عزيز الشعباني
الحوار المتمدن-العدد: 2090 - 2007 / 11 / 5 - 09:15
المحور:
الادب والفن
في أحد الصباحات المشمسة لكانون الثاني حين كان يسير على شواطئ دجلة
وسط غابات البردي وألأدغال ، وتتساقط قطرات الندى على ظهره ... كان لايعرف الى اين يتجه وهو يجول بنظره زوايا المكان ... وفجأة وقعت عيناه عليها ... كانت شبحا من السعادة ... دعجاء العينين ... كحلية اللون ... تتراقص بين عينيها غرة بيضاء ، بشكل خارطة العراق ... يطوق كواحلها لون ابيض كجناجل الفضة التي تزين سيقان صبايا الهند ... فظهرت تتلألأ كالفرح الجميل ، جعلت الحمار يشعر ببرودة لذيذة وكأنها تهدهد قلبه المحموم ، فظل متجمدا في مكانه ، فهو لم يعرف مثل هذا الأحساس من قبل .
عادت هي لتسرح بنظراتها وكأن في عنيها الدعجاوين ربيع السهول وكم تألقتا بالفرح الغامر وهما تغردان لبغداد ونهريها ، دارت عيناها تتفحص الشواطئ الآمنة التي تنتشر عليها بقرات يلتمع لونهن مع طلة الصباح ، وزينت جوها نوارس بيضاء وسرب من الأوز يسير بهدوء وكبرياء في النهر ... نظرت لكل الأشياء التي تحيطها بتأمل غير مصدقة بنظراته اليها ، فتنفست رائحة البرد اللأذعة ، وسرت في كيانها ارتعاشة تنم عن تساؤل كيف يمكن ان يكون فارس أحلامها من سلالة اخرى ، اضافة الى أنه حمار من عامة الحمير وهي المهرة جوليت الجميلة من سلالة خيول الوالي ... احست وكأن عناق الريح لحواسها يحيي كل خلاياها النائمة ويوقض افراحها الدفينة ويوقد فيها جذوة الأمل والرغبة بفك قيود الأفكار المكفنة والأرتباط بفارس أحلامها المقدام ، ورود بيضاء بجانبها رفعت اعناقها من بين الأطيان وغابات البردي ، لكن الألم يصفعها كلما تذكرت ابن عمها جون وهو يرفس شقيقته الفرس صهباء حين احبت الوعل كارون وحمل خطيئتها منذ ذلك الحين ، فأبتلعت حدوة الحسرة وهي ترى ذكرى قوافل افكار جون المتعصبة ، لكن الفرح يتوقد في قلبها من جديد حين تنظر الى آيات الخضرة تداعب الأشعة الفضية المنعكسة من مويجات دجلة ، وهديل كانون الثاني يردد صداه في المساجات الممتدة على جانبي النهر ، هذه المساحات التي كسيت بالعشب المتلألا ، وظلت الصور تتعاقب في مخلتها ... جون ... صهباء ... فارسها المرتقب ... الأختلاف ... التشابه ... اللون ... الشكل ... السلالة ... واخذت صورة التآلف تكبر أمامها ... حصان وحمارة ... حمار ومهرة ... يملؤون الشاطئ مرحا ... وتمنت لو دخلت الى هذه الصورة لتستمع لحوارهم ، لنبضات الأمل الجديد الذي يرف في قلوبهم .
تمتمت
هل انا في حلم ؟
وانتبهت في هذه اللحظة الى أبناء جلدتها من الخيول الملونة والمنتشرة بجانبها على طول الشاطئ ، كانت ساهية عنهم وهي تغرق في سماء التأمل وامامها الحبيب الذي ينتصب كأسد بابل بسيقانه الطويلة المنغرسة في أطيان الشاطئ ، حيث كان طيلة الوقت لايكف من النظر صوب سمرائه ، ولم يهدأ له بال حتى رمقته بنظرة وابتسمت ابتسامة أشرقت معها عيناها ثم رفعت أطرافها وشقت نبع الماء بخفة فتفجرت موجاته المظللة بغابات الأعشاب والبر دي فرحا بولادة هذا الحب واتجهت صوب السقيفة المبنية من خوص النخيل لكنها كانت هي الأخرى قد نسفت ولم تسلم من التفخيخ ، اقترب منها الحمار واشار بحركة من رأسه الى السقيفة المهدمة وقال :
انظري لم يبق فيها شئ عامر ، لكن علينا ان نبنيها ونعيد اليها حيويتها وهي تحتضن ورود الحب .
راقها كثيرا هذا الكلام فأحنت رقبتها الجميلة الطويلة وقربت وجهها من رذاذ الماء المتناثر من ارتجافة رأسها وهي تلامس الماءوتشرب منه بتلذذ طاردة من اعماقها وحشة الليل البهيم ورعب الأفكار المتجهة صوب المنحدر ، فأنسحبت من غير وداع وأخذت تخطو في الدرب الوعرة بأتجاه زريبتها الثكلى المحملة بضبابية جون .
تركها الحمار بدوره ومضى بصعوبة مارا بأطراف احجار الشواطئ بأتجاه الضفة الأخرى ، وحين عاد عابرا الجسر الخشبي الذي شيده جنود الأحتلال بدلا من الجسر المنسوب بعد غياب طال مايقارب الشهر ، رأى شريطا قد طوق رقبة حبيبته يدل على الأقتران في عرفهم ، فشعر بحيبة أمل قاتلة ، حزن بعدها كثيرا وعاش مع ألم كبير في روحه ولعن التفكير السلالي الذي عمقه جون ، فأخذ رأسه يدور ، وصار يخيفه هذا الصمت المميت الذي ران على النهر بظلمة خانقة ، أحس بتخاذل في جسمه وهو يشعر ببرودة مياه شبط المتدفقة صوب الجنوب ، تلفت حوله ، لهث وتصبب عرقا ، ورأى من بعيد خيوط ضوء تتحرك تبرق وتختفي ، انطلق صوب الضوء ، برقت السماء لحظات فأتشحت الأرض بضياء انهمر بعده المطر بموجاته المتعاقبة يلعب بها الهواء العاصف ، خطى خطوات وتوغل أكثر بأتجاه المطر وهو يشق مياه النهر ويرمي أحلامه خلفه ويتسلق احجار الشاطئ بأتجاه جسر العبور العسكري الذي صار فوقه بنفس اللحظة التي آمن فيها بخلود حبه ، حينما سمع الأنفجار خلفه وأحس بالنار تخترق منتصف ظهره ثم لطم رأسه الكبير أرض الجرف القريب من جوليت .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟