أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زكية خيرهم - هيفاء سابقا















المزيد.....

هيفاء سابقا


زكية خيرهم

الحوار المتمدن-العدد: 2202 - 2008 / 2 / 25 - 05:23
المحور: الادب والفن
    


"أرنو إلى ذلك اليوم الذي أتوقف فيه عن الرحيل من بلد إلى آخر، أبحث عن ملجأ يحميني من التعسف والمطاردة، من السلطة المستبدة في مجتمعي، سلطة سلبت كل ذرّة صغيرة من حقوقي كإنسان لا يريد سوى العيش بسلام …"

تنهدت هيفاء تنهيدة حارة، زفرت من خلالها الهواء المكتوم في رئتيها وكأنها تخرج ما بداخلهما من هواء مسموم. تتأمل المكان الذي تجلس فيه ، ترى الناس كل يسعى إلى غايته ، أما هي فقد سافرت في البر ومشت في البحر وسبحت في الصحراء تطير مع العاصفة وتسابق الريح، تغوص في الماضي وتصارع أمواج الحاضر والخوف يتملكها من تيارات المستقبل. آه يا زمن! إلى أين أوصلتني؟ هل هنا سأحط رحالي بهذا البلد القريب من القطب؟ فليكن، من المؤكد سأتأقلم معه. على الأقل أنا بعيدة من مسار تلك الرياح التي تعكّر صفو طرقاتي . بصيرتي رأت كل شيء. أصوات النساء الفاقدات أولادهن، وأطفال بلا منازل تتعثر حافية على أحجار و لا تتوقف عن الصراخ، الجدار الذي يفصل بين هذا وذاك يتنهد حسرة. كل الشوارع تبحر وسط الليل. أرض وجزر ومد لا يتوقف ، و تيارات تلبس ثوب المجون. لم أجد في ذلك الجسد قوة ولا في شمسه غابة ولا في ليله زورقا.

حانت منها التفاتة بعد أن غابت طويلا في بحر أفكارِها، فانبهرت لتلك الطبيعةِ الخلابة بُعيدَ الغروب ولذلك النسيم العليل المنبعث من صيف أوسلو، خفق قلبها بقوة وكأن تلك الطبيعَة الخضراء تدثر شغاف فؤادها المتجمد. طفح وجهُها نورا ثم ما لبثت أن تحركت شفتاها الورديتان. ماذا تريد مني أيها الزمن لقد نفذت نقودي ولم أعد أستطيع المكوث في الفندق الذي أقيم فيه، كما أنني لم أقبل في الجامعة بسبب تأشيرة السياحة. ماذا سأفعل الآن؟ تبدَّدت أحلامي. هل أستطيع أن أشتغل؟ لكن كيف ... هذا مستحيل. بعدما انتهت صلاحية تأشيرتي فلا أدري أين أسير أإلى الوراء أو إلى الأمام؟ إلى أي جهة أقصد...؟.اختلطت الجهات كلها في رأسي، التيار يجرني، يعلو بي ويهبط. أحاول جاهدة الوصول إلى البر طلبا للأمان فلا أجد إلا وحشا من الإنس أكثر ضراوة من الوحش البهيم. ارتعش جسدها المذعور من مجهول يتكسر خوفا . حلم وذاكرة تسيطر عليها ، لكن الواقع جسر منيع يحول بينها وبين الأحلام. تحس بغربة تنهش روحها فاقتلعتها من الزمان والمكان . وبعد سكينة ممزوجة بالتأوه والأنين، قالت بنبرة عالية موجوعة بالسخط، مذبوحة بالحزن : لن أهزم ... لن أدعهم يطردونني من البلد. سأمكث هنا. هذه أرض الله ... خلقها وخلقني فيها. إلا أنني وجدت في مكان غير لائق بي. سأشتغل ولو بطريقة غير قانونية" العمل بالأسود" سأشتغل بالأسود ريثما يحلها الحلال. استيقظ ضميرها على غفلة: أي عمل أسود هو يعتبر جريمة. سقطت دموعا مالحة على خدها ... الجريمةُ الأكبر إن عدتُ من حيث أتيت. بدأت تتوجع وتعتصرها آلامُ ُ في رأسها وكأنها قد فقدت البيانَ و القدرة على التعبير ... شحبت وامتقع وجهها الثمل بالغضب، صرخت بصوت عال غيرَ مباليةٍ بمن حولها. القانون لا يحمي المغفلين. وأنا لست مغفلة حتى أدعَهم يطردونني من البلد. سأشتغل بالأسود وإن لم أجده سأبحث عن الأبيض أو الأحمر أو الأزرق. المهم أن أجد عملا، وليكن لونه ما يكون. المهم ألا أرجع إلى وطني الذي كان يوما في غابر الزمان، كان عقيما على ما أذكر ، لم يترك لي شيئا يدل على إنتمائي له، إنني مقطوعة الجذور، غريبة الديار. يأسي وغربتي تقطع عمري. أهتف ، أصرخ ، فما لبى الزمان ندائي. سئمت أنين سهري الذي يلتهم روحي كما تلتهم النارالهشيم.

أخرجت جوازَ السفر من حقيبتها، مزقته ولم تترك أي شيء يدل عن هويتها. تنفست الصعداء. الآن تحررت من هويتي الزائفة، من كل شيء يربطني بتلك البقعة من الأرض. منذ الآن أنا لست هيفاء. أنا مجرد إنسانة تبحث عن الإنسانية في هذا العالم اللاإنساني. أمسكت حقيبة ملابسها وتأهبت لمغادرة الحديقة العامة. تمشي بتثاقل وعيناها مطرقتان في الأرض. تمشي ولا تعرف إلى أين، تعبر الشارع كحد السيف بين المكان الذي قدمت منه عبر سنوات القهر وجفاف الروح. تعبر إلى الطرف الثاني من الشارع، تتابع سفر حياتها في درب لا عودة منه ولا إياب. تراه جنات النعيم. صرخ أحدهم:" الضوء أحمر" لم توقظ صرخته سباتهَا ... كانت ذاكرتها تضج بألم على وشك الإحتضار وعيون دامعة كينبوع أبدي. تصدمها سيارة وتقع على الأرض مغمى عليها. ولم تستيقظ من غيبوبتها إلا بعد أسبوع في المستشفى. فتحت عينيها فرأت سِربا من الأطباء والممرضات حول سريرها. نطق أحدهم:

_ حمدا لله على سلامتك. لقد نجوت بأعجوبة. جرح صغير فقط في مقدمة رأسك ماعدا ذلك فجسمك سليم.
تطلعت إليهم باستغراب.
_ منذ متى وأنا هنا؟
_ حسنا تتكلمين اللغة الإنجليزية إذا.
تحاول أن تتذكر، إلا أن ألما يعتصرُها في رأسها.
_ بلد ... لا أعرف.
_ ما اسمك؟
_ اسمي ... ما هو اسمي ( تحاول أن تتذكر) لا أعرف.
نظر الطبيب إلى باقي المجموعة وقال بلغة البلد:
_ يظهر أنها فقدت الذاكرة.
نظرت إليهم والرعب في عينيها:
_ أريد أن أذهب ... أريد أن أغادر المكان حالا.
_ إلى أين؟
_ لا أعرف ... أريد فقط أن أذهب من هنا.
_ يجب أن تمكثي هنا فترة من الزمن حتى ننهي كل الفحوصات.
نظر الطبيب إلى ساعة يده ثم غادر ولحقه من كان معه.
تأكلها نار الحيرة حتى سمعت طرق الباب. التفتت فإذا بها ترى شابا وسيما، أشقر ذا عينين زرقاوين كأنهما البحر في صفاءه ... هزةُ ُ أيقظت شعورها العميق. اختلج فؤادُها الرقيق وتجرع عقلها ذاك الشعور الدافئ مبتدعا مشاهد حاكتها رغبتها في الأمان.
_ من أنت؟
تقدم الشاب ببطء نحو السرير، ثم جلس على كرسي بجانبها ووضع باقة الورود في حجرها وقال بارتباك وعيناه محدقتان في عينيها.
_ أ ..أ... أنا الذي ... أنا الذي كنت ... لكن لم يكن خطئي ... أنت التي كنت تمشين في مكان غير مسموح به للمشاة، ورأسك منحن إلى الأرض.
_ فلماذا جئت بباقة الورود إذا؟
_ أريد أن أطمئن عليك.
_ تطمئن عليّ! أغرب عن وجهي ... لا أريد أن أراك ... أخرج من هنا حالا.
غادر الشاب غرفتها. أما هي فقرفصت على السرير، تبكي وتندب حظها، تمزق باقة الورود وتصرخ من أنا؟ ما اسمي؟ من أين جئت؟ هل أنا عاقلة أم مجنونة... واحد أم اثنان ... هل أنا موجودة أو غير موجودة ... هل أنا في الواقع أم في الخيال ...إنني أحترق... إنني أطير ولا أسقط ... أغرق ولا أختنق ... هل أنا .... لا ... أنا ... أنا .... من أنا ....
لم تجد جوابا عن أسئلتها .... دموع تسيل وعينان تجولان في تلك الغرفة البكماء إلى أن غطت في نوم عميق بعد حقنة مهدئة. بعد أسبوعين قررت هيفاء الهروب. غيرت ملابسها وتركت حقيبتَها، ثم تسللت من غير أن يراها أحد. بمجرد أن غادرت المبنى، حتى أطلقت ساقيها للريح ، سمعت صوت فرامل السيارة. أخرج السائق رأسه من النافدة صارخا.
_ الجواميس هي التي تمشي بغير انتباه.
نظر إليها يتفحصها مستغربا.
جحظ عيناه غير مصدق ثم أضاف قائلا:
_ أ هذه أنت؟ ماذا تفعلين هنا؟ المفروض ...
_ أريد أن أرحل من هنا. من فضلك ساعدني.
نظر إليها مندهشا وعلى محياه الاستسلام، لوجه بديع، صبيح، غادرته الأسقام. صارت رقيقة وكأنها غصن بان و قضيب من ريحان. ابتسم قائلا:
_ هيا اركبي بسرعة؟
اختفت هيفاء مع ذلك الشاب الذي كان سببا في فقدان ذاكرتها وسببا في منحها حياةً جديدة تختلف عن التي كانت تعيشها. منحها حرية حلمها وحلم حريتها ولم يُعرف حتى الآن من أين أتت وما هي عقيدتها. إلا أنه أصبح اسمها ماريانا وتعيش مع ذلك الشاب الذي داس يوما بعجلات سيارته هيفاء الجزائرية.
Zalia Khairhoum
[email protected]
كاتبة مغربية مقيمة في النرويج
قصة من مجموعة " العربان في بلاد القرصان " التي ستصدر قريبا




#زكية_خيرهم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية -الجمال العربية على الثلوج القطبية -
- أعطيك كل شيء إلا....
- الكعك
- شكرا على هذا الحوار الحضاري الذي نفتقده
- خبر لمن يريد ضحكا كالبكاء -عربي مسلم يغتال ابنتيه دفاعا عن ش ...
- أنا والقراء وتنويعات الشرف العربي
- من معارك الشرف العربي المجيدة
- فحولة الرجل العربي على المحك


المزيد.....




- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زكية خيرهم - هيفاء سابقا