أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خوسيه ساراماغو - من العدالة الى الديموقراطية مروراً بالأجراس















المزيد.....

من العدالة الى الديموقراطية مروراً بالأجراس


خوسيه ساراماغو

الحوار المتمدن-العدد: 93 - 2002 / 3 / 17 - 12:08
المحور: الادب والفن
    



JOSE SARAMAGO

بين مبادرة احد المزارعين في ضواحي فلورنسا بدق الاجراس معلنا موت العدالة، وبين نمو الحركة الساعية الى عولمة من نوع آخر، مضت اربعة قرون من الزمن. ومع ذلك فإن خوسيه ساراماغو يتبع المسار عينه، فالمقاومون يدقون الاجراس اليوم من اجل الديموقراطية. قالها الكاتب البرتغالي الكبير امام ستة آلاف مناضل تجمعوا بدعوة من منظمة "أتاك"، كذلك تمت قراءة هذا النص في الجلسة الختامية للمنتدى الاجتماعي العالمي في بورتو الليغرى يوم الخامس من شباط/فبراير.

اروي لكم في البداية فصلا لافتا من فصول الحياة الفلاحية حصل في قرية في جوار فلورنسا منذ اكثر من اربعمئة سنة.
اسمح لنفسي بلفت كامل انتباهكم الى هذا الحدث التاريخي الهام، لأن الدرس الاخلاقي المطلوب استخراجه منه لن ينتظر - وخلافا للتقليد - نهاية الحكاية بل سرعان ما سيبرز امامكم.

كان الاهالي في بيوتهم او منصرفين الى اعمالهم في الحقول عندما سمعوا فجأة صوت جرس الكنيسة. في ازمنة التقوى تلك (نتكلم عن حدث وقع في القرن السادس عشر) كانت الاجراس تُقرع مرات عدة في اليوم فلم يكن من سبب للمفاجأة. بيد ان هذا الجرس كان يقرع قرعاً حزيناً وذلك كان غريبا لأنه لم يُشَع عن وجود احد سكان القرية في حال النزع الاخير. فخرجت النسوة الى الشارع اذاً، وتجمع الاولاد، وغادر الرجال حقولهم واعمالهم والتقى الجميع بعد قليل في باحة الكنيسة ينتظرون ان يقال لهم من توفي ليبكوه. قرع الجرس لدقائق اضافية لكنه صمت في النهاية.

بعد لحظات فتح الباب وظهر احد الفلاحين عند العتبة. وبما انه لم يكن الشخص المكلف عادة قرع الجرس، كان منطقياً ان يسأله الاهالي عن قارع الجرس وعن اسم الشخص المتوفي. فاجابهم الفلاح: "قارع الجرس ليس هنا وانا قمت بذلك"، فأصر عليه المزارعون بالسؤال: "لكن ألم يمت احد؟"، اجابهم من جديد: "لم يمت احد له اسم وهيئة انسان بل اني قرعت الجرس حزنا على العدالة لان العدالة ماتت".

ماذا حدث؟ حصل ان سيد الانحاء الجشع (كونت او مركيز لا يردعه رادع) كان يعمد منذ زمن طويل الى تغيير حدود اراضيه ليتقدم بها داخل قطعة الارض الصغيرة التي يملكها هذا المزارع، وكلما تقدم بها ضاقت رقعة ارض الرجل الذي بدأ بالاعتراض على هذا الظلم ثم راح يستجدي الشفقة الى ان قرر في النهاية رفع شكواه الى السلطات وطلب حماية العدالة. لكنه عبثا حاول، فالاعتداء كان مستمرا. عند ذاك قرر من يأسه ان يعلن على العالم اجمع ، والقرية هي العالم اجمع في نظر من لم يغادرها، موت العدالة.

ربما اعتقد ان استنكاره الحماسي هذا سينجح في استثارة اجراس الكون كلها من دون تمييز في عرق او معتقد او تقليد، وانها سترافقه جميعها من دون استثناء في نعيه للعدالة، وانها لن تصمت قبل ان تولد هذه العدالة من جديد. ان ضجيجا من هذا القبيل يطير من بيت الى بيت، من قرية الى قرية ومن مدينة الى مدينة قافزا فوق الحدود من شأنه في الضرورة ايقاظ العالم من سباته... لا اعرف ماذا حدث في ما بعد، لا اعرف اذا شمّرت السواعد الشعبية لتنجد الفلاح في اعادة الحدود الى مكانها، او اذا عاد الفلاحون مطأطئي الرؤوس ومنكّسي النفوس الى حياتهم اليومية الحزينة بعدما ابلغوا بوفاة العدالة. فالثابت ان التاريخ لا يخبرنا دائما كل شيء... افترض انها المرة الاولى في مكان ما من العالم، يبكي فيها الناقوس البرونزي الجامد موتَ العدالة بعدما دق حزنا لا يحصى على موت البشر. بعد ذلك الحين لم يسمع احد صوت الجرس الجنائزي في قرية فلورنسا لكن العدالة ظلت تموت ولا تزال تموت كل يوم. واليوم بالذات وفي اللحظة التي اكلمكم فيها، ثمة من يقتلها في مكان قريب او بعيد، عند باب بيتنا ربما. وفي كل مرة تموت فيها كأنها لم تكن بالنسبة الى من وضعوا ثقتهم فيها وينتظرون منها ما يحق لنا انتظاره من العدالة: العدالة بكل بساطة.

ليست تلك المتجلببة في ردائها الاسود تتحفنا بالبلاغة القانونية الجوفاء. ليس تلك التي سمحت بأن تُعصَب عيناها ويُزوَّر ميزانها. وليست تلك التي يقطع سيفها من جهة اكثر من جهة بل عدالة متواضعة، رفيقة يومية للانسان، عدالة يكون الانصاف في نظرها مرادفاً دقيقاً وتاماً للاخلاق، عدالة تنجح في ان تكون لسعادة الروح ما هو الاكل بالنسبة الى الحياة. اي أن يكون لا غنى عنها. عدالة تمارسها المحاكم على الارجح في جميع الحالات التي ينص عليها القانون، لكنها عدالة تكون ايضا وخصوصا انبعاثاً تلقائياً من المجتمع الفاعل نفسه، عدالة يبرز فيها احترام حق الوجود لأي كائن بشري باعتبار هذا الحق فريضة اخلاقية لا مفر منها.

لكن من حسن الحظ ان الاجراس لم تكن تقرع فقط بكاءً على الذين يموتون، بل ايضا لاعلان ساعات النهار والليل ولدعوة المؤمنين الى العيد او الصلاة، وجاء زمن ليس بالبعيد كان الناقوس ينذر فيه بوقوع الكوارث والفيضانات وغيرها من الحرائق والمصائب التي تهدد الجماعة. اليوم تكتفي الاجراس بدور اجتماعي يدعو الى الواجبات الطقسية، وقد تُعتبر فعلة الفلاح الفلورنسي تصرفاً مجنوناً او الاسوأ من ذلك مجرد مسألة يرجع حلها الى الشرطة. اما اليوم فإن اجراسا اخرى مختلفة تقوم بمهمة الدفاع وبتأكيد إمكان قيام عدالة في هذا العالم تكون رفيقة للانسان وشرطا لسعادته الروحية وحتى شرطا لغذائه الجسدي مهما بدا ذلك مفاجئا.

مع قيام عدالة من هذا النوع لن يموت انسان من الجوع او من جراء تلك الامراض القابلة للشفاء عند البعض والقاتلة عند البعض الآخر. بوجود مثل هذه العدالة لن تعود الحياة عقابا رهيبا ترزح تحته نصف البشرية. الاجراس التي ينتشر صداها في كل مرة عبر العالم اجمع هي حركات المقاومة والتعبئة الاجتماعية المتعددة المناضلة من اجل عدالة توزيعية وتحويلية جديدة يمكن جميع البشر ان يعتبروها عدالتهم الاصلية. عدالة تحمي الحرية والحق ولا تدافع في اي حال عمّن يتنكر لهما.

قلت اننا، في ما يخص تلك العدالة، بتنا نمتلك قواعد تطبيق عملية يسهل فهمها على الجميع وهي قواعد مسجلة منذ خمسين عاما في الاعلان العالمي لحقوق الانسان، تلك الحقوق الثلاثون الاساسية التي لا يشار اليها الا لماما او يصار الى تجاهلها في شكل منهجي. فهي تتعرض الى احتقار وانتهاك يتجاوزان ما تعرضت له ارض مُزارع فلورنسا وحريته قبل اربعمئة عام. وقلت ايضا ان الاعلان العالمي لحقوق الانسان في صيغته الراهنة ومن دون اي ضرورة لتعديل فاصلة واحدة فيه، يمكنه ان يحل محل برامج الاحزاب السياسية في انحاء الارض كافة فيرفع من مستوى استقامة مبادئها ووضوح اهدافها.

اقصد في شكل خاص من يُسمَّون يسارا وهم متجمدون داخل وصفات عفا عليها الزمن، لا تحيط بوقائع العالم الراهن الفجة او تعجز عن التصدي لها فتغمض عيونها عن الأخطار البارزة والمخيفة التي يخبّئها المستقبل في مواجهة السعي الارقى للبشر الى كرامة عقلانية وحساسة. اضيف ان الاسباب نفسها التي تدفعني للتوجه الى الاحزاب السياسية في شكل عام، تقودني ايضا نحو النقابات في جميع البلدان، وتالياً نحو الحركة النقابية العالمية في مجملها. فسواء عن ادراك ام لا، يتحمل ما تبقّى من الحركة النقابية في انصياعه وبيروقراطيته، الجزء الاكبر من المسؤولية في ما نشاهده من ركود اجتماعي ناجم عن مسار العولمة الاقتصادية الجارية. لا يفرحني ذلك لكني لن اسكت عنه. حتى انه لو سُمح لي بإضافة مثلي الخاص الى امثال لافونتين، لقلت اننا اذا لم نتدخل في الوقت المناسب، اي مباشرةً والآن، فإن هرّ العولمة الاقتصادية سيلتهم بلا رحمة فأر حقوق الانسان.

والديموقراطية، هذا الاختراع القديم الذي كان يعني لأهل أثينا السليمي النية، وضمن الاطار الاجتماعي والسياسي الخاص بتلك الحقبة من التاريخ، حكمَ الشعب بواسطة الشعب ومن اجل الشعب، بحسب ما نصت عليه العبارة الشائعة؟ اسمع غالبا اشخاصا معروفين بصدقهم، كما اسمع غيرهم ممّن يتلبسون حسن النية يدافعون عن الفكرة الآتية: مع انه لا يمكن انكار الحال المأسوية التي يغرق فيها القسم الاكبر من العالم فإن املنا في التوصل الى احترام كامل او مقبول لحقوق الانسان يكمن بالتحديد في النظام الديموقراطي العام.

الامر مؤكد شرط ان يكون نظام الحكم وادارة المجتمع المعروف بالديموقراطي اسماً على مسمى. لكنه ليس كذلك. صحيح اننا نقترع واننا نختار ممثلينا في البرلمان من خلال التفويض الذي نعطيهم اياه عبر الاحزاب بصفتنا مواطنين كاملي الحقوق. صحيح اخيرا ان الحكومة تأتي من الحجم التمثيلي للاطراف والتحالفات السياسية التي تفرضها ضرورة قيام اكثرية. كل ذلك صحيح لكن الصحيح ايضا ان امكانات الممارسة الديموقراطية تبدأ هنا وتنتهي هنا.

يمكن الناخب اسقاط حكومة لا يرضى عنها واستبدالها بحكومة اخرى، لكن تصويته هذا لم يكن له قطّ، ولن يكون له ابداً، ايّ تأثير ملموس على القوة الحقيقية الوحيدة التي تحكم العالم وتحكم بلده وشخصه تالياً، قصدت بها بالطبع السلطة الاقتصادية في القطاع المتزايد الاهمية والذي تديره الشركات المتعددة الجنسية وفقا لخطط لا تمت بصلة الى الخير العام الذي تصبو اليه الديموقراطية من حيث المبدأ. جميعنا مدركون لسير الامور، ومع ذلك نستمر في الحديث عن الديموقراطية انطلاقا من آلية لفظية وعقلية لا تسمح لنا برؤية الاشياء عارية من دون تمويه. نتحدث عنها كأنها حيّة وفعالة في حين أنه لم يبقَ لنا منها سوى تلك الطقوس والممارسات غير الضارة وايماءات هذا النوع من القداس العلماني.

ولا نرى - كأن ما عندنا من عيون لا يكفينا لنرى - كيف ان حكوماتنا التي انتخبناها في السراء والضراء ونتحمل تالياً المسؤولية الاولى عن قيامها، تتحول يوما بعد يوم محض "مفوضيات سياسية" للسلطة الاقتصادية، مهمتها الموضوعية بلورة القوانين المناسبة لهذه السلطة. ثم يصار الى تجميل هذه القوانين بالدعاية المنحازة، رسمية كانت ام خاصة، قبل ادخالها الى السوق الاجتماعية حيث لا تلقى كبير معارضة، إلاّ في اوساط بعض الاقليات التي لا يعجبها العجب.

ما العمل؟ يدور النقاش حول كل ما يجري في العالم من الادب الى البيئة، من هروب المجرات الى تسخّن الارض، ومن معالجة النفايات الى زحمة السير. لكن النظام الديموقراطي غير قابل للنقاش كأنه معطى نهائي لا مسّ بطبيعته حتى نهاية الزمن. فإذا لم اكن مخطئاً، واذا كنت عاجزا عن جمع اثنين زائد اثنين، فإني اجد أنه من الملح ومن ضمن النقاشات الضرورية او التي لا غنى عنها، اطلاق حوار عالمي حول الديموقراطية واسباب تدهورها، حول مشاركة المواطنين في الحياة السياسية والاجتماعية، حول العلاقات بين الدول والسلطة الاقتصادية والمالية العالمية، حول ما يدعم الديموقراطية وما يلغيها، حول الحق في السعادة والحياة الكريمة، حول تعاسة البشرية وتطلعاتها او بصيغة اقل بلاغة، حول البشر الذين يؤلفونها بصفتهم افرادا او جماعات. ان اسوا الاخطأ هي تلك التي نوقع انفسنا فيها، ومع ذلك تلك هي حياتنا.

ليس لدي ما أضيفه، او بالاحرى كلمة واحدة لاطلب منكم لحظة صمت، فان فلاح فلورنسا صعد من جديد

الى قبة الكنيسة ليقرع الجرس، فلنصغي اليه من فضلكم.



---------------------------------------------------------------

* حائز على جائزة نوبل للآداب.

http://www.mondiploar.com/

جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم



#خوسيه_ساراماغو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- مهرجان للسينما بالذكاء الاصطناعي.. هل تتأثر هوليود بالتطور ا ...
- مهرجان للأدب الروسي في جنوب الهند
- يسرا: هذا ما شجعني على خوض تجربة فيلم -شقو-
- -أوقفوا تسليح إسرائيل!-.. الممثل خالد عبد الله يطلق نداء في ...
- مهرجان كان: السعفة الذهبية... منحوتة فاتنة يشتهيها مخرجو الس ...
- مزرعة في أبوظبي تدّرب الخيول لتصبح نجوم سينما.. شاهد كيف
- ثلاثة وزراء ثقافة مغاربة يتوجون الأديب أحمد المديني في معرض ...
- مشاهدة المؤسس عثمان ح 160.. قيامة عثمان الحلقة 160 على فيديو ...
- فروزن” و “موانا” و “الأميرة والوحش” وغيرها من الأفلام الرائع ...
- جامعة كولومبيا الأميركية تنقل الرواية الفلسطينية الى العالم ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خوسيه ساراماغو - من العدالة الى الديموقراطية مروراً بالأجراس