أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد نورالله - عن التقاليد الإجتماعية















المزيد.....



عن التقاليد الإجتماعية


محمد نورالله

الحوار المتمدن-العدد: 2161 - 2008 / 1 / 15 - 07:34
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مقدمة

يمكن للتقاليد أن تعرف بعدة طرق، بالشكل المطلق التقاليد هي المفاهيم والمعارف الموروثة والتي تنتقل من الماضي إلى الحاضر في المجتمع.

وهو التعريف الأكثر أساسية من التعريف العام الذي يقصد به مجموعة الأفعال والممارسات التي يتم تكرارها خلال الزمن . نستطيع أن نعرف تقليداً ما بأنه قصة أو عادة يتم تمريرها عبر الأجيال إما بشكل شفهي أو بشكل مدون كأشعار أو قصص أو معتقدات أو أفعال وممارسات متكررة. والأمثلة على التقاليد والأعراف كثيرة وغنية عن الشرح، طقوس الزواج والاحتفالات هي تقاليد. الأنظمة الاجتماعية المتبعة في بعض المعاملات والعلاقات الإنسانية. بعض الاعتقادات والخرافات هي تقاليد أيضاً. الأديان والممارسات الدينية تدخل حتماً ضمن التقاليد بمفهومها الواسع. وهي حتما لا تخرج عنه في مقالنا هذا.

والتقاليد هي أنظمة خفية غير مدونة أحيانا إن جاز التعبير لكنها تحكم الجزء الأكبر من أفعالنا وتصرفاتنا، يبقى العقل والمنطق يعانيان من صراع دائم مع العديد من هذه التقاليد في مختلف مجالات الحياة. لا نريد الخوض في تقييم التقاليد سلباً أو إيجابا بشكل مباشر، الأهم من ذلك برأيي هو كيفية تناول هذه التقاليد ومحاكمتها منطقياً وعقلانياً وبشكل علمي في البداية. وللفرد بعد ذلك القرار بصلاحها أو فسادها. الهدف من هذا الطرح هو اعداد الوسائل التي تساعدنا على فهم التقاليد قبل الحكم عليها.

من أوائل من بدؤوا بمحاولات ربط المنطق والعقل بالتقاليد والأعراف هو الطبيب والفيلسوف اليهودي الأندلسي موسى بن ميمون الذي عمل طبيبا لدى صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر. فقد بدأ بتأمل القوانين التي تحكم العادات المقدسة في سفر اللاويين – السفر الثالث من أسفار العهد القديم . هل يجب علينا أن نطيع تلك الأنظمة لمجرد أننا أمرنا بإطاعتها؟ أم أننا نطيعها لأنها تمثل نصائح حكيمة عن عاداتنا في الأكل والصحة؟ هذا ما سأل نفسه موسى بن ميمون كطبيب في تلك الفترة. ورغم أنه في النهاية قام بتفنيد التعاليم المقدسة بشكل عقلاني ليضع لها سبباً منطقيا فإن مجرد طرحه لهذا السؤال كان نقطة جريئة في عصره.

إن المجتمع الذي يتبع الأعراف والتقاليد نفسها بشكل روتيني لقرون من الزمن يجد صعوبة في تقبل فكرة أن البشر قد يتبعون عادات أو تقاليد مختلفة. وأي اقتراح أو فكرة من أجل التغيير سيقابلها المجتمع برد فعل قوي يتمثل بالرفض وعدم التصديق. لكن القيمة الأخلاقية لهذه التقاليد تبدأ بالتلاشي عندما يدرك بعض من هذا المجتمع أن الآخرين من مجتمعات أخرى يعيشون بتقاليد مختلفة، وهنا يضطر المجتمع لطرح أسئلة جديدة " كيف يستطيع الآخرون القيام بما يفعلونه بطرق مختلفة؟" . لقد لاحظ الفيلسوف والناقد الإغريقي زينوفانيس أن كل حضارة خلقت آلهتها بتصورها الخاص الذي يعكس مميزات تلك الحضارة وثقافتها وإذا أردنا إسقاط هذه النظرة على أيامنا هذه ألا يعني هذا أن كل ثقافة قامت بطرح عادات وتقاليد تقوم بمحاكاة مجتمعها؟ إن كان هذا صحيحاً فلا طائل من المقارنة لأن لكل حضارة تقاليدها التي تناسبها.

هذا الاستنتاج قد يبدو مرضيا للوهلة الأولى، لكن نظرة أعمق تظهر صعوبات ومشاكل أعمق، ماذا عن التقاليد القاسية كتقاليد التضحية بالأطفال للآلهة؟ هل يمكن أن نقول أن هذه التقاليد تناسب الحضارات التي تتبناها؟ في مجتمعاتنا الشرقية مثلاً ماذا عن التقليد الذي يجيز للرجل قتل المرأة بحجة الشرف؟ هل نستطيع القول أن هذا تقليداً مناسباً لثقافة هذا المجتمع؟ إن اتفقنا أن التقاليد هي نتاج مناسب لكل ثقافة فهذا يعني أن علينا أن نصمت أمام أكثر التقاليد قسوة أو وحشية وأن نقبلها لو كانت منافية للعقل والمنطق.

غالبا ما يستخدم بعض أعداء التقاليد "الغريبة" الحجة المنطقية التالية: "التقاليد التي نعتقد أنها ذات سلطة مطلقة على البشر ليست إلا التقاليد التي ورثناها وقبلناها بشكل أعمى وبدون تفكير". وكما أن هذا الاعتراض يحمل المنطق في طياته فإن الاستنتاج التالي أيضا لا يخلو من المنطق: " إن كنا لا نستطيع أن نستخدم تقاليدنا لمهاجمة تقاليد الآخر وموروثه الثقافي، فلا يستطيع الآخر أيضا أن يهاجمنا وعليه أن يجد المبرر لتلك التقاليد القاسية التي نتبناها. "وبالتالي فإن أي مؤمن بنسبية التقاليد من وجهة نظره سيقع في معضلة رجعية تقول أن كل الثقافات، بما فيها ثقافة الناقد، هي ثقافات غير مطلقة، وهذا يعني أنه من المستحيل أن يتم الحكم على أي منها بمقاييس تقدمها ثقافة أخرى فالموضوع نسبي ولا توجد مقاييس عليا للحكم عليها، قد تكون مقاييس نقد مقدمة من إحدى الثقافات غير متفقة إطلاقا مع ثقافة أخرى.

وفي هذه التناقضات فإن لدينا بديلين اثنين. إما أن نهجر المقاييس التي نحكم بها على التقاليد أو أن نهجر التقاليد التي تتعارض مع تلك المقاييس. وهذا أيضا يضعنا في مفارقة جديدة. فمن يدافع عن التقاليد عليه أن يتبنى فكرة ناقدي التقاليد التي تقول بعدم وجود معايير تحكم بها حضارة على أخرى وعلى تقاليدها. وبهذه الطريقة يتم حفظ تقلي ما من مقياس أو معيار آخر يقوم بحذفه. وبنفس الوقت فإن من يحاول الدفاع عن التقاليد بإظهار أنها تتفق مع معايير معينة فهو يقودها إلى الفناء في النهاية.

تلك كانت تماما المشكلة التي واجهت موسى بن ميمون عندما اختار أن يدافع هن التقاليد اليهودية المقدسة المتعلقة بعادات الأكل والصحة والتي كانت تمس علمه بالتغذية والطعام. وشعر أن عليه أن يدافع عن تلك التعاليم مستخدما منطقه وعلمه. فكر موسى.. "إن كانت تلك التعاليم تقتضي أن تؤمن لليهود معلومات هامة عن الصحة وأخطار بعض الأنواع من الطعام وفوائد بعضها الآخر فإن وجود نص يفسر تلك التعاليم التي تخص تلك العادات بنصوص علمية واضحة مكتوبة حديثة (بالنسبة لزمنه) سيجعل النصوص الأصلية زائدة ولا قيمة لها."

إن الدفاع عن تلك العادات بهذه الطريقة يجعل التقاليد عبارة عن طريقة بدائية للقيام بما يستطيع العلم أن يقوم به بشكل أفضل. وهنا تكمن المعضلة: إن كان التقليد عبارة عن منطق مخفي في نصوص غامضة فعلينا شرح النص ورمي التقليد بنصه الأصلي. إن كان أكل لحم الخنزير حقاً يسبب بعد أمراضي الديدان فإن علينا أن ندرج تلك الحقيقة العلمية بشكلها البسيط الواضح ونترك لمن يقدرون الفكرة العلمية تقييم فوائد أو مضار أكل لحم الخنزير.

هذا الحل كان مدعوما من قبل من يواجه التقاليد بالمنطق والعقل. ومنهم أوغست كونت مؤسس المذهب الوضعي، الذي كان وأمثاله مستعدين للإعتراف بأن قيمة التقاليد هي بكونها خدمت هدفاً تعليمياً وبكونها تمثل معارف البشر خلال تطورهم الفكري، تماما كما نظر المفكر الألماني غوتهولد إفرايم ليسنغ إلى النصوص الدينية. لكن ومهما حاولنا الحفاظ على هذه الأطروحة فإن البشر سيتقدمون في معارفهم إلى درجة تجعلهم لا يأخذون بتلك الطرق المعرفية القديمة ويتحولون إلى طرق تخدم أهدافهم بشكل أكبر (العلم والمنطق بدلاً من التقليد والإعتقاد).

في مقابل هذه الطرق في التفكير، فقد ظهرت ثلاث تيارات حاولت فهم التقليد بحد ذاته وبشكله المجرد المنقول الغير معدل، وباءت تلك الأفكار بالفشل الذريع.

أولاً: التقاليد هي خيال مفيد.

هذا الاتجاه دافع عن التقاليد بقوله أنها وسائل معرفة ناقصة لكنها مفيدة لمن يعجز عن فهم الحقائق العلمية بشكلها الحقيقي. فهي كالسكر الذي يحيط بحبة الدواء ليجعل طعمها أفضل. وبينما كان ابن ميمون الطبيب يستطيع أن يرى فوائد عادات الأكل بشكل علمي في وقته فإن هذا الشكل من المعرفة لم يكن متوفرا للعامة وصحتهم مهمة أيضاً وكان لا بد من تقديم تلك المعلومة للعامة بشكل أو بآخر وأسهل وأفضل طريقة هي تقديمها لهم بشكلها المقدس كتعاليم دينية.

إن هذه الفكرة ظهرت في بداياتها في نقاش أفلاطون حول فكرة "الكذبة النبيلة"، ثم عادت للظهور مع موسى بن ميمون والكثير من الفلاسفة المسلمين في العصور الوسطى. وعادت إلى العالم الحديث في فكر ليو ستراوس وأتباعه. الفكرة تشير إلى أن التقليد دعامة هامة للعامة لا يستطيعون العيش بدونها دون أن تحدث الفوضى بينهم. فالعامة يحتاجون الأساطير والخيالات بينما تكون النخبة في غنى عن ذلك. هذه النخبة عليها أن تخفي نقدها وشكوكها عن العامة درءاً للفوضى.

ثانياً: حجة الشك.

هذا الدفاع عن التقاليد يذهب إلى الطرف النقيض للحجة السابقة بشكل كبير. فهي تشير إلى أن أكثر الأفراد ذكاء ومعرفة لا يمكن الوثوق بفهمهم للتقاليد والعادات بشكل كامل. لأننا دائما نجد في التقاليد شيئاً لا تستطيع أكثر العلوم تقدما فهمه وسبر أغواره، ولأن الخطر دائما قائم إذا أردنا استبدال التقاليد الموروثة بآخر العلوم الحديثة والمعرفية. أيضاً لا يمكننا الوثوق بالنخبة المفكرة في رأيها بصلاح أو فساد أي من التقاليد لأن التقاليد قد تحمل في طياتها حكمة مبينة على المعرفة البشرية الطويلة وهي بذلك تفوق فهم فئة معينة من البشر أو جيل النخبة بحد ذاته.

إن صيغة هذا الجدل تبدأ بسؤال بسيط جداً: عندما ننظر إلى تقليد موروث في مجتمع ما، كيف لنا أن نعرف أن هذا التقليد حيوي ومهم، أو أنه غير لازم وواجب الإزالة؟ نعم قد نعتقد أننا نستطيع العيش بدون تقليد معين لكن الطريقة الوحيدة لمعرفة ذلك هي بالتخلص منه لنر ما الذي سيحصل. وهذه بحد ذاتها مشكلة، لأننا عندما نتعامل مع منظومة معقدة (المجتمع) كيف لنا أن نعرف النتائج الغير متوقعة لزوال عادة أو تقليد ما؟ الأفضل إذا أن نتبنى مبدأ الشكل ونعترف بمحدودية معارفنا مهما كانت.

إن فكرة التشكيك هذه مفيدة للتذكير بأن المجتمعات معقدة لدرجة تجعل من الواجب التعامل معها بحذر خصوصا في ضوء المحاولات التي بدأت في القرن العشرين لصهر كل التقاليد وخلق نظام اجتماعي جديد، بل وإنسان جديد من الصفر. لكن هذه الفكرة لا قيمة لها على نطاق تحديد اذا ما كان على تقليد ما أن يستبعد أو يتم تبنيه.

المشكلة في هذا الدفاع أنه يستطيع أن يدافع عن التقاليد بشكل عام لكنه لا يستطيع أن يحمي تقليدا ما من النقد أو التشكيك، وهذا السبب في طبيعة التشكيك الكبيرة الموجودة في هذه الفكرة أصلاً فالطرح الأصلي يقول أنه قد يكون من الخطر تغيير تقليد ما، ليس لأنه لا منطقي أو منطقي، بل لأننا ببساطة لا نعرف نتائج هذا التغيير إن كانت مفيدة للمجتمع أو لا. هذه الفكرة على سبيل المثال تشير إلى أن التخلص من تقاليد العبودية والنخاسة قد تطلق نتائج كارثية غير متوقعة . وهو السبب الذي دافع البعض لأجله عن العبودية قبل موتها.

ثالثاً: دفاع فريدريك هايك.

في القرن العشرين، حاول الفيلسوف فريدريك هايك الدفاع عن عقلانية التقاليد بوسائل دعاها (النموذج التطوري). أراد هايك أن يقدم سبباً لاحترام التقاليد يذهب أبعد من حجة التشكيك. فحجته بكل بساطة تقول أن بقاء التقليد واستمراره عبر الأجيال والعصور يعني أنه صالح للبقاء مثله مثل فكرة دارون بأن الأنواع الباقية هي الأنواع الصالحة للبقاء ضمن الظروف.

طبعا هايك لم يكن جدله مبني على أن اعتقادا ما استمر لأنه حقيقي. لكنه كان يقول أن التقليد أو الاعتقاد مناسب لمن مارسه لمدة طويلة من الزمن أو بكلماته بشكل أدق "عاداتنا ومهاراتنا وحالاتنا العاطفية، أدواتنا ومنظوماتنا الاجتماعية باقية معنا الآن لأنها خضعت لتجارب الزمن الذي قام بتنحية غير المناسب منها والإبقاء على ما هو ملائم ومتكيّف".

القياس والمقارنة هنا مع نظرية دارون واضح تماما من كلامه عن التكيف والتنحية. وقد يبدو هذا التفسير للتقاليد والدفاع عنها أكثرها عقلانية ومنطقية. بل هو يعطي حلاً في انتقاء ما هو صالح من تقاليدنا الموروثة واستبعاد ما هو غير صالح. فهل هذا صحيح؟

نمور كارك بوبر.

قام كارل بوبر بطرح فكرة تخيلية عن قرية في الهند يعتقد سكانها أن النمور غير مؤذية. هذا الاعتقاد مات ولم يستمر وفقاً لبوبر لأن من اعتقد به لم يحتط من النمور وقامت بدورها بافتراسه.

إن أناقة فكرة بوبر تكمن في توافقها مع فكرة داروين بإقصاء الأفراد الغير ملائمين للبقاء وفي نفس الوقت تشير إلى التقاليد والمعتقدات الغير منطقية التي قادت إلى انقراض الأفراد. وهذا يبدو أنه يقدم لنا الأداة المثالية لاتخاذ القرار فيما يتعلق بالعادات والتقاليد، فإن كان أحد التقاليد الموروثة يؤدي إلى فناء من يقوم بتبنيه فإن التخلص واجب من هذا التقليد قبل أن يقضي على من يتبناه. إن الاعتقاد بأن النمور غير مؤذية لا يستطيع منافسة اعتقاد آخر يقول بأن النمور مؤذية. وهكذا يبدو أننا أخيراً قمنا بحل هذه المشكلة في الحكم على التقاليد بأنها عقلانية أو لا.فأي تقليد يقود إلى الفناء الحيوي بشكل مجرد هو تقليد لا عقلاني.

المشكلة أن هذا التقييم لا يمكن وضعه بمساواة نظرية دارون بسبب وجود حالات تناقض استنتاجاته تماماً. قد تكون هذه الفكرة صحيحة في بعض الشعوب والقبائل التي تتخذ مناهج دفن الأطفال الرضع أو شعائر دينية تقود إلى الانتحار الجماعي أو أي من التقاليد التي تقوم بالقضاء على النوع بفترة وجيزة لكن هذه المجتمعات أصلا لا يمكن العثور عليها بسهولة ولا فائدة من الفكرة لأن تقاليدها تختفي معها بسرعة. على الجهة الأخرى نجد أن بعض السكان البدائيين في بعض جزر الشرق الصغيرة انتهجوا تقليدا بقطع الأشجار في أماكن تجمعهم وهذا تقليد قد يبدوا أنه يقود إلى فنائهم لكنهم لازالوا باقين. في الواقع فإن أكثر الأمثلة اتفاقاً مع هذه النظرية لازال موجودا على أرض الواقع. بعض فئات الشيكرز في أمريكا لديهم تقليد يرفض الإنجاب بكل أشكاله لاعتقادهم أن البشر يقومون بتلويث كوكب الأرض. إن هذه الفئة حافظت على وجودها بسبب قدرتها على ضم المزيد إليها والحفاظ على أعدادها. في الواقع فإن احتمال انضمام المزيد إليهم والحفاظ على هذا المعتقد وزيادة جماعتهم موجود وبقوة.

كل ذلك يسقط فكرة هايك تماماً، بل إن فكرته تعني أن كل التقاليد الموجودة استمرت لأنها عقلانية ومنطقية وقادرة على البقاء وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نبعد أياً منها لأن وجودها يفرض عقلانيتها. المثير أن فكرة هايك تعود بنا إلى بدايات الحديث، فما هو (لا عقلاني) في حضارة أو ثقافة ما يكون (عقلانيا وطبيعيا جدا ) في حضارة أو ثقافة أخرى. وهذا هو السبب الذي جعل مقياس هايك لا ينفع كمعيار قياسي مطلق.

الخطأ البيّن.

كل ما تتفق عليه تلك النظريات هو أن التقاليد عبارات تقوم بتمرير معلومات عبر الأجيال يمكن في النهاية أن نقوم بتقييمها على أنها صحيحة أو خاطئة. وأن التقاليد يمكن تبرير عقلانيتها إلى الحد الذي يجعلها طريقة في إيصال الحقيقة. هذا هو السبب الذي جعل ابن ميمون في النهاية يميل إلى طرف التقاليد رغم أسئلته حول المعتقدات اليهودية عن العادات في الأكل. لكن ماذا لو أنه لم يجد أي نص مقدس يدعم تلك العادات في العهد القديم؟

إن فكرة ابن ميمون عندها ستتحول من الدفاع عن التقليد إلى هدمه بشكل واضح واستبداله بالنص العلمي، لأن العلم سيقدم الفكرة بشكل أصح وأدق من التقاليد. الحقيقة أن العامة الجاهلة قد تبقى محافظة على التقليد، ولكن النخبة المثقفة سترميه حتماً.

ماذا لو كانت التقاليد في ثقافة ما لا تحمل طابع المعلومة المباشرة بل الطابع التفضيلي؟ كأن نقول "لا داعي لمقاومة النمور" بدلا من القول "النمور غير مؤذية". أو القول "الامتناع عن الإنجاب أفضل من الإنجاب" بدلاً من القول "الإنجاب ممنوع". الحقيقة أن التقاليد تبدأ بصيغة الأمر المباشر لكنها تتحول في مرحلة لاحقة من أوامر إلى صيغة اقتراحات ونصائح. وبالعودة إلى البدايات نستطيع القول كما قال غوته، أن الفعل أتى قبل الكلمة في البداية، أو كما أشار هيغل فإن التقاليد تبدأ كأوامر ملزمة غريزية في الإنسان قبل أن تنعكس فكرتها في عقله.

إن التفسير الذكي للتقليد كجزء أساسي من تعليمات مصطلحة تكون صحتها أو خطؤها محل جدل يوجد ضمن الجهود المبذولة لإيجاد هدف أو طريقة حيادية للحكم على تقليد ما. يتضح هذا الأمر بهجوم الفكر التنويري على التقاليد باعتبارها خرافات قديمة – فكرة قام هايك بدحضها بشكل واضح. فالتقليد كما أدركه قد يكون مبنيا على أسس غير منطقية أو لا عقلانية لكن هذا لا يجعل التقليد غير مفيد أو ضروري لمن يعتنقونه. لو أن قبيلة قامت بتحريم سفاح القربى لأنها تعتقد أن الذرية الناتجة منه قد تتحول إلى صراصير عملاقة فهذا لا يعني أن التقليد غير مفيد لهم لأنه غير منطقي.

من هذه الفكرة كان هايك قد وصل إلى نقطة مهمة جدا في فهم التقاليد لكنه للأسف اتجه نحو الفكرة التطورية للتقاليد قبل أن يقوم بدراستها بشكل أكبر. لأننا نستنتج الآن أن كل تقليد نتبعه يمكن فصله إلى مرحلتين، الأولى ظاهرة سلوكية أو ما يمكن أن ندعوه شيفرة غريزية موجودة ضمن نظامنا الفكري والعصبي والغددي، والثانية هي القيمة المتلازمة التي يمكن نقاشها وتحليلها ونقدها أو الدفاع عنها بالكلمات.

في حالة التقاليد التي تحرم سفاح القربى فإن شكلها البدائي (شيفرتها الغريزية) تظهر بشكل أوامر وتعليمات وتحريمات تمنع الأخوة والأخوات و الآباء والأبناء من الزواج. هي تعمل على برمجة الأفراد بشكل يجعلهم يتجنبون سفاح القربى. أما شكلها الآخر فيمكن إطلاق عليه البنية الإيديولوجية للتقاليد، مجموعة من الخرافات والعبارات يستخدمها المجتمع لتبرير الأوامر والتحريمات، في مثالنا فهي تتمثل بالصراصير العملاقة الناتجة عن زواج الأقارب. وهو الشكل الذي يستخدم كحجة قوية لتبرير العادة التي نشأ عنها أصلاً وهو الشكل المتجسد في الفكر الإجتماعي.

الآن.. عند تقييم تقليد على أنه مفيد أو غير مفيد علينا أن نتذكر دوما الشكلين المنفصلين له، لدينا معياران مختلفان لتقييم أي تقليد. الأول هو مدى فائدة التقليد على المستوى الأول. أو بقول آخر (شيفرته الغريزية). والمعيار الثاني هو البنية الإيديولوجية والفكرية الناتجة عنه وقيمتها لذلك المجتمع.

لكن من الواضح أن هذه الفكرة ستضعنا فوراً في تناقض واضح. ومثال تحريم زواج القربى يدل على ذلك. رغم أن التقليد في شيفرته الغريزية ينجح في منع زواج القربى إلا أن شكله الإيديولوجي (الأسطورة المرتبطة به) يدفع بعض الأفراد مع الزمن إلى تحديه والتعدي عليه على أساس المعلومات التي نتجت من تجارب حقيقية والتي تقول أنه لا يمكن أن ينتج من زواج الأقارب صراصير عملاقة.

أو بمعنى آخر فإن المجموعة تصبح أكثر تنوراً وأكثر قابلية لتحدي التقليد على أساس أسطورته التقليدية، وهذا بدوره يهدد رغبة المجموعة في الحفاظ على هذا التقليد، فإن بدأ الجميع باكتشاف أن من يمارسون سفاح القربى لا ينتجون صراصير عملاقة، فما الفائدة من تعليم الأطفال الابتعاد عن سفاح القربى؟

والتقليد الذي يفقد فكرته الأخلاقية يصبح عرضة للنقد والمقارنة والسؤال، ما الذي يميز هذا التقليد عن تقليد لمجتمع مختلف؟ في الحقيقة كان هذا هو المنهج الذي اتبعه المحاربون الإغريق القدماء اللذين دعوا بالصوفيين في ذلك الزمن، فهم وبسبب حياتهم المليئة بالترحال والتجوال كانوا دائما يضعون التقاليد تحت عدسة السؤال، وكانوا غالباً ما يسببون البلبلة بين المجتمعات التي يمرون عليها وهذا يفسر ردة الفعل العنيفة تجاههم من حكام المدن التي كانوا يمرون بها.

إن المنطق والعقلانية والبحث الغير منتهي عن الحقيقة، كلها تعتبر قيم نبيلة، لكن لا أحد واع يقبل أن تستخدم هذه القيم ضده لتقوض سعادته وسكونه، تخيل ردة فعلك إن أخبرك أحدهم أن زوجك يقوم بخيانتك دون علمك، أو بدأ بإخبارك بالأفعال التي يقوم بها أطفالك المراهقون دون علمك، نعم، نحن نعترف أن هناك العديد من الأمور التي لا نعرفها عن الناس الذين نحبهم، وأن علينا أن نأخذ الكثير من المسلمات بشكل أعمى – ورغم أنها الكثير من القضايا التي يثيرها الشك فنحن لسنا دوما بحاجة لسماعها ولا نرغب بذلك في الحقيقة.

هذه الفكرة نستطيع استيعابها عندما نتحدث على المستوى الفردي لكننا نفشل في تقييمها على مستوى الجماعة. أليس لمجتمع ما الحق في أن يدافع عن عاداته المدللة ضد الهجوم الذي يثيره الجدل والشك؟ خصوصا عندما يكون هدف المناقش تدمير أساس تلك العادة وتغييرها بشكل جذري؟ إن هذه العادات المتأصلة هي تماما كالـ DNA الخاص بالمجموعة ككل. فهي تخبرنا عن رد الفعل الذي يجب إبداؤه عند ظهور العواطف الاجتماعية كالعار، والشرف، والكبرياء. إنها تخبرنا كيف يجب أن نتصرف. هي ما تجعلنا على ما نحن عليه ضمن المجتمع تماما كما يخبرنا أهلنا عن كيفية التصرف عندما نكون أطفالاً. إنها الهدف الروحي والعقل المجمِّع بنظر هيغل، لكنها تتمثل بردود فعل آلية مرتبطة بشكل وثيق بنا أكثر ما نتخيل. تعمل بواسطة الأدرينالين والدم المتدفق إلى وجوهنا. هي التي تجعلنا نعرف أنفسنا وتحدد دور أفعالنا. باختصار شديد هي الدستور الذي يحكم وجودنا. ولا نستطيع سؤال إذا ما كانت هذه التقاليد الغريزية مفيدة لمجتمع ما لأنها بذاتها هي التي تكون هذا المجتمع وهي شرط مسبق وضروري لتحقيق أي منظومة اجتماعية. لذا فإنه من الخطأ تقييم أي عادة أو تقليد بشكل مجرد.

وهي ليست فقط مهمة لإنتاج رجال ونساء شرفاء بنظر مجتمعهم، فلإنتاج مجموعة من القيم الاجتماعية الجيدة لمجتمع ما على المجتمع أولاً أن ينتج أفراداً فاعلين قادرين على تحقيق تلك القيم. عليك أن تنتج أفراداً لديهم الجرأة الكبيرة للدفاع عن مجتمعهم. عليك أن تنتج حكماء كي تحافظ على مسار مستقر للمجتمع، عليك أن تنتج أفرادا قادرين على التحكم بدوافعهم كي تجعل المجتمع منظماً. وتلك الأسباب السابقة هي تماما ما يفسر ردة الفعل العنيفة في المجتمع ضد من يحاول تغيير عادة ما أو قيمة معينة. فذلك لا يعرض الإيديولوجية السطحية للمجتمع للخطر فحسب، بل القيمة الأخلاقية التي بنيت عليها تلك العادة أو تلك الشيفرة الغريزية الموروثة.

التقاليد كوصفات طبخ

التقليد إذا هو الطريقة الوحيدة الممكنة لنقل عادات المجتمع الحيوية، والتقليد يعمل كوصفة تجعل الفرد يشعر ويتصرف كما يفعل المجتمع الذي يعيش فيه.

وكوصفات الطبخ تماما فإن تلك التقاليد لا تطلب منك بشكل مباشر آمر وصارم إتباعها. هي تقول لك "لكي تصنع الباستا على سبيل المثال، أنت بحاجة للمعكرونة الإيطالية والصلصة، إذا أردت أن تجرب شيئا آخر فأنت حر، تستطيع تغيير الصلصة، تستطيع إضافة الطماطم أو الزيتون أو السبانخ أو تستطيع استبدال المعكرونة بأنواع أخرى مختلفة، لكنها في النهاية ستحقق الهدف المرجو وهو طبق من الباستا"

هذه المقارنة تعطينا نظرة جديدة للتقاليد، "هذا ما عليك فعله إذا أردت أن تصل إلى مجتمع معين، وهذه هي الخيارات لديك بعد أن تكون قد حققت الأساسيات المطلوبة للوصول إلى هذا المجتمع".

وعندما ننظر إلى التقاليد أو العادات أو الدساتير بهذه الطريقة فإننا ندرك فورا أن لا فائدة من أن ننعتها بالصحة أو الخطأ. هل كانت وصفة فلان لطبق المعكرونة صحيحة أم خاطئة؟ هذا لا يهم فهي بنظره صحيحة، وكمان أن الأطباق تختلف في طريقة صنعها في البلاد فهذا لا يعني أنها خاطئة. بل صحيحة نسبة إلى المجتمع التي تقدم فيه. الهنود يحبون الكثير من التوابل، لكن الأمريكيين الجنوبيين لا يفضلون ذلك. كيف يمكن أن نجد طريقة حيادية نقيم بها أي منهم أفضل؟

إذا لنعترف بحقيقة واضحة، لا أحد يستطيع أن يكون في مكان يستطيع فيه الحكم على تقليد بأنه أفضل من غيره أو أسوأ في عدة حضارات أو مجتمعات. لكن هناك مقياس يستطيع كل فرد أن يحدد عن طريقه ما هو الأنسب له، الوصفة القديمة، أم الجديدة.

وإذا أردنا تعميم الفكرة بشكل أكبر، فنحن نستطيع أن نسأل أنفسنا، هل يعجبنا وضعنا كما هو عليه اليوم، أو كمان كان في الماضي؟ ونستطيع المقارنة بنفس الطريقة بشكل جماعي، فأعضاء ناد ما يستطيعون أن يقرروا إذا ما كان يعجبهم الزي القديم أو زي جديد. قد تتغير نظرة فريق رياضي إلى فكرة ما مع الزمن، أو نظرة دينية متجددة على مذهب ديني. وبالتحدث بشكل أعم، فإن المجتمع يستطيع أن يقرر إن كان يفضل العادات القديمة أو العادات الجديدة فيه. إن العقلين (الفردي وعقل المجتمع) يستطيعان إجراء المقارنات واكتشاف ما يفضلونه. هل هو ما سبق أم ما سيأتي. بين الطفولة والنضج مثلا، إن الناضج وحده يستطيع أن يقرر انتقاء أقرباءه المفضلين والمكروهين، فقط الشخص الذي مر بخبرة السكر يستطيع أن يقيم فكرة العقل الخال من الكحول ويقرر إن كان يريد السكر أم الصحو في المرة التالية.

وقد يقرر الفرد تجربة أشياء جديدة تعجبه ويرفض العودة إلى القديم، وهذا ينطبق على المجتمع أيضاً. خلال ثورة ميجي في القرن التاسع عشر في اليابان فإن مجتمعا بأكمله قام بتنقيح العديد من تقاليده لأجل الحفاظ على استقلاله وعدم الوقوع ضحية الإمبريالية الثائرة التي جعلت الصين جارة اليابان ضعيفة ومشوهة. المجتمع الياباني وبإدراكه لحتمية التغيير قام باستيراد التقاليد الجديدة من الغرب بطريقة مختلفة. قاموا بإرسال الشباب الياباني إلى الغرب لدراسة هذه العادات والتقاليد الموجودة في أوروبة والولايات المتحدة بشكل جريء وعميق.

لقد استطاع اليابانيون الوصول إلى معرفة عميقة بالغرب بالطريقة الوحيدة التي يمكن فيها تحقيق ذلك، وهي بتمثيل الثقافة الغربية داخل اليابان وسحبها إلى مجتمعهم ثم تقييمها ضمن مجتمعهم. وهذا يوضح قيمة انتقال التقاليد بين المجتمعات. فهي قديمة في المجتمع الذي أنشأها لكنها جديدة في المجتمع الذي يستوردها ويتبناها. في الحالة الأولى هي تمثل حكمة أجدادنا، وفي الحالة الثانية تمثل الإبداع والتجديد الناتج عن البشر.

يمكن أيضاً أن يكون التقليد ميراثا سلبياً من الماضي يشكل عبئا على الأجيال الحالية، أو يكون وسيلة لنقل الجيل الحالي إلى شكل يتوافق مع تقليد آخر من حضارة أخرى. يمكن للمجتمع أيضاً أن يبعث روحاً جديدة في تقليد في طور السبات أو في عداد التقاليد الميتة ليحوله من أثر قديم إلى معلم من معالم المستقبل. يمكن للمجتمع أيضاً أن يغير شكل التقليد و أيديلوجيته أو أسطورته ويحافظ على شيفرته الغريزية كما فعل ملحدو العصر الفيكتوري واستمروا حتى هذه الأيام بشكل جديد. يمكن أيضاً تبرير وجود التقليد وشيفرته عن طريق المنافسة مع تقليد آخر أو مناقضته. يمكن لمسيحي أن يبرر سلوكه النموذجي باسم المسيح، في حين أن البوذي يقوم بنفس الطريقة بتبرير سلوكه – المشايه للمسيحي، باسم بوذا. وعلى أرض الواقع فإن العديد من التقاليد استمرت في شيفرتها الغريزية الجوهرية رغم تغير أيديولوجيتها الظاهرة أو المفسرة لوجودها.

يظهر أيضاً احتمال مختلف تماماً.. قد يرفض فرد أو مجتمع تقليداً بشكل كامل في شيفرته الغريزية و بنيته الأيديولوجية، شكلا ومضموناً، لأجل قيمة أخلاقية تظهر على السطح بشكل قوي. هذه التجربة في التحول هي مفتاح مهم لفهم هذه الظاهرة المميزة التي تقوم بإطلاق أساس تقليد جديد يقوم بخلق تغيير بين مسار الماضي والحاضر بشكل واضح.

إن نمواً تراكميا لتقليد ما في شيفرته الغريزية هو أكثر التغييرات التي يمكن أن تصيب المجتمع في العمق وهو يهز المجتمع أكثر من مفهوم التقليد وأيديولوجيته لأنه يغير أساس التقليد في صميمه، وهذه التغيرات في المفهوم الأوسع تدعى "ثورة ثقافية". وبعد حدث كبير كهذا، فإن الأفراد يفكرون بشكل مختلف تماماً، وتتغير مشاعرهم وردود أفعالهم بشكل جذري، فيشعرون بالخجل مما كانوا يفخرون به في الماضي. في حالات معينة فإن هذا مرده لظهور مجموعات أعلى سلطة، في حالات أخرى فإنها تحصل بسبب ظهور تقليد قديم وعودته إلى الحياة ومحاولة محاكاته كظهور الكلاسيكية الوثنية خلال فترة النهضة الأوربية.

التقاليد المتحولة.

فكرة التغيير هي المفتاح الرئيسي لفهم طبيعة العادات والتقاليد المتحولة. إن من هو مقتنع بنسبية الأخلاق يعرف حقيقة أن لا يوجد معيار أخلاقي أهم أو أقل شأناً من آخر بشكل مطلق. لكنه لا يستطيع أن ينكر أن الآخرين مقتنعين تماما بأن المعايير الأخلاقية التي قاموا بتبنيها هي أعلى مرتبة من تلك التي قاموا بجمعها بشكل متراكم. قد يدعوها أوهام، لكنه يدرك أن قوة هذا الوهم هي بخلق تغيرات سلوكية دائمة وعميقة في المجموعة.

ومن المهم أن يكون فهم المصدر التجريبي للمفهوم الأخلاقي الأعلى في المجموعة، فهو لا ينشأ من إحساس الفرد بأنه متفوق على الآخرين ، بل من الإحساس بتفوق الفرد الحالي على نفسه في السابق عند تبنيه لتلك المعايير الأخلاقية. في التقاليد المسيحية، يمكن أن تدعى هذه الفكرة (أن يولد الإنسان من جديد) في اليهودية يتم وضع هذا المفهوم في قصة الخروج Exodus (تحول اليهود من عبيد إلى شعب مختار). في الإسلام أيضاً نستطيع أن نسقط هذا المفهوم على فكرة التوبة والهداية وتجاوز الوثنية وإكمال الأديان السابقة بدين الإسلام. وفي كل الأمثلة فإن شكل التحول التجريبي ذاته، تصميم ثابت للارتقاء من مرحلة تجربة أخلاقية سابقة إلى مرحلة أكثر تفوقاً.

إن التحول الأخلاقي يأخذنا من مرحلة أكثر فطرية وأكثر شيوعاً إلى مرحة أقل فطرية وأقل شيوعاً. لذا فإنه من المهم لمجتمع ما أن يحدد الأهمية النقدية للعادات المتحولة التي قام بتبنيها لأنها يبدأ بامتلاك الرغبة بجعلها مقدسة، فهي عادة ما تخرج من قالب الغريزة الطبيعية السائدة (لا أحد يريد العودة إلى كان عليه في السابق).

علاوة على ذلك فإن التقليد المتحول يمكن فهمه كحاجز، طريقة تمنع من وصل إلى قيم أخلاقية أعلى من الانزلاق إلى الوراء. تقاليد كهذه تكون غالباً صارمة جداً، فهي تسمح لنا بتغيير الطرق التي نتبعها في تصرف معين في حياتنا، لكنها تحرم علينا تغيير الطريقة التي نجسد فيها تلك الشيفرة الغريزية لأننا قد نخسر التفوق ونعود إلى قيم سابقة. نحن مصممون على عدم العودة إلى السابق، ونقوم بوضع التقاليد والعادات المتحولة بطريقة نضمن فيها أن الأجيال اللاحقة من أولادنا وأولادهم لن تعود إلى الماضي حتماً.

في النظرة السابقة نستطيع رؤية تقييم كبير ومهم، علينا أن نحافظ على ذاكرة تجميعية لما كنا عليه في السابق قبل تبني هذا التحول وممارسته بشكل جيد حتى لا نقع في مشكلة الانزلاق إلى الماضي، فإن كنا لا نعرف ما الذي نهرب منه لن نستطيع تقدير أهمية الهروب من الماضي الأدنى إلى الحاضر الأكثر تفوقاً. الواقع أننا عندما نكون في قمة النسيان الاجتماعي، يظهر خطر خسارة أهم التقاليد المتحولة وتبدأ بالتحول من تقنيات للحفاظ على قيمة أخلاقية عليا إلى ممارسات شعبية لا قيمة لها.

الطريقة الأكثر ضماناً لتمرير هذه العادات والتقاليد المتحولة بكل أخلاقها وقيمها هي طبعاً الأسرة، والأسرة يجب أن تكون قد وصلت إلى تلك الفكرة الأخلاقية بحيث يكون اهتمام الأهل الأكبر هو إجبار ذريتهم البيولوجية على ترك التقاليد القديمة قبل التحول والتوجه إلى التقاليد المتحولة الجديدة. أيضاً عليهم أن يقوموا بتحضير الجيل لنقل تلك التقاليد إلى الأجيال اللاحقة، وهذه التقنية بحد ذاتها تقليد آخر ضمن التقاليد المرجو نقلها والحفاظ عليها وصونها.

من هذا المنطلق فإن الزواج لا علاقة له بالبيولوجيا: فهو بناء اجتماعي متقن يقف في وجه الفوضى الموجودة في شخصية الإنسان، وليس هدفه منع تلك الفوضى من التدمير بشكل مطلق بل نقل الحالة البشرية إلى مرحلة أخلاقية فوقية أعلى. الأب يربي أولاده الذكور كي يكونوا آباء صالحين، والأم كذلك. والهدف وراء هذه العملية هو أن يعيشوا حياة أفضل. القيمة الأخلاقية الأعلى هي جزء أساسي من تلك الحياة المنتقلة إلى الأبناء والأحفاد.

الثبات المنتقل عبر الأجيال

وهي خاصية نستطيع أن نجدها في كل الحضارات. فالحضارة يجب أن تملك سجلاً عن استمرارها الثقافي. هو مشروع تنجزه العدة من الأجيال مجتمعة، وحتى تحافظ الحضارة على ذاتها يجب تمريرها بشكل سليم عبر الأجيال. هذا الكلام ينطبق عندما نتحدث عن حضارات تحتاج فيها عملية التثقيف زهداً صارما وتخل عن دوافعها التي يصعب التحكم بها، عن رغباتها الجامحة، عن النقص في الإحساس بوجود الآخر، عن الإختلاطات الجنسية.. الخ. أو باختصار كلما كانت القيمة الأخلاقية لحضارة ما متفوقة، فإنه المحافظة عليها تصبح أصعب.

كيف تتم تماما عملية انتقال الحضارة من جيل إلى آخر؟ نستطيع أن نفهم كيف يمكن نقل موجودات مادية وتوريثها، لكن ماذا عن طرق البناء مثلاً، ماذا عن نظام النقل، ماذا عن الآلات والأدوات. أو بشكل آخر نستطيع القول (ما هي فائدة توريث الطرق السريعة لأجيال لا تستطيع قيادة السيارات).

إن مجتمعا يرغب بالحفاظ على حضارته عليه أن يهتم أولا بنقل معارفه التي يستطيع من خلالها الحفاظ على الدرجة الحضارية ذاتها. فلا فائدة من توريث مجموعة أطباق إن لم أعط الجيل القادم وصفات الطبخ. وأن أعلمه مهارة الطبخ إضافة على تلك الوصفة. والأهم أن أعلمه كيف يورث معارفه عن الطبخ بل يجب أن يدرك أن من واجبه توريث ذلك. عليه أن يعلم أولاده الطبخ، ويعلمهم الطريقة التي يجب أن يعلموا بها أولادهم.

إذا أراد مجتمع ما أن يجد طريقة يضمن بها نقل التقنيات التي يمتلكها والحفاظ عليها، فإن على أعضائه أن يشعروا أن عليهم واجباً أخلاقيا بترك عالم أفضل لأولادهم وأحفادهم.

والأحفاد نقطة حاسمة في الحضارات (الجيل الثالث)، فالحضارات تستمر عندما يكون هناك حس منتشر بالواجب الأخلاقي لنقل الحضارة من الجيل الأول إلى الأحفاد (الجيل الثالث). يمكن لمجتمع ما لا يملك هذا الإحساس أن يزدهر لجيل أو اثنين، لكنه حتما سيتراجع بعد ذلك، مما يقودنا إلى السؤال الأساسي.. كيف يتم إنجاز هذه المهمة؟ كيف نجعل الآباء يشعرون بهذا الالتزام الأخلاقي العميق تجاه أحفادهم؟

تهذيب التقاليد

كما أشرنا سابقا في مثالنا، فإن التقاليد أشبه بوصفة الطبخ. هناك تقنيات معينة للطبخ أو تنظيف الأسنان أو صنع الألعاب الورقية. لكن حتما ليست هذه هي القيم التي يشعر الأهل بأنهم مجبرون على نقلها للأحفاد. نحن نبحث عن وصفة حقاً، لكن عن وصفة لإنتاج شخصية محددة و صنف معين من البشر.

في اليونان القديمة، وبالإضافة إلى تمرير تقنيات صنع السيوف والأقدار فإن الرجال كان عليهم أن ينقلوا وصفة صنع أبناء يكبرون برغبة القتال حتى الموت والدفاع عن دولتهم. من الملاحظ أن الولايات القديمة التي خسرت هذه الرغبة في أجيالها خسرت أيضاً رغبتها في بناء حرية مدنية بل وعرضت أفرادها إلى أسوأ ما يمكن أن يحدث لحريتهم – العبودية.

وهذه فكرة مهمة يجب أن نضعها بالحسبان عندما نقارن فكرة أن التقاليد تتطور مع فكرة هايك التطورية عن التقاليد. بالنسبة لهايك فإن التقليد قابل للاستمرار إن كان قد اجتاز الظروف الماضية لمجتمع ما، لكن النظرة الجديدة والمهمة هنا تقول أن التقليد يستمر إن استطاع أن يحمي الأجيال القادمة بشكل فعال من الانزلاق نحو الماضي. وهذا مثلا ما نعاني منه الآن في مجتمعاتنا الشرقية، مشكلة الانزلاق نحو الماضي المتمثلة في الفكر الأصولي. عندما يبدأ تقليد ما في مجتمع بقيادة مقاييس المجتمع نحو الهاوية فيجب استبداله بغض النظر تماما عن التجارب الناجحة التي مر بها هذا التقليد في السابق.

إن النظرية المطروحة هنا عن التقاليد براغماتية تماما. يتم اختصارها بالسؤال القائل. هل تقوم التقاليد بحفظ درجة الحضارة في مجتمع أم لا؟ لكنها نظرية ديالكتيكة جدلية أيضاً. فالتقليد يتم تقييمه بدرجة نجاحه ليس فقط بالحفاظ على مقاييس حضارة ما، بل عندما يملك الفاعلية التي تؤسس تقدما مستقبلياً للمجتمع ليس فقط على صعيد المادة، بل في بناء شخصية الإنسان على كلا المستويين الفردي والجمعي. أو بشكل آخر، عندما يكون للتقليد رؤية مستقبلية واضحة.

التقليد باختصار وبمفهومه الجديد هو القيمة التي تبقينا متحضرين والتي تقدم لنا الوسائل لكي نكون أكثر حضارة، هو بناء اجتماعي عندما يتجسد في أجيال المستقبل، يكون الأساس لبناء اجتماعي جديد محكم ومستقبلي.

نحن نسلم جدلاً بوجود البناء الاجتماعي للواقع، بينما علينا أن نتذكر أن حقيقة أن هذا البناء الاجتماعي تم تحقيقه في الماضي بنجاح، وانتقل بذلك إلى الحاضر. نحن بحاجة إلى أن ندرك أن هذا البناء الاجتماعي الواقعي يؤمن الأسس لدعامات اجتماعية مستقبلية لا يمكن تصورها بدونه.

وهذه هي المملكة التي أطلق عليها هيغل "الروح الهدف" والتي يقوم فيها البشر ببناء واقع اجتماعي يقوم بالمقابل بإنتاج بشر قادرين على بناء واقع اجتماعي متفوق أخلاقياً على سابقه. حقيقة هو الواقع الاجتماعي الذي يرفض العودة إلى حالات أخلاقية أدنى.



#محمد_نورالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العدالة في الليبرالية


المزيد.....




- من أجل صورة -سيلفي-.. فيديو يظهر تصرفا خطيرا لأشخاص قرب مجمو ...
- من بينها الإمارات ومصر والأردن.. بيانات من 4 دول عربية وتركي ...
- لافروف: روسيا والصين تعملان على إنشاء طائرات حديثة
- بيسكوف حول هجوم إسرائيل على إيران: ندعو الجميع إلى ضبط النفس ...
- بوتين يمنح يلينا غاغارينا وسام الاستحقاق من الدرجة الثالثة
- ماذا نعرف عن هجوم أصفهان المنسوب لإسرائيل؟
- إزالة الحواجز.. الاتحاد الأوروبي يقترح اتفاقية لتنقل الشباب ...
- الرد والرد المضاد ـ كيف تلعب إيران وإسرائيل بأعصاب العالم؟
- -بيلد-: إسرائيل نسقت هجومها على إيران مع الولايات المتحدة
- لحظة تحطم طائرة -تو-22- الحربية في إقليم ستافروبول الروسي


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد نورالله - عن التقاليد الإجتماعية