شاكر رزيج قرج
الحوار المتمدن-العدد: 2194 - 2008 / 2 / 17 - 08:39
المحور:
الادب والفن
المنعطف ـــ لـ حنون مجيد
انسانوية الخطاب السردي ، وحلم الوصول الى المدينة الفاضلة .
الوحدات التي يجري تأسيسها لبناء الوقائع والاحداث تمتثل طواعيا لمعايير ورؤى ـ القاص ـ وهي في السياق العام تشكل سلسلة/ سلاسل سردية
تتلاحق بعضها البعض لتتماسك عبر اواصرالزمان / المكان / الظروف / المسببات
في حراك يتجه الى حالة ـ استخلاص النتائج ـ وفق المديات المعرفية للمتلقي .
ان هذه البنى ـ الوحدات ـ تبدأ في الغالب من محطة انطلاق صغيرة تنفتح على الفورـ عقب حركتها ـ على مسارات متعددة / متوافقة / متضادة /متعرجة / ..الخ , صوب ما سمي بـ ـ الذروة ـ climax ـ مع الاخذ في الاعتباران وحدة التركيب الروائي لابد ان تغتني بلحم تتماهى على حوافي الحدث المركزي ، الوقائع
الثانوية ، التزويقية ، التكرار، المط ، الاكليشيهات .... الخ وكل ما يزخم تيار الدفق السردي ، وبتعبيرآخر، ان نقطة البدء تتيح تناسلا غيرمحدد لانساق تنتهي الى بؤر
مشفرة وفراغات وصولا الى القمة ، وهو الاسلوب الذي درج عليه الروائيون ياستثناءات قليلة ، ففي رواية ـ موت معلن ـ هشم غارسيا هذه المسطرية وازاح ـ الذروة ـ
من اعلى الهرم ليقلب الصورة وينزلها البدء .
فالبطل مقتول ، واغتياله لم يأت من فراغ بل نتيجة لوقائع واحداث سبقته ، واننا نمتلك كوم !! من الوحدات السردية التي اوصلتنا الى حادثة الاغتيال ، وان
اثم الزنى !! وفق العرف الاجتماعي السائد استلزم ـ من وجهة نظرالمجتمع او شريحة منه ـ فعل العقاب / الموت / رغم وجود حجيرة متلاصقة له ، هي علاقة
الحب المقدسة والتي ربطت المغدور ببطلة الرواية ـ التي تتذكر ذلك بعد مضي ربع قرن ـ
وغارسيا كروائي عملاق ، قذف بنا الى داخل مصهر الحدث المركزي المعزول ثم اخذ
يكشف لنا على هون الاسباب الخفية ، أي انه قلب الطاولة رأسا على عقب .
في رواية ـ المنعطف ـ يضعنا الروائي حنون مجيد على مقترب من الحدث المركزي ـ وليس داخله ـ لنتلقى معلومة صغيرة عن حادث جلل قد وقع ، اين ، كيف ، متى ، ولماذا ؟؟ اسئلة تختبئ اجوبتها داخل جسد النص ووراء مغاليق محكمة ، يفتحها ابطاله بمفاتيح يحملونها معهم دون غيرهم حيث يتحول هؤلاء ( الحكائون)
الى رواة وشهود ، بينما تتضاءل محورية الراوي ـ المفترض ! ـ انه السارد الوحيد
لجميع الوقائع ليقزمه داخل ملموسيته العيانية المباشرة التي تستعرض نتفا من الاشارات العرضية والتي تقع اصلا خارج الحراك الفعلي للاحداث ، ففي البدء يعثر البدوي على صديقه الراوي ( رجل المدينة المتحضروالذي يقول عنه : ـ بتنا نترقب حلوله كل عام كما تترقب الصحراء مطر الربيع ص 9 ) وهو في الرمق الاخيرليخبره عن المكان الذي انتهت اليه السيارة والاحياء والموتى الذين يحتمل ان يكونوا فيها او في اماكن مختلفة .
والحق ، اننا ازاء هذا الاستهلال التراجيدي ـ الذي هو بالتأكيد جاء نتيجة لتراكمات
كم من الافعال والوقائغ قد حدثت ـ نجهلها تماما ـ انما يؤسس صيغة تعاقدية اولية بيننا كقراء والمعلومات التي ستتدفق عبر سلاسل سردية ـ منعكسة !! ـ بدفع باتجاه
المقدمة البدئية / السلسلة السردية الاولية ، داخل المتن ، ومن ثم الارتقاء صعودا
ليتشكل في النهاية الشكل الكلي المركب للعمل الروائي .
ان هذه الصيغة التعاقدية تشترط وجود قارئ / مفترض ـ حقيقي / يمثل طرف المعادلة السلبي الذي يملأ كأسه ، المسرود الكلي وباستمرار من خلال التسريب والتنافذ
وتدفق متواصل لمجريات الوقائع والاحداث ـ الطرف الايجابي ـ باتجاه شحذ المخيلة الواعية
للمتلقي ، لقبولها كما هي ، ومن ثم يأتي دورنا ، حيث تتسع فضاءات الافكار والحدوسات
والتفسيرات لاظهار صورة ـ الكل الفني المكتمل ، كعنصر اساسي في التركيب المعقد لمشاعرنا
جلية وواضحة .
وحنون مجيد لم يبخل علينا بتوريد ، كم من المعلومات جرى توريدها على السنة العديد من شخوص الرواية ولم ينكفئ عند زاوية او كوة واحدة ، بل استقدم الاحياء
ليتحدثوا عما جرى وجعل بعضهم ـ شهود عدل !! ـ عن الذين ماتوا او اولئك الغائبين
فـ ـ ٍسليم ناصر، هذا المعلم والمتزوج من بدوية وله منها اولادا ، والوحيد المعافى جسديا من بين اكثر من عشرين راكبا في السيارة والذين وجدوا / اكتشفوا انفسهم منصاعين ومجبرين قسرا لرغبات سائق سئ الخلق ، يحدوهم وهم الوصول الى مدينة الاحلام ـ سرمارا ـ (كنا كلما تردد اسم / سرمارا / طرنا اليها مسحورين مشوقين ، اذ كانت لا تزال تلبس في نفوسنا ثوبها الاسطوري وتعيش اجواء الليالي الملونة ، ينتقل اهلها المترفون على بسط من حرير ويتهامسون باجمل القصص واحلى الكلام ص 14 ) ، سليم ناصر هذا ينقلب فجأة عائدا الى مدينته بعد ان يتلقى
خبرا باشتداد مرض امه ، وقبيل ان يخرج من زخم الاحداث ، يكشف بشكل سافرعن بعض شخوص الرواية ليأخذ مساحة مناسبة من فضاءات القص وبشكل ارتدادي الى الماضي ، وفي مقدمتهم ـ طالب عبد الحق ـ المهندس الزراعي ، الذي
يشبه صديقا له التهمته الحرب ، وعن ـ شاكرعبد المجيد ـ وزوجته (.... الذي كان اعظم الركاب قلقا واشد الزوجين ولعا بزوجته ، ص 61 ) وعن زوجين آخرين
هربا من السيارة بعد ان ضاقا ذرعا بتحرشات السائق الشبق ، وعن الاعمى الذي يكشف سرا صغيرا عن السائق الذي يختبئ وراء اسم غير اسمه الحقيقي كونه لقيطا.
وخروج سليم ناصر من / الكادر/ الحاضنة / السيارة ، ما كان ليحدث قبيل ان يقوم بتصويرهذا المكان المغلق ( السيارة) بلقطة سيمية كبيرة ، شدت الى حدما ،
المجموعة الى بعضها وتفعيل دور كل فرد عبر تلاقي وتقاطع افعالها .
الا ان الموائمة والتضاد والايحاءات والارهاصات والافكاروما الى غير ذلك
انما كانت تلتقي عند منطلقين اساسيين ،الاول : هو القناعة بان العربة = المكان الذي
ينزلق فوق مكان ارحب= الطريق الصحراوي ، هو الوسيلة الوحيدة للوصول الى مدينة الحلم ، والثانية : فهو الحلم بذات، المدينة الفاضلة ـ سرمارا ـ والتي تستبطنها ذوات ـ الكل ـ ، والا ما الذي دفعهم الى ركوب المجهول الى شئ موجود في مخيال
كل واحد منهم بلا استثناء .
وما انكفاء سليم ناصر عائدا الا صورة لرجل تخلى في لحظة ضعف عن حلمه ، بل ان قناعاته قد اهتزت من جذورها . وان هذه العودة الى الام المريضة
انم هو ترميز دلالي لمدينته المريضة اصلا .
اما فرار الزوجين : فهو حالة اسقاط سلوكي على خلفية الحدس الشاك باهلية السائق وقدرته على الوصول الى الهدف / الغاية ، وهما حبكتان تسجلان لصالح الرواية ،
هذا الحدس الذي نكتشف انه كان سليما ،ولكن بعد حين ، ففي رواية ـ مستعمرة المياه
ل ـ جاسم عاصي ـ يبدي الجميع / بما فيهم امه / شكوكهم في وصول مردان الى كبد الهورـ كوت حفيظ ـ لكن ارثه ـ سامح ـ يكشف حقيقة الوصول ، ليبرأ اباه .
ا ن ـ حنون مجيد ـ يختم الصيغة التعاقدية بين الافتتاح البدئي لمسروده عند الحدود
اللازمة ، ليواصل الراوي الحكاية حيث انتهى ـ سليم ناصر ـ عندئذ يمكن ان نقول : ان لحظة التحرك عند المنعطف الصحراوي ، قد خلقت ، قطعا حادا ما بين القناعات المكتسبة وما بين الشكوك التي اخذت تنمو كالطحالب في روؤس المسافرين الحالمين .
فالسلوك الشائن للسائق والذي مهد سليم ناصر والراوي بعض ملامحه في البدء ، اخذ بالتعاظم والتطاول حتى تحول الى تنين ربت على صدور الجميع .
وكان مقتل ـ الاعمى ـ عند توقف السيارة قرب التلة ، فعل القشة التي قصمت ظهر البعير ، حيث اخذت اصوات الاحتجاج تتعالى وتتعاظم ، ولئن كان الاعمى الاول من فتح نافذة التمرد ، فان صوت ـ نديم الضاري ـ كان الاكثر وضوحا ( انت تهلكنا يا هذا ... كفانا صمتا وكفاك تماديا ، اوقف عربتك اللعينة هذه ولا تغامرعبثا بما تبقى
فيها من وقود وبالتالي بحياتنا ص 100) ولكي يستنهض همم الاخرين يهتف :( لقد
اعتدى هذا الفاسق الفظعلى رجولتنا ولوث انفاسنا ولم يترك للشائنة مجالاالا وطرقه
ولا منفذا الا نفذ من خلاله .... هو يقتلنا جميعا على مرأى من عيوننا ومسمع من آذاننا ص 106 ) الا ان حركة الاحتجاج والتمردكانت مأسورة ومكبلة ، حتى قرار الانعطاف والخروج نهائيا عن الطريق السوي نحو تيه الصحراء ، رغبة من السائق
وتهوره بحجة اختصار الطريق ، لم يصطدم بعوائق حقيقية مؤثرة ،وظلت الاصوات المحتجة ، خجولة تضرب على طبل صفيح اجوف ، لم ترتق الى مستوى
هذا القرارالحاسم والمصيري والذي يضعهم على مفترقين لا ثالث لهما ، اما نيل الحلم بالوصول الى ـ سرمارا ـ او الموت / مع الاقرار بان هاجسهم كان يميل الى
المفترق الثاني ،الا وهو الموت ، وهذا ما حدث فعلا باستثناء العدد القليل .
ان انفتاح النص على مسارات وفضاءات متعددة ومتنوعة ، مع تحديد الوحدات
الاسية للسرد والتشديد عليها ،كذا الانعطافات والتوقفات والكوابح والمواقف المتوافقة والمختلفة والافكار، مزايا تمنح النص سمات فسيفسائية متماسكة وهو ( مشروع في غاية الصعوبة ـ سيد محمد سيد حسن ) ،
ومن الانصاف القول : ان رواية المنعطف من هذا الجنس ، فالحلم ـ سرمارا ـ
نراه بما هو فاعل في افكارنا حتى وان كان سرابا لاوجود له ، والا كيف استطاع
رجل دنئ ، فاسق مهوس من استمالة هذه المجموعة للمضي بهم عبر الصحراء
ثم جرهم الى منعطف لم يسبق لاحد الولوج فيه .
ولعل من مزايا هذه الرواية ، هو تمكنها من لملمة وجمع شرائح اجتماعية
مختلفة عايشت اوضاعا متنوعة ، ولكل واحدة منها حياتها وافكارها الخاصة
بها ، ووضعها تحت مظلة واحدة ، متطلعة للوصل الى هدف واحد .
ان رواية ـ المنعطف ـ وبما اشتملت بنيتها الشكلية من ثيمة وحبكات متعاقبة
وتسارع وشحوب الزمن وتنوع وتغير المكان ـ المحيط ـ وتلاقي وتضاد المقامات
ـ الافعال ـ انما نجدها على مقربة شديدة ومفهوم ـ الخطاب السياسي ـ دون ان تكون
للمباشرة أي سطوة ، او اثر او اشارة قريبة كانت او بعيدة ، وهذه ميزة اخرى تعلق
على صدر مبدعها .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟