أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالآله السباهي - اللطلاطة (3)















المزيد.....


اللطلاطة (3)


عبدالآله السباهي

الحوار المتمدن-العدد: 2316 - 2008 / 6 / 18 - 08:44
المحور: الادب والفن
    


قاسم
من مفارقات الزمن العجيبة، أن عراقيي القرن الماضي، بعد أن خاضوا قتالا عنيفا ضد المستعمرين الانكليز في ثورة العشرين . بدأت خطاهم الأولى في درب الحضارة من البداية ، بينما كان أجدادهم الأوائل، وقبل سبعة الآف سنة، هم اللذين رسموا للجنس البشري حضارته الأولى !
في عشرينيات القرن الماضي، بدأت تظهر المعامل وتفتتح المدارس. فأول مصفاة للنفط في بلد النفط، بنيت في عام 1927 وبنيت معامل للنسيج والسجائر وغيرها.
انتعشت الزراعة في تلك الفترة، بعد أن تحررت من كابوس الضرائب التركية، وأصبح العراق يصدر الحبوب، وخاصة الشعير إلى دول العالم، منها الهند وهولندا والدانمرك، وكانت صادرات الشعير ضعف صادرات التمور على الرغم من غابات النخيل التي هي الأكبر في العالم .
لا تأخذكم النشوة ويسحركم الأمل، فالعراقي لم يجن شيئا من تلك الخيرات، فقد تربعت مئة عائلة إقطاعية متعاونة مع المستعمر في تقاسم تلك الخيرات، وظل الشعب يعاني من فقره وجهله .
إن تراكم تلك المظالم على مدى السنين، أوجد تربة خصبة لنمو الأفكار الجديدة، والتي كانت تدعو الشعب للتمرد على واقعه المأساوي. ساهمت في ذلك روح العصر التي راحت تنادي بالاشتراكية والمساواة، بعد أن تغير العالم بسبب الثورة البلشفية في روسيا.
ففي عام 1924 ظهرت أول مجلة تروج للأفكار الاشتراكية والماركسية، أصدرها حسين الرحال. وراحت الشيوعية تنتشر بسرعة بعد أن قام يوسف سلمان بتشكيل خلاياها الأولى في جنوب العراق عام 1932 ،وهكذا أصبح (فهد) الاسم الحركي لذلك الرجل مثالا للشباب المتمرد على الظلم، وخاصة بعد أن أعدمته الحكومة العراقية العميلة للإنكليز في نهاية الأربعينيات. وهكذا أصبح الشعار الذي أطلقه فهد ( وطن حر وشعب سعيد ) يدغدغ مخيلة الفقراء المتعطشين للحرية.
شب قاسم وسط تلك الأجواء المشحونة وخاصة عندما كان يدرس في كلية دار المعلمين العالية.
كان حسه المرهف، وما ورثه عن أبوه من فكر متحرر، وثقافة وفن قاده في النهاية إلى التمرد على حياته البائسة والالتحاق بتلك الجموع الثائرة من الشباب.
لم يستطيع قاسم مواصلة دراسته في بغداد بسبب الفقر المدقع الذي كان فيه. على الرغم من أن المغزل لم يتوقف عن الدوران بيد حيهن ليل نهار، لتوفر له بعض مصروفه .ولكن كلفة الحياة المرتفعة في بغداد كانت أكبر من أن تحتمل .
كان قاسم ممشوق القوام جميل الطلعة مرهف الحس، خاض مغامرته الأولى في بغداد المليئة بالحياة، فكان غرا في العلاقة مع الجنس الآخر.
الجنس الآخر في بغداد وفي تلك الكلية بالذات كان يتمرد على عفوية المجتمع . أحبته ميسون بعد أن وجدت فيه الصفات التي وضعتها مسبقا لشريك حياتها. وأحبها هو بخوف كونها كانت ثرية بالنسبة له وجميلة أكثر من طموحه.
سارت الأمور في البداية بينهما بكل يسر دون أن ينتبه لذلك أحد، فقد كان العديد من الطلبة والطالبات يقصدون قاسم ليساعدهم في دروسهم. و هكذا توطدت العلاقة بينهما. وبعد أن اكتشفت أنه مندائي الديانة قطعت علاقتها به.
رغم اجتيازه امتحان السنة الأولى بتفوق إلا أنه عاد إلى قلعة صالح والحسرة تملأ قلبه بعد تجربة الحب الفاشلة .
عاد إلى مسقط رأسه. وهناك حصل على وظيفة معلم في مدرستها. فراح يعيل أسرته التي أنهكها الفقر.
كان قاسم يدرس اللغة العربية وفن الرسم والأعمال اليدوية في مدرسة قلعة صالح. ولكونه متحمسا جدا للأفكار الجديدة راح يدرس الصغار الكلمات الكبيرة،فكان يصر على دعوته لعراق جديد يسوده العدل والحرية، وربما كان يحاول إظهار ما زخر به قاموسه الفكري الذي حمله معه من بغداد أمام زملائه المعلمين، والذين كان محور أحاديثهم (عرق مسيّح ومرقه المسموطة ) لا أعرف كيف صبرت عليه إدارة المدرسة عاما كاملا، وفي النهاية، أبعدوه إلى إحدى القرى في عمق الريف، كان اسمها ( أم عين ) ولا أظنها على خارطة العراق اليوم، ولا أنصحكم في البحث عنها في الخارطة أو في كتب التاريخ فلم تظهر عليها يوما .
كانت أم عين تقع على مشارف الهور. والطريق الموصلة له غير معبدة فلم تطرقها وسائط النقل التي كانت نادرة في ذلك الوقت. ويظل الطريق النهري هو المنفذ الأفضل للوصول إليها، حيث يتفرع من دجلة، رافد كبير يسمى نهر المجر الكبير.
بعد أن اعتمدت العائلة على الراتب الذي كان يتقاضاه قاسم، والذي أخذ يشعره بأنه أصبح رب الأسرة، تخلت حيهن عن قيادة سفينة العائلة، فتركت قاسم يدور بهم من قرية إلى أخرى.
لم يكن الانتقال إلى مكان جديد مجهول شيء هين على الجميع، وخاصة على حيهن التي اضطرت على التخلي عن ( المحمل) العرس وعن ( الرحة و الجاون ) والعديد من الأغراض التي تركتها مع أمها في اللطلاطة، والتي ظلت تعيش في اللطلاطة. وهنا ظهرت مشكلة الذي استأجرته العائلة للسفرحقيقية في نقل الدبسة إلى السكن الجديد ، فالمشحوف فيه إلى أم عين لم يسع العائلة وأغراضها إلا بصعوبة، ولكن كيف ستنقل البقرة؟ ولا سفر لحيهن بدون ( الدبسة ).
لم تنجح كل محاولات قاسم بإقناع أمه بالسفر من دون البقرة، حتى أنه وعدها بأنه سوف يشتري واحدة مثلها، ومن أول راتب يتقاضاه هناك. ولكن دون جدوى .
لم تحل المسألة إلا بعد أن تدخل (مولى) وهو أحد الحراس في البستان المجاور للطلاطة. فقد تعهد بأنة سيأخذ البقرة مشيا إلى أم عين وعلى مراحل فالمسافة لا تزيد على العشرين كيلومتر، إذا قطعت بخط مستقيم. كان الحل مرضيا للجميع .
سار مولى مع البقرة عدة مراحل، يسير معها نهارا وينام معها ليلا حتى تعب، وبعد أن اقترب من أم عين ربضت البقرة هناك ولم تتزحزح من مكانها. حار فيها مولى، تارة يجرها من ذيلها وتارة يرغبها بباقة من الحشيش ولكن دون جدوى، فظل حائرا، لا يستطيع تركها في الطريق ولا يستطيع حملها، ولا التخلي عنها. وهي لن تعدل عن قرارها وتتساهل لتكمل الدرب معه.
بعد أن عجز من إيجاد حل ترك البقرة وذهب راكضا لأقرب سلف وهناك استجار بشيخ السلف بأن يساعده على حفظ الأمانة التي برقبته من اللصوص والوحوش.
أجاره الشيخ وأرسل من يحرس البقرة مع بعض العلف والماء. أما مولى فعاد إلى اللطلاطة وأرسل أحد أقرباء قاسم ليعلمه بخبر البقرة.
اكترى قاسم مجموعة من الفلاحين فجاءوا بالبقرة وعندها فقط هدأت حيهن بعد أن عانقت الدبسة واطمأنت عليها. ولكن مشاكل الدبسة لم تنتهي عند هذا الحد.
كانت السفرة بالمشحوف خطرة ومخيفة فاللصوص يتربصون بالمسافرين في كل مكان. ولم يستطع المشحوف الاستمرار في بعض المناطق وكاد يجنح مما اضطرهم إلى رمي الكثير من المتاع في وسط النهر وكان أغلبه أغصان التوت الجافة .
وصل المشحوف أخيرا ورسا في أم عين، وكان في استقبال المسافرين قاسم وثلاثة من المنفيين مثله. تساعد الجميع ممن حضر من سكان القرية في نقل أغراض المعلم الجديد إلى الدار التي استأجرها قاسم.
كانت الدار عبارة عن كوخ كبير في أقصى ساحة واسعة رصاصية اللون لم يفارقها الملح يوما، بعد أن أحاطها بسور من القصب.
بذل قاسم وباقي أفراد الأسرة جهود متواصلة لإصلاح تلك القطعة من الأرض، ولكن لم ينبت فيها إلا بستان من الشوك.
بعد أن استقروا في تلك الدار بنى قاسم بيتا للبقرة من القصب ملاصقا للكوخ الوحيد الذي كانت تستخدمه الأسرة لكل الأغراض، فهو غرفة النوم ، وهو مطبخ العائلة شتاء، وهو غرفة استقبال الضيوف ومكان الراحة والاستحمام، وكان قد بنى مرحاضا من القصب والحصران، ولم يمضي وقت طويل حتى سكنت الدبسة ذلك الكوخ مع الأسرة، بعد تكرر محاولات اللصوص في السطو عليهم ليلا وبإصرار لسرقتها. ظلت الأسرة تتذكر ولزمن طويل مطاردتها للصوص بالحجارة يشترك فيها كل أفراد الأسرة، وكيف كانوا في النهار يجمعون الحجارة ليرمون بها اللصوص في الليل من جديد.
المدرسة الوحيدة في القرية مبنية من الطين .وهي غرف متفرقة يحيط بها سياج من القصب .كانت مدرسة فريدة من نوعها، فملاكها التدريسي مكون من قاسم واثنان من زملاءه، هم يديرونها ويدرسون فيها .
قام هؤلاء الثلاثة وهم من المعلمين المندائيين المغضوب عليهم، المنفيين إلى أم عين، قاموا بحملة واسعة بين سكان القرية والأكواخ المجاورة لها من أجل إرسال أولادهم للدراسة فيها. كانت المدرسة للذكور فقط وكانت متكونة من ثلاث صفوف تدرس فيها اللغة العربية والدين والحساب والأشياء والصحة والفن والرياضة.
كان درس الدين الإسلامي هو الدافع الأول للسكان بإرسالهم الأبناء للمدرسة. وكان المعلمون يدرسون الأطفال القرآن في كتاب جزء عمه وجزء تبارك، فدرس الدين عند هؤلاء المدرسين، هو دروسا للغة العربية والنصح والإرشاد أكثر مما هو دين، فهؤلاء لا يفقهون بالدين الإسلامي شيئا وهم في الأساس ليسوا بمسلمين إنهم مندائيون!
نذر هؤلاء المندائيين الثلاثة أنفسهم في مكافحة الجهل والأمية، ونشر الوعي الصحي والفني بين أبناء الفلاحين، ومن خلال الأطفال الصغار، حاولوا رفع الوعي لدى الفلاحين المعدمين والذين لم يسكن تلك المناطق المهجورة غيرهم .
حرص قاسم على إظهار مواهبه الفنية في الرسم والنحت وغيرها وقد تفاجأ بإبداعات بعض التلاميذ، ولم يكن يتصور وجودها في ذلك المحيط المعدم. كان الرسم والطين الحري الأحمر هو المادة الأساسية لتلك الإبداعات .
راح الصغار وبتشجيع قاسم المتحمس لفنه، يصنعون نماذج من الأباريق والمشاحيف والأسماك وغيرها وكان بعضها يرتقي إلى حد الإتقان فكانت موضع زهو التلاميذ و أوليائهم. وهكذا توطدت المدرسة، وأخذ التلاميذ يثابرون على الدوام، وتوطدت العلاقة مع سكان القرية وأصبح هؤلاء المعلمين الثلاثة موضع ثقة الناس، ومرجع استشارة بأمور الحياة وخاصة الطبية.
كبر طموح هؤلاء الشباب الثلاثة فشكلوا فرقة تمثيل في المدرسة، فكانوا هم عناصرها الأساسية طبعا. ووضعت نصوص مسرحية مقتبسة من التراث مثل مجنون ليلى، وبعض الأعمال الثورية المستمدة من ثورة العشرين مع بعض التورية، ونصوص أخرى تعالج حرية الإنسان وكأنهم يرفعون راية العراق الحر من تلك القرية المنسية أصلا .
راقت بعض تلك المسرحيات لجمهور الفلاحين فشجعت فلاحي القرى المجاورة في حضور تلك العروض المسلية.
كان أحد هؤلاء المعلمين الثلاثة، شاب وسيم أبيض الوجه ذو عيون زرقاء ظلت سرا مستعصية على الفهم، كان يقوم بدور ليلى في مسرحية مجنون ليلى، وكان يشد الجمهور بحركاته الأنثوية وكأنه ليلى حقيقية سال لها لعاب الكبار.
هكذا قضت أسرة قاسم السنة الدراسية بين سهر الليالي في مطاردة اللصوص، وواجبات قاسم التي لا تنتهي فعادوا إلى اللطلاطة بعد أن نقل قاسم مرة ثانية لمدرسة أخرى، وإلى قرية أخرى ثم كان زواج الأخت سببا أساسيا في عودتهم إلى اللطلاطة، فيجب أن يقام الزواج وفق طقوس ومراسيم خاصة ينفرد بها المندائيون عريقة في القدم .
الأعراس المندائية وطقوسها شيء فريد في المجتمع العراقي . جميلة ومعقدة وتعقد في الصيف فقط كون طقوسها تتم في الماء أول الأمر.
تأتي بالعروس أمها ومجموعة من النساء، وقد ارتدت العروس الملابس الدينية البيضاء وفوقها عباءة بيضاء وعلى وجهها برقع أخضر، تسير أمامها فتاة تحمل بين يديها مرآة لترى فيها العروس هيأتها وطفل يحمل إبريق من الماء، ومجموعة من الفتيات خلفها يحملن صواني الشموع الموقدة والمليئة بأغصان ألآس، وأغصان الرمان التي ترمز إلى الحياة والخصب وغيرها من الورود و الرياحين .
ويحضر العريس ترافق زفة أيضا، ويجب أن يكون معه مرافق من اليمين ومرافق من اليسار.
يلبس رجال الدين الذين يعقدون المهر وكذلك العروسان ملابس دينية بيضاء خاصة .
بعد أن يقيم رجال الدين شعائر الطهارة في الماء يقومون بغمر العروسين كل على انفراد في ماء النهر ثلاث مرات مع تلاوة العديد من الأدعية والتسبيح ، تذهب العروس بعد أن تلف في عباءة إلى مخدعها حيث تحتفل بها النسوة وسط زغاريد وأغاني لا تنتهي .
أما العريس فيجلسوه في بيت من القصب مربع الشكل له 12 عمود من قصب كل عمود قصبتان تربطان بخوص سعف النخيل، يوضع فوقه غطاء من القماش الأبيض . يكون البيت مكشوف الجدران تزينه الزهور و الريحان، وأحيانا توضع عليه قطع ملونة من القماش لغرض الظل والزينة .
يظل رجال الدين مثابرين لساعات على تسبيحهم باسم الله وتلاوة الأدعية والتعليمات باللغة المندائية، والتي لا يتقنها إلا القلة، وتحضر أسرة العروس لقمة المهر المكونة من الخبز الفطير ( غير مختمر) على شكل أرغفة صغيرة يكون عددها 26 مع الفاكهة والتمر والمكسرات من جوز ولوز وزبيب وغيرها .
يحضر من يمثل العروس في عقد القران في بيت القصب هذا، ويتم عقد القران بعد أن يتعهد الرجل بصون عروسه وإسعادها، تقسم لقمة المهر إلى نصفين يأكل العريس نصها و يأخذ ممثلها النصف الآخر إلى مخدع العروس، والتي تجلس خلف ستارة معطية ظهرها للجالسين على فرش وضعت فوق الأرض مباشرة، وبعد أن تأكل اللقمة يعود ليكمل طقوسه في بيت القصب الذي يكون مفروشا بحصران من سعف النخيل، وضعت فوقها سلال لملابس العروس مختلطة بملابس العريس .
وبعد أن تنتهي الدعوات والصلوات المخصصة بالزواج ، يأخذ رجل الدين العريس إلى مخدع العروس، وبعد أن يتأكد شخصيا من رغبة الفتاة بالزواج من عريسها، يجلسه جنبها معطيا ظهره لها . وبعد أن تتعهد العروس بالحفاظ على إسعاد زوجها وتقاسمها الحياة معه حلوها ومرها يضرب رجل الدين رؤوس العريسين بعضها ببعض بلطف ثلاث مرات إشارة إلى إتمام عقد القران. ثم يزف العروسين إلى البيت الزوجية.
تستمر هناك الأفراح لسبعة أيام، ويجب أن يكون مع العريس حرز خاص من الحديد يسمى ( السكين دوله ) خلال تلك الأيام السبعة. وبعد أن تنقضي الأيام السبعة، يذهب العروسان للتعميد في النهر ثانية مع كل الأدوات التي استخدموها، فلا يجوز للآخرين لمس العروسين قبل أن يتطهرا.
وهكذا قامت تلك المراسيم في اللطلاطة لأخت قاسم التي أخذها زوجها لتعيش معه في بغداد.
قضى قاسم عدة أشهر في قلعة صالح ثم نقلوه إلى قرية العزير. حزمت الأسرة أمتعتها.
تخلت حيهن أخيرا عن البقرة الدبسة لأمها بعد أن شاخت الأم والبقرة.
العزير ناحية صغيرة تقع بين البصرة والعمارة، وقبل أن تصل إليها تطالعك خمس نخلات باسقات كأنهن رأس الفالة وقد أحاطت بشجرة كبيرة من السدر وشحت بعشرات الخيوط والشرائط الملونة قصت من ثياب مختلفة، وأشجار السدر في العراق تحظى بقدسية معينة لا أعرف مردها، ولكن تلك الأشجار كانت وكما يشاع تأوي الطناطل ليلا.
كان سائق الشاحنة التي أقلت العائلة يؤكد أن تلك السدرة تقسم الطريق بين البصرة والعمارة بمسافة متساوية لحد المتر، وبذلك كان يثير إعجاب راكبيه بتلك المعلومات الدقيقة .
ناحية العزير لا تختلف كثيرا عن غيرها من نواحي جنوب العراق. أكواخ من القصب والطين تحيط بقلعة من الطابوق يقف في بابها شرطي وبيده بندقية ذات حربة طويلة. مرتديا بنطلون من قماش الخاكي ينزل تحت الركبة بعدة أصابع، ويعتمر على رأسه سدارة من نفس اللون تميل ناحية الجنب الأيسر، فتحجب جزأ من جبينه الشديد السمار. تضم تلك القلعة مركزا للشرطة ودواوين الإدارة وبجانبها عادة مدرسة ابتدائية .
ولكن ما يميز ناحية العزير هي القبة الزرقاء المنتصبة على الجهة الأخرى من النهر. والتي تظلل رفاة النبي العزير، نبي اليهود الشهير، يزور ذلك المرقد اليهود، رجالا ونساء بين مدة وأخرى، وكانت تلك الزيارات موسم فرح وسعادة لسكان القرية الشباب. فكانت النساء اليهوديات سافرات يكشف عن قدر من الجمال كان يمثل القمة لهؤلاء الشباب.
كانت المدرسة تحتوي على ست صفوف مؤثثة بمساطب ومقاعد يجلس عليها الطلبة ومناضد من الخشب. استأجر قاسم كوخا من الطين ضم عائلته، التي أخذت تصغر فالأخت انتقلت إلى بغداد، وأخيه عبد الرزاق ترك اللطلاطة، وذهب يبحث عن العمل في مدينه البصرة، وليتعلم الصنعة وليشبع بطنه.و(الدكتورة) أم حيهن فضلت البقاء في اللطلاطة، فلم يبقى معه غير أمه وإخوته الصغار.
يقع الكوخ في آخر المدينة، يوصله بها طريق ترابي يتحول عند المطر إلى برك من الطين، وعلى الأطفال اجتياز هذا الطريق مرتين في اليوم على الأقل وهم حفاة طبعا. فعند ذهابهم إلى المدرسة يتركون أقدامهم تجف ليتساقط الطين لوحده، ولكن عند العودة إلى البيت كانت تلك الأقدام التي تحمل الطين تسبب مشكلة لحيهن عانت منها الكثير.
أكتشف أسامة هناك لعبة مبتكرة، شاعت بين تلاميذ الصف الثالث في مدرسة العزير. ففي الصف الثالث كان يدرس أسامة أصغر أخوة قاسم.
كانت اللعبة بسيطة نبعت فكرتها من واقع الحياة في تلك الناحية ، ولا أعرف هل هناك مكان آخر في العراق أو في العالم يمارس فيه الصغار تلك اللعبة، أم إنها حكرا على أطفال العزير؟
اللعبة تبدأ قبل الفصول أو في أثناء الفرص التي بينها، يجتمع الصغار قرب إحدى المناضد ويفتحون أحد الدفاتر بأوراقه السمراء، ثم ينكث كل واحد منهم شعر رأسه فوق الدفتر، فتسقط قملة أو أكثر حتما، وكان القمل في تلك النواحي كبير الحجم ذو لون أبيض مع نقطة سوداء في الوسط .
يترك الأطفال القمل يتساقط بحرية لتسلك كل قملة دربا خاصا بها، فيخط الصغار طريق رحلتها على الصفحة السمراء، ومن كانت قملته ترسم طريقا أطول ومتشابك أكثر تنقذ حياتها وترمى من النافذة، وتقتل الباقيات بين أظافر الصغار بكثير من المرح والهرج !
لم تستمر إقامة قاسم أكثر من عام دراسي واحد في العزير نقل بعدها إلى قرى مختلفة في ريف الجنوب. فضجرت حيهن من كثر الترحال وعادت إلى اللطلاطة تاركة قاسم يدبر حياته لوحده في تلك القرى.
عاش قاسم حياة صعبة وغريبة في تلك النواحي. ومما يرويه عنها:
أن زميلا له كان يدرس اللغة العربية لتلاميذ الصف الخامس، وكان الوقت موسم جمع التمر وكبسه. كانت النساء في تلك القرى هن اللائي يقمن بهذا العمل.
كان زميل قاسم يقف عند النافذة يراقب الفتيات وهن يحملن قفاف التمر على رؤوسهن، وقد تحزمن بعباءات من الصوف، فجسدت حركة أجسامهن، كان أستاذنا الشاب مفتونا بذلك الإيقاع الذي ترسمه مؤخرات النساء عند سيرهّن المتكلف تحت أثقال القفاف، فكان يملي على تلاميذه عبارات تعكس حسرته وملأت دفاترهم الصغيرة: ( فرقاعه ، طرقاعة، طلايب، مصايب إلى آخره).
عادت حيهن إلى حياتها الرتيبة في اللطلاطة، بعد أن ضجرت من كثر الترحال وتركت قاسم يجوب الأهوار حاملا في يده مصباح سقراط لينشر ضوءه في ذلك العالم المظلم .
رغم كل الظروف الصعبة التي عاشها قاسم كان يعمل بجد لتطوير مواهبه الفنية ويهيئ نفسه لتبوء مكانة لائقة في الجمهورية التي ظل يحلم بها فأصبح رساما وخطاطا ممتازا.سأمت منه مديرية المعارف في العمارة وأرادت الخلاص منه بأية طريقة، وأخيرا جاءها الفرج بعد أن قدم قاسم طلبا لتدريس الرسم والخط في بغداد وقبل طلبه، ولكن بشرط أن (تتنازل) عنه الدائرة المرتبط بها في العمارة! وهكذا رحلت العائلة إلى بغداد مودعة اللطلاطة وداعا نهائيا .
نسب قاسم كمعلم للرسم إلى المدارس الابتدائية في إحدى مناطق بغداد البعيدة في ذلك الزمان. حيث كانت تقع الكلية العسكرية ومعسكرات تدريبها. كان منظر طلبة الكلية العسكرية بملابسهم البيضاء، في مشيتهم الصباحية العسكرية مرددين نشيد الجيش ( الجيش سور للوطن يحميه أيام المحن ) مع إيقاع عسكري، وبخطوات منتظمة تبهر الناظر. كان هذا الاستعراض اليومي متعة ما بعدها متعة لأبن التاسعة أسامة، فكان ينهض مبكرا كل صباح، ويهرع إلى الشارع العام ليتابع ذلك المشهد، ثم ينظم إلى صلاح شقيقة ابن الأنثى عشر ربيعا ليذهبا سوية إلى أحد الأفران، كي يستلموا حصة العائلة من الخبز الأسود الذي كان يوزع بالبطاقات التموينية.
انتقلت العائلة إلى سكن جديد بسبب العراك اليومي بين صاحبة الدار القديمة وابنها الشاب الذي لا يذهب إلى العمل ليجلس ساعات بجوار حائط الطين للبيت المجاور بعد أن حفر ثقبا فيه ليتلصص منه على ابنة الجيران، فيصل إلى ذروة الإثارة عندما ترفع صوتها مترنمة ببعض الأغاني عندما كانت تستحم، عندها يصبح عدوانيا خطرا جدا مستعدا لقتل من يعكر نشوته في تلك الساعة. وكان أسامة يقف أمامه ببلاهة يتابع انفعالاته التي كان يغيب فيها عن هذا العالم.
تنبهت حيهن للموقف وأصرت على الانتقال من تلك الدار، فاستجاب قاسم لطلبها بتذمر.
كانت بغداد على فوهة بركان عندما سعت الحكومة البريطانية في تجديد معاهدة 1930 التي استباحت كرامة العراق وثرواته، وبعد إعلان صالح جبر رئيس الوزراء العراقي من بورت سموث، حيث أعدت المعاهدة الجديدة، بأنه سوف يجبر العراقيين على قبولها.
انفجر ذلك البركان الذي كان خامدا لسنين، وراحت جموع العراقيين تجتاح الشوارع كالسيل الجارف، استمرت الوثبة عدة أيام في معارك مع قوات الحكومة، سقط فيها العديد من الشهداء .
وبعد أن سقطت المعاهدة الجديدة بدأت الحكومة العسكرية حملة إرهاب على العراقيين بعد أن أعلنت الأحكام العرفية. زج المئات من الذين ساهموا في تلك الانتفاضة في السجون. جرت محاكمات صورية للموقوفين كانت مثالا للسخرية. كان نصيب قاسم منها عشر سنين قضى أغلبها في سجن نقرة السلمان وسط صحراء السماوة.
ظل العراق يحكم مرة في ظل أحكام عرفية وأخرى تحت إرهاب قوى الأمن الذي لا ينتهي، فخلال الحكم الوطني الذي دام 38 عام تعاقبت 59 وزارة على حكمة، اشترك فيها 175 وزير خلال تلك الفترة، وأعلنت الأحكام العرفية فيها 16 مرة إلى أن قامت ثورة 1958 فأطلق سراح قاسم.
التصقت هموم قاسم بهموم العراق المبتلى، لم تعمر ثورة 58 طويلا، فلم تصبر على قراراتها شركات النفط الأجنبية ، فأطيح بها بانقلاب دموي ، استهدف كل منجزات الثورة، بما فيها الفسحة الضيقة من الدمقراطية،
سالت دماء العراقيين في الشوارع ، ولم تعد سجون نوري السعيد تكفي للمعتقلين فوظفت النوادي والملاعب الرياضية وغيرها من المراكز العامة لهم، ولم يخطئ حظ قاسم العاثر هذه الفرصة، فأخذ نصيبه منها سنين سجن أخرى وهكذا قضى زهرة شبابه ، لكن قاسم ظل يبحث عن جمهوريته التي ابتلاه بها أفلاطون وبإخلاص وإلى يومنا هذا.






#عبدالآله_السباهي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- اللطلاطة (2)
- اللطلاطة (1)


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
- -نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال ...
- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالآله السباهي - اللطلاطة (3)