لا أعتقد أن الشيخ صالح الحصين، الذي أنابَ نفسه عن ممثيلي الحوار الوطني، قد أصابَ عندما أرسلَ رسالة احتجاجية، دون موافقة من أعضاء الحوار الوطني، للرئيس الفرنسي شيراك، اعتراضاً على منع الطالبات المسلمات لبس الحجاب في المدارس الفرنسية العامة، أو الحكومية، حفاظاً على الهوية العلمانية الفرنسية كما يُبررون، ومنعاً لإثارة فتنٍ طائفية، ودفعاً للفرنسيين المسلمين إلى الاندماج في المجتمع الفرنسي الذي تأتي العلمانية على رأس أولوياته المبدئية .
والسبب في رأيي أن هذه القضية شأنٌ فرنسي داخلي بحت، والتدخل في قضايا الآخرين ليست ـ عادة ـ من أساليب السياسة السعودية . الأمر الآخر أن الأنظمة السعودية تعطي لنفسها الحق بإلزام غير المسلمات في المملكة بزي يواكبُ شروط السعوديين وعاداتهم وتقاليدهم الإسلامية منعاً للفتنة، وبالتالي كيف نرفض أن يُمارسَ الفرنسيون هذا الحق الذي نجيزه لأنفسنا طالما أن المبرر هو نفسه : "منعاً للفتنة" ؟. وأرجو أن يتقبلَ شيخنا الحصين هذا النقد، لا سيما وهو الذي يرأس مؤتمرات الحوار التي تعتمد في منطلقاتها على احترام الرأي الآخر، والتعامل معه بالحوار وليسَ الغضب .
و الذي يجهله ـربماـ الشيخ الحصين هو أن أكثر من 60% من الفرنسيين كما أخبرني شخصياً - المستشرق الفرنسي "جيل كيبل"ـ يؤيدون قرار المنع . والأغلبية في المنطق الديمقراطي الأوربي، والفرنسي ، هي التي تشرع القوانين، وهيَ التي تحدد في النهاية المقبول والمرفوض في كافة المجالات .
من جهة أخرى، فإنني أرى أن هذه القضية قد انتقلت في تناولها وأهدافها من منطقة الحلال والحرام إلى منطقة المزايدات السياسية . وليسَ لدي أدنى شك في أن كثيراً من هذه المواقف المعارضة وعلى رأسها موقف الشيخ يوسف القرضاوي الذي هو أول من أثار هذه المزايدات، كان يكتنفُ أصحابها رغبة عارمة في التألق السياسي والإعلامي . وإلا فإن الحجاب عند المسلمين قضية فقهية خلافية، وليست من المسائل القطعية المتفق عليها. وحسبَ قراءاتي، فإن "مناط الحكم" في مسألة مثل مسألة الحجاب هو "منع الفتنة" .. وعندما يسقط هذا المناط، بل وينعكسُ الوضعُ إلى ضده، أي يصبح الأمر "مثار فتنة"، فإن القضية تتخذ توجهاً آخر. ثم حتى ولو كان الأمر فريضة ، فإن "الاضطرار" هنا كافٍ لقبول هذا القرار كمبرر كما ذهبَ شيخ الأزهر .
وسوفَ أقفُ مع الشيخ القرضاوي بقوة عندما أرسلَ رسالة للرئيس الفرنسي يحتج فيها على هذا المنع على اعتبار أن الحجاب "فريضة" من فرائض الإسلام، لو أنه أرسلَ قبل ذلك رسالة إلى بقية حكام العرب والمسلمين، الذين لا "يفرضون" الحجاب على طالبات المدارس المسلمات في بلدانهم، والتي تنصُ دساتيرهم على "أن الشريعة الإسلامية مصدرٌ من مصادر التشريع"، يحتجُ فيها على تعطيل هذه الفريضة من منطلق شرعي ودستوري معاً . أما السكوت هنا، واعتبار المسألة مسألة "اختيار" كما يراها بعض القادة العرب و المسلمين، والتشنيع على الفرنسيين هناك، والذين لا ينص دستورهم على اعتبار الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع، لأنهم رأوا أن "الحجاب" الإسلامي في المدارس الثانوية والمتوسطة قد أدى إلى إشكاليات خطيرة، من شأنها إثارة نعرات طائفية تهدد السلم والأمن الاجتماعي ، فهو موقفٌ يضعُ الكثيرَ من النقاط على الحروف، ويُفصحُ عن نوايا الشيخ القرضاوي، وهو الإخواني المعروف، الذي اتخذَ موقفه هذا رغبة في النجومية، وتحقيق مكاسب سياسية له ولفرقته على ما يبدو .
وأذكـّرُ هنا الشيخ القرضاوي بقضية "تماثيل باميان" في أفغانستان، والتي يُعتبرُ أمر هدمها منسجماً مع أصول ومنطق أهل السنة والجماعة التقليدي؛ لأن دوافع وبواعث الهدم ترتكزُ على مسألة عقدية بحتة وليست فقهية كما هي قضية الحجاب؛ وكما هو معروف عند أهل السنة والجماعة فإن قضايا العقائد تتقدم على القضايا الفقهية .. والسؤال : لماذا وقفَ القرضاوي ضد الهدم هناك، وسافر إلى أفغانستان أيام طالبان للتوسطُ لتماثيل باميان، وإنقاذها من الهدم، في حين أنه أرعد وأزبد محتجاً على قضية منع الحجاب في فرنسا مع أنها مسألة فقهية وليست عقدية؟. وهذا لا يعني أنني مع أو ضد هدم تماثيل باميان، إنما أردتُ أن أبينَ مدى التناقض في المواقف، وكشف تكتيكات "الإخوان المسلمين" في التعامل مع القضايا الدينية من منطلقات اللعب على عواطف الجماهير بمعايير الكسب و الخسارة سياسياً .
الأمر الآخر والمثير للضحك، أن العلماء المعترضين على منع الحجاب في مدارس فرنسا، وجدوا أنفسهم ـفجأةـ يُدافعون عن المذهب العلماني، ويتكئون في مرافعاتهم في الدفاع عن الحجاب على مفاهيمه. والمنزلق الذي انزلقوا فيه دون شعور منهم على ما يبدو هو إقرارهم ضمناً ، وبهذه الممارسات، بشرعية "الميكافلية" كمنهج، والتي تؤكدُ أن "الغاية" تبرر الوسيلة .. فطالما أن "الوسيلة/ العلمانية" في هذه القضية مرفوضة من حيث المبدأ حسبَ معاييرهم، فكيف يجيزونها هنا حتى وإن كانت الغاية مشروعة ؟ . ألا ينسفُ ذلك الكثير من معاييرهم منهجياً ؟ . أتمنى أن أسمع من الشيخ القرضاوي، أو أحد أقرانه من الإخوانيين، ما يوضحُ لي مثلَ هذه الإشكاليات المنهجية التي عجزتُ بصراحة عن فهمها.