أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - اشرف بيدس - راشيل.. زهرة البنفسج















المزيد.....

راشيل.. زهرة البنفسج


اشرف بيدس

الحوار المتمدن-العدد: 2288 - 2008 / 5 / 21 - 10:44
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


ما أكثر الأعوام والتواريخ المنصرمة.. وما أشق الكلمات حينما نصف بها مآسينا فنخرجها من بين ضلوعنا.. وما أقساها عندما تعجز عن تصوير آلامنا..وما أتعسها عندما نرثي بها ليالينا وأحباءنا وأصدقاءنا..
تنطلق الكلمات لتعبر عن المسافات الخالية بين الشجن والحلم والأسئلة الكثيرة التي تتصارع في رءوسنا وتحاول اختراق وتجاوز اللامعقول.. وأحيانا كثيرة تتجاوز اللغة والحدود، لكن الإجابات البسيطة التقليدية لم تكبح حالة الاندهاش التي استولت علينا.. ويظل السؤال يبحث دوما عن اجابات مقنعة ترضي الفضول أو الحيرة التي تتجدد عند طرح تلك الأسئلة..
إن راشيل الفتاة الطيبة أتت إلي بلادنا لتموت وسط الانقاض والركام والأحجار. وتبدل رفاهة حياتها بميتة فقيرة، لكنها عظيمة.. بعد أن أعلنت رفضها للعنف والقهر والظلم.. ما كانت تبغي شيئا..سوي أن تعلن عن رأيها في بلاد تحجب الأكاذيب فيها أضواء الشمس.
كانت ثابتة لم تخش الموت.. لم تقترف أي ذنب.. بل كانت شمعة تحاول أن تضئ في طرق معتمة وكالحة ليس لها فيها ناقة أو جمل.. قطعت آلاف الأميال لتعلن عن مبادئها، هي وأقرانها، أحست أن هناك من تضيق بهم الحياة الضيقة، وتفترس فيهم مقاومة الصبر ومخزون الجلد.. لم نكن نسمع عنها؛ لم نكن نعرف شيئا عنها؛ ولم تكن تعنينا.. لكننا كنا نعنيها..
راشيل كوري فتاة أمريكية..
لا تحمل ملامح عربية
ولا اسما عربيا
أو بيتا عربيا
لكنها كانت تحمل إحساسا إنسانيا.. دفعها أن تأتي من مكان بعيد لتقدم لنا المساندة والعون المعنوي.. وقلبا ينبض بالشفافية والسكينة..
رحلت عنا زهرة البنفسج المخملية الحزينة التي أتت من بلاد بعيدة.. بلاد باردة، لتستظل بشمسنا؛ فاحترقت بنارنا..
نتذكرك يا راشيل، نحفظ ملامحك، فلم تصدأ الذاكرة.. ولن تصدأ..كانت حياتك هدية غالية..فقبلناها علي استحياء..مازلت في القلب والوجدان.. وستظل سيرتك تؤكد معاني نبيلة وقيماً سامية..ضن الزمان بها..
من أي الأبواب دخلت إلي قلوبنا .. إلي بيوتنا.. إلي ذاكرتنا.. واحتلّت هذه المساحة الكبيرة.. سكنت راشيل حكاوينا وغاصت داخل تفاصيلها.. وصنعت أحداثا جديدة تضاف لتراثنا.. عشقت الكحل العربي فتكحلت بتراب رفح.. وحنت يديها من مقلات عيون نسائها..
أتت راشيل كوري البالغة من العمر 23 عاما من بلادها بعد أن قطعت دراستها في جامعة ولاية واشنطن، ضمن مجموعة شجاعة من الناشطين الذين ذهبوا إلي فلسطين من أنحاء العالم لتوفير الدعم السلمي للشعب الفلسطيني.
رأها سائق الجرافة الصهيوني، عندما كانت تقف علي بعد أمتار، تحمل بيدها ميكروفونا، وترتدي سترة برتقالية فاقعة اللون.. تنادي عليه وترجوه ألا يهدم بيوت الفلسطينيين ورغم ذلك تقدم.. فأعادت النداء والرجاء لكي لا يهدم البيت.. لم يهتم وتقدم نحوها، ركزت عينيها في عينيه وطالبته من خلال الميكروفون بألا يتقدم.. لكنه تقدم لآخر مرة، حاولت منعه بشتي الطرق.. تخيلت أن تلك الجرافة لن تجرأ لتتجاوزها، إلا أن توقعاتها خابت، ولم تثن السائق عما يفكر فيه.. تقدمت أكثر وأكثر واختل توازنها وفقدت السيطرة علي نفسها.. وسقطت علي الأرض لتتقدم الجرافة عليها .. تدهسها وتعيد المرور عليها مرة أخري، فتفيض روحها وتلفظ الأنفاس الأخيرة.. لم يحتمل جسدها النحيل وكبرياؤها الصدمة.. ماتت أمام ذويها.. ليكونوا شهود عيان في حضرة الصمت المميت..
مضي خبر رحيلها في زحمة التفاصيل كشيء عابر.. عابر، كأشياء كثيرة في أوطاننا، لم تلتفت إليه أجهزة الإعلام الكسيحة.. فقد كانت تبث حفلات الجنون في بغداد.. لم ينم الليل بعد رحيلها.. وراح يفتش عنها في أزقتنا التي طافتها، ويسأل من أي الأبواب دخلت وسكنت مقلات العيون..
قتلوك عمدا وقهرا وقسوة وغلا.. وطافت الجرافات تعلن الخبر وتستبيح الحوائط والنوافذ والمتاع.. لم يثنيهم موتك ولم يخف نزعاتهم الجنونية.. وبدوا وكأنهم يحتفلون بأعياد التدمير والتخريب... مازالت شوارعنا المليئة بالسفاح والزيف والبهت والخداع تتلفت عليك ، تراقب الطريق من بعيد لئلا يتبدي طيفك الملائكي فيعيد ترتيب الأشياء المبعثرة .. مازال الليل ينتظر صباحك يا راشيل لتسكن الشمس الغائبة منازلنا الرطبة..
مازال ظلك علي الأرض .. لم يخفه احتجاب الشمس.. مازالت رائحتك تملأ المكان .. عود أخضر ندي يترعرع بين أحضاننا .. يسقيه الأطفال كل صباح.. نزين به أحواض زهورنا.. وشواهد قبورنا وضفائر بناتنا.. فانت القصيدة التي تتصدر كل دواوين الشعر.. وأنت بدايات السطور ونهايات الجمل، وأنت الأغنية الشعبية الجميلة الباقية .
وقفنا نرقب سفينتك وهي ترحل بعيدا .. نمصمص شفاهنا ونقطب عن جبيننا ونمنع دموعا انطلقت من عيوننا.. ونفرط في الثرثرة.. نتحسر .. نندب حظنا .. نتصعب عليك.. ونشفق علي أبويك.. وقفنا مشدودين مشدوهين نرنو شراع سفينتك تغوص في الأعماق وتتلاشي في المدي البعيد.. ونحن مازلنا علي الشط ننتظر عودتك من جديد..
كانت كلماتك الصامتة هي آخر ما تعلمه الصغار في مدارسهم المحاصرة.. وآخر الدروس .. كتبناه وحفظناه ورددناه ورسمناه علي جدران بيوت رفح وعلي نوافذها.. وحملنّا الطيور بعضا منه لتطوف مشارق الأرض ومغاربها تنشره علي البائسين وتخبرهم بأن الفرج قريب.. الفرج قريب.. حتي ولو جاء بعد حين..
كانت تري أطفالنا فتجهش بالبكاء وتتساءل بأي ذنب يعاقبون وبأي جرم يحرمون من متع الحياة.. كانت تمسح علي وجوههم عناء الحاجة وشظف الحياة .. تتألم لآلامهم وتتوجع لأوجاعهم.. وتعيش مآسيهم.. تعلمت منهم الصبر علي البلاء والقدرة علي العطاء.. فقدمت لهم حياتها.. لم تنفصل عنهم وتوحدت مع مشاكلهم، فقد كانت الأم والأخت والأبنة فمن أي الأبواب دخلت راشيل إلي قلوبنا؟!!
لأنك نشيد الصباح.. وترانيم المساء.. تسقط كل كلمات الرثاء.. وكل الاحتفالات.. لا يضفي النور علي البهاء إلا الظلال..
كانت تخطط لمستقبلها.. لم تكن تدري بأن حي السلام بمدينة رفح هو محطتها الأخيرة؟ ..
هل كانت تعلم أن وقوفها لمنع هدم منزل فلسطيني سوف يكلفها حياتها؟.. وهل كانت نظرتها لمستقبلها كبيرة وقصيرة لهذا الحد؟؟!!
كانت راشيل عينا تسجل الواقع.. وتفضح الادعاءات الكاذبة.. وكانت تقول :«لهذا أشعر بغضب جامح، عندما اقتحم بسهولة العالم الذي يعيش فيه هؤلاء الأطفال، واستغرب: كيف سيشعرون اذا اقتحموا العالم الذي كنت أعيش فيه»!
"يعرفون أن الأطفال في الولايات المتحدة لا يرون اهاليهم يقتلون ويعرفون ان الاطفال في الولايات المتحدة يشاهدون أحيانا المحيط الواسع، لكن إذا شاهدت في إحدي المرات المحيط، وعشت في مكان هادئ تعتبر فيه المياه بديهية الوجود وليست شيئا تسرقه الجرافات في ظلمة الليل، إاذا قضيت مساء لم تفكر فيه بأن جدران المنزل قد تنهار عليك وتوقظك من نومك، وإذا التقيت اشخاصا لم يفقدوا في يوم ما عزيزاً عليهم.
وإذا عشت في عالم لا تحيطه أبراج ودبابات قاتلة ومستوطنات مسلحة وأسلاك شائكة ضخمة، سأستغرب إذا كنت ستغفر في يوم من الأيام للعالم، كل معاناة طفولتك، التي قضيت جميع لياليها في محاولات لاستمرار البقاء - فقط البقاء.
"هذا ما استغربه عندما أفكر بهؤلاء الأطفال، وأفكر بما قد يحدث بعد إدراكهم الحقيقة".
عشقت الأرض.. فأبت الأرض ألا تطرحها..
كانت شاهد عيان علي القبح الإسرائيلي.. والخراب والدمار الذي تمارسه ليل نهار..
توحدت مع آلام الناس ومعاناتهم وتعايشت مع انكساراتهم وإحباطاتهم فصارت واحدة منهم..
أدركت راشيل أن معاناة الناس أكثر قسوة وضراوة من تلك التي تبث علي الشاشات التليفزيونية.. كانت تدهش عندما تري الابتسامات المرسومة علي شفاة الناس.. وربما يكون التعامل مع وفاتها يزيل بعضا من هذا الاندهاش
ستظل راشيل أغنية عذبة الألحان .. راقية الإحساس.. جميلة الكلمات.. يرددها الأطفال دوما..
أننا شعوب لا تنسي الإساءة .. نتذكر ملامح السجانين والجلادين.. ونكتب أيامنا العصيبة علي جدران معتقلاتنا.. ونتذكر أيضا تلك الأيدي التي ضمدت جراحنا وخففت آلامنا.. وتلك العيون التي أطلقت ضحكاتها في وجوهنا وواستنا في محننا..
أبت راشيل الموت المهين.. فماتت بكبرياء .. وصار خلفها طابور طويل من المحبين.. فكل من رحل ارتسمت علي وجهه ابتسامة كبيرة.. ولم يقمع الغل والصرخات المستديرة.
عندما أحضرت صورتك لبيتنا الصغير ..سألوني الصغار في دهشة عنك؟!! فقلت : هذه راشيل الجميلة.. قالوا: قريبة لنا؟ قلت : أقرب لنا من حبل الوريد؛ مسكونة في أيامنا وفي تفاصيل النهار .. وفي اليوم التالي رأيت صورتك تزين غرفهم وعيونهم ويقولون للآخرين..لنا أخت جديدة اسمها راشيل الجميلة..
تفني الكلمات وتدفن.. عندما تسمو الأفعال عليها.. نجدها قليلة .. وأحيانا عديمة النفع..
تري ربما نظرت حولها وهي تودع الحياة .. فلم تجد بجانبها أحداً.. ربما قالت آه.. ربما صرخت صرخة كبيرة دوت في الأرجاء ولم يسمعها أحد.. ربما ضحكت أو بكت.. الاحتمالات كثيرة.. لكن أكثر الاحتمالات إنها تألمت كثيراً.. فهل كثيرا عليها أن نتذكرها.. نتذكرها فقط ..؟!



#اشرف_بيدس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الفصائل الفلسطينية بغزة تحذر من انفجار المنطقة إذا ما اجتاح ...
- تحت حراسة مشددة.. بن غفير يغادر الكنيس الكبير فى القدس وسط ه ...
- الذكرى الخمسون لثورة القرنفل في البرتغال
- حلم الديمقراطية وحلم الاشتراكية!
- استطلاع: صعود اليمين المتطرف والشعبوية يهددان مستقبل أوروبا ...
- الديمقراطية تختتم أعمال مؤتمرها الوطني العام الثامن وتعلن رؤ ...
- بيان هام صادر عن الفصائل الفلسطينية
- صواريخ إيران تكشف مسرحيات الأنظمة العربية
- انتصار جزئي لعمال الطرق والكباري
- باي باي كهربا.. ساعات الفقدان في الجمهورية الجديدة والمقامة ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - اشرف بيدس - راشيل.. زهرة البنفسج