|
المرأة النمودج : الشهيدتان جانان وزهره قولاق سيز تركيا
غسان المغربي
الحوار المتمدن-العدد: 2216 - 2008 / 3 / 10 - 10:29
المحور:
ملف - الثامن من آذار 2008 يوم المرأة العالمي - لا للعنف ضد المرأة
" لا تحرر للمرأة الا بتحرر المجتمع ولا تحرر للمجتمع الا بتحررالمرأة " مقدمة مقدمة دار النشر في تركيا
يحكي هذا الكتاب الذي بين أيديكم عن مفصل زمني شهدته تركيا باعتباره امتحاناً إنسانياً. وهذا الكتاب الذي ينقل لكم صفحة واحدة من هذا الامتحان الإنساني العظيم يحمل في الوقت نفسه خصوصية الوثيقة التاريخية الهامة . حين يصدر هذا الكتاب يكون قد مضى على صوم الموت حوالي سنة*، وستتزايد أعداد المستشهدين في تلك المقاومة. ولكن التاريخ سيستمر بتسجيل كل لحظة معاشة تسجيل عالِم... من المؤكد أن صفحات رواية، أو لقطات فيلم سينمائي لا تكفي لشرح هذه المقاومة التاريخية ضد الفاشية التي بدأت في السجون، وانتشرت موجة موجة في الخارج. هذه المقاومة التاريخية العظيمة في الوقت نفسه تمر من امتحان الإنسانية، وتهزم من لم يستطع خوض هذا الامتحان، وهي المقاومة الأعظم التي تخاض في سبيل الكرامة الإنسانية عبر تاريخ النضال الثوري في تركيا. في هذه المقاومة ترتب على كل شخص دفع ثمن. هنالك من دفع روحه، وهنالك من دفع حريته؛ وهنالك من عاش أعظم الآلام بفقدانه أولاده. (أحمد قولاق سيز) أحد الذين عاشوا هذا الألم. ولكنه بوقفته منتصباً وهو يشهد أعظم الآلام، والاحترام الكبير الذي أبداه لعقيدة أولاده، ودفعه الجميع للتفكير بمعنى الأبوة، وتعليمهم هذا المعنى انحفر في أذهاننا باعتباره إنساناً . كان (أحمد قولاق سيز) أباً. لم يكن لديه غير ابنتين شابتين. افتقدهما في هذه المقاومة. وانطلاقاً من الاحترام الذي يكنه لقضيتهما وعقيدتهما وقف إلى جانبهما حتى نهاية نضالهما. أثناء توجه ابنتيه إلى الموت بجرأة كان دائماً بجانبهما، وأمسك بيديهما. لم يترك تلك الأيدي حتى النفس الأخير. وبقوة كبيرة حمل نعشي ابنتيه على كتفه. ولبى كل ما هو مفروض عليه دون نقص. لم يفصل بين ابنتيه وبقية المقاومين معهما. أحب كلاً منهم وكأنه ابنه أو ابنته. وحين يسقط أحدهم شهيداً يلبي هذه المرة مطالب الوفاء باعتباره أباً ورفيقاً، ويقوم بالمهمة النهائية . وبسبب انخراط ابنتيه في صوم الموت طوال مدة المقاومة كانت تمتد إليه الميكرفونات بشكل مستمر، ولكنه لم يقّدم في أي مرة الجواب الذي أراده الإعلام . شرح عبر تلك الميكرفونات نموذج "F" للسجون. وحكى عن الظلم. وبين سبب انخراط ابنتيه في صوم الموت، وما تطالبان به. وكان صوت ابنتيه والمقاومين في السجون الذين آخذوا الموت بعين الاعتبار، والذين يموتون ولا يستسلمون . ما زال الناس يموتون في أثناء كتابة (أحمد قولاق سيز) هذا الكتاب ، وهذه المقاومة العظيمة مستمرة. أما (أحمد قولاق سيز) فعزيمة الحياة، وارتباطه بها مازالت مستمرة لديه. عيناه تتابعان ما يعاش تفصيلاً تفصيلاً. ويستمر بالشهادة على ما عيش في هذا التاريخ . ستجدون في هذا الكتاب مشاعر أب توحد مع ابنتيه، وذكرياته، وعمراً موثقاً عاشه معهما، والمائة وأربعين يوماً الأخيرة التي عاشها. لعلكم في بعض الأحيان ستضعون أنفسكم مكان أحمد قولاق سيز وتحزنون، وستشعرون باحترام كبير لهذا الإنسان العظيم، القوي، الصابر، المجابه لآلام كبيرة لا أحد يستطيع تحملها . ممكن ألا يحدث هذا، فتدينونه لعدم الحيلولة دون موت ابنتيه. مهما كان خياركم، عليكم أن تبقوا مع ضميركم ويسأل كل منكم نفسه: ماذا فعلت من أجل إبقاء زهرة وجانان على قيد الحياة؟ ويجب أن يُطرح هذا السؤال . أثناء تحضير هذا الكتاب للطباعة تكاد تنتهي السنة الأولى على بدء مقاومة صوم الموت. إننا نشعر بالاعتزاز لنقل مقطع صغير من هذه المرحلة التاريخية المعاشة بقلم أحمد قولاق سيز. أما جهودنا لنقل كل وثيقة حول هذه المرحلة التاريخية المعاشة فستستمر. ونشكر أصدقاءنا الذين بذلوا جهوداً لإنجاز هذا الكتاب بشكل أمثل، وساهموا بنصوص وأشعار ووثائق... طور (الموقف) للنشر ----------------------------------------------------- * في عامنا الحالي 2004 يكون صوم الموت قد دخل عامه الخامس مقدمة الكاتب هدفت هذه القصة أن تحكي عن قسم من مرحلة تاريخية. من المؤكد أن هنالك كثيراً مما يمكن قوله حول هذه المرحلة. أنا لست مؤرخاً، ولست كاتباً أبداً. وحين يوضع هذا بعين الاعتبار فسينتج لدينا كثير من الجوانب القابلة للنقد. وسيُرى أن الأحداث والأشخاص والمؤسسات المُتناولة لم تأخذْ حقها بالعرض. أعرف أن هنالك أشخاصاً أصدقاء قدمتهم أحياناً بشكل مبالغ، وقدمت بعضهم بأقل مما يستحقون. إن هذا الوضع البعيد عن سوء النية نابع عن عدم تمكني من الكتابة. أنا أيضاً أردت أن أكتب قصة أشمل، وأكثر تفاصيلاً. ولكن يجب أن يُعرف بأنني لم أستطع تقديم الأفضل وسط هذا الجو المفعم بالأحاسيس، ويجب أخذ هذا بعين الاعتبار عند توجيه النقد. في أثناء عرض قسم من هذه المقاومة التي تحكي عن حياة زهرة وجانان القصيرة حيث وجد إلى جانب البطولات من باع شرفه وكرامته بصحن حساء تاركاً رفاقه في منتصف الطريق. عيش هذا قبل ابنتي، وسيعاش من بعدهما. هذه الخيانات التي شهدتها زهرة وجانان لم تخرب معنوياتهما. لقد وثقتا بأصدقائهما وشعبهما الذي آمنتا به وضحتا بحياتهما في سبيله. كانتا على وعي تام بأنهما لن ُتنسيا إلى ما لانهاية. وسيستمر دائماً هذا الارتباط باعتباره مصدر قوة. ومن أهداف هذه القصة أيضاً المساهمة بالشرح للرأي العام أفكار ابنتي، وأفكاري، ومشاعرنا على الصعيد الخاص، وأفكار المقاومين الآخرين في صوم الموت، وأقربائهم على الصعيد العام. كلما عُمل على كتم نفسنا سيكون هنالك مجرى للتنفس. أنا لا أفكر أنني بكتابتي هذه القصة أدافع عن الإرث التي تركته لي ابنتاي، وأنهي مهمتي. طالما أنني أعيش، سأعتبر قلبي قلبيهما مستمراً بالكينونة صوتهما ونفسهما. أعرف أن هذا أمر مثالي جداً، ولكنني لا أستطيع أن أدفع دين ابنتي بطريقة أخرى. فاخرت بهما دائماً. وهدفي كله هو العمل على أن أكون أباً تفخران به. في النهاية أقدّم محبتي لأصدقائي الذين وقفوا إلى جانبي طوال فترة المقاومة، وبعد ابنتي مقدمين الدعم، غير مضنّين بمساهماتهم لكتابة هذه القصة. وأقدم محبتي بشكل خاص للعاملين في دار "طور" للنشر الذين حققوا إنجاز هذا العمل في كتاب. ولن أنسى في أي وقت جهودهم.
أحمد قولاق سيز hanzala Nov 23 2004, 05:56 PM مقدمة الطبعة العربية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي اعتقدت الدول الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية بأنه لم تبق أية قوى مانعة أمامها على المستوى العالمي. بدأت بهجوم سافر ضد من يقاومها أو لديه إمكانات المقاومة من الدول أو المنظمات أو المؤسسات أو الأشخاص. ونفذت هجومها العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي والنفسي في المجالات كافة موجدة منظمات وقوانين ومؤسسات تخدم هذا الهدف، وإذا ما اقتضى الأمر تضرب عرض الحائط بالقوانين التي وضعتها هي نفسها وتحارب شعوب العالم بوقاحة كبيرة. كانت قد أنتجت دول إمبريالية مثل ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية بعض المؤسسات والمصطلحات المنسقة لهذا الهجوم في سنوات سابقة ضمن حلف الناتو. واتخذ قرار التصفية المادية والإيديولوجية لجميع أو المنظمات أو الأشخاص المؤسسات التي تخوض معركة الاستقلال والديمقراطية والاشتراكية ضد الإمبريالية، وبهذا الصدد تم عزلها عن الشعب وتجريدها وإمحائها ضمن هذه الشروط. إن تطبيق شروط العزل المطلق للثوريين، وإفقادهم قيمهم السياسية والإنسانية وصولاً إلى إيذاء وجودهم الاجتماعي المتعلق بإنسانية الإنسان، وإلغاء الشخص سياسياً واجتماعياً، وبالنتيجة جسدياً قد تم التماسه في دول أوربية مثل إنكلترا وألمانيا.إلخ وفي بعض دول أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة الأمريكية. في الوقت الذي تستهدف فيه هذه الممارسات الفئات المعارضة للنظام، خاصة الثوريين الأسرى في السجون يطبق في الخارج أيضاً اعتداءات شاملة ضد الشعب بأكمله، والهدف من ذلك تحويل الشعب ليصبح غير قادر على معارضة النظام في أي موضوع، وجعله لا يستطيع المطالبة حتى بأصغر حقوقه الديمقراطية والاقتصادية، ويتخلى عن استخدام مختلف الحقوق والحريات التي وضعت بشكل قسري في قوانين بعض البلاد. ويخاف من استخدامها. كثفت الدولة الخائفة من مطالبة أبناء الشعب بحقوقهم ومن استخدامهم لحق المقاومة لدى تعرضهم للظلم اعتداءاتها ضد القوى الطليعية الشعبية المنظمة في أول الأمر. في الدول التي يخاض فيها نضال ضد الإمبريالية وعملائها يقتل الثوريون في المدينة والجبال، تقام السجون التي هي عبارة عن منفردات خاصة للعزل لامحاء الثوريين الواقعين في الأسر. وفي هذه المنفردات يعرضون لعزل مطلق بهدف إلغائهم. أعلن الأسرى السياسيون والديمقراطيون المتعاطفون وعلى رأسهم الحركة الثورية التي تخوض معركة الاستقلال والديمقراطية والاشتراكية في تركيا بأنهم يعارضوا هذه الممارسات، وحاولوا بفعاليات مختلفة هادفة إلغاء سياسة الامحاء، كما عملوا على إنهاض شعور الشعب بالمسؤولية اتجاه سياسة الامحاء التي تمارسها الإمبريالية، وفضحوا أهداف وخطط جوهر هذه الممارسات. بدأ الأسرى الثوريون مقاومتهم ضد سياسة العزل والتجريد والحجر التي تطبق في تركيا والتي هي عبارة عن استمرار للاعتداءات التي بدأت ضد جميع الفئات المقاومة في وجه إمبريالية الولايات المتحدة الأمريكية وعملائها في أنحاء العالم كافة بالإضراب عن الطعام (20 تشرين الأول 2000) . تمت مداهمة 20 سجناً بوحشية لم يشهدها تاريخ جمهورية تركيا، شارك فيها آلاف الجنود والدرك (شرطة الريف) والفرق الخاصة والشرطة ومجموعة العمليات الخاصة بهدف كسر مقاومة الأسرى الثوريين في إضرابهم عن الطعام المستمر قبل 60 يوماً. تمت المداهمة بالمروحيات، وحسب الأرقام التي بينتها الدولة فقد استخدمت 20 ألف قنبلة غازية ورصاص حي ورشاشات آلية ومواد حارقة خاصة كما استعمل سلاح كيماوي لم تعرف تركيبته حتى الآن. ونتيجة لهذه المجزرة التي يمكن أن تعد من أكبر المجازر في تاريخ السجون قتل 28 أسير وجرح مئات الثوريين بجروح بليغة وخلف معاقين. ففي سجن صاغمالجيلار في اسطنبول في مهجع النساء فقط حرقت ست نساء أسيرات ثوريات وقتلن، وجرحن العشرات وبقيت آثار الحروق بدرجة عميقة لن تزول 19 كانون الأول 2000 . لم تكف هذه المجزرة المنفذة في السجون لكسر مقاومة صوم الموت التي يخوضها الأسرى الثوريون، فأعلنوا على العالم أن إضرابهم عن الطعام تحول إلى صوم الموت. إن مقاومة الأسرى الموضوعين قسراً في المنفردات تستمر حتى اليوم بتصميم عظيم رغم ما يطبق من مختلف أنواع التعذيب والقمع. تبنى هذه المقاومة الكبيرة أقرباء الأسرى، وفئات مختلفة من المجتمع ومختلف المنظمات الديمقراطية الثورية حيث قاموا بالإضراب عن الطعام وبعملية صوم الموت خارج السجون والعديد من عمليات التضامن الأخرى. قامت حكومة جمهورية تركيا التي هي في حيرة من أمرها لعدم تمكنها من كسر المقاومة وبسبب الشعور بالذنب نتيجة المجزرة بإخلاء سبيل بعض المقاومين في عملية صوم الموت بعد أن ساءت حالتهم وذلك بهدف النيل من المقاومة. لكن الأسرى السياسيين المنفذين لمقاومة هي شبه ملحمة لم ير لها مثيل في تاريخ سجون العالم قد تابعوا عملية صوم الموت، فأفشلوا مغامرة العدوان بوعيهم التاريخي لضرورة تشكيلهم متراساً في وجه الممارسات العدوانية للإمبريالية وعملائها في أنحاء العالم كافة، واستمروا بصوم الموت في الخارج أيضاً وسقطوا شهداء كرفاقهم الأسرى في هذه المقاومة النبيلة. كما وسقط بعض الثوريين المناضلين في الحركة الثورية بتنفيذهم عمليات فدائية للقصاص من الدولة الفاشية المعتدية على الشعب والمستمدة قوتها من اعتمادها على إمبريالية الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، والقاتلة للثوريين في ظروف الاعتقال والهادفة لإلغاء الأسرى في شروط العزل بالمنفردات. في أثناء تحضير هذا الكتاب للطباعة يكون قد مر ثلاث سنوات على هذه المقاومة شبه الملحمية. وهو يبين للعالم جرأة وإرادة وتصميم الثوريين المقاومين الذين حتى اليوم قد قدموا 107 شهداء في مراحل مختلفة من المقاومة. هذه المقاومة التاريخية والتي أخذت مكاناً مشرفاً في المعركة التي تخاض ضد الإمبريالية لا تزال مستمرة في طريقها دون أدنى انتقاص من عزيمة الانتصار أو جرأة المقاومة.ما ستقرؤونه في هذا الكتاب يتعلق بأختين شابتين اثنتين فقط من بين 107 أبطال خالدين سقطوا في المقاومة النبيلة. تشرين الثاني 2003
مدخل
لماذا كتبت؟
كان اليوم الثالث عشر من أيام شهر تموز. وعلى مدى أربعة أشهر ونصف تقريباً، كنت أزور مقاومي صوم الموت في بيت (أرمطلو الصغرى) للمقاومة. حين زارتني صديقتنا القيادية السيدة (ديلك) مساءً، سألتني عما إذا كنت سأذهب إلى بيت المقاومة حيث توجد (سوغي إردوغان). في اليوم نفسه كان من المفروض أن تكون تلك زيارتي الثانية (لسوغي). حين ذهبنا، دخلنا إلى الغرفة التي تقيم فيها الأخت (سوغي). وبعد تبادل قصير للتحية سألتني عما أفعله، وعما إذا كنت قد بدأت الكتابة. وحين أجبتُ: "لا، لم أبدأ بعد" انسكبت من فمها هذه العبارات بهدوء: "عليك أن تكتب. عليك أن تكتب عن هذه المقاومة العظيمة بالتأكيد. أنت أفضل من يقوم بهذا، لأنك دفعت الثمن الأبهظ في هذه المقاومة. فقدتَ ابنتين لا أجمل منهما. عليك أن تكتب من أجل جانان وزهرة. أكتب عن جانان وزهرة، وعنا، وبهذه الطريقة تكتب عن المقاومة. عليك أن تحكي عن ابنتيك ونضالهما للعالم أجمع. أنا واثقة أنك أفضل من يمكنه القيام بهذا. نحن المقاومين في صوم الموت ننتظر منك هذا". قلت لها: "حسن يا أخت (سوغي)، أعدك" وتركتها. كان اليوم التالي هو السبت، وفي ذلك اليوم لم أذهب إلى (أرمطلو الصغرى) أول مرة منذ أشهر طويلة، وفكرت بالبقاء في البيت، وقراءة كتاب. وبعد الظهر، كان صوت صديقتنا السيدة (ديلك) على الهاتف. أبلغتني بأن سوغي إردوغان قد فقدت حياتها قبل قليل. في الحقيقة أنني كنت متوقعاً هذا الخبر، ولكن ليس باكراً إلى هذا الحد. نهضت فوراً وانطلقت في طريق (أرمطلو الصغرى). بعد أن أقيمت مراسم أمسية المشاعل من أجل الأخت (سوغي)، في اليوم التالي دُفنت في مقبرة (قرجا أحمد) حيث يدفن زوجها إبراهيم إردوغان الذي سقط في صراع مسلح قبل تسعة أعوام. كنت مضطراً للكتابة لأفي بوعدي للأخت (سوغي)، والمقاومين في صوم الموت. أعرف أن هذا العمل لن يكون سهلاً. لم أحاول القيام بعمل كهذا حتى هذا اليوم. الكتابة عن مقاومة كبيرة وعظيمة إلى هذا الحد يتجاوز إمكانياتي. ما أردته هو أن أحكي عن ابنتي جانان وزهرة اللتين قدمتهما شهيدتين في هذه المقاومة، ومع قيامي بهذا العمل أوثق الأحداث والبطولات التي شهدتها. نعم شهدتُ بطولات لا تحصى طوال فترة المقاومة. رافقتُ أناساً يحملون في قلوبهم الصغيرة محبة العالم. وعشت شرف تنفس الهواء ذاته والشعور بالانفعال ذاته معهم. في هذا العالم الذي يقال فيه: "لا يستأهل عمل شيء من أجل هذا الشعب" شهدت قلوباً تصرخ بأن تقديم الثمن في سبيل الشعب قضيةُ تحوّل إلى إنسان. لا بد لأقرباء المقاومين الذين سأذكرهم وأصدقائهم أن يذكروا شيئاً ما حول هذه الفترة. أنا مدرك لهذا: مهما فعلت فإن ما سأكتبه سيكون قاصراً حتى عن شرح قسم من هذه المقاومة. لهذا السبب أنا أفكر بإبراز المقطع الزمني الذي يتضمن جانان وزهرة، وأحكي عن المقاومة التي عيشت معهما. إن الأبطال الذين استشهدوا في امتحان الإنسانية هذا يستحقون جميعاً أن يكتب عنهم كما أكتب عن ابنتي.
الفصل الأول أختان قلبان رفيقتان نُصبا حب رمزا نضال لا تركعان.
"جانان وزهرة"
في مكان ما من العالم، وزمن ما عاشت أختان. الإثنتان جميلتا الجميلات، وجمال وجهيهما مرآة تعكس جمال قلبيهما. تكويان الناظرين إليهما. وحين تمعنون النظر إليهما ترون الحب، وترون الأمل، وترون الترابط والتضامن. وترون التباهي بأخوة كالأخوة، ترون تضحية الحب غير المتناهية، والارتباط بالشعب، ومحبتهما الحارة جداً لشعبهما. نار الحب المنبعثة من وجهيهما وقلبيهما يذكر الناس بإنسانيتهم. يبعثان نوراً إلى القلوب في كل زاوية من زوايا البلد. وليس هنالك عائق يعوق هذا النور. يخترق الجبال، ويعبر الغابات المظلمة. ولا يتوقف هذا الضوء فيخترق الجدران السميكة، ويصل إلى "الأعمام" خلف تلك الجدران. ويصل إلى العقول النظيفة الحرة الأسيرة مع "الأعمام". وحين يصل ذلك النور إلى العقول فتتفتح الأزهار في قلوب الأسرى الأحرار. وتتكاثر أزهار القرنفل، والنرجس، وطيور اللقلق في الزنزانات خلف الجدران السميكة، فيشعرون مجدداً بضوء الحرية والأمل. ويحتضنون مجدداً الحياة بجرأة جديدة لا تتزعزع. الناس البعيدون جداً يقولون لأنفسهم ما هذه الجرأة والتصميم، وأية محبة وأخوة هذه. توحد القلبان الصغيران وجمعا فيهما محبة العالم كلها وآماله. وهذا ما يعتقده الناس. ولكنهما متواضعتان جداً. تقولان: "لا، نحن أختان. نحن جانان وزهرة. لم نفعل شيئاً كثيراً. لقد تصدينا في مقاومة يستطيع الجميع التصدي فيها." لم يصدقهما الناس، بل لا يريدون تصديقهما. إنهم يعتقدون بأنهما شابتان كثيراً على تحدي الموت، وإذلاله، والدخول في حيز الخلود. يقولون: "لا" ولكنهم لا يحركون شعرة من أجل بقائهما على قيد الحياة. حينئذٍ تفهم جانان، وتفهم زهرة، فتقولان: "هؤلاء لا يحبوننا. محبتهم مزورة. لو كانوا يحبوننا حقيقة لبذلوا شيئاً من أجل أن نعيش." النور المخترق الجدران السميكة والمنير قلوب الأسرى الأحرار يصطدم بالجدران السميكة لقلوب من في الجوار ويرتد. لا يدفىء تلك القلوب المحكمة الإغلاق. تقول جانان: "إذا كان حتى موتنا لا يليّن قلوبكم فلماذا لا تنظرون مرة أخرى إلى المرآة وترون أنفسكم؟" وتقول زهرة: "انظروا. انظروا إلى المرآة. ولكن انظروا حين تكونون وحدكم. ماذا سترون؟ واعترفوا دون خجل بما سترون. سترون المراءاة، وسترون الكره. ولن تستطيعوا رؤية الحرارة والحب. لن تستطيعوا رؤية أن مشاركتكم في جنازتنا مناسبة. لقد غرّبتم أنفسكم. ألم نكن ندافع -أنتم ونحن- عن الأمور نفسها؟ ألم يكن هدفنا واحد؟ ألم تكن مشاعرنا مشتركة لتأسيس عالم جديد. أما كان سيُعمل على إحلال المساواة والأخوة في العالم الجديد؟ أما كنا سنكثر المحبة ونتقاسمها؟ أما كنا سنبقى معاً في كل شيء بما في ذلك جدران القلوب؟ كذبتم علينا، وخدعتم أنفسكم. انظروا نحن أختان، قلبان نصفع كذبكم بوجوهكم. نحن - جانان وزهرة- نتقاسم كل شيء. في عالم لا تستطيعون فيه المشاركة على ما ثمنه ثلاثة قروش، نتشارك نحن على الحياة، نتشارك على الألم، نتشارك النضال، نتشارك الأمل، نتشارك المحبة، وفي النهاية نتشارك الموت. هل هنالك أكثر من هذا؟ وتشاركنا به دون حساب. نعم، تشاركنا بكل شيء يمثّل أمل أيام الغد، ويجمّل الإنسانية. من المؤكد أننا كنا شابتين يافعتين، وسنتقاسم أشياء كثيرة. مثلاً كنا سنتقاسم التعذيب والزنزانات التي ينزل فيها أشخاص مع عمنا. ولكنكم، لم تستطيعوا مشاركتنا بجنائزنا، وبجنازتينا نحن جانان وزهرة. لم تستطيعوا المجيء إلى بيتنا لتشاركوا والدنا آلامه. لم تقولوا له: "إنك قدمت زهرة شهيدة بعد أن قدمت جانان، لم يبق لديك أولاد، ولكننا أصدقاؤك، وهما ابنتانا، لهذا سنبقى دائماً إلى جانبك، لا تهتم...". لم تستطيعوا مشاركة والدنا بهذه الأشياء الصغيرة. لماذا لم تستطيعوا؟ سؤال: "لماذا لم تستطيعوا؟" هذا هو سؤال مطروح على التاريخ أيضاً. عليكم أن تجدوا جواباً لهذا السؤال حين يطرح عليكم باسمنا. لن يمكنكم إيجاد الجواب، ومهما فعلتم عليكم أن تقنعوا أنفسكم بالجواب الذي ستجيبون به. لهذا، عليكم - قبل فوات الآوان- أن تكسروا هذا الدرع الذي يحيط بقلوبكم معوقاً دخول المحبة. امنحوا - ولو مرة- قلوبكم فرصة أن تدفأ بحرارة المحبة. لن تندموا. سترون أننا على حق، وتفهمون هذا. إذا كان ثمة ضرورة للبدء من جديد من أجل إحلال محبة الإنسان حتى النهاية، فعليكم ألا تترددوا في هذا. جانان وزهرة أختان، قلبان، رفيقتان، نصبا حب، رمزا نضال لا تركعان، ابنتا البحر الأسود العنيدتان. استفزازيتان بقدر البحر الأسود، وجميلتان ودافئتان بقدر البحر الأسود، ومعطاءتان بقدر أمطار البحر الأسود. بقدر ما تمنح الأمطار لأرض منطقة البحر الأسود بركة، تنثران الأمل في أراضي الأناضول المترامية الأطراف. إنهما قلبان أغنيا المحبة التي أخذتاها من منطقة البحر الأسود، وفي أكواخ اسطنبول، وأهديتاها مرة أخرى للأناضول. إنهما أختان، إنسانتان حلوتان تشاركان الناس المحبة التي نمتاها في أكواخ اسطنبول، ومع تلك المشاركة تغدو روحاهما أجمل وكذلك يغدو وجهاهما. جانان وزهرة زهرتان يخفق قلباهما معاً حتى عندما تكونان ليستا الواحدة مع الأخرى، وتفرحان في اللحظة ذاتها، وتحزنان أيضاً في اللحظة ذاتها..ابنتاي...روحاي. حبيبتاي. كيف أحكي عنكما ماذا أقول عنكما؟ كيف أبدأ بالشرح عنكما؟ آه، لو تعرفا كم هذا صعب، وكيف أن تحويلكما إلى نص مكتوب مستحيل... أنا لم أرد أن تقع على عاتقي مسؤولية هذه المهمة. لم يكن خياري. ولكنكما عشتما مرحلة جميلة، وكريمة، سلمتماها إلى أصدقائكما، وهذا ما جعل معنى ما سأفعله أكبر. لا بد من شرح هذا الإرث الذي تركتماه للتاريخ ولي. لابد من نقل محبتكما وبطولتكما للأجيال القادمة. هل أنتما منتبهتان لما فعلتماه في هذا المقطع الصغير من حياتكما؟.. هل تعرفان كيف هززتما العالم بقلبيكما الصغيرين؟ هل تذكرين يا جانان حين جئت إلى اسطنبول؟ كنت طفلة لا يتجاوز عمرك السنوات العشر. وكنا في وضع اقتصادي صعب جداً. ولأننا لم نستطع شراء الحطب أو الفحم كنت تندسين في حضن أختك الكبرى باكراً لتدفئي نفسك. وأختك زهرة تضمك إلى صدرها مشفقة، وتداعب شعرك. وفي تلك الأيام كنت أحاول أن أشرح لكما سبب عدم استطاعتي شراء الحطب أو الفحم، وسبب ضرورة تحملنا هذه المتاعب. وكنتما تستمعان إليّ كإنسانين كبيرين. لا أدري إن كنتما تفهمان كل شيء، ولكنني واثق أنكما فهمتما أغلب ذلك الكلام. وهذا ما كان يجري في ذلك الوقت، وفي الأوقات اللاحقة. جلسنا لنتحدث بمشاكلنا كلها كأصدقاء، وكأناس واعين. تحدثنا أحياناً بأشياء مختلفة، ولكننا حافظنا على روابط تلك المحبة التي بيننا. أتذكر كيف بكيت حين تأخرنا بتسجيلك في المدرسة المتوسطة. كيف شعرت بالقهر عندما سالت دموع مثل اللؤلؤ على خديك، فسجلتك فوراً، وأرسلتك إلى المدرسة. كنت ناجحة دائماً في المتوسطة والثانوية، ولم أسمع أنك حصلت على كسر في مادة. أصلاً عملت كل ما قررت عمله. أنت أردت أن تدرسي في إزمير. كان هذا على رأس خياراتك، ونجحت بهذا. نجحت، ولكنك فعلت لي ما فعلته. لم أعد أراك إلا نادراً، وكنا نتحادث على الهاتف فقط. لا تعتقدي أنني نسيت. لقد أرسلتك إلى إزمير من أجل التسجيل مع أختك، لأنك مازلت بالنسبة إلينا جاناننا الصغيرة. وفهمتْ هذا أختك. والأمر الأصوب هو ذهابك معها. هل تذكرين يا صغيرتي. كانت أختك موقوفة، وستمثل أمام المحكمة. وعندما قلت لك: "الجو بارد جداً، لا تأتي. أنا أذهب وحدي" قلت: "لا يا أبي. أنا أيضاً أريد أن آتي. هل أكون أختاً إذا لم أذهب إلى محكمة أختي؟" وبكيتِ. وقفنا منتظرين عند باب المحكمة حتى المساء في ذلك اليوم الماطر العاصف. حين رأيت المحامية عند باب المحكمة فهمت الوضع. وعندما قالت السيدة المحامية: "تحول توقيف زهرة قولاق سيز إلى سجن" كيف تعلقت برقبتي، وقلت: "أبي لقد سجنت أختي" وبكيت؟ وكيف ضاق صدري بشهشهتك، وفكرت بأنه علي أن أكون قوياً باعتباري أباً؟ ولكنك كنت تبكين بدلال، وصدق مما جعلني لا أستطيع التحمل. انهمرت الدموع من عيني دون إشعارك بها، ولم تريها. لعلك شعرت بهذا، ولكنك لم تري. لم أُظهر هذا لك. إيه، مهما يكن فأنا أب. والآباء لا يبكون. ولكنني أفكر، كيف لي أن أعرف أن تلك الدموع لا تساوي شيئاً أمام تلك التي سأذرفها فيما بعد... نعم، يا ابنتي ذات القلب الكبير والمليء بالحب إن هذا الرجل الضخم بكى كثيراً بعدك. ذرفتُ الدموع سراً. لم أحتمل في بعض الأحيان فبكيت وسط الناس. ولكنك لم تري. أم أنك رأيتني؟ واغفري لي يا ابنتي. الإنسان لا يفقد دائماً روحه، وجانانه. من الممكن أن يكون لدى الأب المثالي بعض النواقص. أليس كذلك يا جاناني؟. عندما ذهبنا إلى سجن عمرانية لزيارة أختك زهرة ذرفنا الدموع أيضاً، أنت علناً، وأنا سراً. انظري، هذا ما لا تعرفينه. وهناك لم أعرف بماذا تحادثتما -أنت وأختك- وبأية هموم أفضيتما. لم أجرؤ على السؤال عن هذا. حسن، لم تحكي لي عما تحدثت به مع أختك ليس في ذلك اللقاء فقط، بل في اللقاءات التي سبقت والتي تلت. أحياناً كنت أسمع نقاشاتكما المحببة تلك، وأحاول فهم ما تتحدثان به. ولكن لا جدوى. حتى أنا لم افهم هذا التواصل بينكما، وتبادل المشاعر في أغلب الأحيان. بالفعل يا ابنتي، كيف كنتما تؤسسان حواراً، وكيف كان قلباكما يتمازجان؟ والآن أسمعك تقولين التالي: "أبي، لا يمكن شرح هذا الإحساس، إنه يعاش فقط. لهذا أعف عنا." أتفهمك يا ابنتي، اليوم أفهمك بشكل أفضل. أليس هذا ما يجعل الحياة ذات معنى؟.. بعضهم يكتب صفحات دون أن يستطيع شرح شيء. ولكن في الحياة توجد معان تعبر عن كل هذا بشكل صاف وواضح. وتجعل الحياة، والمحبة، والارتباط أكثر معنى. لقد جمعتما كل التصرفات التي تجمّل الإنسان والإنسانية. ابنتي، جاناني، تعرفين العم محمود. إنه عمك الذي كان ينزهك، ويشاركك بكل شيء حين كنت طفلة. عمك الذي جاء الوحشيون مداهمين بيتنا في ساعة متأخرة من الليل باحثين عنه لاعتقاله. مازال حتى الآن في الزنزانة الانفرادية. لم تخبريني، ولكنني أعلم بأنك قبل ذهابك إلى إزمير كنت تذهبين إلى عمك في سجن بيرم باشا. أنت كما يقولون: "كبد أبيك". حكوا لي عن هذا في غيابك. أنت أحببتهم وهم أحبوك. تعرفين أن هنالك أخوة وأخوات كبار لك هناك. ولكن أغلبهم فقد حياته إما في المجازر، أو في المراحل التالية في صوم الموت. من المؤكد أنني سأفسح مجالاً لأصدقائك وأحبائك أثناء حديثي عنك. إذا لم أعمل هذا سأظلمهم، وستحزنين. وأنا لا أنوي أبداً أن أحزنك. أتعرفين أن أحدَ أسعد الأيام في سجن بيرم باشا هو في ذلك اليوم الذي يتلقى فيه أحدهم رسالة منك. لا أعرف بالضبط ما كنت تكتبين، وما كنت تشاركينهم فيه، ولكن حين تصلهم رسالتك كان ينفعل الأسرى الأحرار جميعاً. بمن فيهم عمك، وينتظرون بفارغ الصبر قراءة رسالتك. وأكثرهم كان (عاشور قورقماز). كنت تحملين لهم بقلبك الصغير محبة يتحول معها السجن في لحظة إلى حديقة أزهار. كانت تغدو الأحاديث أكثر حرارة، والكلمات أكثر متعة. أخواتك وأخوتك يفاخرون بك، ويتململون من أجل عناقك. كنت دائماً بالنسبة إليهم جانان الصغيرة. ولكن الذي حدث حدث بعد ذهابك. تغيرت الأوضاع. فجأة كبرت. جانان المقاومين والشعب الصغيرة صارت بطلة وطليعية، ومثالاً. يقولون: "هنالك الكثير مما نتعلمه من جانان. نعد بأننا سندافع حتى النهاية عن الإرث الذي تركته لنا. طالما الإنسانية موجودة ستعيش جانان باعتبارها معلمتنا." نعم، إنك مستمرة بالتعليم بعمرك اليافع، وقلبك الصغير للجميع كباراً وصغاراً. الناس في أمكنة كثيرة يقدمون لي عبارات مليئة بالمديح لأنني ربيت بنتاً مثلك. أحياناً يسألونني عنك. يريدون أن يسمعوا مني أشياء مختلفة عنكِ، وهي من نوع الحكايات. وأنا كنت أقول لهم: "لا، جاناني إنسانة عادية، لها قلب مليء بالحب، ولها شخصية محبة جداً لهذا الوطن الذي تعيش فيه." ومن المؤكد أن هذا ليس كل شيء. بعد ربيع عام 2000 بدأ الطقس يدفأ. وبينما كنا ندخل في أشهر الصيف الحارة تلك ثمة قضية بدأت تطبع الرأي العام بطابعها أكثر من أي وقت مضى، وتشغله تدرجياً. بدأت تُطرح قضية النموذج "F" لزنزانات السجون التي تعود جذورها إلى الماضي، ويقال إنها مريحة جداً، وإنها أمكنة مثالية للموقوفين والمعتقلين، وبدأ يُقدم هذا للرأي العام بدعم من وسائل الإعلام. كما قدمت دعاية كاذبة مفادها بأن نظام المهاجع في السجون ليس صحيحاً، وأن قمع المنظمات فيه مخيف، وعندما يتم الانتقال إلى النموذج "F" للزنزانات فيزول هذا القمع، وسيكون السجناء سعداءً. وإذا تركنا جانباً حقيقة أن عائلتنا لا يمكنها البقاء خارج هذه الأحداث لأنها قريبة أحد المعتقلين، فإننا لم نفكر بأن المقاومة ستنتقل إلى هذه المرحلة، كما أننا لم نتوقع بالضبط هذا الدور الذي ستلعبه أسرتنا. في البداية كانت تقول الحكومة، ووزارة العدل أن النموذج "F" سيدخل الخدمة ولن يوقف مهما كلف الأمر، وفي الوقت نفسه يقال بأن هذه الزنزانات مطابقة للقياسات الأوربية، حتى إنها أكثر حداثة في بعض جوانبها. ولم تتأخر هذه الدعاية المؤسسة على تزوير وكذب بالحصول على الدعم من مختلف وسائل الإعلام، وتردد بلسان واحد كم أن زنزانات النموذج "F" ضرورية. وقضية السجون هي قضية ليست غريبة عن الناس الذين يعيشون في بلدنا منذ مدة طويلة. ولكن المعرفة القليلة لبلدنا تجعل المرء يرى بأن هذا العدوان سيكون مختلفاً وأكثر شمولاً هذه المرة. في تلك المرحلة كانت ترى القوى المسيطرة بأن برنامج صندوق النقد الدولي المطبق في بلدنا جعل الناس في حالة بؤس، ومن المؤكد أنها استطاعت تحديد القوى الأكثر حيوية والتي ستعارض سياستها القائمة في الداخل والخارج، وهي القوى الثورية. لهذا السبب أعدت حساباتها بحيث تصفي القوى الثورية قبل أن تتوجه إلى قطاعات المجتمع الأخرى، وتجعلها عبارة عن أفراد صامتين ودون هوية. إذا استطاعوا ملأهم - أي الثوريين -في زنزانات النموذج "F" وتجريدهم، و عزلهم فارضين عليهم الاستسلام، سيرضخون قطاعات المجتمع الأخرى بسهولة أكبر ويحققون النتائج المرجوة. لأن الثروات الباطنية والسطحية كلها نزلت إلى البيع، وبحسب وصفة صندوق النقد الدولي، بُني نظام سلب حقيقي تحت اسم الخصخصة. كان البلد يتوقع عدواناً واسعاً، والثوريون على رأس من سيتعرض لهذا العدوان. وبدأنا نحن أقرباء المعتقلين في الخارج -كما بدأ المعتقلون في الداخل- النقاش حول الطريقة التي ستواجه بها العاصفة التي بدأت تشعر بذاتها تدريجياً في الأيام الأخيرة. لم يكن لدى الذين في الداخل بدائل كثيرة. ولكننا نحن أقرباء المعتقلين في الخارج يمكننا عمل الكثير. بإمكانياتنا المادية المحدودة جداً، وقوتنا الإنسانية بدأنا بالتوجه إلى كل نوع من أنواع العمل. كنا نشرح لكتاب الصحافة والمثقفين بأن زنزانات النموذج "F" عدوان على الحياة الإنسانية من جهة، ونعمل على تأسيس رأي عام حساس عبر فعاليات الشوارع من جهة أخرى. وقد قطعنا نحن أقرباء المعتقلين مع أصدقائنا المثقفين مسافة لا يستهان بها. في هذه الأثناء كانت وزارة العدل في كل مكان تبرز مؤكدة بأن زنزانات النموذج "F" لا يمكن العودة عنها، وتحضر الأرضية المناسبة لمجازر أعدت سيناريوهاتها من قبل. وبينما كنا نشرح عبر الكتيبات والكراسات والإعلانات الموزعة باليد كيف أن التجريد عدوان على الهوية الإنسانية، كان قد أنهى الذين في السجن نقاشاتهم، ووصلوا إلى مرحلة إعلان قرارهم. كانت قد ُنّفذت في بلدنا عمليات صوم موت من قبل. وفي تلك المقاومات فقد العشرات حياتهم، وأصيب قسم كبير منهم بعاهات دائمة. ولكن هذه المرة الأمر مختلف. من خلال الموقف الذي اتخذته الوزارة ظهرت حقيقة أن المقاومة هذه المرة ستكون أقسى بكثير، وان الأثمان التي ستدفع ستكون أبهظ. ومن المؤكد أنه من غير الممكن التحديد منذ ذلك اليوم بأن عائلتنا ستدفع أبهظ الأثمان في هذه المقاومة. ولكن ألم المرحلة، وعظمة المقاومة كانت رائعة بحيث أن تاريخ الإنسانية لم يدون على صفحاته بعد مقاومة كهذه. فجأة في ذلك اليوم أي في العشرين من شهر تشرين الأول من عام 2000 سمع صوت منبعث من السجون، ولكنه صوت كالهدير: "جاء دورنا بالكلام. الجميع تكلموا حتى اليوم، وكتبوا، ولكن لم يكن من الممكن إيقاف هذا العدوان على هويتنا وكرامتنا. وجاء دورنا بالكلام، واعتباراً من اليوم نبدأ مقاومة صوم الموت حتى تقبل مطالبنا." حين أعلن للرأي العام قرار المقاومة في صوم الموت، عُمل شيء لم يكن موجوداً في المقاومات السابقة، كما أنه لم يعمل في أي مكان من العالم، أو في أي زمان. لقد مدد الذين في الخارج - أي الناس غير المعتقلين- أجسادهم للجوع دعماً لصوم الموت الذي بدأ في الداخل. لقد تم الدخول في مرحلة صوم الموت في الداخل والخارج. بعد فترة قصيرة حين أبلغتني ابنتي الكبرى زهرة بأنها تريد أن تتحدث معي، وأنها اتخذت قراراً مهماً، فهمت فوراً ما أرادت قوله. نعم، لقد اتخذت ابنتي زهرة قولاق سيز مكاناً لها في مجموعة صوم الموت التي ستبدأ في الخارج. حين أنظر إلى الأمر اليوم فلا يمكنني شرح ما شعرتُ به في ذلك الوقت بشكل دقيق. ولكنني حين قلت لها: "اسمعي يا ابنتي، إنك تدخلين تحت مسؤولية كبيرة بقرارك هذا. أعرف أن حياتك ملكك، ومهما قلت لا جدوى من كلامي. أنت قررت. ولكنني باعتباري أباك أريدك أن تفكيري مرة أخرى بهذا القرار." قالت لي: "معك حق. أعرف أية مسؤولية أتحملها، وأية مهمة صعبة أتحملها. فكرت بكل شيء. لا أستطيع البقاء متفرجة في مقاومة كهذه تجري بجانبي مباشرة. لا تطلب هذا مني. أريدك أن تحترم قراري. أحبك كثيراً، وأعرف أنك ستتفهمني." وقبلتني من خدي. وقلت لها: "وأنا أيضاً أحبك كثيراً يا ابنتي، وأحترم قرارك." وقبلتها كثيراً من عينيها أولاً، ومن جبينها ثانياً، واحتضنتها. انفصلنا قبل أن أُشعر ابنتي بالدمعتين اللتين أفرغتاهما عيناي. لا أذكر كم يوماً مضى على هذا. في إحدى الليالي رنّ هاتف البيت. كان الصوت في الطرف الآخر صوت ابنتي الصغرى جانان. كان صوتها، ولكنني ألاقي صعوبة بفهم ما تقوله. في الحقيقة أن جانان كانت تتحدث بشكل طبيعي، ولكنني كنت قد فقدت إمكانيتي بالتلقي الطبيعي. كنت أشعر بأن ركبتي قد تفككتا. وبسبب شيء سدّ بلعومي لم استطع الكلام. بعد فترة قصيرة حين بدأت أفهم ماقيل لي، أردت أن أفترض بأن ما قيل لي هو مزاح. ولكنه لم يكن كذلك. حين أبلغتني ابنتي الصغرى جانان بأنها انضمت متطوعة إلى صوم الموت المستمر في إزمير كنت قد فقدت قوة تحملي كلها، وتكومت على الأرض. حاولت مدة طويلة إقناع نفسي بأن هذه المكالمة الهاتفية هي خطأ، ولكن هيهات. لدي ابنتان، وليس لدي ولد آخر. وكلاهما انضمتا متطوعتين إلى صوم الموت الذي بدأ في السجون وانتقل إلى الخارج، ومددتا جسديهما تحت الجوع. إحداهما في اسطنبول، والأخرى في إزمير... ابنتاي مرة أخرى فعلتا ما أرادتا فعله كما في كل وقت، حتى لو كانتا بعيدتين الواحدة عن الأخرى فإن قلبيهما الدافئين ولو كانا في مدينتين مختلفتين فقد سحقا مفهومي الزمن والبعد، واتخذتا أصعب قرار وأشرف قرار في حياتيهما معاً. فكرت دائماً كيف يخفق قلبان معاً، ويشعران وكأنهما قلب واحد، لم استطع فهم هذا. واعتقد أن أحداً لن يستطيع فهم هذا. أيها التاريخ! هل شهدت أمراً كهذا؟ أيها الذين تكتبون وترسمون، المتعلمون وغير المتعلمين، العلماء والجهلة، المدنيون والقرويون، والمحبون والمحبوبون، الشباب والمسنون، رجاء قولوا لي أي شعور هذا؟ وأي رابط حب هذا؟ الحاضر يعلم الغائب، وليخرج المنادون متجولين في الأناضول، وليعلموا العالم بواسطة وسائل الاتصال: ثمة مدينتان في طرف من أطراف العالم. في هاتين المدينتين تعيش أختان. إحداهما زهرة والأخرى جانان. وتشاركتا في كل شيء خلال حياتهما القصيرة. لقد توصلتا إلى طعم المشاركة إلى حد أنهما تريدان التشارك في الموت. هل سمعتم بشيء كهذا؟ إذا كنتم لم تسمعوا ولم تروا فها هما. إحداهما في اسطنبول والأخرى في إزمير، هاتان الحسناوتان، النرجستان مددتا جسديهما للجوع من أجل المشاركة بالموت،. وبعد ذلك ستتشاركان الموت. بعد هذا ستدخل الأختان الممتلئ قلبيهما بالحب صفحات التاريخ على أنهما صنعتا من جسديهما متراساً لإحباط هذا العدوان الوحشي المتحدي الإنسانية. فكروا يا ناس. فكروا يا أناس بلدنا أية تضحية مقدسة هذه وأية مشاعر عظيمة. شاهدوا هاتين الأختين وفكروا ألف مرة. أنتم أيها الظالمون واللصوص غير الموفرين شيئاً، وخونة بلدهم ووطنهم تدوسون كرامة الشعب من أجل حفنة من الدولارات. تذهبون إلى أبواب العالم لبيع كرامتنا الوطنية بالمزاد. شاهدوا أيها الذين ترسلون أبناء الوطن الحقيقيين إلى المشانق، وتنتزعون أبناءنا الشباب بعمليات التنفيذ دون محاكمات، وتمصون الدماء، ويا زواحف!. قلبان صغيران متزينان بالمحبة يقولان باسم الإنسانية: لا، لما تحاولان إزالته. لا، سنحول دون تسميمكم لنا. لن ندعكم تدوسون كرامتنا الإنسانية. لن تتمكنوا من تدنيس شرف الأناضول، ولن نسمح لكم بهذا. اعملوا ما يمكنكم عمله، فإننا لن نترك تقاليدنا بالمشاركة. لعلنا سنموت مرة بكرامتنا وشرفنا، ولكنكم يا آلات الظلم ستموتون كل يوم مهانين. حملاتكم الدعائية التي تعرّف بنا بشكل سيء سترتد عليكم في يوم ما، وسيفهم شعبنا عاجلاً أم آجلاً طبيعتكم، وأنتم أيضاً ستدركون بأن الظلم لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية. أنتم تمثلون التعذيب والقمع والمجازر. ونحن - جانان وزهرة- نمثل الحب، والارتباط، والحرية، والتضحية. هكذا سيكتب هذا في التاريخ. وإذا شوهد هذا بالنسبة إلى البعض غير مهم فإن هاتين الإنسانتين، الأختين، القلبين توصلتا إلى إدراك عظمة كرامة المهمة التي حملتا عبئها، وإدراك ثقل المسؤولية التي لا تقل عن عظمة كرامتها. كانتا تعرفان هذا، لذلك فإن المقاومة في صوم الموت ستُذكر معهما. ولن تكون هنالك مرحلة دون ذكر اسميهما في هذه المقاومة. صارت الأيام تمر ببطء أشد. بدأت تحسب بالأيام مقاومة صوم الموت التي بدأت في الداخل والخارج ضد زنزانات النموذج "F" في السجون. وحين وصلنا بالعد إلى اليوم الخامس والأربعين، السادس والأربعين، السابع والأربعين، ووصلنا إلى اليوم الستين، وبينما كانت الهيئات تعمل لقاءات في السجون، لم تتوقف الوزارة عن القيام بمناورة إثر مناورة، ولعبة إثر لعبة. وبدلاً من تقديم إجابة حول مطالب المعتقلين، فكروا بكسر المقاومة، وتمرير سياستهم على الشعب بخداعه عبر داعميهم في الإعلام. وحين حل ذلك اليوم، وبدأوا أكبر مجزرة في تاريخ الإنسانية. رفع جيش الظالمين الذين باعوا أرواحهم وأقلامهم للشيطان الكذبَ إلى أعلى مستوى له. بتاريخ 19 كانون الأول 2000 تحركت آلة الظلم والمجازر مهاجمةً بالأسلحة والقنابل الحارقة، معتديةً على آلاف الناس العزل بين أربعة جدران. بينما كان يُحرق الناس ويقتلون بين أربعة جدران من جهة، ضغط على زر التشغيل من أجل مشاركة الصحافة والإعلام بقصف الكذب من جهة أخرى. المشهد الذي رأيناه عندما ذهبنا أمام سجن بيرم باشا صباح التاسع عشر من كانون الأول كفى لتجميد دمائنا. آلاف الجنود، والشرطة، والآليات والمصفحات تدخل السجن وتخرج، وينبعث من الداخل صوت إطلاق نار كثيف. على الرغم من وجودنا على بعد 700م تقريباً فإن آثار قنابل الغاز الملقية على السجناء كانت تكفي لجعل عيوننا تدمع. كأنه ثمة حرب. والقوة العسكرية التي رأيناها تذكر بقوات احتلال. ومهما كنا نرى رعب المشهد الذي رأيناه، فإن توقع أبعاد الوحشية التي تجري في الداخل وتصورها مقرفة إلى حد لا يمكن لإنسان أن يتصوره. حين ضغط على زر التشغيل من أجل المجزرة، كانت أدوات نشر الكذب، وبحسب المهمة الموكلة إليها تقلب وجه الحقيقة، وتعمل على إقناع الرأي العام بأن المجزرة حقة. في اليوم الذي عيشت فيه تلك المجزرة، كان ثمة حادثة في سجن عمرانية من النوع الذي يؤخذ عبرة. مراسل تلفزيوني على مبعدة 1,5 كم عن السجن في بث مباشر يقول: "السادة المشاهدون، والآن فتح الإرهابيون النار على قوات الأمن" فاقتربت منه سيدة عجوز، وقالت له: "يا ابني، أريد أن أسألك سؤالاً. نحن الآن على بعد 1,5 كم من السجن، ولا تستطيع رؤية ما خلف الجدران. كيف تكذب على الناس قائلاً بأن الإرهابيين يطلقون النار، وأن لديهم بنادق. ألا تخاف من الله، وتخجل من عباده؟" رد عليها المراسل: "يا خالة نحن عبيد مأمورون. الأوامر صادرة عن موقعٍ عالٍ. نحن مضطرون لتلبيتها، وإلا سيكلفنا هذا عملنا." وحل بهؤلاء الذين يبثون أخباراً كاذبة خوفاً من طردهم من عملهم ما خافوا منه. بعد أن قدموا كل هذه الخيانات المهينة لم يستطيعوا إعاقة طردهم بعد فترة قصيرة، وبذريعة أزمة اقتصادية، وجد المئات من هؤلاء أنفسهم صباح أحد الأيام مرميين أمام الأبواب. لا أدري ما إذا كانوا يلتفتون اليوم إلى الوراء، ويفكرون بأنهم مشاركون في تلك المجازر، ويشعرون بعذاب الضمير؟ لأنه هل مساعدة الظالمين ومشاركتهم باسم المهمة والخوف من فقدان العمل يتوافق مع أخلاق الصحافة؟. استمرت عمليات المجازر أربعة أيام. على مدى أربعة أيام ألقيت عشرات آلاف قنابل الغاز على أناس عزل. وأطلق رصاص على أهداف معينة. هنالك جزء من المعاش في أثناء المجازر لا يمكن أن يقبله عقلُ من يقول إنه إنسان، ويقشعر له الجسد عندما يُسمع به، ويخجل منه بني الإنسان، وهو ما عيش في قسم النساء من سجن بيرم باشا. إنها وحشية لا يمكن لكاتب هذه السطور في أي وقت أن يعبر عنها. فكروا بقنبلة! إنها حارقة، لا تؤذي إلا الإنسان فقط. لا تؤذي الألبسة والأغراض، ولكنها تحرق الجسد الإنساني. وهنا يجب أن نفكر بهذا، وعلى الإنسانية كلها أن تفكر بالعقل الذي صنع هذه القنبلة، أي عقل هذا! كيف استطاع أن يفكر بسلاح لا يزيل إلا الإنسان فقط؟ كيف استطاع أن يكون ظالماً إلى هذا الحد؟.. يا إلهي! في أي حال سقطت الإنسانية! إذا لم نخجل كلنا – أي أناس العالم كله – من هذا الأمر كيف سنتخلص من هذا الوضع البائس. نعم، لقد ألقوا هذه القنابل عبر ثقب فتحوه في سقف مهاجع النساء. يلقون واحدة، لا تكفي، واحدة أخرى، وأخرى، وعدد لا يحصى من القنابل التي لا تؤذي سوى جسد الإنسان على النسوة العزل. والنساء يحترقن، أحياء. يحترقن ومنفذو المجازر يتفرجون. إن تلك (الروبوتات) لم تأخذ نصيبها من الإنسانية فتتفرج على ذلك المشهد بمتعة. لو كانوا وحدهم الذين تفرجوا على المنظر لفهمنا الأمر، لأن هذه المخلوقات مبرمجة على القتل وتنفذ المهام الموكلة إليها. ولكن لم يتفرجوا وحدهم. لقد تفرج شعب تمت لخبطة عقوله بمعلومات كاذبة. تفرج برفيسورات مشاهير، وأعضاء هيئات تدريسية، ومعلمون. وتفرج سياسيون مشاهير لا يتخلون عن شعرة من شعر أنوفهم. لقد تفرج أغوات النقابات العمالية الذين يدّعون أنهم يحمون حقوق العمال، ويعملون في نقابة طبقية أثناء هذه المأساة الإنسانية، ولم تحمر وجوههم، ولم يخجلوا، أو يشعروا بالعار. أنصار البيئة الذين يخرجون إلى الشوارع عندما يحترق دونمان من غابة مدعين أنهم يحمونها تفرجوا على حرق الإنسان. من يعلم، لعلهم تفرجوا على مأساة الإنسان هذه وهم يقولون: أوه، شاهدوا ماذا يعني الوقوف ضد الدولة. في الحقيقة ثمة قادة أحزاب يسارية وتقدمية تفرجوا وهم غير منتبهين إلى أن إنسانيتهم، وكرامتهم قد احترقت مع تلك النسوة. مجموعة من الناس تحترق تحت القنابل، ومجموعة من أقربائهم خارج السجن من طرف، وآلة ظلم ضخمة تنتج كذباً لجعل مجتمع كامل متفرج من جهة أخرى. وكما كان يفعل في العصور القديمة أثناء تقديم أضحية لآلهة الحرب تُجمع الناس في الميدان للفرجة، جعلوا المجتمع متفرجاً. وأشركوه بجريمتهم. أعموا قلوب الناس وضمائرهم، وخرقوا أعينهم وأعموهم. ولكي لا يسمع صراخ المحروقين أصدروا مزيداً من الضجيج، وأدخلوا حيز العمل آلياتهم كلها من أجل هذا الأمر، ولم يَسمعْ ذلك الصراخ أحد غير مجموعة صغيرة من الناس. قال المسيطرون لا، وقالت التلفزات والصحف، كما قال الوزراء ورؤساء الأحزاب: نحن لم نحرق أحداً، لقد أحرقوا أنفسهم. أين شوهدت دولة تحرق مواطنيها؟ نحن لا نفعل شيئاً كهذا. وبدل أن يعرضوا المجزرة شغلوا أقلام الإعلاميين والمحليين المؤثرين. لقد تغير الوضع، فجُعل من الضحية مجرماً وليس الجلاد. يراد أن يعاد التاريخ مرة أخرى. يراد هذه المرة أيضاً أن يقدم المظلومون كمجرمين كما كان في الماضي، ولابد أن يحكم من يعمل هذا أمام التاريخ. ولكن الكذبة هذه المرة أكبر بكثير من غطائها. قبل أن يمر وقت طويل ظهرت وثائق كذبهم، وظهر أن هذه المداهمات قد نُفذت بقصد ارتكاب مجازر، وعرف بها الرأي العام العالمي. تمر الأيام ونحن أقرباء المعتقلين لا نتلقى خبراً عن أولادنا وأخوتنا، ونعيش الألم الساخن الناجم عن عدم معرفتنا ما إذا كانوا قد ماتوا، أو بقيوا أحياء. في هذه الأثناء عرضت الوزارة ازدواجيتها وتزويرها مرة أخرى، فأدخلت زنزانات النموذج "F" حيز الاستخدام بعد أن كانت قد أعلنت على الرأي العام أنها علقت هذا الأمر إلى أجل غير مسمى، ورمت المعتقلين بعد تعذيبهم في تلك الزنزانات الباردة كالثلج. بعد هذه النقطة اتخذت المقاومة هوية مختلفة تماماً. إن نضال الكرامة هذا سيمتد على الفصول وسيستمر على الرغم من العوائق كلها. على مدى خمسة أيام لم أتلق خبراً من أخي. انتظرنا في مشرحة الطب العدلي. انتظرنا نحن مجموعة من الناس أمام المشرحة وقلقين على الناس الذين فقدوا حياتهم في المجزرة، قائلين لأنفسنا هل هذا الذي يجلبونه في كيس نايلوني أسود أخي، زوجي، ابني؟ قطع البلد صوته، ليتفرج على ما يجري كأنه يجري في مكان بعيد من العالم ويتفرج عليه عبر التلفزات. ونحن حفنة من الناس. هل تعرفون ماذا يعني البقاء مجرد حفنة أثناء تقديم دروس الكرامة الإنسانية؟ أغلب أصدقائكم لا يقتربون منكم من الخوف، ولا يريدون أن يُروا معكم فتشعرون أنكم جُردتم عن العالم. كما يعمل المسيطرون على تجريد أبنائنا وفرض الاستسلام عليهم بوضعهم في زنزانات النموذج "F"، يعملون على تجريدنا نحن أيضاً في الخارج. في النهاية، بعد خمسة أيام علمنا أن أخي جريح، وأنه في المستشفى. كان يوم سبت بارد وماطر... ثمة سبع قرنفلات ممن فقدن حياتهن في المجزرة... أُخذت سبع جثث أناس من أبطال الأمل من المشرحة، وعندما وصلنا إلى (بيت العبادة) في حي غازي، لم يكن ثمة دمعة في عين أحد. لم يبك أحد. كان ثمة غضب على الوجوه. نعم لم يكن أحد يبكي، ولكن المطر المنهمر بغزارة يسيل على وجوهنا بدل الدموع. نعم، حتى السماء لم تحتمل هذه المجزرة. فكانت تبكي. وكانت دموعها سيولاً في شوارع اسطنبول. لم تستطع السماء الاحتمال. كأنها كانت تقول للظالمين: أية مجزرة هذه، وأية إنسانية هذه. لماذا لا يصرخ الناس جميعاً بعد قتل كل هؤلاء الشباب. كانت السماء تبكي الإنسانية. ليس الناس من يبكي على ما وقعت فيه الإنسانية بل السماء هي التي تبكي. صببت السماء دموعها طوال يومين، وفي النهاية جف نبع دموعها. صرنا ندفنهن ببطء كل واحدة وحدها، أو كل اثنتين معاً. مع نهايات شهر رمضان كان أناسنا الذين يحضرون أنفسهم لدخول العيد، قد حفروا في أذهانهم عيد ماذا سيكون. يجب علينا أن نكون أكثر انتصاباً في وجه الظالمين الذين حرّموا علينا العيد. فدفنا آلامنا في دواخلنا. في هذه الأثناء هنالك ضرورة للتعريج على موضوع هام. مع تقدم الأيام حاول وزير ما قبل المداهمات عبر تصريحاته بيان أن اعتقاد بعض الأوساط بأن تصريحات الوزير كافية، وانخفاض دعم الرأي العالم بعد المجزرة أدى إلى موقف المعتقلين "غير المهادن"، وحاول بشكل ما إظهار أن مسؤولية المجزرة تقع على عاتق المعتقلين. وهذا الوضع يبين كم أن قوى حقوق الإنسان والديمقراطية في بلدنا لا مبدأ لها، ويقدم عبرة لمن يعتبر. نعم، الجماهير الداعمة قبل 19 كانون الأول انخفضت. حسن، ما الذي حدث ليظهر هذا المشهد؟ قبل كل شيء يجب رؤية هذا: قسم كبير من الرأي العام هذا- وانطلاقاً من فرضية أن صوم الموت سينتهي خلال فترة زمنية قصيرة- وجد أنه من غير الضروري أن يتواجد في أوساط المقاومين. ولكنهم بعد 19 كانون الأول قابلوا ما لم يتوقعوه. كان غضب الدولة مخيفاً، وليس فيه أي مزاج. تقتل الناس دون رأفة ولا تتحمل أية معارضة هذه القطاعات التي تبحث عن نصر سهل حين قوبلت بعدوان لم تكن تتوقعه، أدركت أن الأمر صعب، وأنها ستلاقي صعوبة بمجابهة هذا الأمر، فبدأت بالبحث عن مسؤول. ولكنها لسبب ما لم تضع بين هؤلاء المسؤولين أصحاب المجزرة الحقيقيين، فكروا بمشهد كالتالي: إننا ندعم مقاومة محددة المطالب. يقول وزير الداخلية: "نحن نجهز أنفسنا لهذه العملية منذ سنة". أحد الوسطاء يقول: "لقد استغلتنا الدولة". باختصار، إن كل من يريد رؤية أن اللقاءات تمت عبر تكتيك المماطلة ضمن هذا المشهد، يمكنه رؤية ذلك. ولكن لسبب ما فإن أصدقاءنا لم يستطيعوا -لسبب ما- الانتباه إلى هذا الأمر. وفي النهاية هنالك ثلاثون ميتاً، وعدد كبير من الجرحى، ولم يف وزير العدل بوعده، وملأ سجون زنزانات النموذج "F" بالناس، وبدأ التعذيب، وفي هذا الوضع بينما المطلوب تبني المقاومة أكثر، وفضح المجزريين، لا يسألون أنفسهم عن سبب انخفاض الدعم الجماهيري. لا يسألون لأنهم من الصعب أن يدافعوا عن الجواب الذي سيجيبون به. الأسهل هو إلقاء المسؤولية على المعتقلين، والذين فقدوا حياتهم، وترك الساحة. وأثناء عملهم هذا يذهبون بعيداً عن الخطر من جهة، ويثبتون أنهم سياسيون أذكياء من جهة أخرى. في الحقيقة، مع امتداد المقاومة ستجابه مآسي مشابهة لهذه كثيراً. وسيتخبط أصحاب المفاهيم التي تدين المقاومة في مستنقع الاستسلام والتصالحية عبر السياسات المتناقضة مع رؤاهم. تأثير الدعاية الحكومية، والمرحلة الجديدة التي دخلتها المقاومة أبعدت مقاومة صوم الموت عن راهن الأحداث لدى الرأي العام ولمدة طويلة. في هذه الأثناء كانت الحكومة مستمرة بالعدوان الفاضح على أي نوع من أنواع النضال الديمقراطي. دوهمت رابطة تضامن أسر المعتقلين التي يقام فيها صوم موت داعم للمعتقلين، وختمت بالشمع الأحمر. لم يعد للمقاومين الذين في الخارج مكان. ومن أجل الاستمرار بصوم الموت خارج السجون قدمت طلبات لمختلف المنظمات الديمقراطية الشعبية، والنقابات، والأحزاب، وردت تلك الطلبات لأسباب مختلفة. في النهاية ينتقل المقاومون ومن بينهم ابنتي الكبرى (زهرة قولاق سيز) إلى بيت (شناي هان أوغلو) في (أرمطلو الصغرى) وهكذا تحوّل بيت (شناي) وهي من المشاركات في صوم الموت إلى مركز المقاومة خارج السجن. صوم الموت الذي بدأ في الخارج كان قد بدأ في بيت (بلغة صو إرينوس) صديقتنا ذات القلب الدافئ الإنسانة الطيبة، وهذا كان قبل فتح رابطة تضامن أسر المعتقلين. أي أن انطلاق المقاومة في الخارج كان من بيت أختنا (بلغة صو). وكانت دائماً إلى جانبنا وشاركتنا بخبرتها ودقتها، وهنالك الكثير مما يجب قوله حول الأخت (بلغة صو)، وآمل أن أشارككم به فيما بعد. بينما كان المقاومون في اسطنبول ينتقلون إلى (أرمطلو الصغرى)، كان المقاومون في أزمير وبينهم ابنتي الصغرى جانان قد أخرجوا من بناء ناحية (قوناق) لحزب الحرية والديمقراطية تحت ضغط الدولة، وبعد أن بقوا فترة في شعبة إزمير (لنقابة عمال الشحن) انتقلوا إلى كوخ في (يمانلر). أصبحت الأخت الكبرى زهرة في (أرمطلو الصغرى)، وجانان الصغيرة في (يمانلر) أختان في صوم الموت، مقاومتان، رفيقتان مستمرتان في الطريق الذي رسمته لهما المقاومة. في الحقيقة أنني تحدثت كثيراً في أثناء المقاومة. حاولت عبر التلفزات والصحف والاجتماعات مشاركة الناس بآرائي. ولكن جانان وزهرة لم تكونا محظوظتين مثلي. ولكن على الرغم من كل شيء يجب أن تتكلما أيضاً، وعليهما ألا تتركا أفكارهما، وحياتهما ومقاومتهما للمستقبل، لهذا السبب، باعتباري أباهما سأحاول ما استطعت مساعدتهما.
الفصل الثاني
جانان تحكي
أنا جانان قولاق سيز. ولدتُ في شهر تشرين الثاني من عام 1981. لا أذكر في أي يوم. ولكنني أعرف أنه في تلك السنوات خيّم كابوس 12 أيلول على بلدنا، وعيش في المخافر والسجون تعذيبٌ يصل إلى حدود الوحشية، ومجازر. يهاجم إداريو نظام 12 أيلول القيم الجيدة والجميلة التي في بلدنا كلها، ويوقفون الناس كيفياً، ويخضعوا للتحقيق تسعين يوماً فقط. اختار اسمي الأخ رمزي. كان في السجن في أرزنجان، وحين ولدت كل شخص اقترح اسماً، ولكن أبي قال: "لا" الأخ رمزي سيختار الاسم. إرسال الخبر إلى سجن أرزنجان، وعودة الجواب إلينا استغرق شهراً. ستفهمون أنني بقيت شهراً كاملاً دون اسم. اختار الأخ رمزي اسم جانان، والجميع أعجب بالاسم، وأنا أعجبت به. في تلك الأثناء كان عمر أختي الكبرى سنتين ونصف. أسرتنا فقيرة. أمي ربة بيت، وليس لدى أبي عمل حقيقي. في الصيف يعمل موسمياً في معمل الشاي، وفي الشتاء يحاول تأمين خبزنا من عمله كبائع متجول. فيما بعد – حتى مجيئنا إلى اسطنبول – فتحنا دكاناً صغيراً، مرة أو اثنين محاولين إدارة أمورنا بواسطتهما. كان لدينا قطعة أرض تزرع فيها الشاي، ولأن عائلتنا كبيرة لم نستطع في أي وقت تخليص أنفسنا من الفقر. حين أفكر كيف انقضت طفولتنا فلا أجد ما يستحق الذكر. عشنا -أختي الكبرى وأنا- مثل أطفال الأناضول كلهم أحياناً جائعين، وأحياناً شبعين. في هذه الأثناء عشنا أمراً هاماً. انفصل أبي عن أمي. أعتقد أنني كنت في الخامسة من عمري. لماذا انفصلا؟ لم أعلم بهذا أبداً. لابد أنهما لم يحبا بعضهما بعضاً. نحن بقينا مع أبي. ولكنني حين أنظر إلى الأمر اليوم، فثمة ما يلفت انتباهي. لم يأت أبي في أي وقت أو أي مكان بكلمة عن أمي. لم يحك شيئاً لذهابنا لرؤية أمي، وبقائنا هناك. ونحن أيضا لم نلح عليه، وحاولنا الفهم بقدر استطاعة عقلينا الصغيرين. بعد ذلك بدأت المدرسة الابتدائية. درست حتى الصف الثالث في مدرسة حينا الابتدائية. وبعد الفصل الأول انتقلت إلى اسطنبول. تابعت المدرسة هناك في ابتدائية (إسان يورت). في هذه الأثناء انتبهت إلى الفرق بين (ريزا) واسطنبول. حين ننتقل من صفوف ذات 15-20 تلميذاً إلى صفوف ذات 90-95 تلميذاً ننتبه إلى أن صعوبة الحياة تقبض على الفقراء أينما كانوا. اسطنبول مدينة مختلفة تماماً. لا تستطيع إيجاد من يساعدك. كل شخص بهّم إنقاذ نفسه. ولكن في عائلتنا ثمة تقليد مشاركة. فقرنا لا يقلل من الحرارة بيننا. نتحدث عن الأسباب المؤدية إلى هذا الأمر، ونتخذ قراراً فيما سنعمل. كان يقضي جدي وجدتي الشتاء معنا، وفي الصيف يذهبان إلى (ريزا). كنت أحبهما كثيراً، الآن أفكر بكيفية احتمالهما غيابنا، أختي وأنا. لقد اشتقت إليهما منذ الآن. في البيت الذي نسكن فيه كان يعيش معنا العم إسماعيل، والعم محمود. أحياناً تقع بعض المناقشات الحادة، ولكن أبي يتدخل في القضية بشكل هادئ، وحين يقدّم وجهة نظره فيما يجب عمله ينتهي الأمر بحلاوة. لا أعرف كيف يعمل هذا، ولكن لديه موهبة إقناع مدهشة. بينما كانت الأيام تمضي على هذا النحو ذهب العم محمد إلى الجندية، وبهذا نقص عددنا واحداً، وحين انتقل العم إسماعيل إلى بيت آخر قضينا ذلك الصيف أنا وأختي الكبرى وأبي معاً. في العطلة الإنتصافية لذاك العام ذهبنا إلى ريزا. وحين عدنا نادانا أبي – أختي وأنا- وقال لنا إنه يريد أن يتحدث معنا. قال لنا: "اسمعا، تعرفت إلى سيدة وأحببنا بعضنا بعضاً، وأريد أن أعيش معها، ولكننا سننفصل إذا قلتما: لا، لا يمكننا أن نتفق معها، ولا نريدها." عانقنا أبانا فوراً، وعندما قلنا: "سعادتك هي سعادتنا" انتهى الموضوع بحب، ولم يحدث لأبي ما كان يخاف منه. حين تعرفنا إلى اختنا الكبيرة شنغول أحببناها. نعم، ناديناها "الأخت الكبيرة". لم نعرف السبب. لم ترد أن نناديها "يا أمي". وسررنا لمناداتها بالأخت الكبيرة. المهم، عبر حفل زفاف بسيط انضم إلى عائلتنا فرد جديد. بينما كانت الأيام تتابع بسرعة عاد العم محمود من الجندية. وبعد مرور سنة تقريباً أثرت بحياتنا عميقاً تلك الحادثة، وهي توقيف العم محمد وسجنه، وبدء مرحلة السجون. نعم، كان عمي في السجن وأنا أتعرف في سن صغيرة على أبواب السجن... في سنوات الدراسة الثانوية كنت أدرس، وأحاول أن أساعد أبي في العطلة الصيفية في المكتبة. نعم، صرت طالبة ثانوي، وهذه إشارة تدل على كِبري. عشقت! كيف حدث هذا لم استطع فهمه، ولكنني عشقت شاباً. وأحب كل منا الآخر. في حياتي اللاحقة عشت أنواعاً أخرى من الحب، ولكن هذا كان مختلفاً. كنا شابين مفعمين بالحياة، وقلبانا يخفقان كطيرين، وسعيدين. علاقتنا هذه استمرت حتى ذهابي إلى الجامعة في أزمير. يمكنني القول بأن لهذا العشق الذي عشته خلال هذه الفترة مكان هام في حياتي. حين أنهيت الثانوية لم أنجح في امتحانات الدخول إلى الجامعة في العام نفسه، واضطررت للدوام على مدرسة الدورات الخاصة. وطوال أشهر مدرسة الدورات الخاصة انتبهت إلى أنني أتغير تدريجياً من خلال الأحداث ومن خلال الأخوة و الأخوات الكبار الذين تعرفت إليهم عندما كنت أزور السجن. ومن خلال أحاديثي مع الناس الذين تعرفت إليهم هناك صحوت، وشعرت أنني بدأت أنضج، ولابد من التفكير بحلٍ لما يعاش في بلدنا. وهذه الفترة بدأت أمعن التفكير بالفساد المعاش في كل طرف من أطراف بلدنا، وتجاوزات حقوق الإنسان، وفي حل المشاكل الديمقراطية والأكاديمية في جامعاتنا. صرت أكوّن تصورات خاصة حول ما يجري في بلدنا، وأناقش الأصدقاء مغنية مخزوني الفكري. حينئذٍ نجحت في الامتحانات وقبلت في قسم البيولوجيا في جامعة إيجة، وقلت لإزمير المدينة الثالثة في حياتي القصيرة مرحباً. كانت إزمير بالنسبة إلي مدينة غريبة بكل معنى الكلمة. وليس لي أحد أعرفه. واستغرق مني وقت طويل تأسيس حوار مع الأصدقاء الذين تعرفت إليهم في بيت الطلبة، وتأسيس شبكة علاقات جديدة. في هذه الأثناء كنت أكتب للأخوة والأخوات الكبار الذين تعرفت إليهم في سجن بيرم باشا، وأتلقى منهم الرسائل. حينئذٍ طورت صداقات مع بعض الناس الذين تعرفت إليهم من رابطة تضامن أسر المعتقلين في منطقة إيجة، وبدأنا نناقش أفكاراً حول اتخاذ مواقف من المرحلة السياسية التي سنواجهها. قضيت أشهر الصيف التي تلت الامتحان التحضيري في اسطنبول، وحين عدت إلى إزمير كان نقاش موضوع سجون زنزانات النموذج "F" قد فتح في تركيا منذ زمن. بعد فترة قصيرة أثارنا خبر بدء صوم الموت في السجون كما أثار الجميع. لأن عمي محمد في السجن. ويقع على عاتقي القيام بأمر ما أكثر من الجميع. حينئذٍ جاء خبر آخر مثل عاصفة مشاعر لا يمكن الوقوف في وجهها. بدأت مقاومة صوم الموت في الخارج، وأختي الكبرى مشتركة فيها. في النقاش الذي دار مع أصدقائي قالوا لي بأن مشاركتي غير صحيحة، لأن أختي الكبرى زهرة مشاركة في المقاومة، ويكفي شخص واحد من العائلة. قلت بأنني لن أترك أختي وحدها في مقاومة كهذه، ولابد لي من المشاركة في هذه المقاومة. كان قراري قطعياً، ولن أترك أختي زهرة وحدها. وروحي أختي الكبرى لم أتركها وحدها من قبل، وسأكون معها هذه المرة أيضاً. أصعب ما في هذا الأمر هو كيف سأشرحه لأبي. كيف يحتمل أبي قراري هذا وهو لم يعتد بعد أن إحدى ابنتيه في صوم الموت. ولكنني أعرف أن أبي قوي، ويمكنه أن يحتمل. يا لما رآه وعاشه حتى الآن. حين أمسكت سماعة الهاتف وأخبرت والدي بهذا كنت تواقة لمعرفة ردة فعله، وقلبي يخفق بقوة. حين رُفعت السماعة في الطرف الآخر، صرّحت له بقراري. ولكنني لم أسمع من والدي صوتاً أو نفساً. كنت أحاول فهم ما يحدث. قال: "أنت أيضاً، أنت أيضاً يا جاناني.. بعد أختك أنت أيضاً بدأت صوم الموت. ألم تفكروا بي؟ ألم تفكروا كيف يمكن لأبيكما أن يحتمل مسؤولية كبيرة كهذه؟" حين قلت: :فكرت يا أبي العزيز. أبي قوي وسيحتمل، وسيحتمل هذا أيضاً." لا أدري إن كان يستمع إلي أم لا، لأن الاتصال انقطع، وأنا أغلقت الهاتف. أبي الحبيب أنا أفكر لكي أعرف حالتك النفسية في تلك اللحظة. لديك ابنتان، وكلاهما الآن بدأتا صوم الموت. يا إلهي، أية قوة يجب أن تتوفر لكي يُحتمل هذا. ولكنني كما ذكرت أن أبانا مفعم بالحب، مهما كان الأمر ثقيلاً سيحتمله، ولن يسوّد وجوهنا. ومع مرور الأيام أذكر زيارتك الأولى يا أبي العزيز، آه كيف احتضنتني حين رأيتني، وكيف صرت تشمني. وأنا كيف كنت حين تعلقت برقبتك؟ شعرت بنفسي خفيفة كطير. ولكن لسبب ما لم تأتِ على ذكر المكالمة الهاتفية. بعد ذلك لا أنسى أثناء تعريفك بأصدقائي، وتقبيلك لهم كأنهم أصدقاؤك منذ أربعين سنة، وغوصك في حديث عميق معهم. فجأة ودعناك، وبعد فترة قصيرة سمعنا بالمجزرة المنفذة في السجن. يا لكثرة الذين ماتوا ممن أحببناهم. لقد فارقنا الأخوة والأخوات الكبار الذين تعرفت عليهم سابقاً في سجن بيرم باشا. في الحقيقة إنهم لم يغادرونا أبداً. إنهم معنا دائماً في مكان ما من قلوبنا. بعد ذلك انتقلنا إلى مكان آخر، هو شعبة إزمير لنقابة عمال الشحن إثر مداهمة الشرطة. أذكر أنك جئت مرتين إلى هناك، وأفضينا بهمومنا مطولاً، ولكن عليّ أن أقول هذا يا أبي: لم تعد تستطيع إخفاء القلق الذي على وجهك. أنا أحاول تفهمك، وأعطيك الحق. لم نستمر طويلاً هناك. وحين انتقلنا إلى كوخ (يمانلر) جاءت جدتي لزيارتي قبلك. أدركت هدف زيارة جدتي ذات الوجه الوردي. تريد أن تجعلني أتراجع عن المقاومة، وتأخذني إلى ريزة. ولكن خلال الفترة القصيرة التي قضتها جدتي بجانبي حاولت أن أشرح لها إلى أي مرحلة وصلت المقاومة، وأنها غدت قضية كرامة. ولكنني لست واثقة أن جدتي استطاعت فهم هذا لأن مشاعرها مختلفة وكذلك منطقها. حين عادت إلى اسطنبول ومنها إلى ريزة شعرت أنها غير جاهزة لتلقي النتيجة. لا أستطيع أن أشرح لك ما شعرت به حين جئت لتأخذني إلى اسطنبول (أرمطلو الصغرى). تهيأ لي بأنه خيال. بعد أشهر سألتقي بأختي، وسأستمر بالمقاومة جنباً إلى جنب معها. لا أنسى أبداً ذلك اليوم الذي أتيت فيه لتأخذني. شعور بالحزن لفراق أصدقاء مددنا معاً أجسادنا للجوع من جهة، وشعور بالانفعال للقاء أختي التي اشتقت لأنفاسها ووجهها من جهة أخرى. كنت أتردد على مفترق من المشاعر. ثمة لحظات يعيش المرء فيها مشاعر مختلفة ولا يستطيع أن يقرر لما سيفرح ولما سيحزن. ما جرى لي هو هذا. ولكن في النهاية حين سيطر قرار الذهاب إلى اسطنبول والبقاء مع زهرة في بيت واحد، واستنشاق الهواء نفسه، واستمرار المقاومة، تقرر السفر، وانطلقنا أنا وأنت والأخ محمد. بعد سفر طويل حين اقتربنا من بيت المقاومة، وطرقنا الباب حاملين الأزهار التي طلبت منك شراءها، رأيت أختي الكبرى بين المقاومين الذين قابلونا. انتبهت مرة أخرى إلى مدى اشتياقي لها. انتبهت إلى أن زهرة أكثر من أخت بالنسبة إليّ. كانت أماً، ورفيقة، وإنسانة تحمل نصف قلب أحمل نصفه الآخر. هي بالنسبة إليّ واحة وسط صحراء قاحلة. كم كنت مشتاقة لوجه أختي روحي، وابتسامتها، وأسنانها المتلامعة حين تبتسم. كم اشتقت لرائحتك، وعناقك، وتقبيلك، وشمك لي. حين أفكر بالأيام التي لم أستطع رؤيتك فيها أفكر كيف كبرت محبتي لك وتوثق ارتباطي بك، وكيف تشكلت لفة خيوط حبٍ تنقلت لتطال العالم كله. في الأيام الأولى لاجتماعي مع أختي الحبيبة في بيت المقاومة في أرمطلو الصغرى كانت قد بدأت أخبار الموت تأتي من السجن. صرت في اسطنبول، وأنا أقرب من أبي ومن أختي الكبيرة. ولكن الأيام تمر بسرعة أكبر، ووضعي كل يوم يسوء أكثر. عشت هذا من قبل. أثناء مجيئي من إزمير قال لي أبي إنه عليّ أن أترك صوم الموت على الرغم من كل شيء. قال لي يكفي شخص من أسرتنا، وإنه لن يحتمل فقداننا معاً. كان والدي صريحاً معنا دائماً، ويقول ما يريد قوله بشكل واضح وصريح. حين كان يقول لي: "يا ابنتي، يا جاناني، انظري ها هي أختك مستمرة، ولكن عليك أن تتركي أنت. سيتفهم موقفك الجميع. لا أحد سيغضب منك، أو يعلن أنك جبانة" قلت له: "أنا أتفهم صعوبة الأمر بالنسبة إليك، ولكن هنالك مسؤولية قبلت تحملها. من غير الممكن أن أترك المقاومة بينما هنالك أعداد كبيرة من الناس، وبينهم أختي الكبرى مددوا أجسادهم للجوع منتظرين الموت. لا تطلب مني أن أفقد احترام نفسي. أعرف صعوبة هذا الأمر بالنسبة إليك، ولكنك يجب أن تنجح بتحمل هذا. أنت مختلف، أنت لا تشبه الآباء الآخرين، أنت أبي، وروحي، ولكنني لا أستطيع أن أفعل هذا." في تلك اللحظة كانت تتضح على وجه أبي آثار العاصفة التي تهب في قلبه. إن ذلك الرجل الكبير، وذلك الصديق المحبب تكفي المحبة التي في قلبه العالم، حين يفكر باحتمال فقدان ابنته تشتد خطوط وجهه، ويتلوى ألماً نتيجة تشنج في طرفه الأيسر. ليس سهلاً أن تكون ابنتاه تتأرجحان على ذلك الخط الرفيع الذي يفصل الحياة عن الموت. أعرف يا روحي أبي لقد أحزناك كثيراً، وتركناك في وضع صعب. أنت كالآباء الآخرين درّسّتنا، وأردت أن يكون لنا عملاً. أعلم أنك حلمت بنا متأبطين ذراعيك قائلاً هذه ابنتي معلمة، وهذه اقتصادية. ولكن يا روحي أبي الحياة لا تقدم في أغلب الأحيان للإنسان ما يتمناه. وأنت في وضع كهذا. كيف ستحتمل الأيام الصعبة التي تنتظرك، آه لو أنني أعرف، وأستطيع المساعدة. ولكن عليك أن تواجه كل هذا وحدك. لا أدري كيف ستعمل هذا، ولكن عليك أن تجد حلاً لهذا الأمر. أعرف أنه بإمكانك أن تفعل هذا. سيجد قلبك الكبير مخرجاً لهذا، أنا واثقة. حين أفكر في الأيام الأخيرة التي قضيتها مع أختي وروحي ورفيقتي أنتبه إلى أنني لم أستطع رؤيتك. أعرف أنه على الرغم من أنك أردت البقاء بجانبي في لحظاتي الأخيرة لم تتجرأ على هذا الأمر لأنك فكرت بعدم استطاعتك تحمل هذا. أنا أفهمك، لم أحزن منك. أي أب يمكنه إبداء التماسك الذي أبديته؟ لا أعتقد أنه يوجد إنسان كهذا على وجه الأرض. لم أحزن منك أبداً، وحاولت تفهمك دائماً. ومهما حاولت تنبيهك لموضوع قوتك أعرف أن الوضع الذي ستواجهه صعب جداً. وحين تحل النهاية التي لا مفر منها، استمرّيتُ بمراقبة ما فعلتموه. كان صباح يوم أحد، الساعة التاسعة والنصف يوم الخامس عشر من نيسان. وأنا أغادركم فيزيائياً. أنا جانان التي أضفتُ معنى لعمري القصير، أقول الوداع لكل من عمل على تذكري في التاريخ، أودعكم بما فعلته وما لم أستطع فعله. ولكنني ما زلت أراقبكم وأعمل على فهم ما يحدث من بعدي. مرّ الأسبوعان الأخيران اللذان قضيتهما مع أختي الكبرى في بيت المقاومة في (أرمطلو الصغرى) بأحداث كثيرة. أسعدني جداً تعرفي على أناس جدد، ومشاركتي لهم لحظات جميلة. بعد أن أطفأنا شوقنا - أختي وأنا- قضيت أياماً جميلة مع الأصدقاء المقاومين الذين تعرفت بهم، ومع الأناس أصحاب الوجوه الصديقة الذين جاؤوا لتقديم الدعم لنا. لم نقطع روابطنا مع الحياة حتى حين كنا سائرين نحو الموت. بقينا مرتبطين بالحياة دائماً. وحافظنا على القيم المرتبطة بالحياة، وحاولنا أن نتمثلها. أعرف أن بعض الناس سيقولون إننا محبون للموت. وسيفكرون بسبب عدم اختيارنا طريقاً للنضال غير الموت. نحن أحببنا الحياة إلى حد أنه يمكننا أن نموت من أجلها. من المؤكد أن فهم هذا صعب جداً . ليس ثمة شيء في هذا العالم يمكننا الموت من أجله غير الحياة. وبتمديد أجسادنا الشابة جداً للجوع حاولنا شرح هذا. وهل يعتقدون أنه من السهل الأخذ بعين الاعتبار دفع ثمن كهذا أثناء الدراسة في الجامعة، وتصور مستقبل جيد؟ أيعتقدون بأننا لم نفكر بإنهاء الجامعة، وعيش حياتنا، وحساب مستقبلنا ومصالحنا الحياتية مثل ملايين الناس؟ في فترة حياتي القصيرة هذه فكرت كثيراً بأن أعيش حياة مريحة، وأحصل على عمل جيد. حتى إنني فكرت مئات المرات بوضع المجتمع، وإنقاذ نفسي. ولكن كيف يمكنني افتراض عدم عزل عمي وأصدقائه في سجون زنزانات النموذج "F" تحت التعذيب، لإبعادهم عن هوياتهم وأفكارهم، والتفكير بنفسي فقط؟ بينما يقتل الناس بجانبي كيف يمكنني أن أدير ظهري قائلة إن هذا لا يهمني. لم يكن اتخاذ هذا القرار سهلاً. لم يكن تمديد جسدي للجوع سهلاً. وأصعب من هذا ألف مرة هو الاستمرار في المقاومة، ومجابهة الموت. فكروا بهذا، أنتم تمددون أجسادكم للجوع من أجل الناس، ولكن قسماً كبيراً من هؤلاء الناس يعارضون عمليتكم. ويقدمون على كل شيء من أجل جعلكم تتراجعون عن عمليتكم. لا أحد يعلم صعوبة هذا غيرنا. لم تكن لي مشاركة كبيرة مع الأخت (غولسمان) التي فقدت حياتها قبلي. حين جئت كان وضعها قد ساء. يا لغرابة هذا. غولسمان تترك أبنها يتيم الأم، أما أنا فأنفصل عن أبي. تضم المقاومة مآسي كهذه إضافة إلى مجموعة الجماليات. كانت هنالك أيضاً الأخت (شناي)، وزوجها في السجن ضمن صوم الموت. ولهما طفلان، بنت وصبي. كانا يحبان أولادهما كثيراً، وليس ثمة تضحية لا يستطيعان تقديمها لهما. ما أغرب هذا الوضع؟ كيف يمكن للأخت (شناي) وهي تغادر ولديها أن تشرح لهما أسباب هذه المقاومة؟ لو قال لها ولداها: "هل لك حق تركنا والذهاب يا أمي؟" بماذا يمكنها أن تجيب أولادها؟ هل سأل أولاد شناي أمهم هذا السؤال؟ لا أعرف أبداً. ولكن إذا كانا قد سألاها فأنا أعتقد أنهما لم يأخذا جواباً مقنعاً. أعتقد أنه يصعب على عقليهما الطفوليين استيعاب هذا. مرحلة صعبة، وهذا البُعد الذي يمنح هذه المقاومة معنى، ويصعب شرحه. ستدافع عن الحياة بالموت. لكي لا يبتعد الآباء والأمهات عن أبنائهم، وألا تعاش حسرات كهذه، وألا يبتعد أحد عن محبيه، وليشمشم الكبار الصغار، ويحتضنوهم، ولكي يغوص الصغار في نوم عميق في أحضان الذين يحبونهم، وليشعروا بشفقتهم وحرارتهم. هذا شيء من جوهر مقاومتنا، ولعله يمكن قول أكثر من هذا. ولكن ليس لدي الوقت الكافي... وكانت هنالك الأخت (هوليا). أعتقد أن الكلام عنها صعب جداً. لا تتكلم كثيرا، ولا تجادل أحداً، وتعمل على الاستمرار بحياتها بحالها وذاتها. أعرف أن لها قلباً دافئاً ولكنها لا تعبر عن هذا وكأنها تحاول إخفاءه. فيما بعد حدثت أبي. قالت بأنني حين جئت إلى بيت المقاومة ورأتني شع البيت بالنور. شبهتني بملاك قادم من السماء. وحكت لأبي أنني جميلة وبريئة كالملائكة، وأنني دخلت أحلامها في بعض الليالي التي تلت مجيئي، وحادثتني في الحلم مطولاً، وداعبت شعري. لعل جمعها النقود من الأصدقاء وشراء الطعام لفقراء الحي لإنجاح المقاومة إشارة تدل على حبها لشعبها وارتباطها به. بالنتيجة فإن الأخت (هوليا) إنسانة مختلفة تماماً. من المؤكد أن ما عشته في بيت المقاومة في (أرمطلو) غير محدد بهذا. كان يأتي أصدقاء لزيارتنا. لكل منهم قلب كمخالب أسد وصافٍ ونظيف. أحداقهم ضاحكة، يدفئون قلوبكم بنظراتهم، ويمنحونكم عمراً جديداً. أخوة وأخوات محببون سيشعرون بسعادة كبرى لانتزاع قلوبهم وتقديمها لنا على طبق من ذهب. لا يمكن تقدير كم كنت أشعر بالسعادة حتى في أسوأ الظروف عند رؤيتهم وتبادل بضع كلمات معهم. تعرفت بكتاب وموسيقيين معروفين مع أناس عاديين. حتى إنهم يمكنكم الاعتقاد بأن ما عشته في أرمطلو ليس أسبوعين فقط بل عصرين. كان يأتي (سوافي)* لزيارتنا. حين يتحدث ذلك الرجل الطويل القامة المختلط شعر رأسه بلحيته تشعرون بأن الدفء يغمر قلوبكم. بذل هذا الرجل عدو التدخين المتواضع المحبب جهوداً عظيمة من أجل إنجاح مقاومتنا، وأحببته كثيراً. وهنالك (أديب آق بيرم) . إنه يا أبي ذاك الذي تعرّف به: "الأخ أديب الذي لا ينزل مستوى موسيقاه في أي وقت"، ولكن عليك أن تعرف أنه لم ينزل مستواه الإنساني أيضاً إضافة إلى مستواه الموسيقي. عندما يأتي يمتلئ بيتنا بالفرح، وكأننا نعيش جيشان حفل موسيقي لا يشبع منه. كان الأخ أديب يغني، ونحن نردد معه. الدفء والمشاعر التي في صوته تداعب أرواحنا، ونعيش لحظات سعيدة. يا أبي العزيز لا تضيع الأخ أديب، يجب أن يكون هنالك أشياء كثيرة يقولها لك، وتقولها له. أنا واثقة أنكما ستغدوان صديقين جيدين. لن أنسى أبداً أخي الكبير أديب بشخصيته الفنية، وروحه الإنسانية. عليها ألا تعتقد أنني نسيتها. كيف أنساها؟ زوجة الأخ الكبير أديب الأخت (آيتان) مكان الأخت آيتان مختلف تماماً. حين أفكر بسبب شعوري بالدفء نحوها يخطر ببالي لأنها من منطقة البحر الأسود. كيفما كان فهي ابنة البلد. ولعل هذا ما جعل دمي يغلي للأخت آيتان. إلى جانب كونها من عندنا من هناك فعندما أفكر بصفائها ونظافتها إلى جانب ما عرضته من محبة لي واهتمام بي، أقول حسناً أنها زوجة الأخ أديب، وحسناً أنها صديقة لنا. خلال تلك الفترة القصيرة اهتمت بكل شيء يتعلق بي. جلست بجانبي أياماً، حين أتحسن قليلاً كان يطفح وجهها بالفرح، وعندما تسوء حالتي كانت تبذل جهوداً غير عادية لكي لا تظهر قلقها وخوفها. لكي أصمد ساعة أكثر أو دقيقة إضافية حاولت منحي معنويات. قبلتني، وداعبتني. وشعرت بدفئها. حين أسندت رأسي إلى صدرها شعرت بنفسي أنني في حالة أفضل. أنا مدانة لها. أحببتها كثيراً.أتمنى ألا نحرم منك، وارعي الأخ أديب جيداً، ولا تسمحي بأي شكل بتخريب اتفاقكما وسعادتكما. أقبلك بكل ما أستطيع. وهنالك الأخت (ديلك). سمراء طويلة نحيلة. إنها الأخت ديلك الجميلة السمراء التي تخبئ في داخلها التحرق للقيام بشيء ، ولكنها تعمل على عدم إظهار هذا لنا. يا لما بذلته من أجلنا. تركت عملها وركضت لكي تنهي هذه المقاومة، ولكي لا تسقط أجسادنا الشابة إلى الأرض. وحافظت دائماً على حرارة الأمل. صرفت قسماً كبيراً من وقتها من أجل أن نقاوم أكثر قليلاً. ولكن ماذا سنفعل يا أخت ديلك، جهدك أيضاً يثمر إلى حد ما. لم يحدث، لم يحدث على الرغم من كل محاولاتك، لم يحدث ما أردت. جهودك لم تكف. الحياة هي هكذا بعض الشيء، لا تعاش كما نريد، وفي أكثر الأحيان تكون مؤلمة. وكان هنالك الأخ فرهات. فرهات طونتش. الطويل كغصن، وذو الشنب. صوته ذو بحة. كَسِبَ محبة الجماهير عبر سنوات طويلة، وغدا أملها، وحاول إسماع صوته للعالم ولهذا السبب تعرض للقمع في فترات، وهو مغني الشعب. عرفته، وأحببته كثيراً. وهو أيضاً أحبني. دفء صوته يحفر في القلوب. كأنه لا يردد الأغاني الشعبية بصوته، بل بقلبه. حمل صوت الأناضول إلينا في أحاديثنا القصيرة معه. في تلك اللحظات القصيرة عشنا تاريخ الأناضول الممتد عبر مئات السنين. عشنا مع (الشيخ بدر الدين) ومع (بوركلوجا). جاء معه (بير سلطان) ونزل ضيفاً في بيتنا. الأعداد اللامتناهية ممن فقدوا حياتهم في المقاومة والنضال احتسوا شاينا الخمير معه. محبوك منفصلون عنك بين أربعة جدران، في السجن، محكومو الحرية جاؤوا معك وغنوا لنا، وغنينا لهم. ومع فرهات طونتش، مع الأخ الكبير فرهات. لا تنسنا يا أخانا فرهات، لا تنسنا، ولا تجعل الآخرين ينسونا. أَعرِفُ أنك أحببتني، وأحببت أختي. سمعت أنك ستلحن أغنية من أجلنا. يا لجمال ما تقوم به، وهذا ما كنا نتوقعه منك. أتوقع أن تكون أغنية جميلة. مهما يكن فأنت فرهات. هل يمكن أن تغني ويكون الغناء سيئاً؟ يسلم فمك، ولكن لا تغنينا وتترك المقاومين الآخرين. هم أيضاً يستحقون هذا. لا تنسنا وتنسهم، ولا تسمح للآخرين أن ينسونا أو ينسوهم. لا تُسكتْ طنبورك وصوتك من أجلنا. ثق أننا إذا لم نكن بجانبك فسنستمع إليك دائماً. أينما غنيت فإن آذاننا ستطن معك. وأحبك كثيراً. تعرفت إلى آخرين أيضاً، ولا أستطيع شرحهم جميعاً. لهذا أريدهم أن يسامحوني. مثلاً هنالك الأخت (بيلغة). بيلغة صو إرينوس. أردت أن أحكي عنها ولكنني أخشى أن يبقى شرحي غير كافٍ. أريد أن تحكي عنها أختي زهرة. لأنهما معاً منذ بداية المقاومة. قضتا أياماً محملة بالمعاني. من ناحيتي فإن الأخت بيلغة استحقت مديحاً كبيراً، ولكنني أعتقد أن قول أختي سيكون أكثر معنى. وهنالك أيضاً مرافقين لنا اهتموا بنا. يفرحون معنا، ويحزنون معنا، ويبذلون كل ما بوسعهم من أجل تلبية حاجياتنا. نسيوا أنفسهم، وعاشوا من أجلنا، ووضعوا كل ما لديهم من أجل منحنا قوة. وكان هؤلاء الجنود المجهولين للمقاومة. يا لجهودكم المبذولة من أجلنا، ويا لما شاركتمونا به... محبتكم أحملها معي في قلبي. سنكون معاً دائماً. سنتنفس معاً، ونضحك معاً. وإذا حزنتم، وإذا ناديتمونا من أجل رفع معنوياتكم سأقدّم لكم باقة من النكات. سيمتزج قلبي بقلوبكم، ونفسي بأنفاسكم. لن أنسى أحداً منكم، وسنعيش معاً إلى ما لا نهاية. انتهت الفترة التي قضيتها في (أرمطلو) الصغرى، وجاء وقت الرحيل. وطبعاً فإن الرحيل ليس رحيلاً حقيقياً بالتأكيد. ولكنني في النهاية أرحل عن محبيّ، وعن أختي الكبرى، وأصدقائي المقاومين الآخرين. لأذهب، فقد حان الوقت. ألم يرحل الذين حان موعدهم واحداً واحداً؟ وأنا أنضم إلى قافلة الذاهبين. أنا ذاهبة مع ما استطعت عمله أو لم استطع عمله في هذه الفترة القصيرة التي عشتها في هذا العالم. أنا ذاهبة دون أن أعرف كيف أحكي عما تركته ورائي ومن تركتهم بعدي. أنا ذاهبة وحزينة لعدم رؤية عمي محمد منذ فترة طويلة. أما هو فكم كان يريد أن يراني. كتبنا رسائل كل منا للآخر، ولكن لا يكفي. لا يوجد ما لا أقدمه من أجل رؤية كل منا الآخر. من يعلم كم سيحزن لذهابي؟ كيف سيحتمل ذهابي وهو خلف تلك الجدران ولا يستطيع عمل شيء؟ ماذا سنفعل؟ أيعني أن هذا هو نصيبه أيضاً؟ ويجب عليه أن يعوّد نفسه منذ الآن على ما سيعيشه من بعدي. ولكن لا يحدث هذا بسهولة بالتأكيد. سأكون دائماً إلى جانبه. حتى ولو كنت خلف الجدران البيتونية الغليظة فسأضيف صوتا إلى صوتك. سأنضم إلى أغانيكم وشعاراتكم. وسأدخل إلى زنزانات الأصدقاء الآخرين. وسأجلس معهم أيضاً نردد الأغاني. وبرفقة الأحاديث العميقة سنرتشف الشاي، وستكون مثل دم الأرنب. وكيف أتركك وأترك أصدقاءك يا عمي يا روحي. ألم نمدد أجسادنا للجوع من أجل أن تكونوا أحراراً، وألا تبقوا في العزل. ألم نأخذ بعين الاعتبار دفع هذه الأثمان كلها من أجل هذا؟ بالتأكيد سأحمل من منطقة البحر الأسود حرية إلى زنزاناتكم. لن أجلب لكم من جبال منطقة البحر الأسود أزهاراً، ولكن سأجلب لكم ملء الحضن أملاً. متى تناقص أملكم ثق أنني سأكون بجانبكم، لن ننفصل أبداً. مهما جعل الظالمون جدرانهم سميكة سيقوى اجتماعنا أكثر. كل جاروف أسمنت يصبونه في الأعمدة البيتونية سيزيد من تمازج محبتنا، ويغمرها. وعناداً للظالمين فإن كل باب حديدي سيكون ممراً للقائنا. حين آتي سيفتح تلقائياً، وسيكون دليلي. أنا ذاهبة تاركة أحلامي التي أردت كثيراً أن أحققها ولم تتحقق. أنا ذاهبة دون محادثة الكتّاب الكبار الذين قرأت مقالاتهم وكتبهم. أنا ذاهبة دون أن أعرف (جزمي إرسوز)، ودون أن أحكي معه حول كتاباته التي تقطر عسلاً من قلمه، وتفتح الأزهار في داخلنا. قرأت كتب الأخ جزمي ومقالاته. ولكن ليس هنالك نصيب بأن أتعرف عليه. آه لو كانت لدي فرصة التعبير عن مقدار حبي له وجهاً لوجه. أعرف أن هذا كان سيسعده، ولكن ماذا سأعمل؟ هذا أيضاً لم يتحقق مثل كثير من أحلامي. ولكنني سمعت أنه كتب مقالات وحكى فيها عني، وشارك قراءة هذا الموضوع. ألا تكبّر المشاركةُ الحبَ دائماً؟ تكبره بالتأكيد. والأخ جزمي أعرف الناس بهذا. آه لو توفرت لي فرصة قراءة ما كتبه من أجلي. ولو استطعت أن أشكره من أجل ما فعله من أجلي. ولكنك يا أبي ستعمل هذا من أجلي، أليس كذلك؟ أعرف أن أصدقاءً كهؤلاء لا يوجدون بسهولة. لهذا عندما يوجدون يجب عدم تركهم، ويجب التمسك بهم بقوة. يجب التمسك به كما تتمسك العريشة بشجرة، وإحلال الحب رابطاً معهم. حين حل وقت الذهاب كانت أختي زهرة أول القادمين لوداعي. يا روحي أختي جاء يوم كنتِ أماً لي، وكنتِ صديقة، ولكنك بالتأكيد كنت في كل وقت جزءاً مني. ما الذي لها، وما الذي لي؟ كنا نخلط بينهما دائماً. يا لما تشاركنا به. تشاركنا بالفقر، والفرح، والسعادة، وبتشاركنا قل ألمنا، وازدادت سعادتنا. كيف وقفتِ وقفة الاحترام بعد أن قبلتني من شريط الجبين؟ تحاول أن تكون قوية، وتذرف دموعها إلى داخلها لكي لا ترينها. تعتقد أنني لم أفهم كم صعب الأمر عليها مع أنني أفهم. كيف لا أفهم جزءاً من قلبي، لعله يذهب أيضاً ولكنه يحاول ألا يُظهر هذا. ولعل أحد أسباب قوة جزء قلبي ذاك هو معرفته بأنه لن يتركني وحدي مدة طويلة. لا تتركني، وهل تترك جانانها. لم تتركني في أي وقت حتى تتركني هذه المرة. في لحظات الفراق ثمة شعور ينتج بعد ذهاب الذاهب بأن اللقاء قريب، كيفما كان ستكونين مع من أحببت بعد فترة قصيرة. هذا الشعور يتجلى بسعادة على وجه الإنسان، وابتسامة حلوة، ووجه أختي روحي هكذا. على الرغم من ألمها كله فلا تفارق وجهها هذه الابتسامة. لن أقول لك: وداعاً يا أختي، بل سأقول لك أتركك بخير. إنك تغادريني وعلى وجهك تعبير يقول إننا سنلتقي مجدداًَ. ومنذ لحظة خروجك من البيت انتبهت لنفسي بأنني اشتقت إليك. لو كان للشوق لسان، وحكى بالنيابة عني أعرف مقدار الحرج الذي سيعيشه. بعد ذلك أتى أناس وأصدقاء فرداً فرداً. مازلت أراقبهم من حيث أضطجع. يأتي معارف لي ويأتي من لا أعرفهم، عمالٌ وأناس الأكواخ الفقراء. يقف كل منهم دقيقة صمت بحب واحترام ثم يترك مكانه للآخر. كأنه يدخل فجأة. أعرف هذا الوجه. أعرف هذا الرجل. ماذا يعني أعرفه؟ إنه جزء مني، إنه أبي. إنه يدخل. يبدو عليه أنه يحاول فهم ما يجري. يتلفت فيما حوله، بعد ذلك يلتفت إلي، وبجانبي يرتبك غير عارف ما سيفعله. ابتسم بشكل غير واضح تماماً لكي يكون قوياً. يدرك هذا. طبعاً يدركه، وهل لا يدرك هذا أبي. ينحني بجسمه الضخم، ويداعب شعري أولاً، ويمر بأصابعه الفخمة على وجهي. على وجهه أثر غريب يعبر عن عدم استطاعة فهم ما يجري حتى الآن. كم هي محببة يداك. بينما كان يداعب وجهي أفكر مرة أخرى بقلب أبي. ماذا لو لم يحتمل، وبقي هنا بجانبي؟ ماذا لو قال: لا، أنا لا أستطيع احتمال هذا الألم كله. لو طلب مني قلبي ماذا سأفعل؟ ولكن لم يحدث أي مما فكرت فيه. بعد أن قبلني من شريط الجبين، ومن بين عيني، وقف ببطء. وقف دقيقة صمت. والد جانان في دقيقة صمت بجانبها. أريد أن أقول له لا تفعل، أنت من يجب الوقوف أمامك بصمت واحترام. ولكنه لا يسمعني، ويستمر. يعصه قلبه، ويتقطب وجهه. بضع قطرات دمع تسيل على خديه. ولكنني أعرف وأرى دموعه التي يدفقها إلى داخله كالسيل. ألا أعرف أبي؟ أعرفه بالتأكيد، فصدره مثل بركان جاهز للانفجار. ولكنه يصمد، وعليه أن يصمد لأنني لم أترك له فرصة أخرى. جعلني أبي أعيش أطول دقيقة في حياتي القصيرة هذه. ولا أستطيع تخيل كم سنة أو قرن مرت على أبي تلك الدقيقة. حين كان يبتعد ببطء تذكرت فجأة ارتباطي بوالدي. قلت لنفسي آه لو بقي قليلاً بجانبي. بعد ذلك رأيت عند عتبة الباب جسم عمي إسماعيل الضخم. جاء، ووقف بجانبي. رأيت أبي في وجهه. بقدر ما نحن مرتبطون ببعضنا بعضاً، بقدر ما يرتبط أبي بعمي. كنت أفكر بالآلام التي عشناها مع عمي، ولكن لم يخطر ببالي أي منها الآن. أتابع عمي فقط، وأتوق لمعرفة ما سيفعله. أحاول فهم التعبير الذي على وجهه، ولكنني لم أستطع. جلس على ركبتيه بجانبي، وحين قبلني من شريط الجبين ومن عيني كنت أستطيع رؤية داخله. قلبه يخفق بقوة، يقول ياجاناني، ماذا سأفعل من دونك. من سيقول لي بعد ذلك: يا عمي. وحتى لو قيلت فلن تكون بالدفء والحب الذي تقولينها فيه. حين تذهبين ماذا أفعل أنا، ومن أحتضن؟ وإذا احتضنت فهل أجد الدفء الذي أجده فيك؟ هل تعتقدين أن عمك سيبقى كما كان؟ كيف سيقابل قلبي ذهابك؟ إيه يا قلبي، لم تعد جانان موجودة، إن اعتدت على هذا تفعل حسناً. أما قلت هذا، فهل سيقبل به قلبي؟ إذا لم يقبل أين أجد جانان أخرى. يا إلهي ماذا يجب أن افعل ليعتاد قلبي على هذا؟ ولكن مهما يكن يا عيني الجميلة إنك أردت، ولأنك أردت سأعتاد، أعدك بهذا. عمي الكبير هذا يعدني. نهض بعد ذلك بجسده الضخم ببطء، ووقف دقيقة صمت. وذرفت على خديه بضع دمعات أيضاً. وعمي أيضاً كأبي افرغ دموعه في داخله. بعد ذلك خرج من الغرفة بطيئاً وغادرني. جاء معارفي ومن لا أعرفهم إلى جانبي، أغلب الذين انتظرت أن يأتوا لم يأتوا. مع أنني كم أردت أن أراهم في أثناء انطلاقي في رحلتي الأخيرة. مع أنني جعلت انطلاقي في رحلتي الأخيرة يوم عطلة لكي لا أعطلهم عن أعمالهم، أي في يوم أحد. على الرغم أن اليوم أحد فلم أجد غالبية الذين اعتقدت أنهم أصدقاء. كان هنالك الأخ رمزي محامي العم محمد، وأقرباؤنا، وأصدقاؤنا. رأيته، ولم يكن وضعه جيداً. كان يعمل في الإجراءات، ليكملها من أجل نقلي إلى (ريزة). سأكون في السيارة نفسها مع الأخ رمزي حين سأذهب إلى البلد. حين انتبهت إلى الأخت الكبرى (شنغول) كان يمسكها البعض من ذراعيها، وتحاول أن تنتصب على قدميها. جاءت إلى جانبي. تشنج وجهها من الألم وجفت ينابيع عينيها من البكاء. لا تستجيب لتنبيه أبي: "عليك أن تكوني قوية." وتبكي باستمرار. ستبكي بالتأكيد، يا لما تشاركنا به طوال هذه السنوات. وبالتأكيد هنالك بعض اللحظات التعيسة بيننا أحياناً، ولكن لأسباب لا تذكر سوى اللحظات السعيدة عندما أرى الأخت شنغول. إنها أكثر من أخت كبيرة مع أختها الأصغر، إنها صديقة حميمة. شاركتها أسراري، أسراري الخاصة التي لم أبح بها حتى لأبي. حين عشت عشقي في سنوات الثانوية كانت أول من أخبرت به. أنا أحببتها، وهي أحبتنا كثيراً. وها أنا أتركها وأذهب. إنه سفر، ليس بالإمكان اصطحاب أحد فيه. ستترك فيه محبيك وغير محبيك وستذهب. ستذهب وحيداً. حين أنظر الآن من جديد لم أر أحداً أتذكر وجهه. كما قلت، إنه يوم عطلة ولكن غالبية الذين أعرفهم غير موجودين. آه لو أدركوا كم كنت أريد أن أراهم في أثناء ذهابي. لابد أن هذا أكثر ما يرغب به الذاهبون. ولكن، ليكن. هنالك أناس كثيرون. بعد ذلك كان أبي على هذا الطرف، وعمي على الطرف الآخر، ووضعوني في سيارة الإسعاف الواقفة إلى الأمام قليلاً. جلس أبي إلى جانبي. انطلقنا مباشرة نحو المستشفى. نظرت مجدداً إلى أبي. إنه يداعب شعري من جديد، ويقول: "جاناني، بدأت أشتاق لك منذ الآن. سيكون من الصعب علي أن أعتاد على عدم وجودك. والآن أنا متمددة داخل سيارة، وفي المقدمة أبي، وابن عمتي (سرقان) منطلقين إلى ريزة. كثيراً ما تمتلئ عينا أبي بالدموع، ويحاول الأخ رمزي أن يدعم موقفه. كنت عائدة إلى البحر الأسود. فجأة انتبهت إلى مقدار شوقي للبحر الأسود.اشتقت لجباله وحقول الشاي فيه، وأمطاره، وكثير من الأشياء فيه... وجدي وجدتي أيضاً. في أي وضع هم الآن؟ لا يمكن لهم أن يتقبلوا هذا الوضع. يا جدتي، يا روحي، كم بذلت من الجهد لكي تجعليني أعود عما عزمتُ عليه؟ ذهبت إلى إزمير، وبقيت عندي هناك يومين، وحين وجدت أنه لا فائدة من هذا الأمر عادت إلى ريزة. كيف تحتمل غيابي؟ جدي، يا جدي العزيز، أنت أيضاً لم تبذل القليل. لم تقلل من ضغطك على أبي كي يجعلني أتراجع عن صوم الموت. ولكن يا جدي العزيز لو كان لدى أبي فرصة كهذه فهل سينتظرك لتقول له؟ هل تعتقد بأنه مسرور من هذا الوضع؟ طلبتم منه أمراً لا يستطيع القيام به. وفي أغلب الأحيان اعتبرتموه مسؤولاً. ولكن يا جدي يا روحي أنا من قرر، ولم أتراجع على الرغم من إصرار والدي. أنتم تعرفون كم بذل أبي من أجل أن أتراجع فلماذا تحملونه عبء هذا الأمر حتى الآن؟ أعرف بالتأكيد أن الأمر ليس سهلاً، ولكن فكروا أيضاً على النحو التالي: هل تعتقدون أن الأمر سهل علي. أنتم فقدتم حفيدتكم، أما أنا فقد فقدت حياتي، أيهما أكبر؟ أيهما أبهظ ثمناً؟ قولوا كرمى لله! ولكنني أحاول أن أتفهمكم. ليس سهلاً بالتأكيد، ولكن مهما يكن حاولوا أن تكونوا أقوياء، ولا تحرموني من محبتكم. أعرف يا جدي، يا روحي بعد ذهابي قضيت الليالي بطولها دون نوم، وفكرت بي دائماً. ولكن ماذا سنفعل، الحياة لا ترحم، ووقع على عاتقكم ثمن باهظ. لا تتهم أحداً في موضوع ذهابي. إنه قرار اتخذته أنا، وأريدك أن تحترم قراري هذا مهما كان. تحدثت بكل شيء مع جدتي حين كانت في إزمير. أفهم أننا في مواجهة موقف صعب، ولكنني دفعت الثمن اللازم من أجل ما يتعرض له بلدنا من ظلم، ويتعرض له عمي وأصدقاؤه في السجن. فكروا بهذا الأمر، ثم قرروا. أتعتقدون أنني لا أريد أن أحمل شهادتي الجامعية وألقيها في حضن جدي وجدتي قائلة إنني صرت معلمة. أردت هذا كثيراً. وأعرف كم سيسعدكم هذا. حقكم أن يكون لكم حفيدة متخرجة من الجامعة. إذا قلت لكم كونوا أقوياء في مواجهة هذا الوضع، فمن الواضح أن هذا صعب جداً. لم يكن هذا ما أردت أن أجعلكم تعيشونه في آخر ربيع من حياتكم. ولكن المسؤول عن هذا لم يكن أبي أبداً. هو لم يكن يريد غير أن يحبني، ويعيش معي إلى ما لانهاية. على الأقل لم يرد أن يحزنكم كما فعلت أنا. لهذا اعرف أن قراري الذي اتخذته ودفعت ثمن اتخاذي له قد أحزن أبي. حين وصلنا إلى ريزة كان هنالك أناس ينتظروننا. والعيون الفضولية تحاول فهم القضية، وتطرح أفكاراً. رأيت أمي هناك، وهي رأتني. كانت في حالة انهيار تام. بالتأكيد سيكون قلب الأم في حالة سيئة. ستودع روحها جانانها، وتتركها. ورأيت عماتي. فجأة شعرت أنهن غريبات عني. مع أنني كنت أحبهن، وقد بذلن جهداً لتكبيرنا، واشترين لنا مما اشترينه لأولادهن. ولا يفرقن بيني وبين أولادهن. أما اليوم فقد بدين لي في حالة برود، فلماذا يا ترى؟ حين أفكر بالأمر أجد أن عماتي وأخوالي وأبناءهم لم يأتوا لزيارتنا أنا وزهرة عدا (سرقان). مع أننا كبرنا مع أولاد عماتنا كالأخوة. نحن في بيوتهم، وهم في بيتنا. كنا نأكل معاً، ونشرب معاً. ولكن حدث ما حدث مع بداية صوم الموت. لم يعد أحد منهم يسأل عنا. من غير الممكن فهم كيف تغيروا إلى هذا الحد. ترى لو سألتهم فهل يجيبونني؟. لم تزوروني أنا وأختي زهرة. ماذا فعلنا نحن؟ وضعنا أجسادنا متراساً في وجه المجازر المرتكبة في بلدنا. أهذا هو ذنبنا؟ هذا الوضع الذي ترونه ذنباً، نعتبره نحن شرفاً. هل تصرفنا معكم على هذا النحو حين كان أحد أولادكم في السجن؟ ألم نحاول أن نكون معكم في الصيف والشتاء؟ أليس هذا هو العمل الصائب؟ هل يترك المحبون أحبابهم في الأيام الصعبة؟ لقد حرمتم أبي حتى من العزاء. ماذا فعل لكم أبي؟ هل قال لنا اذهبوا إلى صوم الموت وافقدوا حياتكم. أتعتقدون هذا. أو هذا ما تعرفونه؟ لا يوجد أب يريد أن يفقد أولاده أو بناته اللواتي يحبهن كروحه، وخاصة أبي، أبي الملاك أتعتقدون أنه لا يعاني من الألم؟ نعم إنه يعتز بنا، ولكنكم هل تستطيعون توقع مقدار الألم الذي يشعر به؟ لا تستطيعون. لو كنتم تستطيعون لأردتم مشاركته آلامه، وعملتم على تقديم الدعم له. ولكن أثناء ذهابنا لم تأتين مع أزواجكن إلى أبي. ولكن إذا كان هذا يسعدكم، وإذا كان يريحكم أن تحرموا أبي من العزاء فليس هنالك ما يمكن قوله. لم نطلب منكم أن تفكروا مثلنا. ولكن من الواجب عليكم ألا تتصرفوا على هذا النحو كرمى للأيام الماضية. أنتن وأزواجكن لم تستطيعوا تقديم العزاء لأبي، الذي قدمه له إمام جامع في (بلو) لم يعرفه، ولم يره من قبل، وهذا ما منحه قوة. وقد جلب لأختي زهرة هدية، وألتقط صورة معها، ودعا الله أن يمنح أبي الصبر. كم هي زيارة محملة بالمعاني، أليس كذلك؟ وقد رأته جدتي. وهنالك كثير جداً من الناس اتصلوا بأبي من أجل تخفيف آلامه ولو قليلاً. وأنتم، وأولادكم غير موجودين. جاءت طالبات الجامعة ذوات الإشاربات مع أصدقائهن. وتحادثوا مع أبي في حوار عميق وحار. وجاؤوا بأفكارهم. دعوا الله من أجلنا، ومن أجلي وأجل أختي. أدخلوا الدفء إلى قلوبنا، وغدت المقاومة ذات معنى جديد معهم. وقدم أبي امتنانه لكل هؤلاء الناس. ماذا يحدث لو كنتم أكثر دفئاً وتسامحاً؟ لم تتحملوا القرنفل الذي وضعه أبي وأحبائي على قبري. ما الذي حدث وجعلكم دون رحمة هكذا؟ ماذا أردتم من أزهاري؟ كيف حدث واعتقدتم أن أبي لم يفعل شيئاً من أجلي. لماذا لم تروا أنه لا حيلة له، ولم يستطع عمل شيء إزاء قراري، أو باختصار لم تحاولوا فهمه. مع أنه كان يحبكم. يحبكم ويحب أولادكم. ألم يكن إلى جانبكم كلما كانت لكم حاجة به؟ ألم يهرع فوراً حين تطلبونه. ماذا طلبتم من أبي؟ كيف جعلتم قلبه الحار جداً يبرد نحوكم؟ وأنتم ألم تكونوا أولاد أخواته؟ كيف تركتم خالكم؟ إن الكره والحقد لم يسيطر على قلب أبي في أي وقت. محبته دائماً صرعت الكره. وفي هذه المرة سيحب روحي أبي الناس، ويحبهم كثيراً، ويمثل محبتنا. سيقدم أبي المحبة التي في قلوبنا للناس. وكلما قدمها أكثر ستكبر المحبة أكثر، وسأعتز به دائماً. أبي روحي، أغلب أصدقاءك غير موجودين أيضاً بين القادمين لوداعي. مع أنني أعلم أن لك أصدقاءً كثيرين. مثلاً أغلب أصدقاءك الذين ناضلت معهم أيام شبابك غير موجودين الآن. مع أن وجودهم سيكون جميلاً! تكدرتَ معهم في فترة معينة، عشتم حرارة الرفاقية في أيام الخطر، وطغيان العنف والصراع. هتفتم بالشعارات معاً من أجل رفاقكم الذين غادروكم. ثم هنالك أصدقاء أكلت وشربت معهم، وصببتم عرقكم معاً في عملكم في المصنع، وأكلتم من قصعة واحدة، وعشتم أفراحاً مشتركة. أغلبهم لم ُيروا. لم يأتوا إليك لتخفيف آلامك ولو قليلاً، ومنحك قوة. لا أدري، هل من الصعب جداً تقديم العزاء. لماذا تصرفوا هكذا يا ترى، لماذا؟ طبعاً أنا ما زلت شابة يافعة، أجد صعوبة بتفسير ما يجري. ولكنني اعتقد أنه من الصعب إيجاد تفسير سهل لهذا الأمر. لم تتصرفوا بشكل جيد مع أصدقائي الذين جاؤوا من اسطنبول لتقديم الوداع الأخير. نظرتم إليهم وكأنهم أعداء، واحتقرتموهم. مع أنهم غير مسؤولين عن قراري هذا. ولكنكم أفرغتم غضبكم بهم. في نهاية الوداع رأيت جدتي مرة أخرى. كانت تعيش آلاماً لا تحتمل. جاء أبي إليها ثم تعانقا وهما يبكيان. وصبب آماله مع دموعه. أبي يقول: "كيف فعلت هذا يا ابنتي، يا جاناني. يا إلهي ما هذا القلب، وما هذه المحبة، هل عيش شيء كهذا منذ وجدت الحياة حتى الآن؟ كيف أحتمل غيابك يا ابنتي يا ذات الوجه الوردي، والقوام الممشوق." أعرفُ يا أبي، على الرغم من صغر سني أعرف أنني عملت كل شيء من أجل شعبي، ومن أجل سعادة شعبي. وكما فعل الذين قبلي وشاركوني بالقدر نفسه فعلت أنا من أجل عالم مفعم بالجمال والحب. بينما كانت تعمل آلة الظلم ويعتدى على قيم الشعب كلها لا يمكنني أن أتفرج على كل ما هو إنساني، لم استطع فعل هذا. لعل الناس الذين يفهمونني اليوم قلة قليلة، ولكنهم سيتكاثرون، وسأعيش إلى ما لا نهاية في قلوبهم. رأيت عيني جدي طافحتين بالدموع. أردت أن أفهم ذلك التعبير الذي على وجهه، فلم استطع. جلس، وقرأ أدعية من أجلي. يا جدي العزيز، سمعت أدعيتك كلها، وتذكرت من جديد كم كنت تحبني. أعرف أنني لم أحقق ما أردتني أن أحققه. لم استطع المجيء إليك وقد أنهيت دراستي حاملة شهادتي، وألف رقبتك. حين تفكر بي تشعر بالغيرة من الفتيات الأخريات. ولكن عليك أن تعرف أنني سعيدة جداً، ولست نادمة على ما فعلته. لم افعل شيئاً سيئاً يا جدي العزيز. عشت كما آمنت، وأدفع ثمن هذا. انظر فيما حولك، كم إنساناً مؤمناً إيماناً حقيقياً ومستعداً لدفع الثمن في سبيل عقيدته سترى؟ أنا في جانب ما صفعت هؤلاء بعدم إيمانهم. صرخت بأنهم مزدوجو الموقف. هم لا يعترفون من أنفسهم بهذا، ولكنها الحقيقة. لهذا يجب أن يكون رأسك مرفوعاً يا جدي العزيز، منتصباً، وعزيزاً. أنا أعرف أنني لم افعل ما يجعلك تخجل. آخر طلب لدي عندك أن تقف في وجه الظلم الذي يتعرض له أبي، وألا تسمح به. لأنه يحبك كثيراً. أعتقد أنه حل وقت قول: الوداع. الوداع يا أحبائي. مع ذهابي كبرق النجوم من بينكم أقول وداعاً أيتها السماء. الوداع يا أبي يا روحي، الوداع يا أختي الكبرى شنغول.. الوداع يا أمي. الوداع يا زملائي الحالمين بالحصول على الشهادة من دوني. الوداع يا شعبي الحبيب الذي أحببته دائماً، وأخذت بعين الاعتبار عمل أي شيء من أجله... وبينما أغادركم بما فعلته، وما لم أستطع فعله، وبما تقت لتحقيقه، وما افتقدته، أقول للجميع: الوداع...
* فنانان مغنيان شهيران الفصل الثالث
زهرة تحكي حين ولدت كانت أوراق التقويم تشير إلى شهر آب من عام 1979. حياتي التي بدأتها في منطقة البحر الأسود الحارة والرطبة، أنهيتها في يوم حار من أيام حزيران حيث ولدت. أنا زهرة قولاق سيز. أتيت إلى الدنيا في ريزة. بلدي الذي فتحت عيني فيه كان الدم يجرف الجسد. من جهة كان الشباب - شبابنا- يمثلون الكرامة والنضال والجهد والحرية. يضعون أجسادهم متاريسَ من أجل الدفاع عن الشعب. وبينما يسقطون فرداً فرداً إلى الأرض يأخذ أمكنتهم شبان جدد دون تأخير. ولكن العدو ظالم لا يرحم، ومتعطش للدم. كم كانوا أناساً جيدين، ذهبوا من بيننا دون أن يفكروا بربيع شبابهم الذي تركوه خلفهم. بينما كنت أقول للحياة مرحباً، انزلقوا هم من بيننا وعلى وجوههم ابتسامة، سعداء بإكمال مهمتهم. بعضهم تركنا وسط هذا الصراع محدثاً ضجيجاً، والبعض الآخر ذهب بهدوء دون نبس. لم أعرف أغلبهم، ولم أقابل أحداً منهم، ولكنني بعد أن عرفتهم من خلال صورهم، وحكاياتهم بعد سنوات قلت لنفسي آه لو أنني عرفتهم. لو أنني شاركتهم برشفة شاي، من يعلم كم كنت سأسعد! لو استمعت من لسانهم الذي يقطر عسلاً عن نضالهم ومقاومتهم. ولكن لم يحدث هذا، فقد أتيت متأخرة إلى الدنيا، وهم كانوا مستعجلين. وكأن ذهابهم في أقرب فرصة، وتركنا خلفهم له معنى. أعتقد أنه لابد أن يكون لهذا معنى، وإلا فلماذا يذهبون بهذه السرعة، لماذا يتركون كل شيء خلفهم من أجل اللقاء بالذين سبقوهم؟ سأفهم ذهابهم بعد زمن طويل، وأنه ليس مجرد ذهاب بسيط. في أغلب الأحيان كان هذا الذهاب نوعاً من اللقاء. ما تركوه ممثلاً للامتناهي، بقي في قلوب الباقين وذاكرتهم. هذا هو سبب ابتساماتهم المرتسمة على وجوههم وهم ذاهبون. من المعروف أن الإنسان يبتسم عند اللقاء وليس عند الوداع. يبتسم عندما يمسك الشمس بيديه ويقدمها لمن يحب. تفرجنا على ذهابهم بالانفعال الذي نرى فيه ذهاب الشهب. أحياناً لم نر بوضوح وجوههم وكأننا نراها من خلف زجاج مغبش، وأحياناً لم نفهم الأحزان والآمال التي على وجوههم، وشعرنا بنظراتهم دائماً في قلوبنا. بينما كانوا ذاهبين واحداً واحداً إلى محبيهم تاركين لنا إرثاً حمله صعب، ولكنه مشرف بقدر ما هو صعب كنت أنا قد بدأت للتو بالمسير في تلك الطرقات الصعبة، وبمحاولة الرؤيا. بعد ذلك أتذكر تلك السنوات التي خيمت على بلدنا كالكابوس. أتذكر كخيال مرحلة 12 أيلول والهجوم الوحشي على القيم الذي أوجدت بمزيد من الجهد. أتذكر إرسال من هم في السابعة عشرة إلى أعواد المشانق حين كنت أبدأ خطواتي الأولى. هذا يعني أنني جئت إلى الدنيا في مكان سيء ونحس. جعلوا الظلام الدامس يحل على وطني وأناسي. حاولوا جعل الآباء أعداء لأبنائهم. ولقحوا القلوب الصغيرة بالكراهية كي لا يحبوا الكبار. عملوا على نزع القلوب المفعمة بالمحبة، ووضع مكانها أجساماً باردة وعديمة الإحساس تشبه التي عندهم. واستنفرت القوى كلها لتفريغ العقول من كل جميل، وتحويلها إلى كومة لحم فظة. على مدى وقت طويل انتظر الناس في تلك الفترة أن يسعدوا لأشياء صغيرة. أحياناً يمكن لحادثة صغيرة ليست بالحسبان أن تمنحكم طمأنينة حيادية. وأنا واجهت وضعاً كهذا. كنت صغيرة، ولكنني أذكر وبشكل غير واضح بأن أختاً لي جاءت إلى الحياة. في تلك الأيام التي يسيطر فيها الظلام. انضمت جانان إلينا، وصار لي أخت. بعد ذلك صارت في أغلب الأحيان مخبأ أسراري وصديقتي. ولم نكن كالأصدقاء العاديين، فقد كبر ما كنا نتشارك به. أحب كل منا الآخر. ومع مرور الزمن تمازجت محبتنا. وغطت هذه المحبة قلوبنا بداية، ثم ذاتنا كلها. الرابط الرفاقي الذي ترابطنا به ولم ولن يعاش، ومن غير الممكن فهمه. حين يحل الوقت سيبذل العالم كله جهداً كبيراً من أجل فهم هذا ولكنه لن ينجح، ثم يعيد النظر في الموقف الذي يواجهه، ولن يستطيع تحليل هذا الوضع. انضمام جانان إلينا أفادني أكثر من الجميع. لقد صار لي مكمن أسرار سأنام معها حضناً لحضن في ليالي الشتاء الباردة، وأشاركها أحاسيسي. حين كنت في الخامسة أو السادسة "أذكر بالضبط" انفصل أبي عن أمي. لم أستطع تفسير هذا بعقلي الصغير. أقول لنفسي: آه لو لم يحدث هذا. على الرغم من أنني أستطيع رؤية أمي متى وأينما شئت، ولكن هذا الوضع يحز بالنفس. حين وصل عمري إلى السن المناسب بدأت المدرسة الابتدائية. كنا نحاول فهم عالمنا الصغير بعقولنا الصغيرة، ونستمتع بطعم الطفولة؟ اعتباراً من الصف الأول صرت عريفة الصف، وهذا غير معهود في مناطقنا. وانتبهت إلى أن مساعدة الناس والاهتمام بمشاكلهم بدأ يأخذ حيزاً هاماً في حياتي منذ ذلك الوقت. حين أفكر بتلك المرحلة أجد أنه لم يحدث ما يستحق الذكر طوال فترة المرحلة الابتدائية على مدى خمس سنوات. ما عشته مع أولاد عمتي الذين تربيت بينهم هو علاقات حب عادية من تلك التي يقابلها كل طفل. كنت في الصف الأول من المدرسة المتوسطة، وتقرر أن ننتقل إلى اسطنبول في العطلة الانتصافية. كان هذا القرار الذي اتخذته عائلتي منعطفاً لأحداث هامة. حين كنا نفكر - جانان وأنا - باسطنبول نقلق، وكان يخيفنا هذا المكان الذي سمعنا أنه مدينة كبيرة جداً. ومهما يكن فإننا لم نخرج حتى ذلك الوقت من ريزة. اسطنبول مدينة كبيرة وتؤوي في داخلها كل شيء. تأوي الفقر مثلاً، ونحن عشنا هذا. ولعلني في تلك اللحظات شهدت أعظم معاني المحبة. في السنوات الأولى من حياني في اسطنبول إذ عشنا كعائلة كبيرة العدد حاولت رؤية العالم مجدداً، ومن نافذة مختلفة. رأيت زملائي يأتون إلى المدرسة دون كتب وأقلام. نحن أيضاً كنا فقراء ولكن وضع بعض زملائنا الطلاب يؤلم القلب. وحتى أولئك تمسكوا بالحياة بقوة على الرغم من حالتهم، وحاولوا المحافظة على حيوية آمالهم. بعد المتوسطة، في سنوات الثانوية تمكنت من رؤية بعض الأحداث براحة أكبر، واستطعت رؤية عدم تمكني من اللامبالاة إزاء ما يجري بجانبي. انتبهت في تلك السنوات إلى ضرورة تواجدي داخل النضال الديمقراطي في الثانوية. أنهيت المرحلة الثانوية، وبدأت سنواتي في الجامعة. حين دخلت من ذلك الباب الضخم الذي بدا لي أنه يستحيل الدخول منه شعرت بانفعال مازال قلبي يخفق له كلما تذكرته. صرت طالبة في تلك الجامعة الكبيرة التي يحلم بها عدد لامتناهي من الطلبة، ويتفرجون عليها من بعيد. بحسب ضرورة تأسيس الجامعات ومنطقه فإنها أمكنة بحث، وإنتاج علمي، وإنتاج حلول للقضايا المعاشة في البلد والعالم. ولكن بحسب النظام المكون في بلدنا، ومواجهتي واقعاً تقل فيه العقول المنتجة والمحاكمة أجبرني على التفكير في هذا الأمر، وتشغيل عقلي فيه. أتذكر في تلك الأثناء حادثة أثرت بعمق في حياتي. عمي الأصغر محمد قبض عليه واعتقل، بعد فترة قصيرة بدأ أصدقاء عمي صوم الموت من أجل تحقيق بعض المطالب. وبعد فترة قصيرة حين بدأ بعض المقاومين في صوم الموت بفقدان حياتهم شعرت بما لا يمكنني التعبير عنه. لم يكن الأمر طبيعياً بالنسبة إلي أن يضحي بعض الناس بأرواحهم من أجل كسب بعض الحقوق، وأخذهم بعين الاعتبار دفع ثمن بهذه البهاظة. حين ذهبت لزيارة عمي كنت أحاول فهم هذه الأمور كلها، وأفكر ما إذا كان هنالك ما يستحق أن يدفع فيه هذا الثمن كله. ولكن مهما كان تفكيري فإن هؤلاء الناس يمددون أجسادهم للجوع في سبيل عقيدتهم، ويستطيعون مواجهة الموت ضاحكين. حين انتهى صوم الموت عام 1996 فقد ترك خلفه اثنتي عشرة ضحية. وسيُرى أن الأثمان المدفوعة من أجل الانتصار في تلك المقاومة لم تستطع الحيلولة دون المجازر التي نفذت فيما بعد في السجون. الذين يفرضون النموذج الواحد في المجتمع، ينظمون باستمرار سيناريوهات المجازر في السجون. وحين لم تلق عملية قتل عشرة معتقلين تحت الضرب في سجن ديار بكر ردود الفعل الكافية، فنفذوا عدواناً في سجن (ألوجانلر) وكانت الحصيلة موت أثني عشر سجيناً. آلهة الحرب لم تشبع من الاعتداء على الناس العزل، وقتلهم. في تلك الفترة كنا نحن طلاب الجامعة قد بدأنا بالنزول إلى الساحات من أجل القضايا الأكاديمية والديمقراطية. وكما كانوا يهاجمون من في الداخل بواسطة البلدوزرات، كانت تلك القوى تواجهنا بالهراوات والمصفحات. حرمنا من أكثر الحقوق طبيعية وهو حق التظاهر، وتقديم تصريح عن عدوان الشرطة. ولم نستطع التنفس. وفي أربع تظاهرات كهذه ألقي القبض علي، وعذبت، وتعرفت على المراكز الأمنية. وصرت زبونة ذات أهمية لتلك الأمكنة التي لا يريد أحد سماع اسمها وأنا في بداية شبابي. لأنه مع الأسف في بلدي هنالك ثمن لطلب العيش في ظل الديمقراطية. حين حاولت المشاركة في تظاهرات الذكرى السنوية لمجزرة حي غازي عام 1995 اعتقلت من جديد. في بلدي لا يعتبر الخروج في تظاهرة فقط جرماً، بل تعتبر حتى نية الخروج في التظاهرة جرماً. على الرغم من التعذيب والضغوط التي عشتها في المركز على مدى أربعة أيام رفضت الإدلاء بإفادتي. وأعتقد أن الجلادين لم يسروا لموقفي هذا، فابقوا على اعتقالي وأرسلوني إلى سجن عمرانية. هنالك بقيت فترة قصيرة، وأطلق سراحي في أول جلسة محاكمة. ولكنني في هذه الفترة عشت أشياء كثيرة بين الجدران الأربعة. قبل كل شيء شهدت الحياة البربرية وكرامة المشاركة. الناس هناك يتقاسمون كل شيء. لا أحد يفكر بأمر لنفسه، وكانوا يفكرون بكيفية النجاح في عمل ما يقومون به جميعاً. كان هنالك زوار يزوروننا. في أحد الأيام جاءت جانان مع أبي. حين رأتني اغرورقت عيناها بالدموع. تبادلنا النظر دون أن نحكي كلمة واحدة. تحادثنا بقلبينا. وعشنا ذلك الحزن القاهر لعدم إمكانيتنا لمس كل منا الأخرى. بعد ذلك انتبهت إلى أبي. إنه أحد الآباء المعذبين الذين يملؤون أبواب السجون عذاباً. له أخ في سجن وابنة في سجن آخر. حين نظرت إليهما فكرت بمقدار الحب الذي أكنه لهما. ولكننا كم نستحق السعادة؟ أثناء إرادتنا الخروج من الظلام إلى النور، ومن أجل استطاعة تقسيم لقمة لكي لا يبكي الأطفال، لابد من صنع لقمة في تلك التباعدات. حين خرجت إلى المحكمة رأيت جدتي. لم يكن أبي موجوداً. قبل يوم أصيب ظهره ولا يستطيع الخروج من الفراش ولا حتى الحركة. بعد ذلك رأيت الأخ رمزي. صديقنا الصدوق، وقريبنا. وهو محامي، ويا لما عمله من أجلي. ومنذ سنوات يعمل من أجل عمي محمد، بعد ذلك نزلتُ بلاءً على رأسه. والشهادة لله أنه قدم دفاعاً جميلاً من أجلي، وأطلقوني. حين جئت إلى البيت رأيت أبي يتمدد وسط البهو كالميت. حين وصلت، واستجمع قواه كلها لكي يحتضنني انتبهت إلى الألم الذي يعاني منه. وأنا احتضنت أبي بكل قواي، وقبلته. بعد ذلك غرقنا في حديث عميق ونحن نشرب الشاي الخمير. حكيت لهم عما عشته في السجن، وهم حكوا عما جرى في أثناء غيابي. لم يكن ثمة شيء كبير قد تغير. كان كل شيء يسير تلقائياً. بعد انفصال دام أربعة أشهر، وقضيت الليلة الأولى مع جانان قضينا تلك الليلة حتى الصباح ونحن نتحدث. لم نتحدث في تلك الليلة عن السجن فقط، بل تحدثنا عن الماضي، وعن المستقبل. وناقشنا وضع الشباب بقدر ما سمحت به معلوماتنا. قُبِلت جانان في جامعة إيجة في ذلك العام. ومن أجل تسجيل أختي ذهبت معها إلى إزمير. يفهم من هذا أننا سنلتقي أقل، وسنتحادث لزمن أقل. ولابد من مرور زمن لمعرفة أن هذا الفراق سيربطنا أكثر. حين كانت جانان في إزمير، وأنا في اسطنبول نادراً ما تقابلنا، وكنا نتحادث تلفونياً. عشت معها إلى حد الشبع ذلك الصيف الذي جاءت لتقضي عطلته في اسطنبول. وحين افتتحت الجامعات حان وقت الفراق. ودعنا جانان إلى إزمير، وحاولت الاعتياد على العيش دون جانان إجبارياً. ولكن هذا ليس سهلاً بالتأكيد. في ربيع ذلك العام بدأت قضية السجون ذات النموذج "F" للزنزانات تأخذ مكانها في راهن الأحداث السياسية في تركيا. صار يناقش هذا الأمر في كل مكان، وتطرح اقتراحات للحل. بدأت هذا النقاش مجموعة صغيرة، لينتقل إلى المجتمع كله. بدأ يعمل عبر البيانات، والنداءات، ومختلف عمليات الشوارع بالشرح أن النموذج "F" للسجون هو عزل، وتجريد. وقيل إنه إذا لم تتراجع الحكومة عن هذا الأمر فسينتظر بلدنا مخاطر وأحداث كبيرة. ولكن هذه الحملة لم تجعل وزارة العدل تتراجع. وكان عناد وزارة العدل ينبئ بعمليات القتل والمجازر القادمة. لقد سقط ذلك الخبر كالقنبلة على راهن الأحداث. لقد بدأت مقاومة بإعلان صوم الموت في عشرين سجناً. ولم يقتصر قرار المقاومة على السجون فقط، بل اتخذ أقرباء المعتقلين قراراً بالمقاومة أيضاً. القرار المتخذ في الخارج من أجل دعم قرار المقاومة جعلني أنفعل كثيراً، وأردت أن أكون داخل تلك المقاومة مهما كلف الأمر. سأكون متكاتفة مع عمي وأصدقائه. سنضع أيدينا بأيديهم - هم في الداخل ونحن في الخارج- حتى النصر. قراري كان مؤكداً، ولكن كيف أبلغ أهلي بالأمر، وأشرحه لهم؟ قررت بداية أن أطرح الأمر على أبي ولكن مع بدئي بالكلام كان أبي قد فهم ما يحدث. عندما قال: "اتخذتِ قراراً صعباً، وأدركُ أنني لو حاولت جعلك تتراجعين فلن أفلح، ولكن على الرغم من كل شيء أريدك أن تفكري بالأمر من جديد." قلت له بأنني فكرت بقراري كثيراً، ولم يعد هنالك ما أفكر فيه. احتضنني، وقبلني. وأنا احتضنته. ولم انتبه حينئذٍ لذرف دمعتين من عيني أبي. كانت قد بدأت المجموعة الأولى بالمقاومة. وبدأت المجموعة الثانية التي أنا ضمنها بصوم الموت في مكان آخر. من المفروض أن تتوحد المقاومة في رابطة تضامن أسر المعتقلين في (تقسيم) بعد أن بدأت في أحد البيوت. بعد أسبوعين اجتمعنا نحن المقاومين جميعاً في مكان واحد، وبدأنا معاً رحلة طويلة واعين للقضايا التي عشناها. فجأة وصلنا خبر. خبر بدء صوم الموت في إزمير أجج في نفسي مشاعر متشابكة تختلف عن مشاعر الجميع. لقد بدأت المقاومة في إزمير، وأختي جانان ضمن تلك المقاومة. ما الذي يمكنني قوله؟ أختي التي لم تتركني وحدي في أي وقت، تقاسمني مستقبلها هذه المرة أيضاً. بدء جانان صوم الموت أثر على أسرتنا كثيراً، وصعّب تفهم الأمر كثيراً. صار يأتينا زوار. أناسنا الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم ينظمون فعاليات في كل مكان من أجل دعم مقاومتنا، ويبذلون الجهود لجعل الرأي العام حساساً نحو قضيتنا. اللقاءات كانت جارية بين من في السجون من جهة والوزارة من جهة أخرى. كنا نشعر بقرب انفجار أحداث كبيرة نتيجة ازدواجية الموقف الذي تتخذه وزارة العدل. نهاية، صباح يوم 19 كانون الثاني صُعقنا بخبر مجزرة لم نستطع التفكير بكبر أبعادها. هاجمت الدولة السجون كلها، وهي تثقب الجدران بالآليات، وتمطر المعتقلين بالرصاص دون رحمة. بعد ذلك أحرقوا الناس وهم أحياء. بعد ذلك هاجمت قوات الدولة مهجع النساء في سجن (بيرم باشا)، وأحرقت ست نساء، وبواسطة أجهزة الإعلام التي جعلتها الدولة آليات إنتاج كذب نشرت بأن المعتقلات أحرقن أنفسهن. ومع الأسف كانت هذه الكذبة مؤثرة في البلد كله. وقسم كبير من أناسنا صدق هذه الكذبة، وواجهت حركة مقاومتنا التي بدأناها ضد عملية العزل في زنزانات النموذج "F" خطر العزل في مواجهة عدوان الدولة. لم نتلق خبراً من عمي لفترة. بعد ذلك علمنا أنه جريح وهو في المستشفى. بعد ذلك نسيت الوزارة الوعود التي قدمتها، وبدأت تلقي بالمعتقلين الذين في السجون في زنزانات باردة كالثلج تشبه التوابيت وسط الشتاء. استمرت المجزرة أربعة أيام. ولكن وسائل الإعلام خلال هذه الفترة تركت الذين فقدوا حياتهم، والمحروقين جانباً، وعرضت أقنعة الغاز المصنوعة من زجاجات بلاستيكية وما ادعت أنه سلاح شارحة الصعوبات الكبيرة التي نجح بها الذين قاموا بالمجزرة. ولفهم أن ما عيش هو عبارة عن مجزرة كفى انتظار وسائل الإعلام فترة قصيرة. بعد ذلك أعلنت الدولة رسمياً عبر تقاريرها أن ما جرى هو مجزرة. ولكن الذين نشروا ذلك الكذب لا تحمرّ وجوههم، ولم يعتذروا من أقرباء المقتولين. ومع اقتراب عيد الفطر أغلقت الشرطة بناء رابطة التضامن بين أسر المعتقلين بالشمع الأحمر بعد أن داهمته، ورمتنا خارجاً تحت الضرب. إن الإداريين الذين وضعوا في رؤوسهم أن يعزلوا المعتقلين في زنزانات، ويقطعوا علاقاتهم مع العالم، وضعوا في رؤوسهم أيضاً عزلنا نحن وتركنا وحدنا. بعد أن دوهمت رابطتنا وختمت بالشمع الأحمر كان من الضروري أن نجد مكاناً نستمر فيه بمقاومتنا. وجاء الرد على طلباتنا التي تقدمنا بها إلى الأحزاب، والروابط، والنقابات غير إيجابية لأسباب مختلفة وذرائع متنوعة. وقررنا نحن مجموعة المقاومين الانتقال إلى كوخ الأخت (شناي) – وهي مقاومة بيننا- في (أرمطلو) الصغرى. وهكذا بدأت أيام (أرمطلو). وبعد ذلك سيعرف الحي بأنه حي المقاومة. رحبنا بالكثيرين بمن في ذلك مراسلي الإعلام الأجنبي في بيتنا البسيط الذي سيُذكر كثيراً. حين بدأت مرحلة أرمطلو كان الجو العام في بلدنا ساكن نسبياً. وضعت الدولة سجون الزنزانات موضع التنفيذ، حُلّت القضية من وجهة نظرها. ولكن المعتقلين لا يفكرون بهذه الطريقة. لقد كنا - هم في الداخل، ونحن في الخارج- نفكر باستمرار المقاومة، وتوسيعها أكثر. عملت وسائل الإعلام على تجاهل المقاومة وتناسيها معتقدة أنها بهذا يمكن أن تكسرها. ولكن لم يكن هنالك ضرورة لمزيد من الانتظار لمعرفة أن المرحلة لن تكون على هذا النحو. حين جاء أول خبر موت من السجون كان التاريخ 21 من شهر آذار. ومع استمرار الأيام حين تكاثرت أخبار الموت صار الجميع يتحدث عن صوم الموت. في تلك الأيام، وفي أثناء حديثي مع أبي قال إنه يريد جلب جانان إلى هنا. أثنيت على الأمر، وقلت بأنني أريد هذا أيضاً. الوضع من زاوية أبي في ذلك الوقت صعب جداً. يمكنه أن يراني متى شاء، والأمر نفسه لا ينطبق على وضع أختي. حين رأيت أختي ممسكاً أبي بذراعها عند الباب بعد فترة قصيرة كدت أطير من الفرح. أول مرة أرى فيها جانان بعد فترة طويلة. كم اشتقت إليها. عندما عانقتها لم أرد تركها، وشممتها كثيراً جداً. كدت أنسى رائحتها. فهمت من تنبيه أبي أنها متعبة، وهي بحاجة إلى الراحة. كانت أختي روحي بجانبي. وسنستمر في المقاومة كأختين في فراشين مختلفين، وغرفة واحدة. الأيام التي قضيتها مع جانان للأسف قليلة. حين وصلت كان وضعها سيئاً. في كل يوم كانت تسوء حالتها. ولكننا نظرنا إلى الحياة بعيون تبرق بالأمل. أساساً هذا الجانب ما جعل صوم الموت يحمل معناه إلى حد ما. تمدد جسدك للموت ولكنك تحافظ على إرادة الحياة طازجة بشكل دائم. ستناضل من أجل العيش ولو ثانية زيادة. ليس هنالك مجال للاستسلام. أختي ورفيقة (لاظية) تستعدان للرحيل عنا، وبطمأنينة إنجاز المهمة كانت تقول لنا: الوداع. مع أن أبي طلب منها يائساً ترك صوم الموت... لديه ابنتان، وتناقشنا كثيراً لتترك إحدانا على الأقل. ولكننا اتخذنا قرارنا. لا يمكن ترك ما بدأناه دون إكمال. مرات عديدة طلبنا منه ألا يتوقع منا هذا الأمر. قلنا له هذا، ولكن على الرغم من أنه بدا قد قبل الأمر فقد فهمنا من وجهه أنه غير موافق. خطوط اليأس الواضحة لم تفارق وجهه. في الساعة التاسعة من صباح يوم 15 نيسان تركتنا أختي روحي متخذة مكاناً لها في قافلة الذاهبين. ذهبت إليها، وقبلتها من شريط جبينها ووقفت بجانبها دقيقة صمت. مع أنني أريد أن أقف شهوراً وسنوات. وبينما هي ممددة انتبهت إلى أنها تنظر إلي مبتسمة. وكأنها تقول مباهية ها أنا سبقت. نعم إنها بدأت المقاومة بعدي ولعلها حين بدأت اعتقدت أنني سأحتمل الوضع بسهولة أكبر ببدئها. من خصوصيات المقاومة أن المغادرة لا تخضع لدور. للحظة فكرت بالانفصال عن جانان وكيف ستمر الأيام من دونها. حدث أحياناً أن عشنا بشكل منفصل ولكن هذه المرة كانت مختلفة. وبينما انظر إلى وجه أختي الملائكي وهي متمددة بدأتُ منذ تلك اللحظة بالاشتياق إليها. فكرت بالأيام التي سأقضيها من دونها. سيكون الأمر صعباً جداً بالنسبة إلي. اعتدت عليها. صارت جزءاً مني. كيف يقتطعون جزءاً من جسد الإنسان؟ هذا ما حصل لي. وأنا مضطرة للاستمرار بهذه المقاومة بحالي الناقص هذا. اعتباراً من ذلك اليوم علي أن أجعل جانان حية كما لو أن لي هوية أخرى. صرت إنسانتين، وروحين في جسد واحد. علي أن أحمل قلبين. من الواضح أن الأمر صعب. ولكن بقدر ما الأمر صعب بقدر ما هو عمل كريم بالنسبة إلي. حل وقت مغادرتها لانطلاقها في رحلتها الأخيرة. ستنطلق مهما يكن. لم أبك. البكاء لا يحمل معنى بالنسبة إلي. يجب أن تسافر أختي. جبال منطقة البحر الأسود فتحت حضنها بالانتظار. بعد فترة قصيرة سيلاقي البحر الأسود وتلاقي منطقته جانانه. ستضعها في حضنها وتحميها إلى ما لا نهاية. بعد ذلك فكرتُ بحياتنا القصيرة. لم نكن أناساً خارقين. ولكن العالم كله لا يتسع لمحبتنا وترابطنا. كنا نحزن بعضنا بعضاً أحياناً. وحتى في تلك اللحظات نغدو كتلة مشاعر. ستذهب. بعد قليل سيأتي أبي وعمي، ويأخذان جاناني إلى بلدي. وكما يحدث دائماً فالمسافر لابد أن يسافر. ودّعنا جانان كما نودع العروس. بعد ذلك عدت مجدداً إلى غرفتي. حين تمددت في فراشي تذكرت فجأة أنني لم أودّع جانان. لماذا فعلت هذا؟ أم أنني نسيت؟ لعلني فعلت هذا لأنني سألتقي بها بعد فترة قصيرة. لم أستطع تفسير هذا بشكل دقيق. ولكن الذي أعرفه هو أنني لم أودع جانان. بعد ذلك انتبهت إلى أن صحتي قد تحسنت كثيراً بشكل مفاجئ. أدهش الجميع اكتسابي قوة بعد ذهاب جانان، وإحساسي بنفسي أنني أفضل. حين عدت إلى غرفتي لم يكن هنالك أحد. أردت القيام بآخر مهمة لجانان، وأن أكون برفقتها حتى سيارة الإسعاف. كنا اثنتين في غرفة واحدة، فاطمة وأنا. ترك أبي جانان التي يحبها كثيراً في حضن منطقة البحر السود وعاد. يا لصعوبة هذا الوضع. تدفن ابنتك، ولا تستطيع أن تعلن الحداد من أجلها. وتأتي فوراً إلى ابنتك الأخرى، وتخفي عنها مشاعرك كي لا تتخرب معنوياتها. ولكنك هل تعتقد يا أبي العزيز أنني لم أنتبه إلى هذا؟ فهمت بالتأكيد. لحظة عودتك من ريزة وفتحك الباب فهمت هذا. العاصفة التي تهب في داخلك تبدو آثارها على وجهك. من يفهم هذا أكثر مني؟ لأنني ابنتك، وأحبك كثيراً. آه لو إنني أستطيع أن أقول لك ما يمنحك أملاً، ولكن هذه مقاومة، إنها صوم الموت، ومازالت مستمرة. في تلك الأحيان كانت أخبار الموت تصل أحياناً من السجن. على الرغم من تدخل الدولة بالقوة فلا يمكن الحيلولة دون الموت. ولم يقبل وزير العدل مطالبنا، وعمل بعض التعديلات لبعض القوانين ليس المقصود منها سوى مناورات لخداع الجماهير، وهي لا تعني شيئاً بالنسبة إلينا. الصحفيون والتلفزيونيون جاؤوا كثيراً في تلك الأيام. نكاد نقضي يومنا من الصباح حتى المساء في المقابلات الصحفية. ولكنهم إما أن ينشروها بعد تحريف أقوالنا، أو أنهم يفضلون عدم نشرها نهائياً. لابد أنهم يعتقدون بأنهم سيكسرون المقاومة بهذه الأساليب. بعد ذلك حدث ازدياد ملحوظ بعدد زوارنا. كان يأتي أناس من كل القطاعات أمواجاً أمواجاً. لم نكن نجد إمكانية الحديث مع الجميع. هذا البيت الذي كان خاوياً في زمن ما صار غير ممكن أن يُمر منه لكثرة الازدحام. بدأ يأتي الفنانون والمثقفون كثيراً في تلك الأيام. أتى (فرهات طونتش)، وأديب أق بيرم، وزوجته الأخت آيتان. الأخت آيتان تبقى معنا مدة أطول. تساعدنا في كل موضوع، وعشنا معها علاقة حارة وحساسة كأخت كبيرة لنا. أحببناها وأحبتنا. فتحنا لها قلبنا، وشاركناها أسرارنا. ولكن في الأيام الأخرى لم أفهم ما حدث. لم تعد تأتي الأخت آيتان. آه لو أنك لم تتركينا يا أخت آيتان، لقد أحببناك كثيراً، واعتدنا عليك. كان يأتي (سوافي) وزوجته. حديثه حلو دافئ، وتشعر بحرارة في داخلنا أثناء الحديث معه. وجه (سوافي) ضاحك وهو إنسان صديق. كان هنالك أيضاً الأخت ديلك، وهي من النوع الذي يقولون عنه سمراء جميلة. وهي أيضاً كانت تحاول البقاء معنا دائماً. تركت عملها، وخصصت وقتها بالكامل لصوم الموت. وضمن انهماكها في محاولة القيام بعمل ما تهتم بنا من جهة، وتعمل حواراً مع أصدقائها الفنانين من جهة أخرى، وتبذل جهوداً جبارة من أجل أن يساهموا في هذه المقاومة. وهنالك الأخت بيلغة. بيلغة صو إرينوس. وفي الحقيقة يجب أن أناديها خالة نسبة إلى عمرها، ولكننا وجدنا مناداتها بالأخت الكبرى محبباً أكثر. كانت أخت كبرى لأبي، ولأصدقائي المقاومين ولنا كلنا. هي التي فتحت بيتها من أجل المقاومة. بعد ذلك لم تعد تُذكر المقاومة دون ذكرها. كانت دائماً بجانبنا حين نناديها، وحتى دون أن نناديها. تبقى معنا في أغلب الليالي، وتنام بجانبنا لعدم احتمالها تركنا. وهي اسم على مسمى، فهي ذكية، وصاحبة قلب نظيف. يا لما شاركت الأخت بيلغة به طوال فترة المقاومة. كانت تشتري لنا الهدايا. مرة جلبت لي دمية. يا لما كان لتصرفها هذا من معنى. لم أتركها تتركني أبداً. حين تخرج من البيت في فترات قصيرة كنا نشعر بها بجانبنا دائماً. كنت أعرف أنها حين لا تكون موجودة معنا تفكر بنا بقلبها النظيف. بداية فتحت قلبها لنا، بعد ذلك فتحت بيتها وصرنا ضيوفها. أردنا أن نستضيفها نحن فلم تقبل. قالت: "هل يمكن للإنسان أن يكون ضيفاً في المكان الذي يعتبره له." شهدتُ الساعات التي قضتها قلقة طوال الليل صامتةً. لم تتذمر أبداً. لم تجعل من الأمور التي واجهتها قضية، وتصدت لها بوعي. مازال سراً بالنسبة إلي الطريقة التي تستطيع فيها أن تكون متسامحة إلى هذا الحد. في اللحظات الأشد توتراً لم تفقد برودة أعصابها. حتى في المواقف الميؤس منها كانت تستنبت أملاًً بوعيها. لم تكن تردد الأغاني كثيراً ولكنني أحببت صوتها. إحساسها المختلف بالأداء جعلني دائماً أنفعل. أختي الكبرى عزيزتي لن أنسى أبداً الأيام التي تشاركنا فيها ولا تنسيني يا أخت بيلغة. مساء أحد الأيام جاء (جزمي إرسوز) لزيارتنا. تحدثنا. حاول أن يتفهمنا. قال من الصعب تفهم هذا. صعبٌ تفهم هذه المقاومة وشرحها، ولكنني أعدكم أن أكتب عن المقاومة في الأسبوع القادم. الأخ (جزمي) يكتب في مجلة (ليمان) الأسبوعية. بعد ذلك تحدث مع أبي في الخارج. بينما كان اليوم يسلم نفسه لليل في حي الأكواخ في (أرمطلو) الصغرى لم أعرف تماماً ما تحدث به مع أبي. أعتقد أنهما تحدثا حول المثقف في بلدنا. وكيف نعيش طوال تلك المقاومة، ونناقش في بيت المقاومة قضية المثقف. الأخ جزمي إنسان دافئ ويتحمل مسؤولية كلمته. وفعل ما قاله، وفي الأسبوع التالي نشرت مقالته في مجلة (ليمان). كان عنوان مقالته: "جانان وزهرة وأرمطلو الصغرى". خصص القسم الأكبر من مقالته للحديث عني وعن جانان، وتحدث قليلاً عن أبي. كانت مقالة جميلة جداً ودافئة. لديه قلم يؤثر بالإنسان. بعد ذلك نشر أرقام هواتفنا مع المقالة. كان هذا مؤثراً جداً. كانت تردنا الرسائل الهاتفية والمكالمات من داخل الوطن وخارجه. مئات المكالمات الهاتفية أمرٌ لم ننتبه إليه كثيراً حتى تلك اللحظة. المقاومة تُتابع في كثير من أمكنة العالم، وكثير من القلوب تخفق من أجلنا. ومع شعورنا بتلك القلوب الصديقة نغدو أقوى، ويتزايد أيماننا بالنصر مضاعفاً؟ بعد مقالة المعلم جزمي كثر زوارنا، ومجئ أناس مختلفي الرؤية السياسية معنا لتقديم الدعم لنا يجعل المقاومة أكثر معنى. الأخ أحمد لم يتركني أبداً. صديق أبي (أحمد باكسطان) بقي إلى جانبنا دائماً. أستطيع معرفة أنه ساعد أبي كثيراً. وكان هنالك الأخ برهان. صار بالنسبة إلي صديقاً وفياً. كان يلبي كل طلباتنا دون تذمر، ويتطوع إذا كان لنا طلبات أخرى. له كتاب يتكون من مجموعة تجارب كتابية. أحياناً كان يقرأ لي أبي أجزاءاً منها. أحببت الأخ برهان كثيراً. هنالك يعقوب أيضاً. الأخ (يعقوب الأوفي). شهدنا مساعدته كثيراً. كان من ضيوف بيت المقاومة الدائمين. وشعرنا به دائماً واحداً منا. حزنوا مع حزننا، وفرحوا مع فرحنا. حين يروننا سعداء يحتارون بما سيعملونه. كانوا عبارة عن حالات جميلة للإنسان. هنالك واحد لا يمكن ألا نتحدث عنه وهو (رمزي قاظماظ). محامينا، وقريبنا، وصديق حميم لنا. كنت أناديه (المحامي الفني) ولا أدري لماذا. تهيأ لي أن هذا الاسم غريب. على الرغم من أعماله الكثيرة لم يتركنا. اهتم بمحاكمتي من جهة ومحاكمة عمي محمد من جهة أخرى. كان محاميّ الفني مرحاً يحب التعبير عن انفعاله بالحياة. وهنالك أخوه الأصغر جنكيز. هذا أيضاً عمل ما استطاع ليكون معنا، ويتكاتف معنا. تعرفت خلال هذه الفترة بأناس كثيرين. وصار لنا ذكريات مع كل منهم. نظمنا احتفالاً. يبدو الأمر متناقضاً جداً أليس كذلك؟ نحن في صوم الموت ونستطيع أن نلهو في بعض الليالي. أليس هذا ما يجعل المقاومة مفعمة بالمعاني؟ حين يأتي دورك ستتخذ مكانك في قافلة الذاهبين، وستجعل الحياة ذات معنى. في ليلة كهذه كنا نعزف على العود، ونردد أغاني منطقة البحر الأسود. طلبنا من أحد أصدقائنا االقادمين من اليونان أن يعزف على (الكمنجة). وكانت متعة حقيقية بالنسبة إلينا، ولهونا حتى الشبع في تلك الليلة. مع حبنا للحياة مرة أخرى فكرت بعظمة مقاومتنا غير الطبيعية. مع حبنا الجنوني للحياة ماذا يعني الخوف من الموت. كيف يجب فعل هذا وشرحه للناس. في أثناء حبنا للحياة إلى هذا الحد فكروا بأجسادنا التي نمددها للموت. لو كان لنا فرصة للحياة بأفكارنا وهويتا نحن الذين نحب الحياة فهل تعتقدون أننا نمدد أنفسنا للموت. ألا نريد نحن أيضاً أن نسير على الشاطئ مع من نحب متأبطين بأذرع بعضنا بعضاً؟ وهل يفرحنا إيلام أُسَرِنا إلى هذا الحد، والحكم عليها أن تعيش من دوننا؟ لا، وألف لا. ولكن كيف يمكن القول كفى لهذه الوحشية، والمجازر المعاشة في بلدنا. بالتأكيد هنالك من تختلف أفكارهم في بلدنا. ولكن عليهم أن يفكروا بهذا ولو مرة. ولكننا إذا لم نقل كفى لهذه الوحشية بأخذنا الموت بعين الاعتبار، فهل تعتقدون بأن الظالمين سينتبهون إلينا؟ بينما نودع كل هذا العدد من أناسنا إلى الخلود يستمر الظالمون بعنادهم. في هذه الحال أليس من الواجب على أصدقائنا أن يعيدوا النظر بأفكارهم مرة أخرى؟. تمر أيامنا مع زوارنا وأسرنا وأصدقائنا ضاحكين مرة وحزينين مرة. الأخت (شنغول) تأتي كثيراً. لم تستطع تقبل هذه الحادثة بأي شكل. ومهما قلنا لها لم تستطع الاعتياد على حقيقة صوم الموت. على الرغم أنها تبدو متقبلة للوضع، ولكنها تبدي تحفظاً في كل وقت. وهذا كان يؤثر سلبياً في معنوياتنا. في اليوم المئتين للمقاومة نظمنا ليلة حنّاء. ردّدنا الأغاني، ودبكوا، وقدم أصدقاؤنا بعض الفقرات التمثيلية. عاش بيت المقاومة في تلك الليلة إحدى لياليه غير العادية. في الأيام التالية انضم إلى بيت المقاومة ثلاثة ضيوف جدد، ثلاث مقاومات. اثنتان أختان. هما أيضاً أرادتا الانطلاق في هذا السفر كأختين مثلنا. حين رأيتهما فكرت بجانان. هما أيضاً مثلنا مددتا جسديهما لتكونا صوت المعتقلين وأنفاسهم في الخارج. وسيستمر الوضع هكذا في الداخل والخارج حتى تحقيق النصر. سيملأ الفراغ من بعد الذاهبين مقاومون جدد. أيام انضمام أصدقاء جدد إلينا كانت قد بدأت حالتي بالتدهور تدريجياً. لم أعد أستطيع الخروج من الغرفة كما في السابق، وأقضي وقتي على الأكثر في غرفتي. أكثر أحاديثنا كانت حول طرائق إعداد الأطعمة. فجأة يفكر الإنسان: كم مضى من الوقت لم تمر لقمة من حلوقنا، ونحن مازلنا نتحدث بطرائق إعداد الطعام؟ المقاومة أمر كهذا. يجب ألا تنس الحياة وأن تحبها أثناء انتظارك الموت. باختصار، إنك ستحب الحياة، ولكن الحياة الكريمة، وستحبها إلى حد أنك ستأخذ الموت بعين الاعتبار في سبيلها. هذه هي حقيقة هذا الأمر. ونحن نعلّم هذا للناس. تأتي الأيام مثقلة بأخبار الموت. فقدنا الخال (ولي) في السجن. فجأة فكرت: كان أكبر المقاومين سناً بين الذاهبين، أما أصغرهم فهي أختي جانان. أية غرابة لهذا الشعور؟ مهما حدث يمكنني إيجاد علاقة مع جانان. تلقت جدتي خبر وضعي السيئ. جاءت من ريزة إلي. فرحتُ كثيراً حين رأيتها. بذلتْ جهداً كبير في تربيتي. لو قلت إنها ربتني لن يكون في هذا الأمر مبالغة. في كثير من الأحيان كانت أمي. يا لصعوبة الظروف التي عاشتها من أجلنا، ويا لما واجهته. سيكون الأمر صعباً جداً عليها. ترى هل يمكنها احتمال غيابنا؟ ودعت جانانها إلى اللانهاية، وهي تبذل ما بوسعها ليلاً نهاراً من أجل (زهرتها). أعرف أنها لا تأكل ولا تشرب بشكل طبيعي، ولكنها لا تريد إظهار هذا. لم تكن تستطيع النوم طوال ليالٍ. كيف تنام وابنتها زهرة التي تحبها كروحها تذوي أمام عينيها، ولا تستطيع عمل شيء. تلعن اليوم الذي جئنا فيه إلى اسطنبول وتتأوه وتتأوخ. في الأيام القليلة التي سبقت رحيلي عاشت جدتي حالة من كثافة المشاعر المدهشة. كانت تبذل جهداً رهيباً من أجل أن تحتمل، وتقرأ الأدعية، وتتوسل إلى الله المساعدة من أجلي. وكل هذا كان لا يكفي لتهدأ. حين تركتني كانت تبكي بعمق. حاولت ألا تظهر هذا لي، ولكنني فهمته. كانت تلك الليلة هي الليلة التي فقدت فيها وعيي. كانت الساعة في حدود العاشرة. حين دخل أبي بوجهه الضاحك إلى غرفتي توقفت ضحكته فجأة، وسيطر عليه قلق لا يمكن وصفه. أعرف أنه حاول تحضير نفسه دائماً، ولكنه حين رآني هكذا جلس بجانبي وهو محتار بشعور التفكير فيما يمكن أن يعمله. كان يحاول أن يهرب بوجهه عني، ولا يستطيع إخفاء الخوف الذي يعيشه. كيف لأبي روحي أن يعيش المشاعر نفسها بعد جانان، ويحتمل؟ أعرف كم هو قوي، ولكن الأمر هذه المرة مختلف. نعم، في الحقيقة كان وضعي سيئاً وأبي منتبه إلى هذا. حاولت أن أقول شيئاً لأبي لم أستطع. انتبهت إلى أنني صرت أجد صعوبة في الكلام. لم يستطع أبي فهمي، وتركني. مهما حاولت الصمود فإن للإنسان حدود للاحتمال، وأنا كنت عند تلك الحدود. أنتبه إلى أنني أفقد وعيي تدريجياً. مع قدوم الصباح فقدت وعيي تماماً. وفي أثناء فقدان وعيي، وبعد ذلك في أثناء انضمامي إلى قافلة الراحلين رأيت وسمعت ما عيش من بعدي. راقبت ما جرى لأجلي دون أن ينتبه أحد. لم تفارقني جدتي في هذه الأثناء، قبلتني، وشمتني، وشعرت برائحتها مثلاً. استدعت شيخاً مرتين وقرأ القرآن من أجلي. وهذا أراح جدتي ولو قليلاً. لقد شعرت بالسعادة ولو قليلاً هذه المرأة الحكيمة. في تلك الأثناء كان والدي لا يجرؤ على القدوم إليّ كثيراً. وحين قالت له جدتي: "تعال. عليك أن ترى ابنتك ولو مرة أخيرة. ابنتك تنتظرك." جاء أبي. جلس على ركبتيه أمام السرير الذي أتمدد عليه. أخذ يدي بداية ووضعها بين راحتيه، بعد ذلك قبلني من جبيني، بعد ذلك من وجنتي وعيني وفي أثناء ذلك استطعت وبشكل غير واضح رؤية خيطين رفيعين من الدمع يسيلان على خديه. وقال: "يا ابنتي البطلة لم استطع انقاذك رغم كل ما فعلته. أنا بعد الآن سأمثلكما، سأضع قلبيكما في قلبي وستكونان دائماً موجودتين معي. لا أعرف كيف تريد أن يكون الوداع إلى اللانهاية. سأومّن إقامة المراسم التي تريدينها. أعدك بهذا. سيكون وداعك كما يريد أصدقاؤك. لن أسمح بأن تتعرضي للظلم الذي تعرضت له جانان" وترك جدتي بجانبي وخرج. تحدثت جدتي مع أبي في موضوع المراسم. لن يتدخل أبي في مراسمهم، وهم لن يتدخلوا بالمراسم التي سيقيمها أبي وأصدقاؤه. فجأة شعرت جدتي بأنني لا أتنفس. قالت: "ابنتي، صغيرتي. أنت أيضاً تركتني!" وبينما كانت تردد المناحات خارجة إلى أمام البيت، جاء أبي إليها. بعد ذلك كان هنالك عمي إسماعيل. احتضنت جدتي أبي وبكيا. بعد فترة هدأا. حاولا فهم الموضوع، وتقديم المقترحات حول ما يجب عمله. حين لفظتُ نفسي الأخير ظهرت جانان بيننا فوراً. ووجهها باسم، وأسنانها لؤلؤية وتقول لي بعينيها من خلف نظارتها "أهلاً بك يا أختي". كانت تقول: "لماذا جعلتني أنتظرك كل هذا؟ اشتقت إليك كثيراً. بعد ذلك تعانقنا بفرح لقاء الأختين مصببتين دموعنا بحرية. مهما يكن لم يعد هنالك من يرانا. ذرفنا دموعنا بحرية. وتمازجنا مع بعضنا بعضاً. وسنبقى هكذا بعد الآن. قلب واحد في جسدين. وهكذا سنُذكر حتى اللانهاية، وهكذا سنُدون في التاريخ. انتشر الخبر في أحياء الأكواخ في اسطنبول. التلفزات بثت الخبر للبلد كله. بينما كان يهبط ظلام المساء على ظهر (أرمطلو) الصغرى، بدأ الناس يتكاثرون أمام بيت المقاومة. حضر أناس كثيرون بينهم عمال وأناس فقراء لوداعي. وكان هنالك كثير من الشباب. إنهم شبابنا كل منهم قطعة من نار. قلوبهم حارة من جهة، ومفعمون بالغضب يعملون ويبذلون ما يستطيعون من أجلنا. أكثر ما أسعدني رؤيتهم. بعد ذلك كبر الزحام. قرأت في وجوههم الغاضبة أنهم لا يريدون تركي وحيدة. امتلأ المكان أمام البيت -حيث أوجد- بأناس من شرائح شعبنا كلها. كم أحببت شعبي؟ ويا لما أخذته بعين الاعتبار كي لا يرى القمع والظلم ويتخلص من الفقر. ويا لما فكرت بعمله. هل وفيت حقيقة بمسؤولياتي تجاه شعبي؟ فكرت بهذا. من المحتمل أن تكون لي نقاط ضعف كما للجميع، وفهمت بعض القضايا بشكل منقوص، وانعكس هذا على حركتي. أمن السهل على الثوري إدراك حقائق الشعب بدقة، وتنظيم حياته وفق مطالب هذا الشعب وتوقعاته. عليك أن تتحرر من ثقافة الانحلال التي ينشرها النظام من جهة، وأن تعتاد على صعوبة الحياة التنظيمية من جهة أخرى. بينما تعلّم مؤسسات النظام كلها الفردية، عليك أن تتعلم عدم قول "أنا" في أي وقت. قسم من الذين بجانبك سينصحونك لتعيش حياتك بأنانية، ولكنك ستكون دائماً شاعراً بقلبك أنك مضحياً وشاعراً بكرامة هذه الكينونة. كبار الكتاب والمثقفين سيقدمون دعاية الفردية الحرة في النظام العالمي الجديد، ولكنك ستدفع هذا كله بظهر يدك. ستفكر بما عيش في هذا السبيل من قبل وسيخطر ببالك الثمن الذي دفعه رفاقك الراحلين، وما واجهوه من تعذيب. ستكون قلقاً حول أنك ستحيي ذكراهم، وتسائل نفسك فيما إذا كنت لائقاً بهم. وفي فترة قصيرة جداً من تاريخ الإنسانية ستحسب كيف يمكنك أن تعيش إلى ما لا نهاية. في أثناء النضال لن تفكر فيما إذا كنت تخطئ. ولكنك ستعتبر العودة عن الخطأ قيمة عظمى وتصرفاً جميلاً، وستترك هذا مثلاً وميراثاً للآخرين. لن تسمح لأسرتك بتعويق نضالك، ولكنك في أثناء شرح موقفك لها ستكسب قلوبها، وتؤمن اعتزازها بك. باختصار: وضع صعب أن يكون الإنسان ثورياً، وأن يعيش كالثوري. علّمتْ مقاومة صوم الموت أشياء كثيرة. علمتنا جميعاً من أكبرنا إلى أصغرنا. المتعلم والجاهل تعلم من هذه المقاومة. مثقفنا وكاتبنا أخذ نصيبه في هذه المرحلة. إذا كان بعضهم قد فضل تجاهل الموضوع فإن أغلبهم خفقت قلوبهم معنا. ولكن دائماً لابد من دفع الثمن. كما أنه ظهر عدد لا يستهان به من بيننا لا يأخذون بعين الاعتبار دفع الثمن من أجل الوصول إلى الجميل والجيد. ولكن في أحرج أوقاتنا كان بجانبنا من لا نتوقع وجوده. ودهشنا أحياناً لمشاركته بخفقان قلبه معنا. صارت مقاومتنا تجربة ومرحلة من الصعب فهمها. قيل عنا إننا نحب الموت بينما نحن نحب الحياة حتى الجنون. ولكن البعض لم يرد معرفتنا أبداً. استهجن أن يأتي ويقول كلمتين. مع أنهم لو جاؤوا كنا سنقول لهم إننا غير غاضبين منهم، ولا نفكر بجعلهم جزءاً منا. مثلاً كنا سنحكي معهم عن الحب والعشق، وعن مشاعرنا، وأحزاننا وأفراحنا. ولكننا باختصار سنشاركهم بما هو إنساني. ولكنهم مع الأسف لم يشاركونا تمنياتنا هذه. في هذه الأثناء لوحظت حركة في الزحام أمام البيت. فهمت أنه ستنظم مسيرة مشاعل من أجلي. كان هنالك شباب كثيرون بين الذين ينظمون هذا العمل. مهما يكن فأنا كنت واحدة منهم، وتشاركنا في كثير من الآلام والأفراح. اعتقلنا معاً ونلنا نصيبنا من الضرب بالهراوات معاً. بداية فتحت لافتة، وتشكلت المسيرة تدريجياً. وخلف اللافتة المكتوب عليها: "الأبطال لا يموتون، والشعب لا يهزم" هنالك لافتة أخرى كتب عليها "مسيرتنا ستستمر مع زهرات أخريات" موقعة من رابطة طلاب التعليم العالي في اسطنبول. وخلفها أمهاتنا وشبابنا. والشباب يحملون المشاعل. إن تلك الأخشاب المشتعلة ليست بسيطة ودون معنى. حين أشعلت المشاعل لم تُنر شوارع (أرمطلو) وحدها. بداية ملأ النور زنزانات المعتقلين بعد ذلك سقطت حرارة المشاعل على وجه عمي بين جدران (تكير ضاغ). غدا كل مشعل في يد الشباب مقاوماً. فكر الشباب بما أحبوه وحملوه في ذلك اللهب الذي رفعوه إلى الأعلى. انفجرت الهتافات موحدة منطلقة من الحناجر. فهم أن المسيرة قد بدأت. الجمع الغاضب والمصمم بدأ المسير في شوارع (أرمطلو) بخطوات بطيئة وواثقة. كان أبي وعمي في المقدمة. بدا والدي قوياً. كان يعرف أن عيون الجميع عليه بالتأكيد. سار جمع الناس، وتجول في شوارع (أرمطلو) بانفعال المسير ضد الظلم، وهتفوا بحنجرة واحدة. لم يذرف أحد دمعة عناداً للظالمين ، والجميع ذرفوها إلى دواخلهم. حين عاد الجمع للاجتماع أمام البيت بدأ أحد الشباب يتحدث عني. بعد ذلك دعوا والدي لإلقاء كلمة. تقدم بخطوات بطيئة وواثقة إلى أمام الجمع وتناول المكريفون. كان يعرف أنني أستمع إليه مع ذلك الجمع. وفهم أنني أتوق لمعرفة ما يقوله. وجانان أيضاً جاءت إلى جانبي. أختان ورفيقتان مع أصدقائنا هناك ركزنا نظرنا إلى أبي، وانقطعت الأنفاس. ثمة صمت عميق خيم على المكان أمن السهل أن يتحدث أبي: "فقدت ابنتي الثانية في المقاومة المستمرة على مدى ثلاثة فصول. ودعنا زهرة إلى الخلود. ناضلت على مدى شهور من أجل أن تحقق المقاومة النصر. ولكنني أرى أن جهودنا لم تحقق النتائج المرجوة. الآن أفكر بما لم نستطع فعله أكثر مما أفكر بما فعلناه. ومع تفكيري أجد أنني لم أشارك في هذه المرحلة بما يكفي". في تلك اللحظة كنت أصرخ: لا يا أبي، لقد قمت بما يجب، وأكثر مما يجب، ولكنه لم يكن يسمعني واستمر في كلمته: "أريد أن تعرفوا أن هذه المقاومة مازالت مستمرة، ومازال لدينا كثير من الأعمال التي يجب أن نعملها. نحن نعرف أن هذه المقاومة لن تنتهي دون إلغاء العزل في السجون، ودون قبول مطالب المعتقلين. أريد أن أخاطب الأصدقاء جميعاً الموجودين هنا وغير الموجودين: علينا أن نتبنى هذه المقاومة قبل أن نفقد أرواحنا أكثر. ثمة شيء يمكن أن يفعله كل شخص. علينا أن نستنفر قوانا لكي لا نقول غداً: لو أنني فعلت هذا. لا تنسوا أن النصر لا يتحقق إلا بفضل الذين يدفعون الثمن. علينا أن نحمل المقاومة إلى كل مكان، وألا نعطلها. فقدت ابنتي في هذه المقاومة. لا يمكنكم توقع الصعوبة التي أعانيها. ولكنني أعرف هذا: إذا طالت هذه المقاومة فسيعيش آباء وأمهات آخرون الآلام التي أعيشها. لم أستجدِ الرحمة من أحد حتى الآن، ولن استجديها بعد ذلك. وبالطريقة التي ناضلت فيها مع السابقين سأستمر فيها مع اللاحقين. من الصعب جداً علي أن أحكي عن ابنتيّ. مع أنهما استطاعتا التعبير عن نفسيهما من خلال حياتيهما القصيرتين. أعرف أنهما ستعيشان دائماً في قلوب الشعب. واعتباراً من الآن سيقترن اسماهما بالنضال الثوري والتضامن في بلدنا. الأجيال الجديدة ستتحمل تقاليد المقاومة التي تركتاها. لقد حفرتا في التاريخ معنى الأخوة والحب الرفاقي بحروف من ذهب. لم تنفصل إحداهما عن الأخرى. وتشاركتا في كل شيء. بداية تشاركتا في الفقر، والحب والأمل، بعد ذلك تشاركتا في النضال. وفي النهاية تشاركتا بالموت. اعتززت بهما دائماً، وبعد الآن سأعتز بهما. أحبهما كثيراً لن أنسى جاناني وزهرتي أبداً. البقية بحياتنا جميعاً." حين أنهى أبي كلمته رأيت باكين بين المتجمهرين. بعض الناس يحاولون إخفاء دموعهم. بعد ذلك خيم صمت قصير على الجماهير. بعد ذلك ارتجفت (أرمطلو) بالهتاف. وفي النهاية ردد أصدقاؤنا نشيدنا. فكرت كم رددنا نشيد "لا موت لنا" إثر الراحلين. ولكنني الآن أرحل ورفاقي يرددونه من أجلي. قسم منهم لم يبرح من جانب البيت الذي أوجد فيه. بينما كان يتوادع الذاهبون على أمل اللقاء غداً فقد أشعل الباقون ناراً كبيرة، واصطفوا حولها. وفي الصباح الباكر من اليوم التالي بدأ يمتلئ أمام البيت بالناس. لقد بدأت التحضيرات للانطلاق في سفري الأخير. سأتجول للمرة الأخيرة في شوارع أرمطلو لأنطلق في الطريق إلى منطقة البحر الأسود. القيام بالإجراءات الروتينية وقع على كاهل الأخ رمزي مرة أخرى. مهما يكن فهو محاميّ، وصديقنا أيضاً. ومع اقتراب وقت الظهيرة أنهيت التحضيرات كلها، واصطف الناس في المسيرة. مرة أخرى رفعت اللافتات، وأمسك رفاقنا صورنا في المقدمة استعداداً لبدء المسيرة. حين انطلقنا في طريقنا رأيت أبي وعمي. مرة أخرى يتأبطان أحدهما ذراع الآخر، ومرة أخرى يبدوان قويين. بدأ ينطلق صوتهما بالهتاف بقوة أكبر. حين بدأنا بصوم الموت كان هنالك بيت واحد للمقاومة في أرمطلو، ومع استمرار الذين أطلق سراحهم من السجن بصوم الموت صارت الأمكنة ثلاثة. بداية عبرنا من أمام البيت الذي يستمر فيه (عثمان عثمان آغا أوغلو) بالمقاومة. بعد ذلك وصلنا إلى البيت الذي توجد فيه (سوغي اردوغان). لم تكن الأخت سوغي تستطيع المسير. أخرجوها على نقالة إلى شرفة البيت. وقدمت كلمة قصيرة. أقسمت أنها ستستمر بالمقاومة حتى النصر. ودّعتُ الأخت (سوغي)، واستمر مسيرنا حتى سيارة الإسعاف المتواجدة إلى الأمام قليلاً. أثناء وضعي في سيارة الإسعاف صفق الجميع وهتف رفاقي وأصدقائي. في طريقنا إلى المشفى كانت جدتي وأبي بجانبي. يا لكثرة المناحات التي رددتها جدتي في طريقها إلى المشفى. أبي لم يتكلم تقريباً. نظر إلي مطولاً في المشفى. ومن أجل أن يهدّأ جدتي همس لها ببعض الأشياء. كأنه لا يريد أن يزعجني. لم نبق طويلاً في المشفى. بعد معاملة قصيرة انطلقنا إلى ريزة برفقة أصدقائنا ورفاقنا. ثمة طريق طويل أمامنا. وأمامي وقت طويل من أجل أن ألتقي جانان. لم يتركني رفاقي وحدي في هذه المرحلة أيضاً فكانت هنالك حافلتان ترافقانني. جدتي و(محامي الفني) ذهبا أمامنا بالطائرة، سيقابلاننا هناك. إنها المرة الأخيرة التي أعبر فيها هذا الطريق الذي طالما عبرته. أعرف أن منطقة البحر الأسود عاصية دائماً، وجبالها وحشية دائماً، وخضراء يانعة. هل يمكن ألا يعشق الإنسان هذا الجمال؟ لهذا أحببت منطقة البحر الأسود دائماً. حتى أنني اشتقت إلى مطرها. أدركت من الطرق الخربة، والصعود شبه العمودي أننا اقتربنا من مركز المدينة. فكرت بأنها لم تتغير أبداً. وفهمت بأنهم لم يعملوا طرقنا بشكل معقول. حين وصلنا إلى أمام مدرسة حينا الابتدائية توقفت السيارات فجأة، وبدأ ينزل الجميع منها فهمت أن هذا هو القسم الأخير من سفري، وسأكمله على أكتاف رفاقي وأصدقائي. كان أصدقائي مصممين. مرة أخرى فتحت اللافتات وانطلقنا. ألقيتُ نظرة إلى مدرستي التي قضيت فيها خمس سنوات بحلوها ومرها. تهيأ لي أن أصدقاء طفولتي يلوحون لي بأيديهم، ولم يكبروا أبداً. مازالوا في الثامنة أو التاسعة من أعمارهم يقفون ملوحين لي بأيديهم. كانت لحظات مفعمة بالمشاعر والحرارة، ودعتهم أيضاً. سرنا جميعاً إلى بيتنا. كان ثمة زحام أمام بيتنا. ثمة من جاء من أهل الحي، واجتمع أقربائي أيضاً أمام البيت. أمي أيضاً كانت هناك. من يعلم كم أحزنها فقداني بعد أن فقدت جانان. ولكن ماذا ستفعل؟ عليها أن تحتمل. فجأة رأيت أقربائي. كانوا أقربائي ولكنني لم أشعر بهم هكذا. لماذا شعرت بهم هكذا كغرباء؟ ترى هل هذا ينبع من أن أحدهم لم يعزّي أبي، واستكثر هذا عليه؟ أم أن هذا نابع من عدم سؤالهم عن جانان وعني أبداً؟ نعم، لم يتصلوا أو يسالوا عنا. ماذا يحدث لو أتوا وطرحوا أفكارهم؟ ليقولوا بأننا في طريق خاطئ. يمكنهم القول بأن صوم الموت لا معنى له، وعلينا أن نتركه فوراً. بإمكاننا أن نتفهم موقفهم. ليقولوا بأن لكل شخص وجهة نظره، يمكننا أن نتفهمهم. ولكن أي شعور هذا. ولكننا لا نستطيع تفهم ما فعلوه مع مجئ آلاف وعشرات آلاف الزوار إلينا. انتبهت في لحظة أنهم يبكون. ترى هل يبكون لنا أم لهذا الموقف الذي وقعوا فيه؟ سمعت أنهم غاضبون من أبي. لأنه لم يجعلنا نتراجع عن صوم الموت. ولكنهم لم يفكروا فيما إذا كان يستطيع القيام بهذا، أو أنه ينجح به. لم يضعوا في حسبانهم كيف سحق اليأس والألم القاهر قلب أبي. لم يريدوا معرفة كيف طأطأ رأسه أمام قرارنا، وهو يفخر بنا دائماً. من يعلم؟ لعلهم اعتقدوا بأن أبي لم يحافظ علينا مثلهم. ليعلم الجميع إننا نفخر دائماً بأبينا ويفخر أبونا بنا دائماً. لعل الناس لن يفهموا هذا الوضع، ولكن جمال حبنا وارتباطنا سينجح بكسر هذا مع الزمن. أبي، يا روحي يا أبي، أنظر إن أصدقاءك جميعاً ليسوا هنا. مع أن اليوم أحد، أي يوم عطلة. نعم قسم من أصدقاء شبابك هنا، ولكن أغلبهم لم يأتوا. ولكنهم سيفهمون أيضاً، سيفهمون بأن هذا النضال حق. ستشعر المقاومة بقوتها مع الزمن. وستثبت أحقيتنا. ماذا سنفعل نحن؟ لقد صنعنا من أجسادنا متاريس من أجل رفع الظلم والقمع عن أناسنا في السجون. لقد نهضنا بأعباء عمل كبير، هذا كل شيء. لابد أنهم استكبروا أن نقوم بعمل كبير كهذا بقاماتنا الصغيرة هذه. لعل تباهيهم الاستعراضي قد تخرب بقولنا لهم كفى. عليهم أن يعرفوا أن مقاومات كهذه تتطلب قلوباً، ومنذ أيام الانتداب. سيكون قلبك صافياً ونظيفاً، وعليك أن تؤمن بشعبك. وستقول إن دفع الثمن مستحق من أجل هذا الشعب. ولكن ليسلم الذين جاؤوا، والذين لم يجيئوا. بعد انتهاء المراسم الدينية بدأ أصدقائي مراسمهم الخاصة. صديقة لي ألقت بصوتها الناعم والمعبر قصيدة. وأحد الأصدقاء تحدث عني وعن نضالي برفقة الهتافات. وفي النهاية ذهب الجميع فرادى خلف بعضهم بعضاً، ونحن بقينا جانان وأنا وحدنا. بعد قليل انتبهنا لوجود أبي بيننا. يبدو أنه أراد البقاء معنا وحده بعد ذهاب الأصدقاء. يجب أن يكون قد فكر بالحديث معنا والاستماع لما نريد أن نشاركه به من مشاعرنا للمرة الأخيرة. علينا أن نقول إننا نفخر بأبينا. عليه أن يدفن آلامه في قلبه وأن يعتاد على هذا الوضع. قول هذا سهل بالتأكيد، لكن أي معنى يمكن أن يأخذه هذا الكلام بعد أن فقد ابنتيه؟ كيف يستطيع الاستمرار بحياة طبيعية. حين بدأنا جانان وأنا كنا واعيتين لهذه النتيجة. ما لم نعرفه هو ما سيحدث بعد رحيلنا. عادت إلى أمام عيني مشاهد لحظات الفرح والسعادة التي عشناها طوال فترة المقاومة. تذكرت أنني حين كنت ألهو مع أبي، ونطلق القهقهات معاً بأن الذين كانوا يراقبوننا لم يستطيعوا إيجاد معنى لهذا. حين يُنظر إلينا نبدو أننا سعيدان بما نعيشه. صعب شرح هذا الموقف، ولكنه هو الذي يمنح المقاومة معناها. وهذا وحده يكفي لفهم كم أن المقاومة إنسانية، ومفعمة بالحب. وبينما كنا مستعدين لدفع ثمن القرار الذي اتخذناه حتى ولو كان صعباً، علينا أن ننجح باستمرار هذه المقاومة بأحاسيسنا، ومحبتنا الإنسانية كلها. علينا أن نظهر من خلال عيشنا أننا لسنا إنسالات (أناساً آليين)، وأننا أناس كالجميع. استطاعة شرح هذا يعني إظهار معنى المقاومة وروحها. فكرت بمقدار امتلاء حياتنا. من السهل لفظ مئتين وواحد وعشرين يوماً. إنها مئتان وواحد وعشرون يوماً كل لحظة من لحظاتها سنة. جانان بقيت فترة أقل مع أبي. يا لظلم هذه الدنيا. لا تؤسس المساواة فيها حتى في أوضاع كهذه. كنا مع أبي حتى بعد رحيل جانان. تحدثنا عن جانان في أحاديثنا الطويلة. تحدثنا عن طول عنقها، ودفء قلبها، وحياتها الهادئة، والعناية التي تبديها لألبستها. كانت تنتبه كثيراً لألبستها. تحاول أن ترتدي ثياباً جيدة بقدر ما تسمح به ميزانيتنا. وكانت ترتدي ما يليق بها. وكان يليق بها كل ما ترتديه. مثلاً كانت علاقتها مع أبي أكثر حرارة. مهما يكن فهي دائماً جانانه الصغيرة. هي لم تكبر، وبقيت جانان الصغيرة برأيه. أما أنا أخت كبرى، وعلي أن أبقى دائماً كبيرة. هكذا كان يفكر أبي. وعلي دائماً أن أحميها وأتابعها. لم يرد قبول أنها كبرت وصار باستطاعتها اتخاذ قرارات هامة. لهذا السبب أرادها أن تترك صوم الموت. حين قالت له: "لماذا أنا، وليست أختي الكبرى؟ أليست ابنتك أيضاً؟" استطاع أن يقول لها: "لا أعرف يا ابنتي، أنت مازلت صغيرة. هذا هو السبب على ما يبدو." قال هذا ولكن من غير الممكن أن يستطيع إقناعها. كان يريد أن يتحدث معنا، ولكن الكلمات تتوقف في حنجرته. فكرت بأيام (أرمطلو) التي قضيناها معاً، كان يتحدث بشكل جميل، ويُوجد موضوعاً للحديث دائماً. وفي بعض الأحيان ينفعل كثيراً. وفي أثناء حديث جانان، يقول: "ابنتي! علي أن أخرج لأدخن سيجارة." كنت أفهم حينئذٍ، أفهم أنه امتلأ بالمشاعر. كان يُوجد أسباباً كهذه لكي لا يذرف الدموع أمامي. في إحدى المرات حضرت له هدية. وقدمتها له في لحظة وجود الأصدقاء كلهم في البيت. حضرت بيدي صورة التقطناها سوية، وكتبت تحتها عبارة: "انظر يا أبي! هاهي جانان وسطنا. وهي تضحك بعينيها معاندة الجميع. أعدك يا أبي وأعدها. سأعيش يوماً زيادة نكاية بالعدو. وسنأخذها معنا إلى منطقة البحر الأسود ونتنزه هناك. بالنصر. ابنتك زهرة" أردت أن يفتح الهدية، ويقرأها. لم يحتمل قراءة نص كهذا. قطعها من منتصفها واحتضنني. وقبلني كثيراً. لم يرد أن يتركني. شعرت بدفئه، وبدقات قلبه في تلك اللحظة. بعد ذلك ترك الغرفة فوراً، وذهب إلى أمام البيت ليدخن سيجارة. جاءت جدتي إلى جانب أبي. بداية تعانقا، ثم انتبهت إلى أنهما يذرفان الدموع صامتين. بعد ذلك تحدثا. كانت جدتي تحاول رفع معنوياته، وتشرح له ضرورة أن يكون قوياً. انظري يا ابنتي، انظري يا جاناني، ها هي أختك هنا. أعرف كم اشتقت إليها. لا تشغلا بالكما أنا أيضاً سأكون هنا. حين تطلبانني سآتي فوراً. إذا كان ينقصكما شيئاً، أو إذا كنتما تريدان شيئاً اطلباه مني، فوراً سأجلبه. أنام بجانبكما إن أردتما. أو بينكما. أداعب شعرك وشعر أختك الكبرى. بعد ذلك أحكي لكما الحكايات كما كنت أفعل عندما كنتما صغيرتين. إذا بردتما أجلب لكما بطانية سميكة أو لحاف، وكل ما تريدان. ولكن لا تجعلا الابتسامة تفارق وجهيكما. أريد دائماً أن أرى أسنانكما الشبيهة باللؤلؤ. أتذكرين يا جاناني حين تحدثنا بالهاتف أثناء استمرار المقاومة في إزمير؟ حين طلبت منك أن تتركي. قلت لي: "اسمعي يا جدتي! ألم تعلمينا بألا نترك عملاُ بدأناه في منتصفه؟" وحينئذٍ لم تجدي ما تردين به، فأغلقتِ السماعة. جاءت الأخت الكبرى شنغول. الآن يذرفون الدموع ثلاثتهم. بعد ذلك حل زمن الفراق، فغادروا فرادى. بداية غادرت جدتي، بعد ذلك الأخت شنغول. ولكن أبي لم يستطع المغادرة بأي شكل. عاد مرة أخرى ونظر إلينا. قال: "ابنتاي بطلتان. لا أعرف كيف سأتحمل هذه المسؤولية التي ألقيتماها على عاتقي. سابقاً كنت أعيش باعتباري أحمد قولاق سيز فقط. ولكنني بعد الآن سأعيش باعتباري والد زهرة وجانان. حين ينظر إلي أحدهم سيراكما. بعضهم سيلعنني إلى ما لا نهاية لأنني لم أجعلكما تتراجعان عن صوم الموت. وبعضهم سيشرح لي كيف سأعيش. سيدفعهم الفضول لمعرفة ما إذا كنت سأتمكن من الضحك. سيدهشون في لحظة لهو متعجبين بإمكانية قيامي بهذا. سأعمل كل شيء يا صغيرتي. إذا كان لدي سبب لأضحك أو أفرح فلن أخفي هذا عن أحد. سأعمل من جديد لكسب لقمة عيشي، وسأصبب عرقي كي لا أكون محتاجاً لأحد. إذا وُجدت في احتفال أو عرس، فإنني سأقف في الدبكة وسأرقص (الهورون)* ، وسأذهب أحياناً إلى السينما، باختصار لن أدير ظهري لأي شيء في الحياة. ولكن ثمة شيء لن أتخلى عنه طوال في حياتي، وهو أنني لن أسمح أبداً بإهانة ذكراكما ونضالكما. سأحمل محبتكما دائماً في قلبي، وسأرفع رأسي دائماً لأن ابنتين مثلكما هما ابنتاي. ستبقيان معي دائماً حتى ألقاكما." غادرنا بخطوات بطيئة. انتبهت لوجود جدي ولا أدري كم مضى على مغادرة والدي. جدي العجوز المنور الوجه. لم يشارك بمراسمي خشية عدم احتماله. ليكن، في النهاية جاء، وهذا يكفي. بدأ بالدعاء. حين ذرفت عيناه كان يقرأ أدعية من أعماق قلبه لأجلنا. لا يعرف ما إذا كان يعيش ألم عدم مجيئه إلينا طوال فترة المقاومة، ولكن جدي أحبنا دائماً. لو أنه جاء إلينا من قبل مثل جدتي، كم كنا سنسعد به؟ نحن نعرف أنه يحبنا كثيراً، وهذا هو المهم. يا جدي، روحي نحن ندرك كم أحزناك. ولكننا نريدك أن تحترم قرارنا الذي اتخذناه بحياتنا. نريدك أن تعرف أننا لم نعمل شيئاً يحط من كرامتك. رأينا أن ما تعرض له عمنا وأصدقاؤه ظلماً. آه لو أن هنالك طريقاً آخر. ولكن النصر لا يكتسب بسهولة ضد الظلم. هذا يتطلب ثمناً. انظر يا جدي، كم فقد الفلسطينيون أناساً في سبيل أن يصلّوا في الجامع الذي يريدون. لم يكن سهلاً اتخاذنا هذا القرار. ولكن عندما نبدأ عملاً لا يمكن تركه في منتصفه. آمل أن تتفهم هذا يا جدي العزيز. بعد أن أنهى دعاءه سار بخطوات صامتة. في حركاته خشية من إزعاجنا. بقيت مع جانان وحدنا. قالت: "اعتقدت فترة أنك لن تأتين أبداً." نعم، تأخرت، ولكنني لن أتركك وحدك. يا لما عشناه معاً حتى الآن. أحياناً فرحنا معاً، وأحياناً أحزنت إحدانا الأخرى دون إرادتها. ولكن كل هذا كان دافئاً، وكله لنا. لم نفكر يوماً أننا وحدنا، ولم نعش على هذا الأساس. كلانا خططنا لما وُجدنا داخله. بينما كانت تلف روحنا إرادة تأسيس عالم جديد حلمنا خلال فترة المقاومة الاستمتاع بطعم وجودنا معاً. بينما كان يفكر كل شخص بالطريقة التي يحصل بها على حصة أكبر من نِعَم الدنيا، نحن تقاسمنا الفقر، وكأنه من أكبر نعم الدنيا. جاء يوم انفصلنا فيه، وفي تلك اللحظة لفنا توق اللقاء. حلمنا بأن نكون على ساحل بحر أو قمة جبل حين انحصرنا في أكوام بيتون تلك المدن. حين كنا نرتشف الشاي على الشرفة فكرنا بالمعتقلين في السجون، وأنهم لم يستطيعوا أن يتحرروا. فكرنا، وحاولنا أن نقدم معنى. بينما كان زملاؤنا في الصف يسقطون في همّ الشهادات، تقنا نحن للحصول على وثيقة جيد جداً من شعبنا. انتظرنا دورنا بهدوء، ولم نتعجل في أثناء استمرار المقاومة. ودعنا الذين ذهبوا قبلنا. ولوحنا لهم بأيدينا بمتانة الذين يلوحون مودعين أحبائهم في محطات القطارات. استهين بنا مرات عديدة أثناء نضالنا من أجل شعبنا. أحببنا أسرتنا. أحببنا أمنا وأبانا والآخرين دون انتظار مقابل، ودون حساب. أحببنا الطبيعة مثلاً عندما كانت تقتل بوحشية على يد الوحوش. أحببنا الأزهار والأشجار والغابات بقدر ما أحببنا الحرية. وأحببنا النضال أيضاً. أحببنا المقاومة من أجل تهديم الجدران السميكة، وإزالة الأسلاك الشائكة التي وضعوها أمامنا. وأحببنا أشياء كثيرة جداً أيضاً. ومع محبتنا لها صار عالمنا أجمل، وأكثر معنى. كرهنا الخيانة والازدواجية والكذب والخداع. وكرهنا أيضاً الذين يتركون أصدقاءهم في منتصف الطريق. وكرهنا مفاهيم الأصدقاء الذين يضعون أيديهم على أكتافنا، وبينما نحمل شريط الجبين بكرامة، يحنون رؤوسهم أمام الظالمين ويبيعون شريط الجبين بالمزاد، ويحصلون من خلاله على الأتاوات. أردنا دائماً العيش كالإنسان ولكن بكرامة وشرف ومرفوعي الرؤوس. حين نسمع صراخاً، نلتفت نحوه ونرى فيما إذا كنا نستطيع القيام بشيء. حاولنا أن نكون أملاً في ضمير شعبنا وقلبه ضد الذين يحاولون شراءها، والأهم من هذا أننا لم نُخجل من وثق بنا. حاولنا أن نكون صوت الأبطال الذين يُعمل على إزالتهم. كانت آمالهم تنمو معنا، ومعنا أيضاً وقفوا بقوة أكبر ضد الظالمين. اعتزوا بنا. وقالوا يا لسعادتنا لوجود أصدقاء لنا مثلكم. ولن نُلجم بعد الآن لو متنا. سرنا دائماً، وكانت لنا أخطاؤنا أحياناً، حاولنا تصحيحها. وسرنا دون أن نلتفت إلى الخلف متأبطين أذرع بعضنا بعضاً، ومتكاتفين. ومع مسيرنا صرنا أحراراً، ومع شعورنا بالحرية يزيد إيماننا، ونستطعم بالحياة. سرنا ضد الظلام، وحاولنا أن نكون نوراً بأجسادنا الصغيرة. لم نستسلم أبداً. طالما هنالك الموت بكرامة في المقاومة، لم نعش لاكرامة الاستسلام. انفصلنا عنكم بما فعلناه، وما لم تفعلوه. وطرنا نحو اللانهاية مثل حمامة بيضاء. أنا زهرة قولاق سيز، وأختي جانان قولاق سيز. كل ما فعلناه هو من أجل شعبنا. واجهنا الصعاب كلها من أجل حبنا هذا. الثمن المترتب علينا دفعناه من أجل مشاعرنا هذه. وتركنا العلم للذين يأتون بعدنا. وندرك أنه بأيدٍ أمينة.
* رقصة شعبية ذات إيقاع سريع خاصة بمنطقة البحر الأسود اقتباس
قيل عنا إننا نحب الموت بينما نحن نحب الحياة حتى الجنون. ولكن البعض لم يرد معرفتنا أبداً. استهجن أن يأتي ويقول كلمتين. مع أنهم لو جاؤوا كنا سنقول لهم إننا غير غاضبين منهم، ولا نفكر بجعلهم جزءاً منا. مثلاً كنا سنحكي معهم عن الحب والعشق، وعن مشاعرنا، وأحزاننا وأفراحنا. ولكننا باختصار سنشاركهم بما هو إنساني. ولكنهم مع الأسف لم يشاركونا تمنياتنا هذه.
ننتظر جانان وزهره كل التحيه ارض كنعان Nov 25 2004, 10:09 PM زهره قولاق سيز جانان قولاق سيز أرض كنعان كلمة أخيرة أطول نص كتبته في حياتي كلها لم يتجاوز صفحة آلة كاتبة. ولكن هذه المرة لابد من كتابة أكثر من ذلك لأشرح ما عشته. يجب توثيق هذا من أجل أن أنقل لكم ما عشته وعاشته عائلتي فيما يتعلق بمقاومة صوم الموت، وأن يصبح ذلك ملكاً للتاريخ. من المؤكد أن الكتابة – خاصة عن مرحلة هامة كهذه – تحتاج إلى جرأة، وتجربة. أعتقد أنني مهما فعلت سأشرح مرحلة صغيرة من هذه المقاومة الكبيرة. حاولت مشاركة ابنتاي أشد المراحل كثافة في العيش من مراحل المقاومة التي عشتها كلها. وبهذا المعنى يمكنني القول: إن هذه القصة هي قصة المقاومة مع قصة ابنتي. من المؤكد أن الناس تركوا في نفسي آثاراً هامة خلال الأحداث المؤلمة والمفرحة التي عشتها. مثلاً عشت حالة الإحباط. أحياناً صعّب علي شرح مواقف الأصدقاء الذين كنت أثق بهم. حقيقة لن تكون الكتابة كاملة من خلال أحداث هذه القصة عما فعلته وما لم أستطع فعله. لن يكون من الممكن أن نحكي بالضبط عن هذه المقاومة التي تحتاج إلى سنوات من الشرح والكتابة. يمكن أن يكون هنالك أناس لم يأخذوا المكان الذي استحقوه في حكايتنا. يمكن شرح بعض الوقائع بصورة دقيقة. يمكن أن تكون هنالك تفصيلات غابت عن عيني وهي هامة جداً بالنسبة لآخرين. الأهم من هذا كله لا أنوي ذكر أسماء الأشخاص والمؤسسات التي أوجه إليها النقد. لأن هدف هذا النص ليس محاسبة سياسية، أو تقييماً سياسياً. في أثناء الكتابة عن صوم الموت الذي يعتبر جوهره سياسياً لابد من بيان الرأي حول واقع بلدنا. ولكنني أُبرز الجانب الإنساني أكثر في هذا النص، وأريد أن أكون مترجماً لمشاعر المقاومين. وفي الوقت ذاته سيكون لهذا النص دور في إطلاع الرأي العام على مشاعرنا وأفكارنا التي يجب أن تعرف. هدفي ضرورة شرح أن المقاومين عبارة عن أناس طبيعيين، وضرورة قبول هذه الحقيقة. فكرت أن أحكي عن فترة الأشهر الأربعة التي قضيتها في (أرمطلو) والأحداث التي عشتها، وأن أشرح هذه المقاومة التي أمضينا شهرها العاشر. من المؤكد أن هنالك ما عشته خارج (أرمطلو). حين أصل إليها أعرج عليها كي لا أترك مكاناً ناقصاً في النص. أحد أهدافي من كتابة هذا النص رغبتي بالحديث عن نفسي. أعرف أن الأفكار الموجودة في المجتمع مختلفة. وإذا كان هنالك من يفكر بأنني أب مضحي، هنالك أيضاً من جهة أخرى أعداداً لا تحصى ممن يعتبرني وحشاً، وأباً لئيماً أرسل ابنتيه إلى الموت. ومن الممكن رؤية الكثير ممن يعتبرني قاتلاً بارد الدم. بعض أصحاب هذه الأفكار ذوي موقف مسبق لا يمكن تغييره لأنه ناجم عن منطقهم السياسي. ولكن هدفي الأساسي هو شرح مفهوم المقاومة والمقاومين للأعداد اللامتناهية من الناس الذين يحاولون أن يفهموا بشكل أو بآخر، والباقون تحت تأثير ما يدعى أحكام القيمة. إذا استطعت تغيير أفكار الذين لم يأتوا ولو مرة واحدة إلى بيت المقاومة، ولم يستمعوا للمقاومين ولو جزئياً سأكون قد حققت هدفي. لا أنتظر منهم أن يفكروا مثلي، بل أن يتفهموني. أريد مخاطبة أفكار الناس الخاطئة نتيجة خطأ المعلومات الواردة إليهم، ومخاطبة مشاعرهم. مثلاً عليهم معرفة أن ابنتي زهرة اعتقلت وحوكمت قبل صوم الموت بفترة قصيرة لمشاركتها بالاحتجاج على المجزرة المرتكبة في القدس. عليهم معرفة أنها أرادت مشاركة المسلمين الفلسطينيين الذين يقتلون في المسجد الأقصى آلامهم، وأن يتفهموها. هنالك أشياء كثيرة عن المقاومة والمقاومين غير معروفة. قبل كل شيء كانوا أناساً مثل الجميع. لهم أفراحهم وأحزانهم ومشاعرهم وأفكارهم. لكثير منهم أخطاؤهم الماضية. أحياناً جرحوا مشاعر القريبين منهم. ذهبوا إلى المدارس، وعاشوا انفعال الجلاء المدرسي. أَحبوا وأُحبوا. أحزنوا آباءهم وأمهاتهم، وفي أكثر الأحيان حزنوا من أجل أسرهم. حين ذهبوا أول مرة إلى السينما حكوا عن الفيلم بالتفاصيل لأصدقائهم. وحين ذهبوا إلى نزهة في الحقول شعروا بالحرية حتى الشبع. واستنشقوا رائحة الغابة والخضرة إلى داخلهم. بدؤوا بإعطاء معنى لما يعاش في بلدهم. وجاء يوم حاولوا فيه إيجاد حلول ما استطاعوا مما واجهوه من ظلم الحياة. منهم من انطلق للقيام بأعمال تفوق قدراته. وكثيراً ما نُبه إلى أن هذه الأعمال ليست أعماله بل أعمال كبار رجال الدولة. ولكنه في بعض الأحيان فهم أن ما يحدث ليس كما يقال. أراد الأكبر منهم إبعادهم عن المخاطر، ووضعهم تحت أجنحتهم لحمايتهم. خافوا وارتعدوا إزاء عبارات: لو حدث لكم شيئاً لن أحتمل، سأموت. أحياناً انتبهوا للمراءاة الكامنة في تصرفات أحبائهم. سألوا أنفسهم قبل أن يناموا: كيف وقع الناس في وضع كهذا؟ تابعوا شروق الشمس صباحاً على أمل أن تدفئ قلوب الناس. حاولوا بقلوبهم الصغيرة التغلب على مخاوف مجاهيل الظلام. كلما فكروا بمن هم في عمرهم عندما يخرجون في الصباح الباكر لتحصيل لقمة العيش تدمع أعينهم كدراً. بعد ذلك كبروا. منهم صاروا شباباً ومنهم شابات. وبينهم من صار أباً أو أماً واختلطوا مع الأولاد. وحملوا معهم في عصرهم الجديد هذا توقعات وآمال. وفي زمن ما شعروا بمشاعر واحدة على الرغم من مجيئهم من بيئات مختلفة. وتوصلوا إلى قرار أنهم يجب أن يقفوا في مواجهة الظلم الذي رأوه وعاشوه، وأنهم سيكونون مسؤولين أمام التاريخ إن لم يفعلوا هذا. جاءهم يوم ضُربوا فيه بالهراوات بقسوة وسط الشارع. في مكان آخر اعتقلوا، وكان عليهم أن يقضوا أيامهم في السجون. ولكنهم لم يجردوا من عقيدتهم في أي وقت. وأفلحوا دائماً بالعيش كما أرادوا. وكل يوم فهموا أكثر أسباب ما يواجهونه. وحفروا ما فهموه في عقولهم. فجأة برزت الأحداث في سجون البلد الذي يعيشون فيه. وأعلن الناس الذين لا يريدون الدخول إلى الزنزانات للعالم أنهم بدؤوا صوم الموت. قالوا إما أن نعيش معاً بعقائدنا، أو نموت ولا نبقى فرادى في زنزانات. وهم أيضاً فكروا وناقشوا وقرروا أن يكونوا صوت الذين في الداخل وأنفاسهم. مددوا أجسادهم للجوع لكي يفهم الجميع بشكل أفضل ما يعيشه الذين في الداخل. في البداية لم يستطع أحد فهم هذا الوضع. آباؤهم وأمهاتهم عارضوا قرارهم هذا، والكبار في أسرهم قالوا بأن هذا غير ممكن. ولكنهم قرروا منذ زمن. قالوا: لا. قالوا: بينما يتعرض أناسنا للإزالة لا يمكنكم أن تطلبوا منا تركهم وحدهم، وإدارة ظهورنا لهم. قسم منهم في الداخل وقسم آخر في الخارج بدؤوا صوم الموت، ومدوا أيديهم لبعضهم بعضاً في أمكنة مختلفة ومدن مختلفة، وتمازجت قلوبهم. بعد ذلك اليوم فكروا معاً، وضحكوا معاً وبكوا معاً. جاء يوم انفصلوا فيه عن أحبائهم، وودعوا أعزاءهم، ولكنهم لم يحطموا آمالهم. وحافظوا على أحلامهم طازجة. يعرفون أنهم إذا استسلموا سيفقدون جزءاً من آمالهم وأحلامهم، والعالم الذي يريدون أن يعيشوا فيه مستقبلاً. مع توالي الأيام والليالي يتزايد عدد الذاهبين. التاريخ العجوز يشهد نضالاً مختلفاً هذه المرة. في أثناء ترديد الآباء والأمهات المناحات وراء الذاهبين لم يخفضوا حرارة قلوبهم أبداً. مع توالي سقوط فلذات الأكباد إلى الأرض كان الجرح المفتوح في المجتمع يكبر. الأرض السوداء تتمرد إزاء تلقيها كل زهرة، ولا تستطيع فهم صمت المجتمع الدولي. الريح تهب في أيام الربيع تلك دون معنى. كأن الشمس لا تريد أن تشرق لكي لا ترى ما سيعاش في اليوم التالي. صارت الأزهار لا تعجب برائحتها. ولكن الحياة مستمرة بآلامها وتوقها. وكأن الإنسانية دخلت امتحان العيش "بأخوة الشجرة والغابة الوحيدة والحرة". في أيام الربيع تلك، وما تلاها كان الصراع حاداً بين الموت والحياة، وبين الحب والكره، وبين الجودة والسوء. لم تُخلق في عقولهم إشارة استفهام حول زمن انتهاء هذا. فكروا في أي ربيع سيكونون عندما يأتي خبر البشارة. كانوا يرون أعزاءهم ومحبيهم بجانبهم، ولكنهم كانوا يقولون لهم! إننا لم نكن هكذا. كان يجب أن نكون أكثر مما كنا، وأن يكون لنا أصدقاء أكثر. حين كان قسم إلى جانبنا لماذا اختفى الآخرون. مع أنهم كم كانوا يريدون أن نكون معاً. كم كانوا يريدون البقاء معاً، يداً بيد في أثناء عيشهم آمالهم وحبهم. ولكن لم يحدث هذا. هل تاريخنا هكذا، أم أنه مختلف؟ إننا نعيش حماسنا، وحدادنا منقوصاً دائماً، ولكنهم يعتقدون بأن هذه الأيام أيضاً ستنقضي. بينما كانت المقاومة مستمرة وسط مشاعر متداخلة كهذه، ولكن بمعنى كبير كان هنالك أختان. إنهما زهرة وجانان الشاعرتان بحماس مختلف إضافة إلى كل هذا. الإثنتان أختان، الإثنتان طالبتان جامعيتان، والإثنتان مقاومتان في صوم الموت. هذه القصة قصتهما في الوقت نفسه. من هاتان الأختان؟ لماذا اتخذتا مكاناً في هذه المقاومة؟ بماذا فكر أبوهما مثلاً؟ كيف سمح لهما بالمشاركة في صوم الموت؟ أم أنه لم يسمح لهما، وكان القرار قرار زهرة وجانان؟ إنني أحاول أن أحكي عنهما في هذه القصة. وبالتأكيد سأحكي عن المقاومة عندما يكون الوقت مناسباً. المقاومون الآخرون أيضاً سيكونون موضوعنا في هذه القصة. من لم يكن هناك أيضاً؟ كان هنالك زوار وفنانون، وأناس من الشعب. أرادت زهرة وجانان أن تحكيا بنفسيهما عن حياتهما. قالتا استمعوا منا عما نحن فيه. قالتا نريد أن نعبّر بلسانينا عن مشاعرنا وأفكارنا. حاولنا أن نلبي رغبتيهما ما استطعنا. بعد ذلك أراد أبطال قصتي هذه الآخرون أن يتحدثوا. وقد أوجدنا فرصة ليتحدثوا بقدر المستطاع. ولكن سيكون هنالك من لم يجد إمكانية الحديث في هذه القصة على الرغم من حقهم بالحديث، ويمكن أن يكون هذا لعدم انتباه. آمل أن يقابل هذا برحابة صدر. صوم الموت الذي بدأ في 20 تشرين الأول عام 2000 خلق زلزالاً عميقاً في بلدنا من النواحي كلها بعد عشرة أشهر من بدئه. اكتسبت المقاومة فيما بعد بعداً مختلفاً مع بدء صوم الموت خارج السجون، وشهدت في 19 كانون الأول 2000 عملية مجزرية استمرت أربعة أيام. بعد ذلك إدخال نموذج "F" للزنزانات حيز الفعالية بعد إعلان وزارة العدل أنها أجلت افتتاحها فتحت مناقشات جديدة حول مرحلة المقاومة. وتصريح الوزارة بأن القضية حلت بالنسبة إليها كان بالنسبة للمقاومين مرحلة جديدة. وفقدان أحد المقاومين حياته في سجن (سنجان) في أنقرة بتاريخ 21 آذار2001 أثبت أن القضية التي قالت الوزارة إنها حلت مازالت تحافظ على وجودها. ومقابل عمليات التعويق التي قامت بها الوزارة فإن توارد أخبار الموت من السجون هزت المجتمع، ووصول هذا النوع من الأخبار إلى الناس في الخارج لفت الأنظار كلها إلى المقاومين في صوم الموت خارج السجون. كان الناس في الخارج أيضاً قد مددوا أجسادهم للجوع ضد العزل في سجون الزنزانات ذات النموذج "F". على الرغم من أن هذه المقاومة قد بدأت أساساً في إزمير ومرسين ولكن بيت المقاومة في (أرمطلو) الصغرى غدا مركز تلك المقاومة الخارجية. هذه قصة 140 يوماً قضيتها مع ابنتي الصغرى جانان، الأيام التي بدأت في إزمير، ومرت بفقدها حياتها في 15 نيسان 2001 في بيت المقاومة في (أرمطلو) الصغرى، وانتهت بفقدان ابنتي الكبرى زهرة حياتها في البيت نفسه بتاريخ 29 حزيران 2001. من المؤكد أن هنالك ما سبق هذه القصة وما تلاها. ولكن بالنسبة إلي فإن معنى هذه الأيام وأهميتها بالنسبة لما عشته تكتسب أولوية. من المؤكد أن المؤرخين سيكتبون بالتفصيل أكثر، وسيتركون وثائق أدق. ما أردت أن أفعله أنا هو أن أنقل وضع (أرمطلو) الصغرى وبيت المقاومة حيث قضيت وقتي كله تقريباً، والأحداث التي عشتها، والذكريات التي شاركت فيها المقاومين. وفي أثناء قيامي بهذا أردت أن أنقل لكم ما شعرت به طوال هذه الفترة، وما قمت به أو لم أستطع القيام به من أجل ابنتي أثناء ذوبان الناس أمام عيني خلية خلية. وتناولت تبدد الأحلام خلال هذه الفترة عندما تطلب الأمر. تصرف غير متوقع خفف آلامي أحياناً، ورش الماء على قلبي. بقيت – جانان وأنا- فترة قصيرة. استطاعت ابنتي الصغرى تحمل أسبوعين بعد مجيئها من إزمير. هنالك أشياء كثيرة شاركت بها ابنتي زهرة المستمرة بالمقاومة بعد أن أخذنا جانان إلى (ريزة) ودفناها هناك. وكما يفهم من هذا فإنني لم أدخل الحداد على ابنتي جانان. على الجميع أن يعلم أنه لا يوجد أب يرضى ليس بموت ابنته بل بجرح ظفرها. ولكن ظلم الحياة مخيف أحياناً إلى حد أنه يضطركم للاعتياد على فقدان ابنتيكم اللتين ليس لديكم غيرهما. وأنا أيضاً أردت أن تتخرجا من الجامعة، وتأتيا بشهادتيهما وتتعلقا برقبتي. وأردتُ تأسيس حياة سعيدة، واستمرارها طويلاً. ولكن ما الذي يمكنني عمله ليعودا عن قراريهما وترك الأمر الذي بدأتاه قبل إتمامه؟ لقد رأت ابنتاي أن قضية السجون المستمرة في بلدنا قضية إنسانية. وقالتا: لا يليق بنا عدم اتخاذ موقف في القضايا الإنسانية. ومددتا جسديهما للجوع، ودفعتا الثمن. السؤال الأساسي هنا يجب أن يكون: "ما هو مقدار تبنينا للقضايا الإنسانية؟". الجواب الذي سنقدمه سيكون مؤشراً لمفهومنا. هما في عمر الشباب دافعتا عن فكرة عدم إمكانية تحرر الإنسان دون ثمن. أما نحن فعن ماذا ندافع؟ ما هي القيم والأخلاق التي نعمل حساباتنا من أجل إحلالها؟ احتلت (أرمطلو) الصغرى مكاناً هاماً في مقاومة صوم الموت التي بدأت عام 2000 واستمرت في عام 2001. ومن المؤكد أن هذه المقاومة قد مرت بمنعطفات هامة في أمكنة مختلفة ولكن إ حداهما لم تجذب الرأي العام بالقدر الذي جذبته (أرمطلو) الصغرى. وغدت بمقاومة أكواخها حياً شهيراً، وبانتقال صوم الموت إليه صار حياً صاحب مهمة جديدة. بعد توارد أخبار الموت من السجون غدا هذا الحي الذي لم يلفت انتباه أحد مركز اهتمام. مع عمل الرأي العام على معرفة ما يجري في السجون من (أرمطلو) الصغرى، وضع الإعلام بيت المقاومة تحت المراقبة من أجل الحصول على الأخبار. صار حي (أرمطلو) يستضيف مرحلة تاريخية. من (أرمطلو) وُدِع الناس إلى الخلود. دخلت (غولسمان دونماز) التاريخ باعتبارها أول مقاومة في صوم الموت تفقد حياتها خارج السجن، وهي أم لطفل في الحادية عشرة من عمره. كانت (غولسمان) امرأة فقيرة في (أرمطلو). أخوها كان نزيل سجن زنزانات النموذج "F". هذه المرأة التي فقدت حياتها في اليوم السابع بعد المئة وأربعين فتحت الطريق أمام الذين سيأتون. بعد ذلك (جانان قولاك سيز). ودع (أرمطلو) ابنتي. كل وداع يؤلم القلب، ويخيف المجتمع من تكرار الحدث. بعد ذلك رحلت (شناي هان أوغلو). صاحبة البيت التي تستمر فيه المقاومة. سلمت رايتها وزوجها في السجن تاركة أولادها. في هذه الأثناء انضم (إردوغان غوللر) إلى قافلة الذاهبين من محطة أخرى حيث كان مستمراً بالمقاومة من إزمير. هذه المرة جاء دور (زهرة قولاق سيز). أودعت الراية التي تسلمتها من أختها الصغرى جانان إلى الآخرين ملتحقة بها. المقاومة مستمرة جارفة أمامها الشاب والمسن. انضمت إليهم (سوغي إردوغان) في قافلة الذاهبين وكانت قد بدأت مقاومتها في السجن، واستمرت بها في (أرمطلو). حقيقة كان حي (أرمطلو) شاهداً على الأحداث. مجموعة من الناس لا يتراجعون عن مواقفهم ولو كلفهم هذا حياتهم. عندما جئت إلى (أرمطلو) بعد جانان كنت أريد أن أقضي كل لحظة مع ابنتي زهرة، وقد جهزت نفسي للأحداث التي سأشهدها هناك. كان من الواضح أنني مهما فعلت فلن أستطيع جعل زهرة تتراجع عن صوم الموت. ما يمكنني عمله في هذه الحالة هو عمل ما بوسعي من أجل المقاومة، والنضال من أجل المعتقلين في السجون. وهنالك أعداد كبيرة من الناس تعمل هذا أساساً. هنالك مثقفون وحقوقيون وفنانون وأناس حساسون من كل القطاعات يناضلون بكل ما أوتوا للحيلولة دون الموت، وإنهاء المقاومة. في هذه الأثناء أيضاً واجهنا مجموعات لم تبد التضامن المتوقع منها، ولم تتصرف بحسب المهمة التاريخية المنوطة بها. بعد أسبوع من فقداني ابنتي الصغرى جانان جاء شخصان لزيارتي وأخبراني بأنهما اقترحاني لأتحدث في احتفالات الأول من أيار باسم عائلات المعتقلين، وتحمست لهذا كثيراً. وأخبرتهما بموافقتي، وقلت لهما بأنني سأقوم بهذا العمل بمحبة. صباح الأول من أيار أبلغت عبر الهاتف بأن كل شيء جاهز، وأنهم ينتظرونني في ساحة الاجتماع. حين ذهبت أبلغت بعدم وجود مشكلة، وكرروا بأنني سألقي كلمتي حين يأتي دوري. ولكن حين انتهت الكلمات وتم الانتقال إلى مرحلة عزف الموسيقى فهمت أنهم لن يدعوني أتكلم. حين سألت عما حدث، لم أتلق جواباً مقتعاً. وهذا أول إحباط واجهته. لم يكن مهماً إلقاء الكلمة. ولكنني اعتقدت أنه من سوء الحظ ألا يسمح لأحدهم أن يعطي فرصة دقائق لأتحدث في مرحلة كهذه، في يوم عظيم المعنى كهذا. جُرحت كرامتي. دُعيت، ولكن لم يُسمح لي بالتحدث. أنا فقدت ابنتي وعلى وشك فقدان الثانية. لو منحوني فرصة الحديث ماذا سيخسرون؟ أو أنهم ماذا كسبوا في عدم السماح لي. ترى حين يفكرون اليوم بما عملوه بماذا يشعرون؟ عن ماذا يدافع أصحاب ذهنية الحظر هذه في موضوع الديمقراطية؟ ولكن كما قلت من قبل: إنه بلد الغرائب. فقدت ابنتين في هذه المقاومة. ولكن لم يرفع السماعة رئيس رابطة أو حزب أو نقابة ليعزيني. إمام جامع حمل نفسه من (بلو) وجاء مظهراً هذه الحساسية. جاء إلى (أرمطلو) وقابلني، وتمنى لي الصبر. ولابد أن يذكر هذا للتاريخ. لم أستجدِ كما لم تستجدِ ابنتاي رحمة من أحد. احترمنا الجهد دائماً، وعملنا على العيش من جهدنا. ولكننا بحثنا عن المحبة في حياتنا كلها، وآمنا بأن التضامن والتساعد جزء من حياتنا. لهذا السبب فتحنا أحضاننا لكل من يأتينا وليكن من يكن. ودائماً كان للقلب الدافئ، والكلمات المليئة بالحب معنى كبيراً في حياتنا. وأبقينا عيوننا مفتوحة دائماً. اعتبرنا هموم شعبنا وأصدقائنا ومشاكلهم دائماً مشاكلنا. جاء وقت قاسمناهم لقمة خبزنا، ووضعنا صحن الحساء أمامهم جميعاً. ولم نغضب حين لم نتفق. لم تأخذ التصرفات المزدوجة شيئاً من أخلاقنا. تمسكنا بمفاهيمنا بقوة. لم يُنقص تجار الحرب الذين يعيدون تشكيل المجتمع مجدداً بتغذية العنف توقنا للسلام أبداً. وفي سبيل هذا لم نتردد بتقديم قلوبنا على طبق من فضة. وهكذا من يعمل حسابات ضيقة يفقد ذاته، ومن يقدم دون حساب يشعر بأن الحياة كلها كبرت. وكل هذا من أجل حقائق هذا العالم وجعل النضال أكثر معنى. أيامي بكاملها تقريباً أقضيها في (أرمطلو) أتحدث إلى الزوار، وأقدم تصريحات لمراسلي المؤسسات الإعلامية الأجنبية. أشارك أحياناً بالفعاليات التي تنظم خارج اسطنبول. كان هنالك قرار مشترك للمنظمات الديمقراطية الجماهيرية والنقابات والأحزاب للقيام بتظاهرة وتجمع في 9 حزيران 2001. وذهبنا بشكل جماعي من اسطنبول إلى أنقرة للمشاركة، ولألقي كلمة باسم رابطة التضامن بين أسر المعتقلين. حين وصلنا إلى مكان انطلاق التظاهرة (مضمار سباق الخيل) تذكرت ابنتي الصغيرة جانان فجأة. التقيت معها في تظاهرة كهذه قبل صوم الموت. كانت هي قادمة من إزمير، وأنا من اسطنبول. تعانقنا مبددين الشوق. كنا نسير معاً متكاتفين نردد الهتافات من أجل إغلاق سجون النموذج "F". بعد كل هذا الزمن الذي مر، أنا وحدي هذه المرة. أنا مضطر للسير وحدي مع الأصدقاء الآخرين في الطريق الذي كنا نسير فيه معاً. حين جاء دوري بإلقاء الكلمة، ناولني أحد الأصدقاء صورة لجانان، وضعتها على صدري. لم أعد أتحدث وحدي. كان لساني ينطق باسمي أحياناً، وباسم جانان أحياناً وباسمينا معاً أحياناً. تحدثت عن جانان، وعن المقاومة حين توقفت الكلمات في حنجرتي. ولكن يجب علي أن أتحدث، وأن أحول دون حدوث موت جديد مهما حدث. ألقى (محمد أوزر) من فوق المنبر قصيدة كتبها لجانان. كانت قصيدة جميلة وذات معنى. عشت صعوبة التعبير للناس عن الموضوعات التي كنت أتحدث فيها براحة وهدوء في اللقاءات. حاولت شرح موقف وزارة العدل المزدوج. طالبت بالعودة إلى اللقاءات التي كانت تجري قبل 19 كانون الأول، وإيقاف العزل فوراً. ولكن الوزارة كما قلت كانت مثل الجدار. صماء ودون إحساس كالجدار. كانت قد خططت للمجزرة، واتخذت قرارها منذ البداية. وما عيش بعد ذلك هو سيناريوهات وأخبار كاذبة من أجل إظهار المجزرة تصرفاً حقاً. بعد التظاهرة عدنا إلى اسطنبول مع الأسر الأخرى. وهرعت فوراً إلى (أرمطلو) لأكون بجانب ابنتي. فهمت أنها كانت تنتظرني. أعطيتها معلومات حول التظاهرة. أخبرتها بأن المشاركة لم تكن بالمستوى المطلوب، ولكنها كانت حماسية. من الأصدقاء الذين لا أستطيع نسيانهم في أرمطلو هو (علي). إنه الأخ الأصغر للمقاوِمَة في صوم الموت (هوليا شمشك). كنا نقضي يومنا كله تقريباً معاً. وفي أغلب الأحيان نشعر بالمشاعر نفسها. مع أنه كان يبدي توجساَ في التعبير عن أفكاره، ولكنه صديق حميم طيب القلب ومجتهد. هرع إلى كل عمل، ولا تخرج من لسانه كلمة: تعبت، أبداً. أمه أيضاً كانت تأتي أحياناً، ثم تعود إلى (أرزنجان). كان لعلي أخ في سجن نموذج "F" في أدرنة. عرفني بوالدته، وأنا واثق أنها عرفتني جيداً. كتبتْ رسالة مفعمة بالمشاعر. حين قرأتُ تلك الرسالة أدركت أن تلك الحرارة الموجودة في قلوب الناس لم تخمد أينما كانوا. حين تقرؤها تشعر أنك لست وحدك، وتصل إلى طعم السعادة لخفقان قلبين على الرغم من بعدهما بانفعال واحد. في تلك الأثناء تلقيت رسائل وهواتف أكثر. منها من السجن، ومنها من الخارج. الجميع يريدون مشاركتي بآلامي. رسائل مفعمة بالأحاسيس تريد أن تقول إنني لست وحدي. لم أكن أعتقد حتى ذلك اليوم أن عدة أسطر يمكن أن تكون بهذه المعاني كلها. لقد أضافت تلك الرسائل معاني كثيرة لتلك الأيام التي عشتها. لقد منحتني قوة هامة مكنتني من الوقوف على قدمي في تلك الأيام الصعبة. بين المحبوبين وغير المنسيين بالنسبة إلي هنالك واحدة تبرز دائماً. حين أنظر إلى الوراء أجد أنني في مربع واحد مع الأخت (بيلغة) منذ بداية المقاومة. وجدت بين المقاومين منذ البداية. وهي فنانة. وأول من فتح بيته للمقاومين. تنفست معنا، وحزنت معنا، وفرحت معنا. وبإحساسها الفني إضافة إلى قلبها الدافئ غدت أختنا الكبرى جميعاً. شهدناها تعمل ليلاً نهاراً من أجل وضع مخزونها المعرفي ومحيطها الفني في دعم المقاومة. كنا مع الأخت (بيلغة) في كل مرحلة من مراحل المقاومة. حاولت مشاركتنا بإمكاناتها كلها. ناقشت المقاومين وعائلاتهم فرداً فرداً فيما يمكن أن تعمله في سبيل كسب المقاومة. صار لنا كثير من الأصدقاء الفنانين عن طريق الأخت بيلغة. ولكن أحداً منهم لم يظهر الاستمرارية التي أظهرتها (بيلغة صو إرينوس). فهي إلى جانب كونها معنا، صارت في النهاية منا. فنانون آخرون أصدقاء حاولوا تقديم إمكانياتهم. شاركتنا (ديلك غوكتشن) بالكثير. كانت بين زوار بيت المقاومة الدائمين في (أرمطلو). أعتقد أنها شاركت زهرة بكثير من الأمور. ولكن على الرغم من كل شيء لابد من القول بأن دعم المثقفين والفنانين كان دون توقعنا. أوربا هي ربة فكرة العزل، ونظام الزنزانات. حين ذهبت إلى حفل العرض الأول لفيلم (الموت الصامت) الذي يحكي عن الزنزانات والعزل الإنفرادي في سجون أوربا رأيت مشهداً عجيباً. كان المثقفون والفنانون الذين أردنا رؤيتهم في (أرمطلو) كلهم هناك. فكرت بسبب الاهتمام الذي أبدوه. لماذا جذب هذا الفيلم الوثائقي الذي يحكي عن الأرض الأوربية اهتمام مثقفينا إلى هذا الحد؟ يبدو أن أناسنا الذين فقدناهم في المجازر وصوم الموت لم يقدموا المعلومات الكافية حول موضوع الزنزانة. بعد ذلك نظمت ندوة حول هذا الفيلم الوثائقي. بروفسور حقوقي يدير الندوة قدم استنتاجاً وجدته غريباً: "ليس للتعلم عمر. وبعملي هذا تعلمت الكثير. أشكر معدي هذا الفيلم الوثائقي الذي يشرح جيداً ما يعنيه العزل" شعرت شعوراً غريباً. فهو حقوقي عاش في السجن ويحاول فهم العزل، والتجريد من فيلم وثائقي يأتي من دول أجنبية عن معتقلين قدماء. مع أننا منذ سنة نعمل على شرح أن سجون النموذج "F" عبارة عن عزل، ومن غير الممكن للإنسان أن يعيش فيها. وبينما هنالك كتب وبيانات طبعت، وندوات عقدت، وتصريحات قدمت حول هذا الموضوع، يعملون على فهم سجون الزنزانات ذات النموذج "F" من معتقلين أجانب. في الحقيقة إن هذا الفيلم بمثابة جواب على الذين يتبنون المقاييس الأوربية لحقوق الإنسان. ولكن ما يلفت الانتباه أن مثقفينا لا يؤمنون بما يعاش في بلدنا، بل بما يقوله الأوربي. ولكن أصدقاءنا لا يجدون ما نشرحه دافعين أبهظ الأثمان في هذا السبيل مقنعاً، ولكن قلوبهم تكتوي حين يكون المتحدث أوربياً. حين أفكر أجد أن هذه مشكلة هامة لابد من الإجابة عليها. لماذا يتصرفون بهذه الغربة عن شعبهم؟ لماذا لا تقنع أكثر مثقفينا تصريحات المعتقلين والمقاومين وعائلاتهم؟ لماذا يشعر أصدقاؤنا بمعرفة أن الزنزانات لا تليق بالإنسان أنه ذو معنى حين يعرفونه من أجيال أخرى بينما هنالك كل تلك المجازر التي عشناها، وكل هؤلاء الناس الذين فقدناهم؟ هل كان كذباً ما نطرحه منذ أشهر؟ أليس لهذه الأجساد التي ارتمت على الأرض معنى في ضمائر هؤلاء الناس؟ كيف يمكن أن نكسب ثقة أصدقاءنا هؤلاء الذين يديرون وجوههم إلى الخارج بدل أن يديروها نحو شعبهم؟ أم أن الذين فقدوا حياتهم في المقاومة لا يعدون من الشعب؟ من سيقرر ما هي مطالب الشعب؟ ترى ماذا كانت مطالب جانان بالنسبة إليهم؟ من المؤكد أن المرحلة المعاشة ليست سهلة. على الجميع أن يفكروا بأنهم وسط امتحان هام، وأن يعوا مسؤولياتهم التاريخية. هل يجب أن تكون الأمور على هذا النحو؟ أهكذا يجب أن يتصرف أصدقاؤنا المثقفون في أثناء فقداني ابنتي جانان وزهرة؟ أما كانوا سيغدون عيوننا وآذاننا، ويكونون صوتنا ونفسنا عندما يتطلب الأمر؟ بينما كنا نثق بهم ملء قلوبنا لماذا يحرموننا من دفء قلوبهم؟ لماذا لم يظهروا الجرأة التي أظهرها الآخرون ولم يجعلونا موضوعاً لكتابتهم. بينما كانت قلوبنا تقطر دماً، مروا بجانبنا وحرمونا من إلقاء التحية. مع أننا قرأناهم وكبرنا مع أغانيهم. أضافوا إلى مخزوننا معلومات جديدة أخرجتنا من ثباتنا. كنا نحزن مع أغانيهم. ونسافر إلى عوالم أخرى مع أشعارهم. قدموا أعمالاً جميلة وذات معنى. قدموا عشرات قصص الحب حاملين الأمل والمحبة للناس. ولكن ما الذي حدث ليجعل هؤلاء الناس في حال غير مفهوم يخشون الوجود في عالمنا؟ كيف يتجاهلوننا وأولادنا يمددون أجسادهم للجوع؟ لساني لا يطاوعني على قولها، ولكن عالمينا مختلفان. هل بدأ يقلقهم تنفسنا الهواء نفسه، وتجولنا في الحدائق نفسها. مع أن ابنتي جانان كم كانت تريد الحصول على كتاب موقع من أحدهم. كم كان يسعد ابنتي استلام شريط كاسيت من يد صاحبه. إذا كنتم تفكرون بأنه لم يتبق إلا القليل يمكن أن نتقاسمه فهنا غير صحيح. علينا أن نجد ما يمكن المشاركة فيه في أفقر لحظاتنا وأكثر فتراتنا وحدة، وأتعس أوقاتنا. أوجدنا في الماضي ما يجعلنا ننجح في هذا. سترون أننا سنزداد غنى مع مشاركتنا. مثلاً لنتشارك بالأمل باسم ترك إرث نفخر به. ولكننا لم نستطع فعل هذا، ولم ننجح به. حين سيدون تاريخ هذه المقاومة سينوه كثيراً إلى بقائهم وحدهم. وسيشهد من يأتي بعدنا كثيراً من الأمثلة على عدم الوفاء في صفحات ذلك التاريخ. سيحاولون فهم الأسباب التي أدت إلى ظهور هذا التناقض. ويا لما سيواجهه من سيبحث عن الحلول لإيجاد رد على ما حدث. سيقولون بأنه يجب ألا يكون هذا ما حصل، لم يكن أولئك مضطرين لعمل هذا بأبناء الشعب. كانوا محتاجين لفهمهم، والحديث عنهم. وسيفكرون بمقدار الأسى بالنسبة إلى التاريخ ببقائهم صامتين في حين أن بإمكانهم فعل ذلك. اكتسبت التطورات المعاشة في (أرمطلو) بعداً جديداً من خلال ممارسات الدولة فيما يتعلق بالسجون. المقاومون الذين يفقدون حياتهم في (أرمطلو) يملأ مكانهم مقاومون جدد، والذين يطلق سراحهم شرطياً يتابعون صوم الموت هنا. فكرت الوزارة بجعل المشاركين بصوم الموت يستفيدون من الإفراج الشرطي ضمن سيناريو إنهاء المقاومة. على الذين يطلق سراحهم أن يتركوا صوم الموت وبهذا تضعف المقاومة. ولكن لم يحدث هذا. وإعطاء المفرج عنه قرار الاستمرار بصوم الموت أفشل هذا السيناريو. والمقاومة التي بدأت في بيت واحد مستمرة الآن في خمسة بيوت عبر أكثر من عشرين إنسان. هذا الوضع الجديد يبين أن (أرمطلو) صار مركز المقاومة. في هذه الأثناء اكتسب صوم الموت توسعاً بالبدء به في محافظات أخرى. ما أردناه نحن مع ما أرادوه هم في أكثر الأحيان لا يلبي توقعاتنا. ما عشته في المرحلة الأخيرة هي أحداث لا أستطيع تخيلها في أي وقت. قبل فترة قصيرة من فقداني ابنتيّ جانان وزهرة كيف يمكنني أن أفكر بوضع كهذا؟ ولكن العيش في أكثر الأحيان يستمر رغماً عنا، ولا نستطيع التدخل إلا في قطاع صغير منه. الأحداث التي تتجاوز إرادتنا، وتتطور رغماً عنا عندما تضعكم داخل ساحة تأثيرها لن يبقى لديكم في كثير من الأحيان ما تفعلوه. وتنتبهون أنكم لا تستطيعون عمل الكثير. كيف أعبر عن هذا لأصدقائي الأقرب، وكيف علي أن أشرحه؟ مقابل هذه الآلام كلها التي يعيشها الإنسان، كيف يغدو حين لا يستطيع التعبير عن نفسه في المجتمع، أو حين لا تتوفر إرادة عدم فهم مشاعرك وأفكارك؟ أفضل ما يفعله الناس الذين عاشوا الآلام نفسها معي في أكثر الأحيان هو الخروج خارج المجتمع، والنسيان. لا، بالتأكيد. وإذا كنا لا نرى أن المقاومة مشروعة، والمقاومين على حق سنجد أنفسنا ننجرف إلى حالة تنتهي بعدم احترام أولادنا. إذا كنا لا نريد مزيداً من الموت فعلينا أن نشرح للرأي العام ما عيش حتى الآن بالتفاصيل كلها، ونخوض النضال اللازم لإثبات مشروعية المقاومة، وأنها حقة. على عكس أحكام القيمة المشكلة لدى الغالبية العظمى للمجتمع فإن البعد الإنساني لهذه المقاومة لم يستوعب. في هذه المقاومة التي جرحت ضمير مجتمعنا على مدى أشهر يجب فضح المسؤولية السياسية، والجريمة المرتكبة أمام التاريخ لبقاء المسؤولين متفرجين إزاء الموت، وتجاهلهم مطالب المعتقلين. لم يدفع أبناؤنا ثمناً كهذا لأنهم يئسوا من الحياة. أراد المعتقلون أن يعيشوا بأفكارهم وهوياتهم. ولكن قوى الإدارة الظالمة بقيت متفرجة على موت أبنائنا بدل أن تلبي مطالبهم. إداريو بلدنا الذين اختاروا العنف أداة للإدارة دائماً عرضوا نجاحاً متفوقاً في عملية عدم حل مشاكل المجتمع، وتجاهل مطالبه. ولكن عليهم أن يعرفوا أنهم لن يحققوا النتائج التي يرجونها بالاستمرار في هذا. لن تنسى الآلام التي عيشونا إياها. إذا كانوا يرون أن الصمت الذي يخيم على المجتمع ناجم عن سياسة الظلم التي يطبقونها سيرون كم هم على خطأ كبير. عدا حفنة من الطفيليين أنسوا المجتمع الضحك. قسم كبير من المجتمع لم يبق لديه أمل من المستقبل. حينما كنا ندفن أبناءنا كانوا يسخرون منهم. كيف جعلوا المجتمع في هذه الحال؟ من المؤكد أن العمل قد بُدئ في هذه المرحلة قبل فترة. لقد صعدوا العنف إلى أعلى مستوى من أجل بث الرعب في نفوس الناس كلهم. وأسكتوا معارضي هذا عبر التعذيب والسجون. بعد ذلك جاء الدور إلى عقولهم. يعرف النظام أن فرض الاستسلام على القلوب والعقول أسهل أساليب الإدارة. ومن أجل أن يعيش المجتمع بشكل غير منظم فَرَضَ قوانين المنع، ثم حقن المجتمع بعقدة الخوف من التنظيم، وبُدىء بالهجوم على قيمنا الإنسانية، وأسقط المواطنين من وضعهم إلى وضع العبيد غير المفكرين الفاقدين هوياتهم غير المحاكمين للأمور، وعمم ثقافة الانحلال الإمبريالية على أنها طريقة التفكير الحر، واعتبر التساعد والتضامن عيباً، وكتب عن التخلف الكبير في معارضة سيطرة المال. أناسنا يتغذون من المزابل، ويهدد من يكتب عن هذا، وقيل إنه يشكو بلدنا للعالم. قدم للقضاء من يكتب أخبار التعذيب، وليس من يمارس التعذيب. القائلون إنهم يحمون الشباب قدموا الدعارة والمخدرات ووضعوها في خدمة الشباب؛ وضعوا كلمة: "عيب" مقابل المدافعين عن الجهد، وكلمة "متطوع" مقابل الذين يفنون الطبيعة؛ بعد ذلك فرغوا كل قيمة جميلة في المجتمع من محتواها، وجعلوها خاوية من المعنى؛ أسقطوا المجتمع في وضع المتفرج. مع تدفق الدم دفقاً في جزء من بلدنا استمرت الفرجة. مثلاً بينما يحترق المثقفون في سيواس كانت الفرجة قائمة. في أثناء سلب ثروات بلدنا الباطنية والسطحية، عُدت معارضة السلب، ومعارضة وضع هذه الثروات بالمزاد عيباً. في النهاية أريد إيجاد مجتمع أصم أبكم دون حس. حين يحدث هذا ستعمل آلة الظلم بسهولة أكبر، وستمتد سبطانات البنادق إلى حيث يمثل ضمير الشعب. وسيُعرّفون ما تعنيه جيداً معاندة الدولة. سيُعرّفون بهذا جيداً، كي يروا ما سيحدث في حال محاولة من هذا النوع. بعد ذلك ظهر سياسيون عقلاء في الساحة. بدأ هؤلاء يشرحون جيداً أن هذا الزمان ليس زمان إظهار بطولات من هذا النوع. كيف تم التمكن من تحقيق النتائج المرجوة من هؤلاء في حين أنهم لم يستطيعوا ذلك عن طريق الكتاب الكبار جداً جداً. ماذا يعني تمديد الأجساد اليافعة لصوم الموت؟ هل يستأهل هذا موت الناس؟ قدموا نصائحهم جيداً بأن يكون هنالك أنواع أخرى من النضال. بعد ذلك حكوا كثيراً حول خطأ هذا الطريق. وقالوا كثيراً بأداء الدراويش دون أن يفعلوا شيئاً. وحين يظهر البعض قائلين: "ماذا لو كان هؤلاء الشبان على حق، ونحن مخطئين؟" فينظرون إلى وجوه هذا البعض نظرات خاوية. اعتقدوا أنهم أثروا. ما عاشه المقاومون أثر بهم. حكوا عن كل شيء، ولكنهم لم يريدوا فهم صوم الموت. في أكثر الأحيان ألقوا أكثر خطبهم حماسة مع المقاومين دون رؤيتهم أو الحديث عنهم. وكتبوا ملء الصفحات بكلمات مزخرفة عن مدى إنسانيتهم. مع توارد أخبار الموت اكتشفوا مجدداً أهمية قدسية الحياة. في هذه الأثناء نسيوا كيف يجب حماية هذه القدسية. لقد فقدت قدسية الحياة معناها ككل القيم المقدسة الأخرى. ويجب أن تكون طريقة النضال في سبيل حماية القدسية أمراً لا يعرفه غيرهم. ولكن لا، لقد انفلت السهم من القوس. قالت جانان أنا جاهزة مهما كان الثمن باهظاً. قالت زهرة: "إنني أضحي بأهم ما لدي من أجل حماية ما هو مقدس". في البداية لاقوا صعوبة بفهم هذا، فقال بعضهم إنه انتحار، وقال آخرون يجب جعل هؤلاء يعيشون. ومع استمرار هؤلاء بقول هذا انفصلت عنا الشجيرات الصغيرة، وودعنا جانان، وبعدها زهرة إلى منطقة البحر الأسود. وقف بعيداً من كان من المفروض أن يكونوا أكثر فهماً، لعلهم خافوا من محاسبة أنفسهم. لم يجرؤوا على سماع ما ستقوله جانان. ولكنهم قالوا إنهم حزنوا، دون أن يفكروا ما إذا كان هنالك مصدقين..
#غسان_المغربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفن النضالي دوره وأهميته
-
دروس حول عمل البوليس السياسي و كيفية افشال تحرياته
-
نحو الأناركية
-
عن النظام الأناركي
-
المرأة النمودج : الشهيدتان جانان وزهره قولاق سيز تركيا
-
كتابات حول الحدث المهزلة : محاكمة فتاة القطيف السعودية
-
غسان كنفاني حارس الحلم الفلسطيني
-
غسان كنفاني (ملف شامل)
-
لا تحرر للمرأة الا بتحرر المجتمع ولا تحرر للمجتمع الا بتحرر
...
-
مسالة قيادة النساء في الحرب الشعبية بالنيبال
-
الى كل الزهور اشعار
-
الميثاق الوطني للتربية والتكوين
-
استخلاصات من كتاب- فلسفة المواجهة وراء القضبان-
-
نداء ثوري في سوق البطالة
-
الحجاب .. قراءة عقلانية نقدية
-
حرية الاعتقاد الديني
-
قصيدة مهداة الى الشهيد البطل أرنستو تشي غيفارا
-
الانتخابات الراسمالية
-
الذكرى السادسةلاستشهاد الرفيق القائد أبو علي مصطفى
-
بمناسبة الذكرى 23 لاستشهاد المناضلين بوبكر الدريدي ومصطفى بل
...
المزيد.....
-
مصر: لأول مرة شركات المحمول تقدم خدمة الشريحة المدمجة eSIM..
...
-
وزير دفاع سوريا يكشف سبب انسحاب الجيش من حماة
-
في رحلة قد تكون الأخيرة لها خارج البلاد.. السيدة الأمريكية ا
...
-
الملايين يواجهون الجوع في السودان وبرنامج الأغذية يكثف جهوده
...
-
وزيرا خارجية أوكرانيا وبولندا يغادران القاعة.. خلال كلمة نظي
...
-
ماكرون يرفض الاستقالة ويتعهد بتسمية رئيس حكومة جديد
-
طهران تشيع رفات 100 جندي قتلوا في الحرب العراقية-الإيرانية خ
...
-
وزراء خارجية العراق وإيران وسوريا يعقدون اجتماعا في بغداد
-
إسبانيا.. القبض على 7 أشخاص سرقوا أجهزة صراف آلي باستخدام شا
...
-
الجزائر: مجلس الأمة يدين -تدخل- البرلمان الأوروبي في الشؤون
...
المزيد.....
-
المرأة النمودج : الشهيدتان جانان وزهره قولاق سيز تركيا
/ غسان المغربي
المزيد.....
|