عماد عبداللطيف سالم
الحوار المتمدن-العدد: 2250 - 2008 / 4 / 13 - 11:08
المحور:
الادارة و الاقتصاد
بعد خمس سنوات على الغزو الامريكي للعراق , يحق لنا ان نتساءل : اين هي القدرات التخطيطية الاستراتيجية الهائلة للولايات المتحدة الامريكية من فوضى الاجراءات الاقتصادية الجاريةفي العراق ؟ و ما هو نطاق تدخل المنظمات الاقتصادية الدولية في الشان العراقي , و ما هي حدود ولايتها في هذا الصـــدد ؟الى اين يتجه الاقتصاد العراقي ، والى ماذا سيفضي هذا النمط الانتقالي للخراب الاقتصادي , في كل القطاعات , و في جميع المرافق ؟
ان انهيار الاقتصاد العراقي كان محتما , بعد تعرضه لمتلازمة من الكوارث السياسية و العسكريـــــة و الاختلالات المزمنة , التي لا يقوى حتى الاقتصاد المتقدم على تحملها .
غير ان غياب " دولة عراقية " , بالمعنى الحديث لهذا المفهوم و بما تنطوي عليه من منظومات مؤسسية و قيمية , كان و لايزال حجر العثرة الاساس امام تطور الاقتصاد العراقي .
و من المثير الدهشة و الريبة معا , ان لا تتمكن الدولة العظمى الوحيدة في العالم من الاسهام بفاعلية في وضع اللبنات الاولى لاعادة تاسيس دولة عراقية حديثة . فهي تحتل هذا البلد ( المتخلف و الصغير ) منذ خمس سنوات , و يبلغ عديد قواتها فيه اكثر من 160000 مائة و ستون الف فرد مدججين باحدث الاسلحة و اكثرها تطورا وقد دفعت ثمنا باهظا لجعله نموذجا للديمقراطية ( اكثر من اربعة الاف قتيل و ثلاثون الف جريح و ترليون دولار من الانفاق العسكري المباشر ) . غير ان احدا لم يسال بجدية كيف يمكن بناء نموذج يقتدى به في الممارسة الديمقراطية دون دولة حقيقية وفاعلة ؟و كيف يمكن بناء هذه الدولة بدستور ماضوي مشوه البنود و غامض المقاصد ؟ و كيف يمكن تحقيق الرخاء الاقتصادي في حين يتم التاسيس لبنية قانونية و دستورية تكرس حق " ملوك الطوائف " "و الاقطاعيات الحزبية " في تقاسم وتوزيع ثروات العراق كافة , و ليس مكامنه النفطية وحدها ؟
هل يمكن القول , بعد هذا , ان الادارة الامريكية ذاتها لا تريد تاسيس مثل هذه الدولة , و ان من الافضل لمصالحها الانية استمرار هذا النمط من الاداء الحكومي المتعثر لحين صعود طبقة سيساية جديدة , جديرة بان تكون حليفا استراتيجيا موثوقا لها ( كما هي اسرائيل الان )؟ لا احد يستطيع الجزم بذلك .الا ان الملاحظة الاهم هو فشل الولايات المتحدة الامريكية , حاملة لواء الراسمالية الظافرة , و المبشرة بفراديس اقتصاد السوق الحرة ، في ادخال اي تغيير جوهري على محتوى التحول في شرعية السلطة الحاكمة في العراق . فشرعية الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال , كما كانت قبله, لم تتحول من " شرعية انجاز " الــى " شرعية دستورية " رغم كل ما حدث في هذه السنوات الخمس العجاف في كل شئ ( الا من الـــــدم و الخراب و الفوضى ) . و بهذا لم تتمكن الولايات المتحدة الامريكية من ارساء نوع من القطيعةبين الواقع السياسي و الاقتصادي العراقي , الذي تتخبط فيه ، و بين ارث خمسون عاما من التخبط الاقتصــــادي و السياسي للحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 1958 و حتى عام 2008 .
لا احد يعرف لماذا لا تضغط الولايات المتحدة الامريكية ( و غيرها من دول العالم المتقدم ) على الفئــات و الشرائح الحاكمة و المتصارعة على السلطة في العراق ( اذ لا وجود حتى الان لطبقة سياسية فاعلة )من اجل وضع سياسة انفاقية مجدية اقتصاديا و اجتماعيا (و بالتالي سياسيا ) للعوائدالنفطية الهائلة . و لماذا لا توضع خطة حقيقية للنهوض بالبنية التحتية الاساسية المدمرة منذ عقود ( و بدونها لا يمكن التفكير لا في استثمار عام و لا في استثمار خاص -محلي- ناهيك عن الاستثمارالاجنبي المباشر و غير المباشر ) .
لا احد يعرف لماذا يضغط صندوق النقد و البنك الدوليان من اجل رفع الدعم عن المشتقات النفطية و الغاء البطاقة التموينية ( مع وجود مليون ارملة و خمسة ملايين يتيم و اربعة ملايين لاجئ ، من المهجرين داخليا و خارجيا ) دون الضغط على اعادة هيكلة انفاق الموارد النفطية و تخصيص الجزء الاكبر منها للانفاق الاستثماري( و ليس الجاري ) , في حين ان العراق كان قد بدا العمل على وفق هذه الاسس , و بالتنسيق مع البنك الدولي للانشاء و التعمير , و قام بتشكيل مجلس الاعمار , و خصص كامل العوائد النفطية للاستثمار في البنى التحتية الاساسية , ووضع العراق على اعتاب مرحلة الانطلاق نحو التطور الاقتصادي المستدام, و كل هذا حدث في اوائل عقد الخمسينيات من القرن العشرين.
و لا احد بامكانه ان يستوعب مثل هذا الاصرار على احلال الحكومة محل الدولة . و على اصرار هذه الحكومة على ان تكون حكومةانجاز و معونات(ومكرمات) بدل ان تكون دولة قانون و مؤسسات تقدم دعمها و رواتبهـــا و اجورها مقابل انتاجية العاملين في مرافقها المختلفة , ولاتقدمها كهبات وصدقات و نحن على اعتاب نهاية العقد الاول من القرن الحادي و العشرين.
لا احد يعرف لماذا تقوم حكومة في العالم بدفع صدقات لملايين العاطلين عن العمل من مواطنيها دون ان تنجح طيلة خمسة سنوات في توفير فرص عمل دائمة لهم ، بالرغم من ان معدل البطالة في العراق يصل الى 40% و التضخم الى 20% و ان ثلث السكان يعيشون تحت خط الفقر, و ان 60 % منهم لا يتوفر لهم الماء الصالح للشرب و لا شبكات للصرف الصحي , و ان معدل البطالة المقنعة بين العاملين في ما تبقى من شركات الدولة و مؤسساتها و مشاريعها العاطلة يصل الى 60% , و ان 65% من اجٍمالي تخصيصات الموازنة الفيدرالية العراقية يدفع كاجور و رواتب و منح و اعانات.
و ليس في وسع احد الخوض في تفاصيل هيكل الايرادات العامة للدولة العراقية , انطلاقا من مبدأ قديم جدا هو مبدأ " المواطن دافع الضريبة " citizen . وعلى وفق هذاالمبدأ فان "لا ضرائب بدون تمثيل " . و بالتالي فليس هناك حق في التصويت دون دفع الضريبة لدولة ستكون " ديمقراطية بالضرورة ". و اعتــــراض " المواطن " هنا وجيه " فالوطنية العراقية " , كهوية , لم تتشكل , او تتبلور , بعد . " و العراقي " هو الكائن السياسي الوحيد الدي لم يصبح " مواطنا " بعد. و بدل " الوطن " و " المواطنة " نجد مكونات مذهبيـــة و عرقية , و ولاءات عشائرية و مناطقية , وبالتالي لا توجد دولة وطنية " يقوم المواطن بدفع ضرائبه اليها. و بدل الدولة توجد سلطة تمارسها الحكومة . وهذه الحكومة عاجزة و مفككة ورثة ( لاسباب عديدة لاداعي لسردها هنا ). و اذا افترضنا جدلا وجود " دولة عراقية فتية " , فان هذه الدولة لم تعد " راعية " بحق , كما كانت في السابق , و لم تعد "دولة خدمات" ( حيث لا تتوفر الخدمات الاساسية في حدها الادنى لمعظم السكان ) , كما انها ليست " دولة حارسة " على امن وحماية ارواح مواطنيها و ممتلكاتهم , كما هو شان الدول في كل زمان ومكان ؛ و بالتالي لم يعد " المواطن الاقتصادي " " كالمواطن السياسي " ملزما ازاءها باي شئ . و بوسع اي مبتدأ في الاقتصاد السياسي ادراك ما يمكن ان ينطوي على هذا " العقد الاجتماعي المهترئ " بين المواطن و الدولة من عواقب وخيمة .
و في حين يفهم " المواطن العراقي" هذه البديهية القائمة على التوازن بين الحقوق و الواجبات , فان من الصعب علينا التسليم بسهولة بان الفئات و الشرائح العراقية , الحاكمة حاليا , قادرة على فهم هذا المبدأ , وهو: "ان الضريبة , و تمكين المواطن من دفعها , قد تصلح اساسا لعقد اجتماعي جديد بين المواطــــن و الدولة, و معيارا مهما لقياس مدى ارتباط المواطن بهويته الرئيسة , بعيدا عن الهويات الفرعية التي مزقت النسيج المجتمعي العراقي .
و لو اتيحت لاي باحث احصائية دقيقة لوجد ان الحكومة العراقية قد اقامت او شاركت الالاف من المؤتمرات و الندوات وورش العمل و الحلقات النقاشية ( وكلها عقدت خارج العراق ) و اصدرت اطنانا من التوصيات , دون ان تتمكن من اعادة بناء قطاع خاص حقيقي ( تعود هو الاخر و طيلة عقود على ان يعتاش متطفلا على فتات الفائض الاقتصادي لموائد الحكومات العراقية المتعاقبة على حكم العراق منذ عام 1958 و حتى الان ) . و لا احد يجرؤ على السؤال لماذا لا تدفع الولايات المتحدة الامريكية الحكومة العراقية على تبني نماذج رائدة بهذا الصدد ( كالنموذج الذي طبقته اليابان في نهاية القرن التاسع عشر ) بدل حماستها المفرطة على اصدار قانون النفط و الغاز .
ان القطيعة بين منهج خاطيء لبناء الاقتصاد ( كما هو حاصل الان) , و بين منهج معاصر لبناء الاقتصاد الحديث ( كما يحدث في الاقتصادات الناشئة على اقل تقدير ) يكمن اساسا في بناء قطاع خاص وطني قادر على العمل بديناميته الذاتية ، و ليس بالاتكال الابدي على الدولة . فالدولة يمكن ان توفر الحاضنة و تقوم بالارضاع الاصطناعي لمدة محدودة جدا , و لكن ليس الى الابد ( كما كان يحدث دائما ) . و على القطاع الخاص و رجال الاعمال العراقيون ان يدركوا ان القطاع الذي يعتمد اعتمادا مطلقا على الدولة لن يحبو ابدا ، و سيبقى كسيحا كالدولة التي اوجدته ابتداءا.
و لاندري لماذا لا تقول الولايات المتحدة هذا كله لآحد في العراق الجديد ، و اساتذة الاقتصاد فيها هم من زرعوا مبكرا في اذهاننا الفتية ان لا رأسمالية و لا سوق حرة و لا اقتصاد حديث دون قطاع خاص قـوي و فاعل و دولة قوية و فاعلة و حارسة و ضابطة لايقاع كل شئ. دولة تمارس دور الحكم و لا تشارك في اللعبة الا في اضيق الحدود , فكيف اذا سادت الفوضى ميدان اللعب و المدرجات , و انتقلت حتى الى غرف ملابس اللاعبين المحليين و الاقليميين ( الاصلاء منهم و الاحتياط ) .
و اخيرا ما هو مقياس التقدم و النجاح في" العراق الامريكي " ؟. و اذا كان ينبغي للمهمة ان تكون مستمرة , فينبغي ان نعرف الى ما يمكن ان تقودنا اليه بايقاع عملها الحالي. و اذا كان على النصر في العراق ان يكون ناجزا فينبغي للامريكيين قبل العراقيين ان يعرفوا على من تقع تبعات هذا النصر ، و من سيتحمل كلفته ، و من سيحظى بعوائده في نهاية المطاف .
و في كل مجتمع تقريبا نجد ما يمكن ان نطلق عليه مفهوم "الفئات الهشة من السكان " او " الفئات الاكثر عرضة للخطر " و نسبة هؤلاء في اي مجتمع هي التي تعكس قدرة الحكومة ( او الدولة ) على توفير الحد الادنى من متطلبات التنمية البشرية المستدامة لمواطنيها . و ليس من الانصاف تحميل حكومات ما بعد الاحتلال تبعات الاثار السلبية الممتدة لاخطاء و خطايا النظام السابق . و لكن واقع الحال بعد 9/4/2003 يشير الى تحول فئات و شرائح المجتمع العراقي باسره الى فئات هشة من السكان ، وذلك كنتيجة منطقية لكونها اكثر الفئات و الشرائح عرضة للخطر ( وهذه ايضا نتيجة منطقية لكون العراق قد اصبح بعد 9/4/2003 واحدا من اكثر البلدان خطرا في العالم ) . و هكذا لم تعد الفئات الهشة من السكان تشمل الاطفال و ذوي الاحتياجات الخاصة و العجزة و النساء المعيلات لاسرهن ( دون تمكينهن من المؤهـلات و الموارد ) .. بل امتدت لتشمل فئات و شرائح الطبقة الوسطى في المجتمع العراقي ، و هي طبقة باتت مهددة بالانقراض نتيجة العنف السافر الموجه ضدها من قبل قوى مجهولة تجوب العراق طولا و عرضا كالاشباح ، وتمعن في قتل هذه الطبقة و تهجيرها و شلها بالتهديد و الابتزاز ، دون ان تجد جنديا واحدا يمتلك الشجاعة او القدرة او الرغبة في التصدي لها ( رغم وجود 600000 ستمائة الف منتسب للجيــش و قوى الامن العراقية و ما يزيد عن 160000مائة وستون الف من منتسبي القوات متعددة الجنسية ).
وحين يتفشى الفساد و العنف و الفشل ( و العراق يتبوأ مراتب متقدمة في كل ذلك على وفق تقارير المنظمات الدولية المتخصصة ) لا يعود ثمة مجال للحديث عن بناء دولة . و مرة اخرى ، لماذا لا تتحدث الولايات المتحدة الامريكية بين العراقيين ( و بين فئاتهم الحاكمة تحديدا ) عن كيفية قيام الاباء المؤسسون فيها ببناء دولتهم ؟ لماذا لا تنشر سيرتهم على الملآ ليعرف "الابناء المؤسسون" في العراق المعاصر ذلك البون الشاسع بين حكمة الاباء في اصرارهم على بناء دولة و رعاية امة , و حماقة الابناء في اصرارهم على تشكيل حكومة فاشلة تليها حكومة اكثر فشلا ، بينما يتهاوى ما تبقى من مؤسسات و ضوابط دولة انشأت في عام 1921 ، و تتشرذم "تشكيلة اجتماعية –اقتصادية عراقية " يصر البعض على انها كانت موجودة منذ اربعة الاف عام ؟.
ان السلوك الاقتصادي للحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 1958 و حتى عام 2008 يفصح بوضوح عـن " مقامرة مجتمعية "و"مقامرة اقتصادية مذهلة "؛ و هو في مجمل معطياته و نتائجه عبارة عن سلسلة مريعة من"الحماقات الاقتصادية" .
غير ان الجديد في الامر هو اننا تعودنا على التعايش مع هذا الواقع في ظل تعاقب انظمة استبدادية ذات سلوك سياسي و اقتصادي محدد . و تعاملنا مع النتائج الكارثية المترتبة على هذا السوك باعتبارها تحصيل حاصل . اما الان ، وفي ظل الرعاية الامركية " الكريمة " لبلدنا ، فان من الصعب الاستمرار في تقبل ذلك . و على الولايات المتحدة الامريكية ان تدرك ان فشلها في العراق هو بداية لهزيمتها الاخلاقية في العالم باسره . و يقينا ان هذا لم يكن الهدف ( الاقتصادي او السياسي او الاخلاقي ) لاحتلال العراق . فلا يعقل ان تحتل الولايات المتحدة الامريكية بلدا كالعراق ، و تعيده في الوقت ذاته ، و خلال خمسة سنوات فقط ، الى عصور ما قبل الصناعة.
* اكاديمي عراقي
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟