من تقاليد العراقيّين السومرية احترامُ المرأة؛ ولا أدلَّ على ذلك من أنّهم اعتبروها بوّابة الحضارة، ولقاريء ملحمة كلكامش أن يلاحظ أنّه لم يُخرج أنكيدو من بداوته إلى عالم المدينة والحضارة إلاّ امرأةٌ عاشرها ستّة أيامٍ وسبع ليالٍ؛ فجاء من ذلك مصطلح أسبوع العرس عند العراقيّين، فلم يعرفوا معنى " شهر العسل " إلاّ في السنوات الأخيرة.
هذا كلامٌ سبق أن قلتُه ذات مناسبة، وأذكرنيه الآن قرار مجلس الحُكم الانتقالي بإلغاء قانون الأحوال الشخصية الذي يقضي ـ في بنيته العميقة ـ باضطهاد المرأة، وإعادتها إلى عصر الحريم.
وسيقول لي المُخلّفون من الأعراب الذين صوّتوا على القرار بالموافقة: إنّهم اعتمدوا القرآن الكريم في إصدار القرار، وإنّهم أخذوا بقوله تعالى وللذَّكر مثلُ حظِّ الأنثَيْين ، وما إلى ذلك ممّا ورد في الشريعة السمحاء بحقّ النساء.
وأنا مُسلِمٌ أؤدّي فروضي الدينية ما استطعتُ إلى ذلك سبيلا، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، وأؤدّي حتى زكاة الفِطر فلا يُزايِدنَّ على إسلامي أحدٌ. أمّا أنّني أرتكب هذه المعصية أو تلك فأرتكبها كما يرتكبها أعضاء مجلس الحُكم جميعاً لا أستثني أحداً أو يُثبتون لي أنّهم معصومون.
ومن هنا كان لي على القرار ملاحظات هي أقرب إلى الاستياء منها إلى شيء آخر. فمن هذه الملاحظات أن لماذا يؤمن المجلس ببعض الكتاب ويكفر ببعض؟
فإذا أخذ المجلس يآية إرث المرأة، فلماذا لم يأخذ بإقامة الحدّ على شارب الخمر، وقطع يد السارق، ورجم الزاني، وما إلى ذلك؟ لماذا لم يأخذ أم أنّ المجتمع الذكوري لا يتنبّه إلى الشريعة الغرّاء إلاّ حين يتعلّق الأمر بحقوق المرأة؟
صدقتَ يارسول الله بأبي أنت وأمّي حين قلت: " ما أكرمهنّ إلاّ كريم، وما أهانهنّ إلاّ لئيم ".
هذه واحدة فأمّا الثانية التي تدلّ على نيّة مُبيّتة لدى بعض أعضاء المجلس ضدّ المرأة هي أن أباح القرار لكلّ طائفة إسلامية أن تحتكم إلى فقه مذهبها، ولو كان القرار يريد أن ينصف المرأة حقّاً لأخذ بفتوى الأزهر الشريف في أنّه يجوز للمسلم أن يأخذ في كلّ مسألة شرعية بما يريد من فقه المذاهب الخمسة، فبنى على هذا أن يتقيّد القرار بفقه أهل بيت النبيّ الأعظم.
كان يجب عليه أن يتقيّد بالفقه الجعفريّ ـ وأنا أحترم المذاهب جميعاً وأدعو إلى وحدة المسلمين ـ لأنّ هذا الفقه لا يحجبُ ميراث البنت إذا مات أبوها عنها وله عصبة، ولأن هذا الفقه لا يعمل بطلاق السكران، ولا طلاق الغاضب، ولأنّ هذا الفقه لا يأخذ بمبدأ " طلّقتُك ثلاثاً " فيقع على المرأة الطلاق البائن، وهكذا ممّا يحفظ حقوق المرأة.
ومسألةٌ ثالثة هي ما لشيوخ العشائر وللفصل في الأحوال الشخصية؟ ومن قال: إنّهم جميعاً فقهاء؟!
وأريد أن أروي لكم قصّةً وعيتها أيّام شبابي وهي أن أحبَّ شابّ نجفي امرأة ريفيّة أبوها شيخ عشيرة وكانت تحبّه فخطبها منه فلم يشأ تزويجها؛ لأنّه كان يريد تزويجها من ابن عمّها وهي تأبى.
أفتدرون كيف تزوجت من ابن العمّ المبارك هذا؟
والله العليّ العظيم لقد تم عقد قرانها منه تحت التهديد بالبندقية من وراء ستار، فعن أيّ شيوخ عشائر تتحدثون، ولماذا هذه الانتكاسة عمّا شرّعه الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم منذ أربعين سنة ـ ودفع من أجل ذلك، وسواه ـ حياتَه؟
ولماذ العودة إلى العقليّة العشائرية أم أنّ ما غرسه صدام حسين يجب أن ينمو؟!
أحب أن أفهم لا أكثر، ومن قال إن شيخ عشيرتي أوعى منّي وأعقل!
ورابعةٌ عجيبة أو خامسة أو سادسة ـ لا أدري ـ هي أنّني رأيتُ أنّه لا يختلف بعض أعضاء مجلس الحُكم عن عقلية صدّام حسين الذي كان يقطع بالسيف رأس المرأة الزانية ـ هذا إذا آمنّا جدلاً بأنّها زانية ـ ولم نسمع بقطع رقبة زانٍ، فكان من وراثة بعض أعضاء المجلس هذه العقليةَ أن تُعطّل حدود الله على الذكور، وتُطبَّق على الإناث؛ لأنّ أبي لا يقدر إلاّ على أُمي. ولماذا لا يكون ذلك والمجلس أبونا والعراقيّات الفاضلات أُمهاتنا؟! فأيُّ منطق هذا، وكيف يستقيم؟!
أفتونا مأجورين.
لا أريد أن أستطرد فأشير إلىّ أنّه ليس لدينا ـ بحمد الله ـ حتى الآن دستور ينصّ على أن الإسلام مصدر التشريع؛ لأنّنا في مرحلة انتقالية، ولا أريد أن أشير إلى مسائل أخرى؛ لأنّ القرار يحتاج إلى كتابة كتاب وليس إلى مقال، ولكنّني أريد أن أُنبِّه إلى نيّة مجلس الحُكم أن يكون هو الحكومة الانتقالية في نهاية حزيران من هذا العام؛ لذلك أُطالب بإلحاح السيّدات الفاضلات من أعضاء مجلس الحُكم أن ينشرن على العراقيّات والعراقيّين جميعاً أسماء الذين اقترحوا مثل هذا القرار المُخزي، والذين صوّتوا لصالحه؛ لأنّنا نطالب بالشفافية في عمل المجلس؛ ولأنّنا مقبلون على انتخابات آجلاً أو عاجلاً.
ومن هنا يكون من حقّ العراقيّات الفُضليات أن يعرفن صديقهنَّ من عدوّهنَّ وأن يُقرِّرن من سينتخبن.
وأريد لأخواتي الفاضلات وهنَّ يُدلين بأصواتهنّ أن يتذكّرن أنّ زمن الحريم قد انتهى إلى غير رجعة، وأن تقرأ القادراتُ منهنَّ قول أبي نواس:
فما أنا بالمشغوف ضربةَ لازبٍ ولا كلّ سلطانٍ عليَّ أميرُ
بوزنان: 15/1/2004