أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحق طوع - عين العدم ( كلب الفيلسوف )















المزيد.....


عين العدم ( كلب الفيلسوف )


عبد الحق طوع

الحوار المتمدن-العدد: 2112 - 2007 / 11 / 27 - 09:29
المحور: الادب والفن
    


عم الحزن البيت أو الفرح بعد رحيله ...لاأدري؟ ومن أين للفرح أن يحلق في سماء هذا البيت ؟
مزق في مزق .
أمي دخلت في صمت كسير وجريح .
أم أمازيغية لاتعرف من العالم الخارجي إلا السوق القريب ، حمام حي الطوب ، وعتبة المنزل .
وإن عاينت موته ظل الخوف من ظله يلاحقها.أكيد ستحمله من الأرض إلى سفرها الطويل في سديم البرزخ .
الخوف سيتعظم أمام ملاك حارس الأرواح وأسئلته لأن جبهتها لم تطأ يوما الأرض من أجل الصلاة . لاتصلي .
ولاتحفظ سطرا واحدا من الكتاب المقدس . بكل بساطة تجهل القراءة والكتابة . كانت تكتفي بتقبيله . كانت تؤمن بفطرتها أن الله حق وأن الله عندما خلق الإنسان خلق معه الموت. تعلم جيدا أنها لاتحمل زادا للغد إلا
مشهد الخضوع المطلق والأعمى لسلطة الطاغية زوجها . نفايات حياة رتيبة قلبها الجوع والتكرار .
علموها...
علموها خطأ .
أن هذا الظل الثقيل : مفتاح الدخول إلى الجنة .
وينبغي أن تتذكر هذه الكلبة أنها في يوم بعيد منحها ضلعا من ضلوعه .
عرجاء وإن إستقامت .
عمياء وإن أبصرت .
بكماء وإن تكلمت .
وعين......عين نظرها : فرجها .

ولدت أمي بين أشجارالأركان ، الزيتون ، اللوز والتين في منزل بغرف عديدة أبوابها مفتوحة على ساحة شاسعة وفي زاوية من الساحة ، كانون لطبخ وزريبة للأبقار والماعز والدواجن. شجيرات دوالي العنب البرية النائمة في هدوء ، كست الأرض خضرة تطل منها حبيبات سوداء مشعة . قرية حطت أقدامها فوق صهوة جبل شاهق ذي منحدرات عمودية صعبة وحدها الخيول و الأقدام التي تدربت على الشدائد والتسلق لهم شرف الصعود . حولها تحوم طيور فريدة أقسمت البقاء والفناء فوق القمم . نخيل تتباهى بعلوها وأنهار تزحف بصمت جلال هدوء حكيم ، تسقي النفوس والحقول ونحو الأفق تمضي ... تمضي نحومصب لايحتفل إلا بعذوبة وصفاء قطراتها . أما العكرة منها فلها البحر .
وعيون أهل المكان تتطلع إلى السماء ، تنظر بعيون عشق صادق في صدقه إلى الغيوم المتلبدة وتنتظر حبات المطر الأولى .
بالضحك ، الحلم والغناء ، بالعض وحيل العيش البريء من شرور التسلط والقهر ، تتحمل الألم بصبر الأمل و تقاوم الزمن .
يديها خشنتان متعرقتان دليل لحر العمل في الحقول .لا أستغرب ...
عندما غادرت قريتها بصرة في اليد ودخلت المدينة الغول الدار البيضاء ، حملت معها في روحها الإرث الطبيعي . كانت موسيقى السهول والنخيل والطيور والقمم والأنهار تقيم في حركاتها ، في نظرتها ، في تقلباتها ، في هذوئها ، في حزنها ، حتى عندما تضحك ...تضحك في خجل أو ربما ذكرى لصوربعيدة .
من لاشيء كانت تخرس جوعنا، وحولت باحة المنزل إلى زريبتها القديمة : حمام ، دجاج ..كان البيض لايخلومن منزلنا ،كانت تبيعه لنساء الحي أولأصحاب الدكاكين الصغيرة .
كانت يدها كقبضة ملاكم كما يقولون . لاتكشف عن الفلس إلا في ساعات . الضيق الحرج .
أبي فطن بلعبتها . عندما يكون عاطلا عن العمل وتدور عقارب الرأس في الفراغ يفاجأها بصفعة ، صفعات معها تكشف المسكينة عن الكنز البئيس . يأخد ما ادخرته للأيام السوداء ويضع ثمن قنينة روج في يدي ويأمرني بالدهاب عند الحاج بوجمعة .
وفي باحة المنزل يجلس في بيــته الذي يشبه حجمه بيــت كلب . وفي آخراللــيل يزعق ، يشتم وجوها في خياله إلى أن يطيب نومه أو تقوده أقدامه إلى منزل القوادة مسعودة .
أمي مع سطوه المتواصل تخلت عن قبضة الملاكم ، بل تخلــت عن تربية الحمام والدجاج . باعــت كل شيء
وجلست بعين دامعة تنظر إلى الخم الفارغ إلا من البزق والريش .
وتقول :ـ ليبغَا إكُونْ إكُونْ وهذه الأيام السوداء إذا ماحضرت وحلت بالبيت أهلا وسهلا .لقد تعلمنا المشي على قدم واحدة. والنظر بعين واحدة . تعلمنا مراوغة الجوع بالصبر والحيل...والجميل في كل هذا تعلمنا فن
الإنتظار.
لوكان أبي يحترم ذكاء أمي ووقف إلى جانبها وشجع تجارتها الصغيرة أكيد ....أكيد لتغير لون حياتنا وسكنا منازل الطوب وووو
لافقر إلافقر الرأس....البصيرة التي لاتلقي بسهامها نحو الأفق . بصيرة تتلاعب بها رياح الأهواء لن تصل أقدام صاحابها أبدا .
أثق في حكمة بعض نساء حينا في تغيير طعم العيش ، لو سلم أزواجهن لهن المفتاح .أكيد ستولد نجمة ما في حياة الأسرة وتضيء الطريق . ومن بين هاته النساء أمي . إن الطيبيب من الناس توحي إليهم أرواح سماوية بعض أسرارها ، تنير بصيرتهم وتزرع بذور الذكاء في نفوسهم ، فقط يحتاجون إلى الإهتمام بما يفكرون فيه، مع دفء التشجيع المطلق و سقي مايرغبون فيه بماء الأمل.
أكيد سيكون الحصاد : الخير العميم .
ماقتل ذكاء أمي إلا غباء أبي . أبي كان يفكر في ملذات لحظته وليذهب الغد إلى الجحيم .
كانت...
كانت مجنونة بحب القطط . تبادلها العشق و الحس الطبيعي . وبلغتها الأمازيغية تحدثها . كانت تعتقد وهذا الإعتقاد حملته معها من الأرض إلى البرزخ : أن الحيوانات ، الطيور لغة التواصل معها هي الأمازيغية .
ولكي تضمن حق الحياة وتندمج مع أبي ، تعلمت لغته الدارجة العربية . ومع ذلك ظلت تتعثر في لغتها الجديدة . ظلت تحمل لكنة نغمات وأصوات لغتها الأم التي منحت مفتاح كينونته لراية الإسلام . بسخاء أو قوة ، بخوف أو دهشة بفكر وأراء العالم الجديد القادم من أرض بعيدة ...وألقي بالمفتاح في بئر عميق ووضعت على البئر الأحجار والأقفال . وأعتبر كل عودة إلى هناك : ضلال ، كفر وجاهلية . وأن لغة الحوار مع الله : العربية .
طبعا الذي يؤمن بهذا النقيق يستحق الشنق بأمعائه .
لغة الله الوحيدة : التقوى . هذا ماأكده لي معلمنا فيما بعد .
وأضاف :
ـ أنا مثلك أمازيغي ....لكن تخلصت من لعنة وجحيم الحدود ، العرق واللون . رسومات السماء وسيف أباطرة الأرض .عيني على دواخلي تراقب تفكك الحياة وتلاشيها في نفسي .لاأفهم وأنا الذي يدعي الفهم ...إلا أني ذاهب إلى الموت ، أما الحياة عشتها بتمزق الأعصاب . قديما كنت مهووسا بالبحث والسؤال عن الأصل والمعنى . أسئلة مريضة تحتاج إلى توازن نفسي كبير . شيء حزين أن يفكر الإنسان في اللامعنى من الحياة ولا أحب التفكير في الخلاص على الأقل الأن و هنا ولا أرغب في در رحيق الورود في العيون وأغني بحنجرة معطوبة عن مسخ وعبث الأمل في تحررنا من جشع الإقصاء ..
إن مهمتي الوحيدة والسامية أن أعترف بكل أخطائي ...كنت سجينها ولايهمني إن واصلت الجديد منها . ولست وصيا على أحد ،أنامشروع بداية على الدوام ..وأنا سعيد بهذا القلق الجميل العذب.به أحاول الإقتراب من نفسي,الأشياء والناس. لعبة الإقتراب والإبتعاد أواصل حلم الوصول الى نبتتي الأولى كإنسان سقط سهوا أو لخطيئة ما في رحم الوجود وتفاعل وتناسل و ...
وأضاف :
ـ أمازيغي ،عربي ، زنجي ، يهودي ...الإنسان في آخر الأمر مشروع حياة وهي حياة ولدت بصفحة بيضاء ...ومالوثها إلا لون المكان وبلغة واضحة وبسيطة : الكبار .
في الحقيقة يلزمني الشيء الكثير لكي أفهم بعد هذه النار التي أحرقت معلمنا في الأخير وكتب نهايته في قبر سجن تحت الرمال . لالشيء لأنه كان يؤمن بالإنسان في بعده الشاسع .
نعم
ظلت المرأة تتعثر في لغتها الجديدة ، تجعل الأخر يغرق في يم الضحك .
كنت...
كنت أتألم في صمت . ويصل أحيانا غضبي إلى الدخول مع أولاد الحي في معركة تنتهي بالرشق بالحجارة .
عندما يقلدون أمي في طريقة كلامها ولكنة صوتها وتعثرات نطقها في عجزها وحيرتها على تسمية الأشياء..
كنت...
كنت أشعر بالإقصاء التام...وأنا أمي لاتنتمي إلى هواء هذا الوطن . وأن هذه الشردمة من الشلوح ، كائنات غريبة قادمة من كوكب أخر . لاحق لأولادهم في اللعب . ونتيجة هذا الإنتماء ، كنت ضحية لإعتداء مؤلم .
جل النكث التي تضحك بطلها : الشلح .
ولكي أضمن حق اللعب ، قلت لخنجري هيا كن رفيقا لي في الطريق .
مرار تسألت في نفسي :
ـ كيف تم هذا اللقاء الغريب بين أمي وأبي ؟ وأبي الجاهل للغتي أمي ؟
أخبرتني أمي أن اللقاء تم بواسطة صديق لأبي في العمل . وهذا الصديق جار لأمي في قريتها .
وسافرا إلى القرية وكان الزواج .

...........................

بعد ذلك بأسبوع حملت صرتها ودعت عائلتها ونزلا بالبيضاء. وعندما تخطت عتبة الكوخ القصديري،ظلت سجينة جدرانها . تركت نسمة الحياة وحكمت على نفسها بالعيش في سموم هواء مدينة الإسمنت .
فهمت من من خلال معاشرتي لهما أن لغة التفاهم الوحيدة ، بعد إختفاء الصديق : السوط والسرير .
نعم !!!
رحل الأب وترك لنا الإرث الوحيد : حكاية مشهد موته في المقبرة .
أبي…
سرواله وصل إلى ركبتيه …. يحضن….يحضن جثمان عجوز دفنت في مساء يومها .
لاشيء ...
أخي الذي يكبرني والذي بإمكانه أن يأخد دور الأب ويدفع عربة الحياة ولو خطوة واحدة لتحمينا من شر الجوع . أصيب بمرض عضال. رفض طبيب أحياء الطوب أن يزوره ، اللهم فقيه الحي الذي كتب طلاسيم حروف على ورقة صفراء بدم ديك أسود وأكد لأمي أن أخي ضربته عين آدمية أو رهط من الجن. لفتها أمي في خرقة ودستها في ظرف من النحاس الخفيف وعلقتها التقية في عنقه ورافقته طوال موته في الحيا ة . . طريح الحصير ، يأكل من يد أمي بملعقة من خشب . طفل صغيررغم أنه تجاوز العشرينات . لسانه أصيب بالخرس ، يديه ورجليه شلتا ، يبول ويغوط في مكانه .
وحدها العين ...وحدها لغة تواصله مع العالم .
إذن...
كان...
كان أمل الإنقاد يحوم حولي . شعرت بذلك من خلال نظراتها . في مساء طلبت من أمي كأس شاي مع كسرة خبز جاف .
قالت :
ـ لانملك سكرا ولاشاي ولاطحين وقنينة الغاز قد نفدت . ولاشيء لي أملك الأن للبيع ...لاشيء . لولا تلك الأقراط المعدنية البئيسة والتي أخفيتها عنه طوال عشرتي معه ، لما وجد أبوك له مكانا تحت الأرض ينام فيه ...لاشيء...أمس ذهبت عند مسعودة وطلبت منها قرضا ، قالت لي : تملكين (....) لماذا لاتستغليه ؟

وغارت في دمع طويل .

وبعد لحظات صمت وهي تكفكف دمعها أضافت :
ـ ينبغي ... ينبغي أن تبحث لك عن عمل .
قلت :
ـ والمدرسة ؟
أعطى صمتها الطويل الجواب المطمئن والبليغ .
في مساء الحديث عن الخبز الحارْ وإنعدامه وصباحه الباكر . أيقظتني نقرات خفيفة على الباب . غيرت من وضعية جسدي وإختفيت في دفء البطانية . تسللت همهمات خافتة إلى أدني ، وبعد لحظة قصيرة ، دخلت أمي إلى الغرفة وهمست بصوت يغالبه النعاس :
ـ عبدول ... قم ...سي حميد ينتظرك .
بتثاقل تركت الحصير وبخطوات تتعثر بين النوم والجوع ، دخلت أقدامي في نعلي ودون أن أغسل وجهي فتحت الباب واستقبلني سي حميد بدراجته الهوائية . إمتطيت حديدة تتصل بين المقود ومكان جلوسه . جعلت يداي على المقود وعيناي تحاولان اليقظة .
رغم غبش الظلام وبحكم العادة كان سي حميد يعرف جيدا الطريق... طريق غيرمعبدة .
وبعد نصف ساعة وكأنها الدهر من سفر الجحيم ، توقف سي حميد . نزلنا وقال بصوت آمروهو يحرك رأسه مشيرا إلى مقهى :
ـ احرص الدراجة...دقيقة وأعود .
وبعد لحظات خرج سي حميد رفقة رجل بدين وقوي وقال :
ـ أترك الدراجة وتعال إلى هنا .
تأملني الرجل البدين القوي وقال :
ـ أسْمَكْ ؟
ـ عبدول....عبدول
والتفت إلى سي حميد وقال :
ـ جيد ... يبدومن نظراته أنه يصلح لشيء ما .
ضاغطا برفق على أذني تمتم سي حميد :
ـ كن مهذبا مع سي عبدالله وإلا...
حركت رأسي بالموافقة وسؤال كبير يرقص على قدم عرجاء في الأعماق :
ـ لأي شيء سأصلح ياترى ؟
وسرحت بنظري ....
طاولات غلفت بقطع البلاستيك ، لازالت تحمل بقايا بقع زيت وفتات خبز ، كؤوس وأطباق صففت في شكل سيء . ضوء قنديل غازباهث شد بحبل إلى السقف . ينيركلمات لافتات توزعت في رحاب المقهى على جدران من القصدير وسخة ،كتب عليها بلون أسود و بخط رديء :

ممنوع الطلق والرزق على الله
من توكل على الله فهو حسبه
ممنوع تدخين الحشيش والكيف
هذا مكان للعمل وليس للقمار
هذا بيت خبزي وأنا سلطانه
لوحة كبيرة من الورق المقوى دقت بمسامير على خشب يعلو إطارها الوسخ وجيش من الذباب . يطغى على فضائها مسحة لون أخضر باهت . تضم رسومات عديدة : رجل وإمرأة وبينهما شجرة وحية تتسلق فروعها .وإلى جانب هذا الرسم رجل بعمامة صفراء اللون ضخمة ويبدو رأسه في وسطها كحبة عدس يمتطي أسدا . يتأبط سيفا ويشير إلى كرسي من ذهب وحوله أجساد بشرية في ركوع .
ورهط من الشياطين يحملون رأس شاب ونهرمن الدماء تنزف من رقبته . رجل عجوز غارق وجهه في شعر أبيض يمتشق خنجرا خنجرا وعلى المصطبة تمدد شاب في وداعة وملاك يقبض يد العجوز في حين الأخرى تحمل كبشا سمين وأقرن . في الأسفل منظر عام لمدينة حولها يحوم سرب حمام وعلى القبة الخضراء بقع زيت يميل إلى السواد ....وعلى الجدار اليميني صورة مدفع مقلوب ورجل عجوز يبكي وفوق المدفع بالضبط رقم 67 .وفوق المقلاة بالضبط صورة لرجل بوجه لايبتسم إلي يحدق. قالت لي أمي و بتأكيد صارم ذات يوم أن هذا الرجل صاحب الطربوش المستطيل أطل بوجهه عليهم من القمر وألقى خطبة طويلة على الناس . وشجعهم على ضرورة المضي في الطريق لطرد فرنسا .وأنا أتذكر لعب ومعاطف وأحذية ونظافة إبن بوشتى بجسد قوي تم إطعامه جيدا . والحلويات الملفوفة في ورق مطرز بألوان قزح . آه لطعمها ورائحتها . القادمة من بلاد الثلج . وقلت لها أنذاك فرنسا قطعت البحرو جأت عندكم على أقدامها وأنتم طردتموها . شرناس عند ناس هو الخير . وخير ناس عند ناس هو الشر. اللعنة إذن . .
قدمني الرجل البدين إلى طفل يكبرني بسنة وقال :
ـ عبدول هذا حسن ، سيكون رفيقك في العمل والنوم في المطبخ .
الطفل حسن إكتفى بالنظر والإبتسام . طأطأ رأسه ورجليه تخط شيئا ما على الأرض .
يرتدي بنطلون دجين قصير وقذر وقميص ثقوبه تكشف عن مناطق من جسمه ووجه يبدو عليه أثار التعب المبكر ...إنه شبيهي ...أكيد نتقاسم الحصة الكبرى من الإقصاء والألم .
تحسس سي عبدالله بيده شعرات قليلة توزعت في صلعته وحاول أن يعطي لصوته نغمة الجفاء والتعالي :
ـ هيا ... نظفا صحون وكؤوس الأمس .
شعرت
شعرت بفرح عابر.
وأنا...وأنا أنظر إلى المقلاة الكبيرة المملوءة بالزيت وقلت في نفسي :
ـ من اليوم لن يعرف الجوع طريقه إلى بطني .

.............................

مضى ...
مضى شهر ونصف على عملي .
نغمة .
نغمة واحدة تتكرر ليل نهار . نفس الوجوه ، نفس الضجيج والدخان ، نفس العمل والرائحة ،نفس .....
ننام في المطبخ فرش بلاطه بصفيحة من خشب وفوقها بطانية سميكة الصوف مهترئة .
...............

كائن بشري وحيد من رواد المقهى شد إنتباهي بقامة عظمة صمته العميق. قوة وفتنة ضوء طاغية كبريق مشع تسايرخطواته . جلسته . حركاته . وعمق نظراته . من يكون ؟ ومن أين إستمد وجلب سحر هذا الحضور البهي... في صوته ارتطام الأمواج ، صدمة لقاء النارالأولى .سفر النيازيك والشهب والاعاصير المدمرة . أحببت هذا الرجل وفي صمت .. يطلب شايه ويجلس قبالة اللوحة الكبيرة التي دقت بمسامير على خشب والتي تضم رسومات عديدة . و يطيل النظر في وجوهها .
كان كلب وسماه أوم يرافقه دوما . صاحبنا يجلس في زاويته المعتادة . وأوم في الخارج ينتظر ولا تنزل عيناه على صديقه الساحر الجميل ، يتابع كل شهقة وحركة .
وفي أيام المطريسمح لأوم بالدخول ، يتوسد أقدام صاحبنا وينام .
يخرج كومة من الورق ويغيب في يم بياضها ، كدب جريح يكتب . ولا أحد من الرواد يزعج عزلته . بل يحترمون وجوده وأحيانا يقدم له أحدهم شقف كيف أوكأس نبيذ ... يدخن بشراهة غريبة وعيناه على وجوه اللوحة الكبيرة .
ماالذي يضحكه ؟
مالذي قرء في الوجوه ؟ .
يجمع أوراقه في حقيبة سوداء يقدم تحية الوداع ويبتلعه الزقاق الطويل .
قال لي مرة بعد تلميع حذاء زبون ودون كلمة شكر :
ـ ينبغي أن تطرد جرثومة العبودية من دمك . إعصرها من عروقك :
قطرة
قطرة
لعل الإنسان فيك يولد .
وتغيرت ملامحه و أضاف بغضب :
ـ تبا لمن يقهر الإنسان وتبا لمن يتحمل القهر .
أول خطوة لميلاده : تحرر من الخوف .
وصمت وأضاف :
من رضي بأن يكون حماراً فلا يغضب إذا ركبهُ النّاس . .
في الحقيقة لم أفهم أبعاد وصيته .
وفي ثوان خاطفة تشبه البرق هذا الرجل الساحر الجميل . وجدوه معلقا من رجليه ككبش ضحية بحبل في سقف بيته .
وأنا أعيد مشهد إستغراق نظره في الصوروقهقهاته ووصيته الغريبة لي قلت في نفسي وأنا أنظر إلى مكان جلوسه المفضل :
ـ ربما استيقظ شيء ما في داخله وتذكر حادثة ما من الماضي .
صحيحْ !!!
ـ الوصية لاتولد إلا بعد تجربة مريرة ...الرجل أحمق و ربما الكيف كان السبب .
لماذا يكرربعد كل تحية عابرة على رواد المقهى :
ـ اعرف نفسك...
أكيد لا أحد من رواد المقهى فهم عمق وأبعاد الكلمة . ولا أنا .
تمنيت لو كان هذا الرجل أبي . السعادة معه ممكنة .
أكيد.
أوم ظل وفيا للمقهى بعد رحيل صديقه . كل زبون يقدم له بالقدر المستطاع من الطعام . وضع سي عبدالله آنية له . من حين لحين أتكلف بملئها بالماء .
أوم هو الأخر إختفى في ظروف غامضة . ربما تعب من الإنتظار أو وقع ضحية لدورية شرطة الكلاب الضالة . وقد أكد لي شاهد عيان أن عظام ولحم وشحم الكلاب بعد خلطها بمادة ما يعبدون بها الطرق .
...............

حسن حكى لي عن أمه وأنه لايراها إلامرة في اليوم الأول من كل شهرجديد يسلمها سي عبدالله ثمن عرقه ، تحكي معه لساعة أو أقل وتعود إلى الليل الرجال والكأس . أبوه في السجن . مضى على سجنه خمس سنوات، قتل دركي في احدى عمليات تهريب الكيف من منطقة كثامة إلى الجنوب. شيء واحد شد إنتباهي ودخلت في حيرة وقلق .علاقة الطفل حسن مع سي عبدالله ؟
شعرت بذلك في الليلة السادسة من نومي في المطبخ . سي عبد الله لايدهب إلى منزله ، إلافي وقت متأخر من الليل . يغلق المقهى من الداخل يدهب من يدهب ولايبقى إلا رواده الذين يعرفون أسراره. ويتحول المكان إلى ناد للقمار . خمر، حشيش ، كيف وأحيانا تنتهي الليلة بمعركة . يتدخل سي عبدالله بغضب وعنف ويهدد الجميع بسكين مطبخ . يذكرهم بماضيه ، فتوته وسجنه وأنه على إستعداد للعودة إلى برودته وظلامه .
وأن مكانه في سجنه ينتظره .
و يهدء الجو .
ربح من ربح وخسر من خسر ، لكن سي عبدالله الرابح دائما ويسمي ربحه بزكاة الفطر . . يعرف جيدا من أين تؤكل الكتف .
عندما إنسحب الجميع ، دخل سي عبدالله إلى المطبخ إنحنى وهمس في أذن حسن ...حسن تصنع النوم أو كان نائما بالفعل ...ركله...وكرر الهمس مع تهديد حاد .و بعد ذلك ودون إنتظار ركلة جديدة تبعه حسن .
آهات ...
آهات ممزوجة بأنين حسن .
هلْ ؟
.................

و.....
وطرد حسن ....
طرد بعدما ضبطت سرقاته ، كنت على علم بها . شتم دين أمه وأجداده وأشبعه ركلا ورفسا . لولم يتدخل بعض زبناء المقهى ، لمزق بسكينه بطنه وعرض الأحشاء للقلي والبيع .
أحسست بحزن وفراغ كبير بعد رحيل حسن . على الأقل كان رفيق وحشتي وعزلتي . أصبحت أنام لوحدي في المطبخ . تضاعف علي العمل إلى حد التعب والضجر . ينبغي أن أتحمل كل شيء ، أن أقاوم جرح وضربات القدر وأن أفتح مكانا لصبر في نفسي كما أوصتني البربرية . ينبغي أن أكون رجلا .
بعد ...
بعد إنسحاب الجميع ، دخل إلى المطبخ . إقترب مني ، أحسست بشيء ما يتلمس جسدي ... يده ... يد الخنزير تتلمس وجهي ، أطرافي ، عنقي ، كتفاي ، فخداي وأرتاحت على مخرجي ... ونهضت بهستيرية ، جلست القرفصاء في جزع ورعب أحدق في الظلام .
وجاء صوته يقطعه سكين حرارة الرغبة المجنونة التي ركبت رأسه :
ـ كُنْ ظريفْ ...ماتْخَافْ ...عْزيزينْ عْلِيَّ أوْلادْ أشْلوحْ .

ماعلاقة هذا بأولاد الشلوحْ ؟

إمتدت يده إلي من جديد . جدبني إليه بقوة . حاول تقبيلي . رائحة الخمر تفوح بشكل صارخ من فمه . شد جسدي . بإحكام . إمتدت يدي إلى شعراته القليلة . إلى نظارته الطبية . تحكمت في إطارها . طرحتها أرضا .
أبكي .
أصرخ .
لاأحد .
لاأحد .
الرغبة الملعونة فتحت فم الغاب القديم ، وكشفت عن أنيابها القديم وضاعفت من قوته . بدا كوحش في هجومه . يهتز... يزعق ... إمتدت يده إلى سروالي ...قطع أزراره ... تمكنت من الإنفلات من يديه ... تحركت نحو الباب ...كان مغلقا ...الملعون رتب كل شيء .
فجأة !!!
شعرت بشيء يقترب مني ، يلمع في الظلام ويلمس عنقي . ويد تحكمت في شعري ولهات يقطع صوته :
ـ أتحب الصراخ ؟ .... أصرخ ....أصرخ إن شئت ...لست أنت الأول .
حاولت ...
وحاولت ...
ضربني بقبضة خنجره على رأسي ...و...

أينك يالله ؟

( إظــــــــــــــــــــــلام )

هل؟
هل سأحكي لأمي ماجرى ؟
كيف ؟
في الطريق المفضي إلى براكتنا ، عثرت على حبل في مزبلة الحي . حزمت سروالي . قلت في نفسي :
أليست له زوجة شابة وجميلة ؟
لماذا يدنس حرمتي ؟
هل هو أيضا مريض بحب الأطفال ؟
أكيد كل الرجال في طفولتهم يتعرضون للإغتصاب ؟ ربما شيء عادي جدا ؟ ربما عندما سأكبر سأكرر نفس جريمة سي عبدالله مع طفل ما ؟ في خلوة ما ؟ المرض لاينتج إلا المرض . والثعبان في بلد العميان كما تقول البربرية يلد دائما ماهو أطول منه . كل شيء يجوز عندما تختلط الأوراق .
وإن صدقتني ؟
لاحول ...
لاحول للبربرية ...
لاحول ولاقوة لدفاع عن شرفي . كالعادة ستكتفي بالنظر إلى السماء والدخول في حوار مع الله . أكيد ستكلف سي حميد بالبحث عن عمل جديد للملعون عبدول . المدينة تعج بأماكن قذرة تشغل أطفالا في سني وأقل ، وفي ظروف سيئة وقاهرة وبثمن هزيل . يشتمونهم ، وبأحذيتهم يسحقون أجسادهم الصغيرة ، ويغتصبون حرمتهم .....
كانت دراجة سي حميد قرب الباب تتكيء على الجدار. لم أستغرب للأمر الرجل بعد ... بعد رحيل أبي أصبح ظله . يزور أمي صباح مساء . كانت سعيدة بمعاشرته .لالشيء ، ربما تكون اللغة الأمازيغية الخيط السحري والبهيج الرابط بينهما . كنت أقرء سعادتها المطلقة في عينيها ، عندما يحل الرجل في البيت .
حرة ... طليقة ... فرحة ... ونور مشع وأخاد يلمع في فضاء العين . ترقص بيديها بروحها ودون أقدام .
نعم !
كانت سعيدة وهي تستعيد معه لغة أشجار الأركان و اللوز، رائحة الزعتر والزيتون ، الأنهار والجبال ...
لا أعرف إلا ....
أغروم وتعني الخبز .
أمان وتعني الماء .
يؤلمني أن أبي حرمني تعلم لغة أمي .
لا لشيء فقط لأفهم حزن هذه المرأة مادامت سعادتها تكتمل بوهج حضور لغة الطبيعة كما تعتقد .
مع...
مع سي حميد بدء وجهها يكتسب بهاء نورغريب.حتى طريقة ضحكها تغيرت. في صفاء ونبل شاسع تضحك من الأعماق ويتمدد إلى قهقهات . بها تهشم صخرة ماض أسود ملعون . الجن الأن خرج من القمق بعد أن سجنه سليمان النبي لقرون وقرون .
وسمعت ...
آهات و أنين ...
فكرت :
ـ هل سي حميد حمل إرث أبي : السوط .
وبقوة إنفعال حاد وغضب ركلت الباب ... ورأيت :
سي حميد ...
سي حميد ظل في مكانه .
أمي إنزاحت من تحت ثقل جسده . الرجل أخفى شيئه وسائر جسده بالبطانية .
أمي ...
أمي ظلت في عريها المطلق ، تماما كليلة وحشية طائر الجيف المرحوم أبي .
فجأة !
إنتبهت أمي لفضيحتها . نزعت البطانية التي تقي أخي المشلول الممدد على الحصير ، تبادلنا النظرات ، قرأت في لمعان عينيه الضعف البشري . أكيد تابع المشهد الشبقي في صمت يخترقه أنين وخزات وجع المرض .
قالت .
ـ أنا إمرأة ... هل تفهم ؟

وأضافت .
ـ لماذا تركت عملك ؟
وبتأثر تلعثم عميق، وألم وعيني على الأرض :
ـ سي عبد الله ( وإنخرطت في بكاء مرير )
قالت :
ـ عد ... عد إلى عملك لا أحد تعلم في هذا البلد دون ضرب وصفع ... لاأحد ...

و أغلق الباب وبعنف ورائي .
والزقاق الفارغ المظلم يبتلع خطواتي قلت في نفسي :
ـ إلى أين ؟ أكيد إلى إقصاء وصفع و إغتصاب جديد .

( إظـــــــــــــــــــــــــــــلام )

عبد الحق طوع إسبانيا



#عبد_الحق_طوع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موسيقى
- المرآة
- حلم ليلة الأمس
- ملح الكتابة (1)
- ( تيه ....)
- عين العدم ( أبناء في المزاد العلني )
- فصل من رواية عين العدم ( ليلة إغتصابي ...ليلة موت العالم في ...
- فصل من رواية عين العدم
- مسرحية قصيرة جدا...جدا
- عين العدم ( 3) فصل من رواية
- ( عين العدم ) رواية : الفصل 1 2


المزيد.....




- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الحق طوع - عين العدم ( كلب الفيلسوف )