أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - باسل الأصبحي - حتى تعلموا لما نصبتُ حبل المشنقة؟















المزيد.....

حتى تعلموا لما نصبتُ حبل المشنقة؟


باسل الأصبحي

الحوار المتمدن-العدد: 718 - 2004 / 1 / 19 - 05:23
المحور: الادب والفن
    


دخل قبلي يستأذن أهله بقدوم الضيف، ثم أذن لي بالدخول، خلعت حذاء العمل الثقيل المليء بالثقوب والطلاء ولكني أكتشفت أن جواربي أتعس حالا من حذائي فأصابعي الخمس وعرقوبي وكعب قدمي كلها تضحك! خلعت الجوارب دسستها في الحذاء حتى لا يلحظ رب العمل الذي دعاني إلى بيته وزوجه مأساة جواربي. ولكن قدماي الشهباء بببثورها وكدماتها المتيبسة، وأظافرها المشوهة لم تكن أحسن حالا مما كان يغطيها؟!
أشار إلي بالتقدم والقعود على الكنبة، تقدمت في الحال وقعدت على طرفها من غير أن أضع ظهري على ظهر الكنبة أو ذراعي على ذراعها فأعضائي لم تعتاد التباعد والتوسع في تموضعها بل هي دائما في تقارب وانكماش لتنسجم مع إحساس صاحبها بالضآلة. أحنيت وجهي المسود الكالح من العمل تحت وهج الشمس، وفضلت النظر إلى قدماي التي زويت أصابعها قدر الإمكان حتى لا تظهر أظافري المشوهة، عن النظر إلى وجه سيدي صاحب الورشة التي أعمل فيها. دخل إلى الصالة على نحو مفاجيء أولاد الحج صاحب العمل وهم يصرخون من شدة الفرح "بابا.. بابا" ووثبوا على أبيهم وتعلقوا بذراعة ورقبته بفرح، ثم دخلت حرم الحج لتثني الأولاد عن التعلق بأبيهم، وتتعلل بأن أبوهم جاء من العمل متعب وهو صائم، ولكن الحج أشار إليها أن دعيهم وضمهم إلى حضنه وقبلهم ولم تملك حرم الحج إلى أن تحيط بذراعيها زوجها وأولادها وتدس رأسها بينهم وهي تضحك بدفء، فتمثلت أمامي صورة لدفء العائلة الذي أفتقدته.

صورة لن أنساها ما حييت..

رأيت في أعين أولاد الحج نظرات الدهشة والإنكار من جواب أبيهم هذا "عمو" ، عن سؤالهم عمن أكون؟. وجهي الكالح وذقني الغير حليق، وشعري الطويل الأشعت الجاف من أشعة الشمس وملابسي العتيقة المرقعة نفت أي لمحة تقارب بيني وبين أبيهم، لذا لم يكن من المستغرب أن تنال فكرة أن أبي وأبوه هم أخوة نصيبها من الشك عند الأولاد، لكني لم أهتم وأنشغلت عن نظراتهم تلك بتناول إفطاري الرمضاني الذي دعاني إليه الحج أبن عمي حتى ينال أجر من "فطر صائما". كان المائدة مليئة بالكثير مما اشتهت عيني ولم يتذوقه من قبل فمي، ولكن معدتي خذلتني، وأحزنني أنها أصغر من أن تحمل ما في المائدة..

أشارت إلي زوجة ابن عمي للحاق بها إلى المطبخ، وهناك أخذت تملئ لي الأكياس بفائض الأكل الذي طبخته لهذا الإفطار وتفتح الثلاجة لتلتقط كل ما يصلح للأكل حتى ظننت أنها تهم أن تفرغ جميع محتواها في الأكياس لآخذها معي. توجهت إلى باب المطبخ للخروج إلى ممر يقود إلى الصالة وقفت برهة لأرى نفسي على مرآة كانت مثبتة على جانب الممر، ثم استدرت إليها ممتنا ومودعا، فردت علي بنظرات الشفقة، بحثت في عينيها عن شيئ آخر- عله إحترام أو تقدير أو شي من ذلك- لكني لم أرجع بغير الشفقة..

تخطيت الممر عابرا الصالة إلى باب المنزل حيث ينتظرني ابن عمي ليودعني، وكنت أثناء مشيي باتجاه الباب أسحب إحدى قدماي على السجاد الناعم الثمين لأتحسس كم هو الفرق بينه وبين الأشولة الفارغة التي أبسطها على أرض حجرتي على السطوح من يصدق أن أبي أنا الفقير المدقع وأبو إبن عمي أخوة كانا شريكين في الورشة قبل أن يصير فيها أبي مجرد عامل ومن ثم أخلفه في العمل في سن الثانية عشر لأؤمن لقمة عيشي بعد موته تاركا ورائي من هم في سني يدرسون..

صافحني عند الباب ثم فارقته مودعا ورأسي يحمل مقارنة بيني وبينه، بين وجهه ويده النظرة المملوءة بماء الشباب التي صافحني بها،وحلته الأنيقة، وبين يدي ووجهي وخرقي التي ألبسها، كيف رأيتهم توا في المرآة المثبتة في الممر بجانب المطبخ..

ما ذنبي أن أتى بي أبي إلى الفقر وأتى به أبوة إلى النعيم؟! ما ذنبي أن لم يكن أبي بذكاء أبيه؟! هل كان ابن عمي أكثر مني حنكة وذكاء بأن جاء من أب غني وجئت أنا من أب فقير؟! هل كان لأحدنا الخيرة في أبن من يكون؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كنت قد تعرفت على فتى يدرس في الجامعة في سني أعجبه سعة اطلاعي وثقافتي -على الرغم من أني لم أدرس- بعد حوار دار بيننا حول مواضيع شتى في التاريخ والأدب، وقال أنه سعيد بمعرفتي ويرغب في صداقتي ووعدني بتزويدي بما يمتلك من كتب أو يستعيرها من الجامعة ويعيرنيها بعد أن علم أن حالتي المادية لا تسمح لي بشراء كتب إلى بعد تضييق على المشرب والمأكل. في أحد لقاءاتنا دعاني قبل أن ينصرف للذهاب معه إلى المقهى للقاء أصدقاءه ولكني أعتذرت مشيرا إلى هندامي الذي لا يليق بلقاء طلبة جامعيين، لم يعترض صاحبي ولم يلح علي بالذهاب معه، ولكن في زيارة أخرى لي طلب مني الحضور إلى بيته، فلبيت الدعوة وذهبنا سويا. فتحت لنا أمه الباب ورحبت بي وأفسحت لنا المجال للدخول. هرولنا إلى غرفة نومه الجميلة جدا مقارنة مع غرفتي تلك على السطوح. ومن غير تضيع للوقت فتح خزانة ملابسة وأخرج منه ملابس كان قد أعدها لي نظرا لتقارب أحجامنا ووضعها في أكياس. لم تكن بالجديدة ولكنها ليست بالقديمة أظنها من أوسط ما يلبسه، ثم أشار إلي أن أغتسل وألبس منها حتى نذهب لمقابلة أصحابه في المقهى..

كان كل اثنين أو ثلاثة منهمكين في نقاشات أدبية أو سياسية، وكنا أن وهي قد أنجرفنا في نقاش فلسفي حول المبادئ والأخلاق. كانت أفكارنا متقاربة بل بلغت من المقاربة حد التماثل حتى يكاد يختفي عنصر الخلاف في نقاشنا، وكثيرا ما كانت تبدي دهشتها لهذا التقارب في أفكارنا. كنت معجب بحديثها الذي فاق جمالها، وكنت أنقل اللحظ بين حديثها وعيناها..
تلك المليحة..

كاشفتني قبل أن تنتهي الجلسة ونفترق أنها للمرة الأولى في حياتها تجد من يفهمها وأنها سعيدة بمعرفتي وتتمنى رؤيتي الأسبوع القادم..

لم أتخلف يوما عن جلسة المقهى الأسبوعية، وكنت دائما أنفرد معها بنقاشات جانبية تصل إلى حد الخصوصية. لا تفتئ تشير لي خلالهاعن إعجابها بي..

أربع أسابيع لم تحضر فيها جلسة المقهى! بعد تردد طويل سألت صاحبي عن سر غيابها، فأجابني أنها ذهبت لقضاء شهر العسل مع عريسها متنقلين بين مدن أوروبا. وأعرب عن عميق أسفة لنقله هذا الخبر لي ومدى تحسسة لمشاعري بعد سماع هذا الخبر، فهو كان على علم بتعلقي بها. وقال لي أنه قد دار بينه وبينها جدلا حول مصير علاقتها بي، وكان ردها بالفعل أنها أحبتني ولكن وضعي المادي لا يشجعها على الإرتباط بي. أما صاحبي فكان له وجهة نظر أخرى فهو يرى أنها أستغلتني لممارسة ضغوطها على عريسها الحالي- وهو إبن أحد أثرى أثرياء البلد - ليعجل بطلب يدها خاصة وأنها تعرف أنه مغرم بها وقد كان لها ذلك..

عزمت الذهاب إلى شاطء البحر حيث أذهب كلما حز بي أمر. وقفت عند كشك لأشتري مشروب آخذه معي هناك ولكن صاحب الكشك للحظة لم يعبئ بي وكان ينظر إلى مجمع إستهلاكي من أربعة طوابق، ثم ألتفت لي وأعتذر عن ذهوله عني وبدأ يحدثني عن عجبه من هؤلاء الأثرياء الذين لا يشبعون من جمع المال، وإخذ يحدثني عن تعجبه من صاحب هذا المجمع الذي يملك عشرة مجمعات أخرى منتشرة في البلاد وعشرات محطات الوقود، واليوم بعد تأسيسة لشركة مقاولات يدخل في منافسة أمتلأت بالفضائح مع شركات أخرى للفوز بعقد عمل لترميم الميناء البحري..

حقا إنه لأمر عجيب أن يصر الإنسان على جمع أموال تفوق أضعاف أضعاف متطلباته الحياتية! هل هؤلاء البشر طبيعيون؟! ترى لو تسنى لهذه النوعية من البشر التي لا تشبع ولا ترتوي الإمساك أو التأثير بدفة سياسة مجتمع ماء هل سيراعون مصالح أفراد هذا المجتمع أم سيتغلونه في شهواتهم الإنمائية اللامحدودة؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقفت أنظر إلى الشاطئ الذي كنت أمارس هوايتي في السباحة والغطس فيه أوقات النشوة والنشاط، أوأقعد بمحاذاته مستقبلا صفحته الممتدة حتى خط الغروب في أوقات الحزن وخواء الإحساس، أشكي وأبث له همي فيسمع لي بصمت عميق، صمت من يفكر في الجواب، ثم يرد علي بالصمت، وكان يكفيني منه هذا الجواب! ولكني اليوم أقف وبيني وبينه بوابة لما يسمى "بلاج" قد بني عليه. لتمنعني رسوم الدخول من ممارسة هوايتي مع البحر كلما أردت، ويمنعني موعد إغلاقها من مناجاتي له عند الغروب!
قفلت راجعا تاركا ورائي ملاذا كنت ألجأ إليه فأقذف فيه أحزاني لتذوب وتختفي فيه مع إختفاء آخر خيوط الشمس..

تبا للأثرياء حتى مكان بكآئي صادروه..

في طريق عودتي سمعت حديثا صدر من سيارة فارهة، من النوع الذي لا يتمناها أمثالي ولو في الأحلام، حول حسد الفقراء ونقمتهم على الأغنياء، وهم يتعجبون من ناس لا يرضون بما قسم الله بين خلقه من الأرزاق، ويرجعون أسباب ذلك للحقد الطبقي..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أتيت إلى هذا الفقر بغير رضى مني وسأخرج من هذا الفقر باختياري..

وهذا حقي..!

أسترقت اللحظ إلى حبل المشنقة المدلاة من وسط سقف غرفتي، وعدت لقلمي وأوراقي لمتابعة كتابة بعضا من مذكراتي، حتى تعلموا لما
نصبتُ حبل المشنقة؟
 



#باسل_الأصبحي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- رحيل -الترجمان الثقافي-.. أبرز إصدارات الناشر السعودي يوسف ا ...
- “فرح عيالك ونزلها خليهم يزقططوا” .. تردد قناة طيور الجنة بيب ...
- إنتفاضة طلاب جامعات-أمريكا والعالم-تهدم الرواية الإسرائيلية ...
- في مهرجان بردية السينمائي.. تقدير من الفنانين للدعم الروسي ل ...
- أوبرا زرقاء اليمامة.. -الأولى- سعوديا و-الأكبر- باللغة العرب ...
- ابنة رئيس جمهورية الشيشان توجه رسالة -بالليزر- إلى المجتمع ا ...
- موسيقى الراب في إيران: -قد تتحول إلى هدف في اللحظة التي تتجا ...
- فتاة بيلاروسية تتعرض للضرب في وارسو لتحدثها باللغة الروسية ( ...
- الموسم الخامس من المؤسس عثمان الحلقة 158 قصة عشق  وقناة الفج ...
- يونيفرسال ميوزيك تعيد محتواها الموسيقي إلى منصة تيك توك


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - باسل الأصبحي - حتى تعلموا لما نصبتُ حبل المشنقة؟