد الذي يطرأ على وسطه المحيط. وبالتالي فاستمرار الحياة في ظل ظروف متغيرة لا يكون ممكنا دون القدرة على الطفور. وهذا يعني أن الطافرين يكونون في حالات الشدة ثروة على النوع المحافظة عليها. وذلك " يتجاوز مجال البيولوجيا - كما يقول البير جاكار - من باب أن غنى زمرة ما يأتي من طافريها , أي متمرديها , ومن طفراتها البيولوجية ". ويتطابق هذا القول إلى حد بعيد مع ما عاد رادمان وفاغنر ليؤكداه في مقالهما المشار إليه أعلاه. ذلك أنه " في بعض الأحوال قد يتوقف مستقبل إحدى الجماعات الحية على قدرة أفرادها على الطفور ومن ثم قدرتهم على التكيّف مع الظروف المحيطة بهم" . أمّا دراسة سلوك وبيولوجيا الكائنات الحية الدقيقة فتقول , إضافة إلى ذلك , بزيادة القدرة على الطفور في ظروف الشدة. بينما تقل هذه القدرة في ظروف الحياة والنمو المواتية , حيث لا يكون هناك ما يدفع باتجاه التغيير أو يقتضيه. يقول البيولوجي فيلكوف في مقال له بعنوان (الشدّة مسرِّعة التطور) : " من شأن الشدة الواقعة على مجتمع الكائنات الحية في الحالات الحديّة أن تقود إلى زيادة كبيرة في تنوعه الوراثي , وبالتالي إلى زيادة احتمال أن يتمكن أحدٌ ما, بفضل الطفرات , من تجاوز الأزمة والخروج منها متجددا ". ويؤكد أن الارتفاع الحاد في معدّل ظهور الطفرات يعود بدرجة أساسية إلى آلية تطفير خاصة تقلع في الظروف الاستثنائية. ومع أن الحديث , هنا , يدور عن كائنات حية دقيقة وليس عن الإنسان , إنما نحن البشر نشترك مع صاحبة المثال بالمادة الوراثية وبعناصر الحياة كلّها , ونختلف عنها فقط بنظام ترتيب المعلومات الوراثية. أمّا قوة المثال البيولوجي وقوة حضوره ثقافيا فتدفع المؤلف إلى تسمية المتعضيات الطافرة ب" الشبان المغامرين" و" الأبطال الطافرين" . وهؤلاء لا تتجاوز نسبتهم , وفق بعض التقديرات , واحد إلى عشرة آلاف وتكون وفق تقديرا أخرى أقل من ذلك بمائة مرة (ولا أعتقد أنها أكبر من ذلك عند الكائنات الكبيرة العاقلة). أما هؤلاء الطافرون فيجب حمايتهم في لحظات الشدة , حين تقتضي ضرورة البقاء أن يفعل أحد ما شيئا استثنائيا من أجل حماية المجتمع وتطوره. بل يجب ترسيخ مأثرتهم في الذاكرة من أجل أنهم غامروا بحيواتهم ليخرجوا بالمجتمع من الأزمة وليستكشفوا طرق تطوّر جديدة.
إذن , فثمة ظروف غير ملائمة للحياة , ظروف شدة , تدفع الكائنات الحية باتجاه التحّول الوراثي , باتجاه إعادة ترتيب المعلومات الوراثية في مغامرة كبيرة قد تقود إلى البقاء على قيد الحياة وقد تقود إلى الفناء. بيد أن الطبيعة عززت , من خلال قدرة الكائنات على التحوّل , فرص بقاء هذه الكائنات وتطورها. وإذا كان في الإصغاء إلى الطافرين المتمردين مغامرة فإنها مغامرة ضرورية من أجل البقاء والتطور. أمّا من أهم استراتيجيات المغامرة التي تسلكها الكائنات الحية فواحدة تسمى ب (الانتظار المغامر) , حيث يقود (المتعقّلون المبتذلون) بانتظار أن تتحسن الظروف من تلقاء ذاتها المجتمع إلى الهلاك , ؛ وثانية تسمى ب (التبدّل المغامر) حيث يكون الرهان على إمكانية حدوث طفرة مفيدة تلائم الظرف الجديد ؛ وثمّة استراتيجية ثالثة , وهي الأهم , تسمى ب (الطفور التكيفي). وتحكم هذه الاستراتيجية آلية تجمع بين الدقة والمرونة , فما أن تسوء الظروف أو يتعرض المجتمع لحالة شدة حتى تتوقف معظم الخلايا عن النمو والتكاثر وتخفّض نشاطها الحيوي إلى الحد الأدنى الذي يبقيها حية , وتبدأ عملها , بالتوازي مع ذلك , آلية تسمح بحدوث طفرات تكيفية.
ومن جديد نعود من البيولوجيا إلى الثقافة لنتساءل: إذا كانت آلية الطفور والتمرد في برنامج الكائنات الحية ومنها الإنسان , عنصرا معادلا للبقاء , فهل يكون الطفور الثقافي بالنسبة للكائن الثقافي إلا معادلا لبقائه ثقافيا ؟ ومنه , فليس غريبا أن نرى عند البشر كما عند البكتيريا من يلجأ إلى نفسه بانتظار تغيّر الظروف نحو الأفضل , ومن يدخل سكون اللامبالاة بانتظار أن تنقضي حياته كفرد , ومن يدعو إلى التغيير جاعلا من نفسه مثالا يحتذى.
وبين الثقافة والبيولوجيا نتوقف , من جديد , عند نقطة جوهرية : فلا أهمية للنموذج أو للنمط الطافر ما لم يكن تكاثره وانتشاره في المجتمع ممكنا. فقوة النموذج تتجلى في قدرته على الانتقال ,على الانتهاء إلى الآخرين وليس في أن ينتهي إلى ذاته وينتهي معه العالم. ولمّا كان الخطر الأخير قائما باستمرار , حيث الطافرون معرضون للإقصاء والموت , كان لا بد من آليات تحميهم وتحمي المجتمع من خلال علاقة خاصة بهم. فالمراهنة عليهم وحدهم تعني مغامرة قد تكون نتيجتها الفناء. ولذلك لا بد من وجود استراتيجيات تحمي المجتمع من جهة وتتيح , من جهة ثانية , لهؤلاء المغامرين الأبطال التحوّل وفق مقتضيات المستقبل وآفاقه.
أخيرا , ونحن نجنح إلى الثقافة , آخذين بعين الاعتبار تجربة أقربائنا من الكائنات (الدنيا) الذين لم يُتَح لهم أن يكونوا كائنات بيولوجية ثقافية كمثلنا , نقول: ما زالت ثقافتنا خالية من آليات تضمن البقاء والتطور , فهل يأتي يوم نتعلم فيه قياس قدرتنا على التكيف والتطور والحياة بنسبة الطافرين المتمردين الذين يخالفوننا الرأي , ونتعلّم أيضا كيف نصونهم وكيف نتيح لهم وسائل التعبير عما يحملونه من عناصر المستقبل و نبحث عن وسائط الاتصال بهم ليتمكنوا من زرع المستقبل في رؤوسنا الساكنة بانتظار أن يأتيها التغيير من السماء.