وجيه البعيني
الحوار المتمدن-العدد: 2062 - 2007 / 10 / 8 - 10:31
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في احدى اللقطات التلفزيونية، ابان حرب تموز، لفتني رتل من الدبابات الاسرائيلية يعتليها جنود يواجهون الكاميرا برفع شارة النصر. عندئذ، وعندئذ فقط، ادركت ان اسرائيل منيت بالهزيمة. اذ علمنا تاريخ الصراعات العربية مع الغير ان نربط دائماً بين الهزيمة وشارة النصر بحيث اصبحت الثانية في اللاوعي الجماعي العربي رمزاً للاولى. فرغم كل هزائمنا نرفض تقبل الواقع ونغرق في هوامات النصر انطلاقاً من مقولة العنفوان العربي المتوارثة منذ عهد الجاهلية. وهذا العنفوان هو في الواقع التعبير المقبول اجتماعياً، المرادف لعبارة البارانويا او العظام او جنون العظمة. ونذكّر هنا بان البارانويا هي بمثابة اوالية دفاعية لاواعية يستخدمها الفرد بهدف حماية نفسه من مخاطر هوامية. والمصاب بالبارانويا( او العظامي) هو عموماً شخص منغلق على نفسه او في اطار نظمته الدفاعية نظراً لاعتقاده ان الآخرين هم جميعاً اعداء له، يضمرون له الحقد والكراهية ، يحسدونه ويسعون الى تدميره واضطهاده كونه عظيماً ومتفوقاً، حسب رأيه، وبالتالي يتحكم به الشك والريبة والحذر وعدم الثقة بالآخر، ويدخل معه في صراع دائم. وهو الى ذلك مماحك، متصلب، محب للنزاع، ويتوهم ان عليه الدفاع عن نفسه باستمرار. أي انه ينتهز، بل ويفتعل، كل فرصة لإثبات فوقيته التي يعتبرها التحليل النفسي انها بمثابة تعويض عن عقدة الدونية والاضطهاد.
والواقع ان كلاً منا مصاب، بنسبة ما، بجنون العظمة، ويسعى الى الارتقاء بذاته نحو الافضل. وهذه حالة سوية شرط اتباع اواليات تكيفية مقبولة اجتماعياً ومعقولة منطقياً. انما اذا تفاقمت هذه الحالة فانها تتحول الى مرضية ويسعى بالتالي صاحبها الى استخدام اوليات سلوكية لا تكيفية، أي لا تقبلها البيئة الاجتماعية المحيطة ولا المنطق العقلاني. وعموماً تتميز الشخصية العظامية بأربع سمات اساسية تتكامل لتخلق بالتالي شخصية غير تكيفية وهي: ا- المبالغة في تعظيم الذات. 2- الشعور بأقصى درجات الشك والريبة تجاه الآخر. 3- حساسية مفرطة تجاه أي نقد حتى ولو كان بنّاء وموضوعياً ومنطقياً. 4- اطلاق احكام خاطئة او مبنية على اسس خاطئة. واذ تتضافر هذه الاضطرابات تحدث ردود فعل عدوانية يصاحبها الهذيان الذي نميز منه عدة اشكال هي: 1- هذيان التأويل: فكل حدث، مهما صغر شأنه، يصار الى تأويله من منطلق القلق والارتباك والشك والحذر تجاه الآخر. هذيان الاضطهاد حيث يتوهم العظامي ان الآخر يسعى الى اضطهاده وإلغائه نظراً لأهميته، حسب اعتقاده. 3- هذيان المطالبة اذ لا يتوقف العطامي عن المطالبة غير المنطقية بأمور يرى انها حق له، او بتغيير الواقع القائم. 4- هذيان التقييم المفرط للذات. فهو فوق الجميع ويسعى الى الالتقاء بالمشاهير والعظماء، بل ويعتبر نفسه انه اقرب الناس الى الله. وقد اثبتت دراسة هذه الهذيانات الابعة، عبر التاريخ، ان اشكالاً من البارانويا يمكن ان تؤثر سلباً على أي مشروع واي شعب، بل وعلى العالم. وقد تكون الحرب العالمية الثانية خير مثال على ذلك كون احد اهم اسبابها هو جنون العظمة عند هتلر.فقد يتحول العظامي الى قنبلة قابلة للانفجار في اية لحظة، خصوصاً في المجتمعات ذات النزعة القومية او الطائفية المتطرفة، كما في المجتمعات المغلقة حيث تقوم العلاقة بين القيادة والقاعدة على مبدأ الصنمية، اذ تتماهى هذه الاخيرة بقيادتها مما يخلق نوعاً من البارانويا الجماعية. وهذا التفاخر اللامبرر يسمى في الاسلام "الكِبَر" (لو الاستكبار) وهو نزعة او خلق في النفس باطني يظن معه صاحبه انه يتمتع بصفات ذاتية خاصة تتجاوز بكثير غيره. وعادة ما يسخر المتفاخر من الناس ويعتبرهم ادنى منه. وهو في الحقيقة لا يكابر الا كونه يشعر نقصاً في دواخله ويحاول التعويض عن هذا النقص، ولن يعوض، اذ جاء في الآية الكريمة:" ان في صدورهم الا كبر ما هم ببالغيه( سورة غافر 56). وعن الرسول( صلعم) : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر( رواه مسلم).
خلاصة القول ان العنفوان العربي، الذي يقبع في ملكوت يوتوبيا بعيداً كل البعد عن الواقع، هو نوع من البارانويا التي اندرجت في اللاوعي الجماعي العربي واصبحت احد الانماط القديمة المنتقلة تلقائياً من جيل الى آخر. ويتجلى ذلك في التفاخر اللامتناهي بالانا. ونجد في الادبيات العربية، القديمة منها والحديثة، صوراً حية لهذا التفاخر: انا الذي نظر الاعمى الى ادبي....اني وان كنت الاخير زمانه....انا ابن جلا وطلاع الثنايا... اني ارى رؤساً قد اينعت ...واني لصاحبها...الخ. ويبدو ان المتنبي هو اكثر من يمثل هذا العنفوان العربي الاجوف، وبه يتماهى كل العرب، وهو شاعرهم المفضل اذ فيه يجدون ضالتهم في التعويض عن حالة الدونية والانهزامية التي يغرقون فيها. وهو الذي قتله غروره وتعاظمه.
اليوم، يخشى ان يؤدي جنون العظمة عند البعض الى مزيد من التدمير والقتل والتهجير. وينطلق هذا الجنون عند فريق من كونه اختير من لدن الله كي يكون اشرف الامم، وعند فريق آخر من كونه نصب نفسه مواليا لله دون الآخرين وعند فريق ثالث يحاول ان يوهم الناس انه صانع مجدهم وتاريخهم...... والواقع انه لن يتم لنا النصر، نحن العرب، الا بالتخلي عن هذا العنفوان – العنجهية والتعامل مع الواقع، كائنة ما كانت سلبياته، واخذ العبر من الماضي والحاضر. ولنجعل مثالنا الاعلى اولئك الذين جانبوا التفاخر وتواضعوا ازاء الانتصارات كالنبي محمد والسيد المسيح والمهاتما غاندي وجمال عبد الناصر( الذي اعترف بهزيمة عام 1967 واستقال من منصب الرئاسة لكنه عاد عنها تلبية لرغبة الشعوب العربية). وما من شعب كتب له التقدم والازدهار الا لانه كان متكيفاً مع الواقع، بعيداً عن المكابرة العمياء.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟