جيهان أحمد عبد العزيز
الحوار المتمدن-العدد: 2224 - 2008 / 3 / 18 - 07:17
المحور:
الادب والفن
_ 1 _
أربعةُ جدرانٍ وسقفُ ونافذةُ وحيدة ٌوبابٌ مغلق .
بابٌ مغلقٌ ، خلفي عالمٌ آخر ، يضمٌ ثلاثَ حجراتٍ أخرى ، لثلاثِ أسرٍ مختلفةٍ في أشياءَ كثيرةٍ ، متفقةٍ في أشياءَ أكثر .
خاصة أصولِها الريفيةِ ، بما خلقته من طباع، وكلمات تخترقُني ، و قد أُبدلت قافُها جيما ، أو ذلك الصياح بلفظتي " أمّا ، آبا " ، تمررها الصالةُ الواسعةُ تلك المتوسطةُ للحجرات الأربع ، تعبر خشبي إلى ساكني الحجرةِ الأخيرة .
الصالةُ الواسعةُ كانت تضيقُ بمرورِ الوقتِ ، هي وكل شيء آخر ، تزدحم بأملاك كل أسرة ، كل يكدس الأخشاب والغسالات و مواقد الكيروسين ، في تلك المساحة الضيقة بين باب حجرته وحجرة الآخر ، حتى جدران الصالة امتلأت في مراحل لاحقة بأرفف خشبية لاستيعاب مزيد من الأغراض ، ليصبح من المعتاد اندلاع الكثير والكثير من الشجارات بين ساكني الحجرات الأربع ، حول شبر زائد من الأرض ، أو من مساحة أحد الجدران .
صالة فاصلة وأربعة أبواب مغلقة أغنت عن الحاجة لوجود باب خارجي للشقة ، فقط تجويف كبير في أحد الجدران يفضي إلى درج ضيق مظلم .
_ 2 _
درج ضيق مظلم لا أسمح بالمرور لأكثر من شخص واحد وفي اتجاه واحد صعودا أو هبوطا منعا لحدوث أي تصادم أو احتكاك ، تطل علي أربعة مصابيح ضوئية ، تتشعب امتدادات أسلاكها لينتهي كل سلك بمقبس في إحدى الحجرات الأربع ، لا تلمس الأيدي تلك المقابس إلا حين يسمع نداء القادم من الشارع مرة أو مرتان أو أكثر ، تعود ساكنو الحجرة الأخيرة على الاستغناء في أحيان كثيرة عن استعمال مصباحهم الضوئي، ربما لأن بعد حجرتهم كان يمنع وصول صوت القادم إليها مهما علا صوته بالنداء ، فيكتفون بذلك الضوء الخافت المتسرب من نافذة باب شقة الدور السفلي ، وغالبا ما كان ينتابهم ذلك الشعور بأن أحدا ما يكمن لهم في الركن الحالك خلف انحنائي ، شعور بالتوجس تسرب إلى باقي السكان عندما انتشر خبر تلك الحادثة الشهيرة للفتاة الصغيرة ذات السنين السبع ، وجارها المراهق الذي يكبرها بعشر سنوات كاملة ، حادثة شهدت بعض تفاصيلها بنفسي وتسربت لي بقيتها عبر الجدران والصالة ، المراهق الضخم يتحرش بالفتيات الصغيرات أثناء صعودهن ونزولهن ، لم تخبر إحداهن أهلها عما يحاول فعله معهن ، وحدها تلك الصغيرة المذعورة باحت لأمها عن محاولاته معها ، محاولات محمومة كنت أرقبها ، وأرقب معها انفلاتها في كل مرة ، ركضها المذعور إلى حجرتهم البعيدة ، إغلاقها باب الحجرة بسرعة واستنادها إليها وكأنها تمنع بجسدها الصغير مروره إليها ، لا تهدأ خفقات قلبها إلا بعد دقائق طويلة ، ظلت أياما وأسابيع تنفلت من بين يديه ، تزوغ بجسدها الضئيل منه ، لم تكن تفهم سر ذعرها ، أرادت أن تخبر والديها مرارا، لكن خوفها منهما كان أشد وطأة على نفسها ، لم تكن تعي سوى خطأ ما يحدث دون أن تفهم السر وراء ذلك ، فقط تتذكر تحذيرات أمها الدائمة، وقائمة طويلة مما لا يصح ولا يجب ، أدركت بحدسها الطفولي أن ما يريده منها ذلك الضخم القبيح يتربع فوق رأس المحظورات التي تحفظها كاسمها ، في لحظة أرادت البوح ، وما أن فعلت حتى ندمت على ذلك آلاف المرات ، هالها مرآي شحوب وجه الأم ، وتوحش ملامح الأب ، كاد قلبها يتوقف من الرعب ، وأوشكت عظامهاعلى التفتت من ضغطاتهما وهزهما لجسدها بعنف ، عشرات الأسئلة الغريبة تنهال فوق رأسها دون أن تفهمها أو تستطيع لها ردا ، ماذا فعل؟ ومتى؟ و أين؟ وكيف ؟ مزقوا ملابسها ، فتشوا ذلك الجسد الناحل المرتجف بحثا عن دليل لا تعرفه ، انهالت على وجهها الصفعات وعلى رأسها الشتائم واللعنات قبل أن يتركاها أخيرا تنزوي في ركن الحجرة الوحيدة ، كم تمنت لو كانت هناك ولو حجرة أخرى تختفي فيها عن عيونهم جميعا ، لم تجد في النهاية حلا سوى إغماض عينيها والتظاهر بالنوم هربا من نظراتهم الكاوية .تعودت بعد ذلك على الهروب إلى دورة المياه كلما تاقت إلى الوحدة أو الفرار. و الجار المراهق فقد نفى وأهله ما حدث بقوة ، وتظاهر بقية الجيران بأن ذلك لم يحدث أبدا لأي من بناتهم ، لكن ذلك لم يمنعهم جميعا من اتخاذ الإجراءات اللازمة للحرص والحماية ، حرص وحذر تجول امتد ليشمل الأبناء من الذكور أيضا مما دفع بالعديد من التساؤلات لأذهانهم الصغيرة ، خاصة وجوب فرارهم بأقصى سرعة إذا ما لمحوا الجار المذكور.
وحدها تلك الصغيرة ، ظلت تحمل الذكرى في أعماقها ، مختلطة بصراخ أمها تهديد أبيها بالسكين ، واتهامها بالكذب ، دموعها وهلعها وخفقات قلبها المتسارعة ، ذكرى كانت تراها دائما تطل سافرة من عيون الجميع ، أو قابعة في ركني المظلم .
_3_
صالة واسعة لم يتبق من معالمها سوى ممر طويل ضيق ، تنفتح عليه الأبواب الأربعة في الصباح ، تباعا أو في نفس الآن ، ليتدفق الجميع منتظمين في طابور طويل ومتشعب ينتهي عندي ، أنا دورة المياه الوحيدة .
تعودت كل الأسر على الالتقاء أمامي ،في طابور صباحي ، عرض يومي للعيون المنتفخة والشعور المتناثرة ، تعودوا أيضا على إلقاء تحية الصباح في أوقات الود ، وتبادل نظرات الكراهية عند التنازع والخصام ، ودائما اللقاء أمامي ، لقاء لا مفر منه ، يجلب معه شجارات يومية حول أحقية الدخول إلي ، أحيانا يتم ذلك تبعا لأسبقية الحجز، وأحيانا أخرى بإلحاح الحاجة وعدم القدرة على التحمل أو الانتظار .
لم يكن غريبا أن يكتشف أحد الواقفين ارتدائه لنعليه معكوسين ، أو ارتداء فردتين لنعلين مختلفين، وعادة يسمع صوت بابي يغلق في عنف يعادل لهفة وسرعة مغلقه على الدخول ، يعقب ذلك صوت مزلاجي الداخلي يوصد بإحكام طلبا للأمان ، في أوقات كثيرة يتحول ذلك المزلاج إلى مسمار حديدي طويل مثني ، المهم أن يصد من بالخارج عن دفع بابي الخشبي العامر بالشقوق والفجوات ، والذي يترك فراغا من أسفل يسمح لمن يقضي حاجته في قاعدتي العربية الأرضية برؤية أقدام من ينتظرون خلف الباب ، قد يطول مكوثه بدافع المرض أو العناد ، فيسلي نفسه بمحاولة استنتاج عدد وهويات المنتظرين ، يستنتج ذلك من خلال أقدامهم ، أطراف جلابيب النساء وسراويل الرجال ، أو من خلال زفراتهم الحانقة عليه ، ربما يجد نوعا آخر من التسلية ،في محاولته لمتابعة تلك الأشكال التي كونها الشمع السائل المستخدم في سد فجوات وشقوق بابي الخشبي ، بالطبع يتشتت ذهنه تماما حين يبدأ الواقفون خلف الباب بطرقه بقوة ، فيسرع بالخروج قبل نفاد صبر أحد المنتظرين ودفعه الباب .
من الممكن أيضا حدوث بعض الحوادث غير المتعمدة ، كوقوع المسمار فجأة ، أو حدوث انسداد في أنابيب الصرف ، يدفع بكل ما في جوفي إلى السطح مكونا بركة كبيرة تمتلئ بها أرضيتي .
كان لكل ساكن طقسه الخاص داخلي خاصة الصبيان والمراهقين ، يصيبونني بالتقزز أحيانا وأشفق على بعضهم في أحيان أخرى ، الرجال والنساء والطفال جميعا ، كان لكل منهم طقوسه السرية داخلي ، لكن شخصا خاصا لفت انتباهي بشدة ، شخص لاحظت تغيبه الدائم عن الطابور الصباحي اليومي ، إنها تلك الفتاة النحيلة ، قاطنة الحجرة الأخيرة المجاورة لي ، أدركت بعد ذلك أنها صنعت لنفسها حاجز أمان خاص يحميها ، و يجنبها الحرج ، أمان التحكم في أجهزة جسمها ، دربت نفسها على التحمل لدقائق قصيرة ، امتدت بمرور الزمن ،لتتحول إلى ساعات في بعض الأحيان ، دربت نفسها أيضا على سرعة قضاء الحاجة ، والأهم من ذلك عدم صدور أي صوت يسمعه من بالخارج ، تفتح صنبور المياه منذ اللحظة الأولى للولوج وحتى اللحظة الأخيرة للخروج .
لكنها كانت تقوم بزيارتي في أوقات أخرى ليلا أو نهارا ،تقضي بداخلي أوقاتا تتمنى أن تطول أكثر ، ألمح فيها دموعها المتراقصة في عينيها ، والتي تنهمر انهمارا أشد من ماء الصنبور المفتوح ، دموع صامتة ، على وجه مختلج وشفاه ترتعش ، ألم تهتز له جدراني الحجرية ، أكاد أصرخ بدلا منها ، كلما رأيتها تعض ساعدها بأسنانها ، أو تدق جدراني بعنف لا يعادل ما يعتمل بداخلها ، أدركت أنني صرت ملجأها الوحيد ، مكانها السري الصغير الذي تغيب فيه عن عيون الجميع ، يباغتها دق على الباب أو نداء من أمها ، تكفف دموعها بسرعة ، تهيل الماء على وجهها المحتقن وتخرج ، صرت أتابعها يوميا ، تكبر ويكبر ألمها يوما بعد يوم ، أحسست بها تضيق بي وبجدراني الضيقة ، كان الألم ينحت في وجهها شقوقا ، تشبه شقوقي ، في أيام أخرى وجدتها تشركني معها قراءة خطابه الأول لها ، تقرأه عيونها بلهفة وخوف ، ترتسم لأول مرة ابتسامة واسعة وادعة على شفتيها المزمومتين دائما ، تخفيه بين طيات ملابسها ، تستعيد ملامحا جامدة ، وتخرج .
توالت الخطابات واللحظات التي نتشاركها معا ، تنوعت دائما، حفلت بكل المشاعر والانفعالات ، حتى عاد الحزن يكسو الملامح من جديد ، في تلك المرة ، والمرات التي تليها ، لم تعد هناك دموع ، فقط وجه جامد ، بارتعاشة خفيفة ودائمة أسفل الجفن الأيسر .
_ 4 _
أربعة جدران وسقف ونافذة وحيدة وباب مغلق
سقف أبيض خال إلا من مصباح ضوئي في المنتصف ، يضيء ليلا وفي معظم أوقات النهار
أربعة جدران ، يحتل إحدانا باب خشبي قديم ، وتخترق أخرى نافذة وحيدة ، تتيح لقاطني الغرفة أن يطلوا على ذلك المشهد الوحيد ، فناء المنزل الخلفي ، بما فيه من أعشاش تمتلئ بالدواجن ، وأزواج الحمام ، والفئران .
تعودنا أن تلتصق بنا صور جرائد ومجلات أجنبية ، تحمل أجساد فتيات يلصقها ساكننا الوحيد الأعزب ، بخليط من معجون الماء والدقيق تساعده على نسج خيالاته المسائية ، تألمنا كثيرا حين نزعت عنا تلك الصور حاملة معها أجزاء من طلائنا الجيري القديم ، لكننا سرعان ما تألقنا بطلاء وردي جديد ، بل وأثاث جديد افترش عالم الحجرة وغير معالمها القديمة ، ليعود ساكننا الوحيد في ليلة لن ننساها ، مصطحبا عروس متألقة في ثوب أبيض ، لينشرا معا في تكويناتنا الحجرية ، حرارة ودفئا أقوى من كل الخيالات السابقة ،مانحا إياها وعدا بالتخلي عن عالمنا في أقرب فرصة تتاح إليه ، لم تمض أيام حتى كان الطلاء الجديد يتفتت وقد اخترقته مسامير حديدية حملت صورة الزفاف بلونيها الأبيض والأسود ، بعد أوقات أخرى لا تجيد ذاكرتنا الحجرية عدها ، توالت المسامير تحمل صورا أصغر تناثرت حول الصورة الأم ، لكن ذلك لم يدم طويلا ، فما أن تلونت الصور حتى أصبح من الضروري التخلي عنها ، لتنوء المسامير بحمل أرفف خشبية ، امتلأت بأغراض الصغار والكبار ،تناست الزوجة الوعد القديم و هي توافق على استبدال قطع أثاثها بأخرى تصلح كأماكن إضافية للنوم ، ورغم تكاثر عدد القاطنين بداخلنا ، إلا أن الصقيع أصبح هو حالنا الوحيد ، فمنذ زمن والأم تنام بجوار الفتاتين على الفراش القديم ، بينما يتناثر الأخوة والأب على ما بقي من الأثاث أو مساحات الأرضية الفارغة بينها . حتى بالنهار ، انقسمت الحجرة إلى أركان خاصة ، لكل فرد ركنه الوحيد .
الفتاة الصغيرة النحيلة كانت تتخذ من النافذة الوحيدة مكانا أثيرا ، يسخرون منها ، يتسألون عن سر إعجابها بمنظر الفناء الخلفي ، لم يدرك أحد منهم أن بصرها كان يتطلع دائما إلى مكان آخر ، ترمق بعينيها الصغيرتين ، نوافذ حمامات ومطابخ المنازل المقابلة العالية ، تحسدها لأنها ترى مشاهدا أخرى ، وبقعة أوسع من السماء ، وتعانق مقدارا أكبر من أشعة الشمس ، في أحيان كثيرة كانت صور النوافذ الأخرى تصلها مشوشة غائمة تحجبها العبرات المترقرقة في عينيها ، أو تلك المتساقطة على أرضية الفناء الخلفي في صمت ، في زمن ما ضاقت عليها النافذة ، وعلت البيوت المقابلة أكثر ، وتضاءل حجم بقعة السماء الظاهرة من خلفها ، كانت ترقب عبراتها المتهاوية ، ترى نفسها تهوي معها من النافذة الوحيدة إلى الأرض ، فكرت ربما ساعتها فقط تستطيع روحها الفرار ، ومعانقة الشمس والسماء ، تنتبه لنداء آخر ترد عليه بصوت مختنق ، قبل أن تعود لعالم الحجرة الوحيدة .
أربعة جدران وسقف ونافذة وحيدة وباب خشبي مغلق
نعزف لحنا وحيدا يتكرر كل يوم ، لحنا تؤلفه سبعة حناجر ، تتبادل عشرات الصراعات اليومية ، على نفس من هواء الحجرة الوحيدة
على طلة من نافذة الحجرة الوحيدة
على ركن من أركان الحجرة الوحيدة
على أمل للخروج من الحجرة الوحيدة
تتقاذفه الجدران الأربع والسقف ، يقفز من النافذة لتعيده فئران الفناء الخلفي ، فيصده الباب المغلق ، يتفتت فوق أرضية الحجرة الوحيدة .
#جيهان_أحمد_عبد_العزيز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟