منذ بزوغ فجر تلك الحضارات القديمة الزاهية وإلى الآن، ظللنا خاضعين لشكل وحيد من الحكم هو الشكل الاستبدادي. لا يغير من جوهر الأمر الاختلافات في شكل تجلي ذلك الاستبداد. طالما الثنائية ذاتها ظلت قائمة (ملك ـ رعية)، (خليفة ـ رعية)، (حاكم ـ رعية).
كان هناك على طول الخط راع يصول ويجول في مقدرات الناس وحياتهم بالأصالة عن نفسه، ورعية عليها طاعة أولياء الأمر منها، لا تتدخل في ترتيب شؤون حياتها ومقدراتها، التي يديرها لهم الطرف الآخر من المعادلة، المسموحات المعروفة لهم أن يعملون ليأكلوا ويشربوا ويتضاجعوا. كل ما هو خارج عن هذه المهام البايلوجية يدخل ضمن دائرة الخطوط الحمراء المحرم تجاوزها.. والثمن الذي يدفعه المتجاوز ليس أقل من فقدان رأسه، أو أن يهيم على وجهه في بقاع الأرض منفياً طوعاً أو إجباراً.
خلال هذه العصور، ومع تغيير أسماء ومضامين الراعي، تغيرت بالضرورة الأنساق الفكرية التي تفسر للناس حياتهم بكل تنويعاتها. وكان هناك رغم التناقضات الكبيرة بين الطرفين، ثمة انسجام من نوع ما بين الراعي ورعيته، كون الاثنان يعتنقان ذات الدين، طالما كان ومازال الدين هو النسق الفكري المهيمن. يفرض الحاكم سطوته وحكمه، منطلقاً من قاعدة فكرية يستند القسم الأكبر منها إلى الموروث الديني، ذات الدين الذي تستند إليه نخب من الرعية في رفض الحاكم، الوالي، الخليفة..الخ وكان المسعى المعلن لطرفي المعادلة، هو العودة إلى الأصول الصحيحة للدين، التي يدعي كل طرف أن الآخر قد خرج عليها. على خلفية تؤمن أن ثمة أصول دينية صحيحة، ما أن تطبق حتى تتغير حياة الناس نحو الأفضل. الاثنان ينهلان من ذات المنهل، إنما باتجاهين متعاكسين. والمنهل يتسع ويتمدد بحسب الحاجة إليه. هكذا أستطيع القول؛ كانت لنا على مدى تاريخنا، دعاوى أصولية تتأرجح بين طرفي معادلة الراعي ورعيته.
لم يحصل إلا في العصور المتأخرة وعن طريق الاستعمار الأوروبي، افتراق بين تدين أو قل عقيدة الحاكم وعقيدة أو إيمان المحكوم. مع أن الاستعمار نفسه لم يدعي، ورغم مرافقة بعض الهيئات التبشيرية المسيحية لفعالياته المختلفة، أنه جاء باسم دين القائمين عليه أو ليغير دين الناس، بل أدعى أهدافاً أخرى مختلفة جذرياً، عن مضمون الفتوحات القديمة إن كانت مسيحية أو إسلامية، التي كانت تخاض باسم الدين، والحاجة إلى مده لبقاع جديدة.. جاء الاستعمار باسم شيء جديد، نظام جديد يستند إلى قاعدة اقتصادية (رأسمالية)، مدعومة بمنظومة فكرية لا دينية. الأمر الذي أحدث تشوشاً في اطروحات النخب المناهضة للاستعمار، فهي بدلاً من أن تستند إلى ذات الدعاوى الأصولية، في مقاومة الغازي الجديد، والوضوح كل الوضوح سيكون حليفها هذه المرة، إذ لا تجد نفسها مضطرة لكشف عورة الحاكم المسلم الخارج عن أصول الدين الصحيحة، بل الحاكم نفسه أعلن أنه لا ديني أصلاً. وجدناها قد لجأت تارة إلى تجارب وإفرازات الثورات القومية في أوروبا، ناثرة هنا وهناك الكثير، من ادعاءات الخصوصية، التي تحاول الاستناد إلى تراث الأمة بمفهومه العريض. وتارة أخرى انفعلت بالتحديات التي طرحتها الثورات الاشتراكية المنادية بإلغاء الاستغلال الطبقي من الجذور.
وما أن نجحت تلك الثورات بطرد الاستعمار والتخلص من احتلاله المباشر، ساعدتها في ذلك تداعيات الحرب العالمية الثانية، محققة بذلك شرط الاستقلال الوطني، حتى أدارت ظهرها للشق الثاني من هدفها المعلن وقتذاك مطلب التحرر الاجتماعي.
ما حدث باختصار؛ أن طرفي الثنائية القديمة (الراعي ورعيته)، حاولا الخروج من طوق التدين والمناداة بالعودة إلى الأصول، إلى أحضان التحديث والعصرنة: حاكم يقتفي آثار الغرب الرأسمالي، وكل ما يحصل عليه، هو دعوة صريحة لتحويل بلده إلى سوق غير منتج، بل مستهلك لبضائع هذا الغرب.. وهو متهم من قبل المعارضة التي تناضل لتحقيق الشرط الاجتماعي للتحرر بأنه (عميل) للغرب، ومعارضة تحاول تقليد ما جرى في الشرق الشيوعي وهي لم تسلم من الاتهام بالعمالة كذلك. كان ممكن لهذه الثنائية الجديدة أن تستمر إلى ما شاء لها أن تستمر، لولا تدهور وسقوط أنظمة الكتلة الشيوعية، التي بسقوطها انهارت كذلك تلك المعارضات اليسارية، وأنصاف اليسارية التي كانت تقود، أو تهيمن على الشارع المعارض طيلة فترة ما بعد الاستعمار، وعاد الخوف والقلق والغموض، من جديد يقض مضاجع الحكام والمحكومين من البديل القادم للمعارضة. لان الحاكم مع ميله للغرب العلماني، إلا أنه لم يكن علمانياً، لم يتخلى بعد عن ركيزة حكمه الأساسية، تلك المبنية على مفهوم الراعي المتصرف الأوحد بشؤون الرعية، على الرغم من كل دساتير حكامنا التي تعج بمفردات المواطنة والحقوق والحريات..الخ تلك المأخوذة من الغرب والشرق في معمعة الحرب الباردة والساخنة بينهما، لكنها ظلت مفردات هزيلة، يتيمة، لا قيمة لها، لافتقادها لتلك الآلية التي تحولها من نص مكتوب إلى واقع حال.
ماذا تفعل الشعوب (الرعية) وهي ترى حياتها موضوعة على كف عفريت؟ حاكم يصول ويجول منتصراً في كل الظروف والأحوال، ولا أحد يعرف على من هو أنتصر، لأن المحتل من أراضينا لم يزل محتلاً، وأنظمتنا الاقتصادية والاجتماعية مشوهة وفاسدة، ماذا ستفعل الشعوب وهي ترى يأس وانكفاء المعارضات القديمة وهي تجرجر أذيال هزيمة غيرها. كان المطلوب حل سريع، حل مجرب يمكن الركون إليه، وجاء هذا الحل، أهناك أفضل من الدين لهذه الشعوب المغلوبة على أمرها. جاءت الصحوة الإسلامية لتقلب موازين القوى وحسابات الحكام، بالدعوة القديمة إياها دعوة المناوئين للسلاطين والملوك والحكام (العودة إلى أصول الدين الصحيح). بالمناسبة، أن هؤلاء لم يختفوا من ساحة الصراع خلال الحقب الماضية، إنما فقط جعجعة المعارك بين اليسار واليمين غطت على أصواتهم التي خفتت، لكنها لم تصمت تماماً. هكذا توالدت حركات الأخوان المسلمين على طول البلاد وعرضها، إلى عشرات الأسماء والعناوين، جميعاً تدعو للعودة إلى أصول الدين المستباح من قبل الحاكم المارق.
لكن الأمر الجديد الذي عقد الصورة بالتمام، وأضفى عليها المزيد من الغموض، هو السعي الحثيث للغرب، وفي دوامة سعيه لخلق عدو جديد بعد تهاوى العدو القديم، إلى اعتبار كل حركات التدين والعودة إلى الأصول هي العدو الجديد على مصالحه، مع أن هؤلاء بأسمائهم إياها وعناوينهم كذلك، كانوا حتى الأمس القريب حلفاء له، بل كان يمدهم بالعون المادي والمعنوي في قتالهم ضد الشيوعيين. هكذا بحركة سريعة وواضحة في افتعالها تحولوا إلى أعداء خطرين على مصالحه، وهؤلاء قد صدقوا الأمر، وأخذوا يعملون على هذا الأساس؛ هم أعداء خطرين على الغرب.
هكذا هي المعادلة القائمة الآن للأسف: الغرب بعلمانيته، وتقدمه الصناعي، والتقني، بمنظومة أفكاره التي غزت السماء والأرض، وعملت فتوحات لم يحلم بها الإنسان من قبل، بجيوشه التي تخلت تماماً عن طرق القتال القديمة.. بمواجهة كل هذا الجبروت تقف حركات وأحزاب، مثلها الأعلى في المقاومة لم يزل غزوات الرسول ومعارك المسلمين وفتوحاتهم القديمة، وإذ تحاول الدخول في العصر، فستستخدم التفجيرات والعمليات الانتحارية هنا وهناك.. هذه معادلة غير عادلة، لا يوجد تكافئ من أي نوع بين الطرفين.. كيف نستطيع بهذه المعادلة أن نحافظ على شعوبنا من الإبادة، ولا أقول كيف ننتصر، ننتصر على من، على الصواريخ التي تهبط على رؤوسنا لا نعرف من أي فج تأتينا، على أنظمتهم المعلوماتية التي يستطيعون بها معرفة سكناتنا، بخططنا الحربية الخارقة التي نحرق فيها نصف دولهم.. وهم بهذه الخطط ذاتها (خططنا) حرقوا كل بلادنا، بخطابات رؤسائنا، بتهديدات معارضاتنا الأصولية.. (يا ملك الروم أتيناك برجال يتوقون إلى الموت كما تتوقون أنتم إلى الحياة).. بكل بساطة أننا نسعى للهلاك على آخر المويدلات وعلى كل المستويات..؟؟؟؟
لقد نسى الجميع في خضم هذه الدوامة، ذلك السؤال الصغير والبسيط والقديم: ماذا نريد؟ هل حقاً أننا نريد منافسة النظام الاقتصادي والاجتماعي (الحضارة الحديثة) القائم الآن، طيب ليكن هذا، لكن بأي بديل؟ لا أدري.. أحد من الحركات الإسلامية على اختلاف تلاوينها المذهبية، لم يطرح برنامج اقتصادي واجتماعي واضح ومفهوم وممكن تطبيقه إلى الآن.. ما ظل يطرح إلى الآن ليس أكثر من شعارات جهادية، ودعوات للرجوع إلى الشريعة الإسلامية، كأن هذا الشعار هو السحر بعينه، هو تلك الجوهرة المتموضعة في خاتم مفقود، ما أن نعثر عليه ونفركه حتى يبرز لنا الجني إياه شبيك لبيك إلى آخر الحكاية. عندها سنطلب من الجني تحقيق كل رغباتنا المعلومة وغير المعلومة.
يبدو لي أننا سنسلم رقابنا في النهاية وبإرادتنا هذه المرة، إلى سكاكين النظام العالمي الجديد.. لا يوجد عندنا للأسف ما ننافس به جبروت هذا النظام.. غير تشتتنا بين استبداد حاكم واقع، واستبداد معارض سيأتي إن تسنى له ذلك. لم نمتلك بعد آلية تجنبنا ذلك الاستبداد، قل آلية تشعرنا إننا بشر وجزء من الإنسانية لا جزيرة مغلقة على ذاتها، والأخطر أنه لا أحد يفكر في البحث عن هذه الآلية.
كيف الخروج من فكي الرحى، فكي الاستبداد، والخروج سيكلفنا التخلي عن أوهام كثيرة عشعشت في رؤوسنا وألبسناها ثوب القداسة.. أوهام جعلتنا نقرأ الماضي حاضراً والمستقبل مضمون وفي الجيب، لكنه ليس المستقبل الكائن على الأرض، بل ذلك الكائن في السماء.. أوهام جعلتنا نبحث عن حلول لمشاكلنا من خارج قانون السبب والنتيجة، أوهام جعلتنا نعتقد أننا لا نخطئ، لذلك أبدعنا في فنون إخفاء وتجميل وتزو يق الأخطاء. إرث ثقيل من الأوهام يثقل كواهلنا.. كيف نستطيع الخروج إلى العالم متخففين من هذه الأوزار، منفتحين على كل ما هو مفيد لنا، وأول المفيد هو أن نوطن مفهوم التنوع والاختلاف في داخلنا، أن نعرف ما هي مصالحنا الحقيقية وكيف نحققها، كيف نخوض صراعاتنا مع الآخر الذي يسعى لمصالحه، على قاعدة ما عندي لا تستطيع أن تأخذه مني بالقوة، لأن مفهوم القوة ينجح إذا الصراع كان صراعاً فردياً، لكنه فشل ويفشل حين تخوضه شعوب تسعى إلى مصالحها، أحد لم يستطيع أن يقهر شعب يسعى إلى مصالحه الحقيقية، الموجودة على الأرض وليس تلك الموجودة في السماء، ما العيب إذا كانت جل هذه المفاهيم مأخوذة من قاموس أعدائنا؟ طالما هم باعتمادهم عليها قد نجحوا ووصلوا إلى ما وصلوا إليه، لماذا لا نأخذها عنهم.. في النهاية، نحن جميعاً بشر، والعاقل من يستفيد من أخطاءه وأخطاء غيره.. ومن حسناته وحسنات غيره.. في كل الأحوال أن لا نخاف من الوقوع في الخطأ، لقد وقعنا فيه طويلا، لكنه للأسف ذات الخطأ.. المهم في الأمر، أن لا نسير وفق قوانين مقدسة لا يمكن المساس بها.. القوانين توضع لخدمة البشر وليس العكس.. حياة البشر متغيرة متحركة، وعلى القوانين أن تسايرها.. لا العكس.. لم يعد مقنعاً القول ما أن نعود إلى الشريعة الإسلامية حتى نحل كل مشاكلنا، لقد تم الرجوع إليها في بلدان إسلامية عديدة، بشقيها السني والشيعي، لكنهم لم يتطوروا قيد أنملة، ظلوا حيث هم، وكان ممكن أن يظلوا مثلما (طالبان) خارج العصر، لولا سعي بعض المصلحين عندهم، لانتشال البلد من الفاجعة الجديدة، بالانفتاح على العصر والحضارة الحديثة، والاستفادة من كل حسناتها.
للدين قدسيته التي ينبغي احترامها. ليس من الاحترام له أن نجعله يخوض معنا أوحال وشؤون تدبير حياتنا.. نحن من يدير حياتنا، نحن من يوجد لنا القوانين التي تدير شؤوننا، ونحن من يغير تلك القوانين إن لم تكن ملائمة، إنما فقط بالاتفاق على آلية للإقرار والتغير أولاً.. للإنسان تجربة هائلة من بدايات التأريخ المعروف وإلى الآن.. تجربة نستطيع الاستفادة منها على نحو أفضل، لو تعاملنا معها بنظرة نقدية، لا نظرة تقديسية، ليس بالضرورة سأحقق حضارة جديدة بأسلوب نبوخذنصر، أو بأساليب الخلفاء الذي حكموا المسلمين في فترات ازدهار الحضارة الإسلامية، لهم أساليبهم ولنا أساليبنا الخاصة بنا.. نحن أبناء هذا العصر، لِِِمَ نترك أنفسنا خلف أبوابه.. نتلصص عليه من النوافذ والثقوب.. الحضارة الحالية لم تعد لها جنسية معينة، بل هي حضارة إنسانية عالمية، فيها الشرور وفيها الحسنات.. كأي حضارة.. لنساهم مع غيرنا في تدعيم حسناتها وإلغاء شرورها، أو التقليل على الأقل منها.. الأسلحة التي بحوزة الإنسان الآن لم تعد سيوف ومجانيق لا تؤذي كثيراً، بل هي قادرة على إفناء شعوب، ألا يستحق هذا الكثير من المسؤولية في خوض الحروب والتفكير فيها مثلاً؟
ماذا يحدث لو أن جماعة من الجماعات المنتشرة هذه الأيام، التي تستند إلى مفاهيم تكفير الجميع ما عدا أعضاءها، لو أنها استطاعت الحصول على السلاح النووي.. من يمنع وقوع الكارثة؟ ستحدث الكارثة وسيكون الموت للجميع، لكنهم سيفترقون عن الجميع بفوزهم في الجنة حسب إيمانهم.. هكذا ببساطة..
حين تبنى الحياة على الحلال والحرام والكفر والإيمان، لا يكون هناك متسع للنقاش والتفاهم والتحاور.. كل شيء سيختلط بقدسية من نوع ما، غير قابلة للتنازل إلى الآخر.. والحياة حين تفتقر للجدل، ينعدم تطورها، نظل كما نحن، مستهلكين لمنتجات من نعتبرهم أعداءنا. من عنده نفط يبيع نفطه ويشتري تلك المنتجات، ومن ليس عنده نفطاً، يظل مستجدياً صدقات صندوق النقد الدولي، ومهدداً العالم بقنبلة الانفجار السكاني الذي سيكتسحهم.. حين يجوع الناس ماذا يفعلون؟ يهجمون على اقرب حدود، وإذا كان من في تلك الحدود مثلهم، سيهجم الاثنان على البعيد الغني.. عندها سيرضخ ذلك الغني البعيد متصدقاً بفتات من مائدته العامرة.. لكن السؤال هو لم لا تكون لنا نحن أيضاً مائدة؟ ليس بالضرورة أن تكون في البداية عامرة، لكنها ستعمر إذا وجد من يرعاها، إنما ليس بالجمود والتحجر، بل بالانفتاح والاستعداد للتطور..