أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تامر سعيد - الأوغام















المزيد.....

الأوغام


تامر سعيد

الحوار المتمدن-العدد: 2268 - 2008 / 5 / 1 - 08:05
المحور: الادب والفن
    


كنا قبيلة بها حوالي ألف نسمة، محصورين في مساحة ضيقة من الأرض ، مساحة لها حدود رسمها أعضاء الجماعة الأكبر سنا، قالوا: بعد هذه الحدود ألغام مميتة.
-كانت أرضنا التي نعيش عليها فقيرة، ربما كانت تلبي احتياجات الأجداد ، و لكن مع تزايد أعداد الجماعة صارت هناك حاجة ملحة لكسر الحدود من أجل البحث عن موارد إضافية تساعد على العيش براحة أكثر و كرامة أكبر، و لكن كان شيوخ القبيلة يتصدون لأي محاولة لكسر الحدود، حيث اعتبروا أن من يتخطى الحدود يلقي بنفسه في التهلكة، و ربما يثير تمرد بعض الشباب الطائش ، و بالتالي رأوا انه من الحكمة، و لصالح القبيلة العام أن يمنعوا أفرادها من تخطي الحدود ، و لضمان هذا قاموا بتعيين عدد من شباب القبيلة المعروفين بولائهم للشيوخ لحراسة الحدود و منع اختراقها، كنت أنا واحد منهم.
-كان الأمر شاقا في البداية، فقد كانت هناك أعداد كبيرة من شباب القبيلة يتوافدون على الحدود و يجلسون عندها مباشرة بالساعات يتأملون فيما خلفها ، و يفكرون في مدى صحة أقوال الشيوخ، و كان بعض منهم يلقي بالأحجار إلى ما وراء الحدود عساها تفجر لغما ما فيتأكد الجميع،ولما لم ينفجر أي لغم دب الشك في قلوب بعض الشباب، فتدارك الشيوخ الموقف و قالوا أن وزن الأحجار صغير لا يكفي لاستثارة الألغام ،فوجدنا -في اليوم التالي- عددا من الشباب يحمل أثقالا كبيرة و حيوانات نافقة لالقائها خارج الحدود و التأكد من كلام الشيوخ، فلما رأى شيوخ القبيلة ذلك فزعوا فزعا شديدا ، و أصدروا أمرا بمنع الاقتراب من الحدود الأصلية، و قاموا برسم ما أسموه : حدود ما قبل الحدود، و أمرونا أن نمنع أي من أبناء القبيلة من عبورها، بل من الاقتراب منها أصلا!!
-كان يلجأ إلى قبيلتنا أحيانا بعض التائهين في الصحراء ، فكنا نكرمهم و نحتفي بهم، و لكن كانت أوامر شيوخ القبيلة صارمة في عدم مغادرتهم للحدود أبدا ؛ فوراءها ألغام قاتلة، فلما حاول بعض الغرباء تنبيه الشيوخ أنهم أتوا من خارج الحدود و لم ينفجر فيهم أي لغم و لكن الشيوخ أرجعوا ذلك الى عناية السماء و حب الله لهم، فلما اعترض الغرباء على هذا التعسف قال الشيوخ ان هذا قانون القبيلة و ليس لغرباء مثلهم أن يتدخلوا في قانونها الداخلي، فلم يجبرهم أحد على اللجوء إليهم.و أتذكر حادثة إعدام أحد الغرباء الذي حاول التمرد و كسر الحدود فقبض عليه الشيوخ و أعدموه فجر اليوم التالي....
-بعد رسم حدود ما قبل الحدود لم يعد هناك من يقترب من الحدود الأصلية، و لكن ازدادت مساحة الأرض ضيقا بعد أن تآكلت مساحتها نتيجة نشوء المنطقة المحرمة ، و هي المنطقة الواقعة بين الحدود الأصلية و حدود ماقبل الحدود، و هي منطقة آمنة ، و لكن لا يسمح بالدخول فيها إلا للشيوخ و العواقل فقط، أما الباقين -بمن فيهم حراس الحدود- فغير مسموح لهم بالتواجد فيها مطلقا....
-لم تعد المهمة شاقة ، فلم يكن هناك الكثير ممن يحاولون الوصول للحدود الأصلية، فالكل يخشى على نفسه من الألغام وراء الحدود ، و من عقاب الاقتراب منها، ورغم هذا ، كان هناك بعض المغامرين الذين كانوا يحاولون التسلل مستترين بظلام الليل...
-نتجت عن عملي هذا أوقات فراغ كثيرة، فقد كنت اجلس بالساعات-و ربما بالأيام- بدون أن يمر واحد بالقرب من حدود ما قبل الحدود.فكنت أشغل وقتي بالغناء حينا، و التأمل حينا آخر، و في يوم برقت في عقلي فكرة:لماذا لا يمكن أن تكون الحدود الأصلية هي حدود ما قبل الحدود التي رسمها أجداد أجدادنا لنفس الظرف الذي نشأت فيه مساحتنا المحرمة، و بالتالي فربما كانت هناك مساحة آمنة ونظيفة من الألغام خلف الحدود الأصلية و يمكن الانتفاع منها لصالح القبيلة و أفرادها. وجدت في نفسي استحسانا لهذه الفكرة ، ولكني لم أجرؤ أبدا أن أعرضها على الشيوخ خوفا من العقاب....
-و في أحد الأيام، أسررت لزميلي -الذي يتناوب معي على حراسة حدود ما قبل الحدود -بافكاري و توقعاتي، فحذرني من عاقبة ما أفعل، و وجدته يخبر الشيوخ متعللا بحرصه على مصلحتي، و توجس مني الشيوخ ريبا ، و وضعوا لي برنامجا للتوعية بأخطار الألغام وكيف أن الكثيرمن الأجداد هلكوا لما عبروا الحدود، أظهرت لهم اقتناعي بكلامهم و ان اضمرت في نفسي أني لا زلت مقتنعا بفكرتي: حدودنا الأصلية هي حدود ماقبل الحدود التي رسمها أجداد الأجداد. فرض الشيوخ بعض المراقبة عليّ بعد جلسات النصح ، و لما رأوا مني التزاما تاما بتعليماتهم استعادوا الثقة في شخصي ، وعادت الأمور إلى طبيعتها كما كانت قبل أن يشي بي زميل الحراسة....
-و بعد تردد ، قررت أن افعلها ، وأتخطى الحدود الأصلية لأرى ما خلفها، و كنت قد تخطيت حدود ما قبل الحدود من قبل في مغامرة آمنة بعض الشئ. و لكن هذه المرة قد يكون فيها هلاكي.ورغم هذا ، فقد حاولت أن أطمئن نفسي أني أخدم القبيلة كلها ، فإذا كانت فكرتي صحيحة فسوف تنتفع بها كل القبيلة، و ان أخطأت فسأموت شهيدا، لأني صافي النية..!
-و لأني من حراس الحدود، فقد كنت أعلم النقاط التي تخلو من المراقبة في أوقات معينة من النهار، و هي الأماكن المناسبة للتسلل و دخول المنطقة المحرمة، ومنها إلى الحدود الاصلية.
-في عصر احد الايام بدأت تنفيذ الفكرة، و تخطيت حدود ما قبل الحدود و قلبي ينبض بعنف من شدة الانفعال و الرهبة، وبدأت اسير بحرص في المنطقة المحرمة متجها نحو الحدود الأصلية..
-لسوء حظي ، لمحني احد زملائي المكلفين بالمراقبة، صرخ ينبهني فلم ألتفت له، كنت قد وضعت كل همي في تنفيذ فكرتي و عبور الحدود الاصلية. ذهب زميلي -لما لم يجد مني انتباها-ليطلب مساعدة الشيوخ ظنا منه أنني ضللت الطريق، فأتى الشيوخ بأقصى سرعة سمحت بها خطواتهم الثقيلة و أعمارهم الكبيرة، و صاحوا فيّ بغضب: عد....عد..، لم أعيرهم اهتماما...
-وصلت إلى الحدود الأصلية و وقفت ألتقط أنفاسي، نظرت إلى المدى البعيد الواسع خلف الحدود فرأيت مساحات من الأرض الخصبة التي تنمو فيها الأعشاب بغزارة، وتمنيت أن تكون فكرتي صحيحة فتنتفع القبيلة كلها بالخير الوفير الذي ستضمنه لنا الأرض الخصبة. ركزت تماما في هذه الفكرة حتى لا يدفعني الخوف إلى النكوص و التراجع.وضعت قدما خارج الحدود الأصلية ، وسمعت شهقات القبيلة التي تجمعت كلها على الحدود، و احتبست الأنفاس. أغمضت عيني و أخرجت قدما أخرى... أنا الآن بالكامل خارج الحدود الأصلية!!!
-بدأت أرتعش بشدة...تذكرت القصص التي رووها لي عن هؤلاء الذين ماتوا خلف الحدود...شعرت بالخوف الشديد من وضع قدم أخرى، قلت :يكفي هذا اليوم. وسط الصمت سمعت رجلا يشرح لطفله:"لم يمت لأنه محظوظ، لأن الله يحبه.وضع قدميه على منطقة خالية من الألغام".قلت لنفسي:هكذا إذا!!
-سمعت صوت خيول الشيوخ تقترب ، ألمح في عيونهم شررا، ينوون بي شرا ، أنظر إلى الجموع المحتشدة و أرى في عيون البعض أملا في أن تكون الأرض خالية من الألغام حقا. اقتربت مني خيول الشيوخ حتى صار يفصلها عني ثوان فكرت سريعا:هنا سأموت وهناك سأموت لأني خرقت قانون القبيلة، فلأكمل المغامرة حتى النهاية.
-التفتّ إلى الخيول المقتربة فوجدتها أقرب مما تصورت،فزعت،تعثرت،وقعت على ظهري ، وسمعت شهقات جديدة من الجميع: الجمهور و الشيوخ...
-توقف المشهد تماما و خلا من أي حركة إلا لشخص واحد: انا! قمت من على الأرض بحذر و رفعت قدما إلى الأمام، و سمعت الشهقات....لم يحدث شئ.إما أني محظوظ جدا ، و إما أن نظريتي سليمة.تحركت خطوة اخرى، و ثالثة ، ورابعة، و في كل مرة أضع فيها قدما على الأرض تعلو الشهقات من الجميع.أفرح بنجاتي من الألغام...أجري..أرقص...أقفز فرحا، و ألوح للجميع من هنا. نادى الشيوخ بصوت كله رقة: "عد يابني!"، أقول : "الأرض خالية من الألغام ، لماذا نحبس أنفسنا؟؟" يقولون: "من يدريك؟" أقول: "لا ألمحها، و لم تنفجر فيّ !!"يقولون: "ليس هذا بدليل على عدم وجودها".أسأل بدهشة: "إذا ما الدليل؟!"يقولون كالمنومين و أيديهم على صدورهم:"أن يشعر قلبك بوجودها...هذا هو الدليل...!!!"
-الآن عرفت أنهم مخرفون، أقصد الشيوخ، أما أهل قبيلتي البسطاء فهم مخدوعون، يظنون-حتى اللحظة- أني محظوظ، فقط محظوظ! أدرت لهم ظهري، و أخذت أسير في هدوء نحو الأرض الخصبة متجاهلا نداءات الشيوخ المخرفين، وعندما التفتّ للمرة الأخيرة وجدت ثلاثة شباب في المنطقة المحرمة...يحركون أقدامهم بحرص..و حذر....



#تامر_سعيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرسوم و الأفلام: اساءة أدب أم توضيح بأدب؟؟
- آلهة بلا رصيد
- الحرية النقية
- الاحترام المفقود:لماذا لا تحترم من هو مثلي الجنس؟؟!
- بلاد الشر...ق


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - تامر سعيد - الأوغام