أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن كريم عاتي - التنقيب في غرفة















المزيد.....

التنقيب في غرفة


حسن كريم عاتي
روائي

(Hasan Kareem Ati)


الحوار المتمدن-العدد: 2097 - 2007 / 11 / 12 - 09:58
المحور: الادب والفن
    


أغلق خلفة الباب بالمزلاج ,وانتفض بعنف كهر بللة المطر , طارداً مشيمة شيخوختة , نعاس نهار يغلف جسدة , متدحرجاً في أول كل ليل مع كيس طعامة الى غرفة التنقيب , مشيعاً ذلك النهار في سريرة , موقظاً همتة على إنجاز أكبر قبل أن يستيقظ ويبتلعة طمع ورثتة , موهماً نفسة بالحصول على حفنة من ذلك التراب .

ففي كل الزمان الذي انصرم يهبط بيتة بفعل ارتفاع الزقاق . وهو يحاول لاهثاً ملاحقة كل ارتفاع جديد برفع دكة الباب الرئيس وأبواب الغرف الآخر , فأصبحت أرضية البيت طبقات , طبقة فوق أخرى , تحاكي الطبقات التي ارتفع بها الزقاق الذي ترفعة البلدية مع كل حالة اكساء جديد للجادة العمومية . فالمياة الجوفية تتمرد دوماً على إسفلت الشارع فتصرعة وتخرج الى السطح قيء جرح لا يندمل . تاركة آثارها واضحة , فطريات تنتشر على جلد الشارع , الذي أعطاة رئيس البلدية اسماً للتحايل على آخر الولاة العثمانيين , الذي عاد تواً من انتصار مؤقت في كوت الإمارة . فحين شاهدة ارتفع الم القولون الى وجنتية , فبدا الامتعاض واضحاً على وجهة , فبادر رئيس البلدية لتلافي حراجة الموقف الى تهنئتة على الانتصار الذي أوقف زحف قوات العدو , والذي اتضح فيما بعد بأنة آخر نصر يحققة لامبراطوريتة فيما تبقى من زمن الحرب كلها . شاهد الحجر القاشاني الذي حفر علية ( خليل باشا جادة سي ), ابتسم وأمر باستكمال شق الطريق .


في جانب من هذا الطريق ينقب متعباً في غرفة من بيتة عن أول طبقة وقفت عليها اساساتة . فلقد عاش ما يكفي الى الحد الذي لم يعد فية يميز بين أحفادة وبين جباة الماء والكهرباء ¸وكثرتهم أفقدتة قدرة التمييز بينهم , فالمرات التي رفع فيها أرضية البيت ليقترب من ارتفاع الزقاق كونت طبقا تختلف كل واحدة منها عن الأخريات , باختلاف مواد البناء المتاحة والشائعة في حينة , وباختلاف البناءين الذين لا يجهدون أنفسهم كثيراً في استنهاض فنون البناء لديهم في أرضية بيت عتيق لا يتطلب العمل فية سوى مدة قصيرة يتقاضون عنها أجراً يفوق جهدهم , بعدها يتسللون عبر الزقاق , هرباً من مطالبات رجل لا يعاودون العمل لدية مرة أخرى , فخلقت كل طبقة لنفسها تأريخاً يضغط , بعنف ودوام , على ما سبقها , ويضغط بما تلاة من ثقل الطبقات ألاحقة التي أُضيفت الى أرضية البيت ابتغاء رفعها .. فكلما تضرر الشارع لقربة من النهر وانعدام تصريف مياة الأمطار ,و مياة استعمال البيوت , جثم إسفلت جديد ثقيل فوق ما سبقة من إسفلت متآكل ¸يراد بة إسكات المياة الجوفية من البوح .


وهو يرفع أرضيتة مع كل مرة يحاولون فيها اكساء ( خليل باشا جادة سي ) يرفع معها الأبواب التي كادت نهاياتها العلوية تلتصق بالسقف , على الرغم من الشقوق التي بدت واضحة على كلس الجدران , وتأكل آجرات عديدة من الجدران الخارجية , فيحاول في كل مرة ترقيعة من الداخل وترميمة من الخارج ليبقية واقفا على المتبقي سالماً من آجرات الأساس الذي تعدتة الرطوبة لتعلو على الشبابيك . فأصبحت للصراصر مستعمرات , تنتشر ليلاً بشكل مريب , وتستريح على أغطيتة , وتأكل من طعامة , وتشرب من ماء شربة , وتقضم ما يحلو لها بشكل تأمري . فيصمت عن عجز وخوف لستأسد نهاراً بنعال من المطاط يصطاد بة فرائسة المدركات ضعفة , فيمكث في غيظة متآمراً على نفسة ¸علة يبقي شيئا من الوقت يتأسف فية على بيتة الذي يتداعى بين يدية , والذي شهد فية الكثير , بدءاً من رحيل أخر غزاة عصر التدهور وأول غزاة عصر التحضر , الذين مروا فوق ثرى هذا الطريق لا يفصل بينهما سوى سبع ساعات من انسحاب ( خليل باشا )منهزماً تاركاً ( جادة سي ) من دون أن يدخل المدينة معللاً ذلك ببرقية رفعها الى وزير حربيتة جاء في نهايتها :

((...رغبة مني في تحطيم الإجراء المتخذ وتقوية معنويات الجيش ومعداتة سأواجة الضرورة الملزمة وهي إخلاء بغداد )).


وبين وقع حوافر جواد الجنرال وحوافر جياد جنودة القادمين من درة التاج , والتي أتخمها الغنى من أموال المتاجرة بعبيد أفريقيا المستجلبين عنوة في القرن الثامن عشر , وهم يزحفون بهدوء المطمئن الى أحشاء المدينة , التي قبل ألف من السنين من ذلك اليوم , كان قد أرسل إليها رسولاً الوصية على الإمبراطور غير البالغ
( قسطنطين بورفير جينيوس ) بين الدولتين , ولإظهار أبهة الخلافة وعزتها أمام أنظار الرسولين زينت يوم استقبالهما جميع أبهاء دار الخلافة أجمل زينة , وحشد الآف الجند والخدم والغلمان في أقصى درجات الاهبة واتخذوا أماكنهم داخل القصر وخارجة في صفوف متراصة بأزيائهم الخلابة .

افتتح حنجرتة بصوت , محاولا ضبط أوتارها , خشيت صمت سكنها منذ انشغال الذهن بالبحث والتنقيب :
- أخريات قادمات لا تستطيع تفاديها . مثل العث , وان دمرت مساراتة على سطح الجدار لا تستطيع التكهن من أي ثقب يخرج مرة أخرى , كذلك المصائب .

سعل , وضع يدة فوق فمة , متحاشياً خروج البلغم :
-ما ذهب أكثر بكثير مما بقي , واكذب أن يأتي الموت وهو ينازعني أنفاسي .

ويظن صدقة كامناً تحت جلدة يلسعة في كل حين من دون حاجة الى ألم , فأدمنة الحزن , واقتطع نهايات أعصابة الحسية , ودفنها تحت أول طبقة عبدوا فيها الجادة العمومية كما يسميها مدير الأوقاف , الذي ذهب الى إن سلطة رئيس البلدية لا تخولة صلاحية التصرف بممتلكات الأوقاف في ( سوق الحيدر خانة ) حيث يمر الشارع , معلناً رفضة لانتهازيتة , متهماً اياة : ب (( فتح باب لدارة على السوق )), فأصبحت , بعد توسيعها , تطل علية . مما اضطرة الى الاستقالة متذمراً وشاجباً تصرف رئيس البلدية بالأموال العامة من دون مسؤولية أو حرص .

دفن أعصابة وهو يسمع تصفيق المهنئين بميلاد مدينة عصرية تمتلىء بالأضواء وتضيع شوارعها بين ألوان وأنواع الأحذية الوطنية والمستوردة للمارة . بين هذا الهم , وهو البحث عن أساسات بيتة , الذي لا يبعد كثيراً عن شارع ( هندنبرك ) كما رغب الغير تسميتة , والذي سيصل إلية الاستملاك قريباً , فالشائعة تسربت بتعمد من بين السن الراغبين في وقوعها , لتنتشر في الأزقة والبيوت , فخلقت لنفسها مؤشرات تضغط بعنف على المتشككين بها و علها تقنعهم بقرب وقوعها , فضلا عن مذيعيها والراغبين فيها , والذين يعدونها حقيقة لا طائل من إضاعة الوقت بتكذيبها . حتى ان ورثتة يتلمظون لذكر ( الكص ) الذي سيقع على بيتة , فأشعروة من دون أن يبتغوا ذلك بزياراتهم لة , وعرض علية كثير منهم العيش معهم , حتى يؤذن بإزهاق روحة , وظهور التعويض الذي سيقلب تعاسة انتمائهم إلية الى فرح يحسب بعدد المال المقبوض , فهو يجثم فوق أمانيهم عجوز لا يقوى على رد صفعة , وقرار الاستملاك , كما صرح أحدهم مازحاً :
- بطيء كدبيب الموت في أوصال جدنا . على الرغم من ذلك لم يطهر امتعاضاً أو ترحيباً بأي منهم :
- لم يبق في الذهن متسع للتفكير , فقد شغلت مساحتة منذ زمن بالتنقيب .

ابتدأ من غرفة هجرها لعدم حاجتة لها , كما هو حالة في العديد المهمل منها . يعمل ليلاً لا يفاجئة احد يمنعة أو يحاول منعة , بحجة أن التنقيب قد يؤثر في قيمة التعويض الذي تقررة البلدية لاحقاً . على الرغم من إن أحدا من موظفيها لم يأت حتى الآن لمسح المنطقة وتحديد البيوت التي سيتم استملاكها . فالليل يعطية المبرر لغلق الباب بالمزلاج , على الرغم من إن النهار لا يمنعة من ذلك .


اكتشف بعد أن شرع بالتنقيب فعلاً إن قرارة في اختيار المكان صائباً . حيث إن التراب الذي سيرفعة يكون سطح الدار كافياً لاحتوائة وتعريضة لأشعة الشمس لتجفيفة ومنع تسرب عفونتة الى البيوت المجاورة , كاشفاً أمام الضوء تأريخ الطبقات التي تفترش السطح وتتيبس ببطء متخلصة من ضغط التي سبقتها , ومخففة من ضغطها على ما تحتها من طبقات سبقتها . أدرك أنة يبتدىء بأحدثها عمراً , ابتسم :
- تبتدىء من آخر ما أنجزتة دوماً .
فعمل الليل يقية فضول جيران تغيروا كثيراً من ما كانوا علية قبل عقود من السنين , ويقية سلطة البلدية في إيقاع الغرامات .


يرفع من أرضية الغرفة بلاطات أقتلعت أصلاً بتأثير الرطوبة . لم تكن ثابتة في محلها لقوة ربط فيها . بل لان أحداً لم يطأها , فيرفع ما يقدر علية , بلاطة بلاطة , وبإضاءة كافية تساعدة على إنجاز عملة , ليرفع قبل شروق الشمس ما ازاحة ليلاً من أرضية الغرفة , لينام النهار بطولة من دون إحساس بمستعمرات الحشرات التي تنام معة . وحين يصحو عند الغسق يعرج لأقرب حانوت يبتاع منة حاجتة من طعام يوم قادم , يعلقة في غرفة التنقيب ليعاود العمل من جديد ببلاطات تُرفع من دون عناء كبير , لتكشف تربة ندية فاضحة بعض مستعمرات الصراصر التي تتحرك باتجاهات مختلفة , بعض منها يلتصق بالبلاطات متخذاً من يدة وكتفة سلماً للصعود الى رقبتة , ليزيحها بانفعال مجهد , تاركاً البلاطة تسقط من يدة , ليتخلص منها ويعود إليها حال احساسة بنظافة جسدة , تترك الضوء الى آية زاوية في الغرفة , يتسلق بعض منها الجدران , تاركاً ندباً سودا على الجدار العاري الذي أفقدتة الظلمة لونة . تتعلق وتمكث ساكنة في محلها , وكأنها مسامير ثبتت فية منذ زمن بعيد , تنتظر هتك عرض غرفة مكثت عقوداً من السنين في سكون مميت تحفظ عذريتها بعفونة تربة , تتراكم طبقة فوق طبقة , تحكي نمو الشارع الذي سُمي بعد خمسة عشر عاماً من شقة من دون افتتاح أو مهرجان يليق بة ب(( الرشيد ))ً بناءً على اقتراح سعادة أمين العاصمة .


مع نمو كتلة الطين المتيبسة على سطح الدار , يزداد عمق حفرة التنقيب في أسفل الغرفة المهجورة , والتي أكلت زمناً من العمل المتواصل , فاعترتة الصفرة نتيجة الجهاد والمكوث في مكان مغلق , يزداد عمقاً بعد كل ليلة عمل شاقة على جسدة الضامر . ينظر جدرانها تبتعد عنة , حتى أن دكة الباب أصبحت من الارتفاع بحيث لا يقوى على حمل جسدة لارتقائها . يعلل نفسة :
- اقترب اليوم الذي أختم فية العمل .
أو :
- إن أساسات البيت أصبحت قريبة . قد لا تبعد سوى ضغطة واحدة من مجرفتي , إن لم يكن قد وصلت إليها بمجرد ازاحة الطين الذي تحت قدمي .



بدت الصراصر , ندباً سوداً , صغر حجمها , متلاصقة مع بعضها البعض . خطوط مرسومة بعفوية على الجدار . تحركت , خلقت لنفسها مسارب , كأنها مستعمرات نمل دب النشاط في أوصالها . تفرقت تاركة صفوفها التي انتظمت فيها . مسها الذعر كجيش منهزم أو مدينة أصاب ناسها ذعر زلزال . اتجهت الى كيس طعامة المعلق على مقربة منها . اثارة تحركها , فعلق بصرة بالجدران التي أدرك متأخراً حجم التشقق الذي ازداد اتساعاً فيها . أخذ الكلس يهمي على رأسة...من دون أن يترك لة فرصة ...على طين الحفرة , وهو يراقب بتوجس مستطيل الباب الذي سقطت منة آجرات عديدة . غطى رذاذ الطين المتطاير من ارتطامها كل جسدة . حاول اتقاءة بكلتا يدية , مانعا وصولها الى وجهة المغطى بهما وفي ذهنة مزلاج الباب الرئيس الذي أغلقة خلفة بعنف على ظلمة دامسة ..........



#حسن_كريم_عاتي (هاشتاغ)       Hasan_Kareem_Ati#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بكتريا المتاحف
- عزف منفرد
- مناهل الظمأ
- تخوم الماء
- الرتيمة *
- ليل الذئاب
- تبادل الأشلاء


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسن كريم عاتي - التنقيب في غرفة