فهمي الفهداوي
الحوار المتمدن-العدد: 2025 - 2007 / 9 / 1 - 11:14
المحور:
الادب والفن
المقامة المرثية الأخيرة : إلى روح الفيلسوف مدني صالح
جالسته مرات طوال في مقرات الصحف والمقاهي وقسم الفلسفة ، وفي بيته وخلال بعض رحلاته الموسمية إلى الرمادي وهيت مسقط رأسه ، فكان نجما في مكانه دون استعلاء ، وموجودا لا يضيق به المكان ، بل يستحي من تفلسفه المكان .
وتحاورت معه مرارا، فكان علما في فضاء المحاورة والكلام ، يمارس خطابا عميقا مكحلا بالتدوير وارتحالات الجدل ، فلا أجمل من ذلك ولا أقوى إلاّ صمته حين يلج الخصوم بالزعيق والصياح عنه وحوله بغير حجة ولا دليل ، وهو القوي بصمته وعزلته ولديه فيهما دوما الحجة والدليل .
وسايرته في طرقات بغداد وتجولت معه في شارع المتنبي ومكتبات شارع السعدون ، فكان صديقا للبعيدين الأشراف ، الذين لم يعرفهم شخصيا ولا يعرفونه إلاّ من خلال وميض القلم وما تحكي به الصفحات من كتب ومجلات وجرائد عن صلات وسجالات وأفكار ومواقف ، كما كان أيضا قريبا من الخصوم العدول الذين آثروا محبة الحقيقة والتحرّي عنها ، ولكنّهم أخطأوا وسيلتها وآلية التقرّب إليها ، وله رؤية خلاقة في قسمة الخيرات بين المتنازعين عليها ،شعوبا ومجتمعات ودولا ، ويعيب تراجع المدنية التي أفرطت بالمنجزات التنافسية والصراعاتية ، بمقابل تداعي القيم إلى ما وراء العبودية والانسحاق الآدمي .
فهو ذلك المخلوق الذي أعرض عن دروب السلطة ومغرياتها وكل ما تقتضيه مجاملاتها ، ولم يطرق باب حواتها أو يتملق في حيازة مناصبها ، وتزهد بأحلامه وآلامه ، حتى تسامى عن التفاهات والصغائر والجمل غير المكتملة المعاني والنصاب ، لكنه بقي ذلك السياسي الحذر من فخاخ السياسيين الهواة ، والذين لم يفقهوا درس الفلسفة الأول ، من أنَّ السياسي الفاشل ، لا يدرك أنَّ فشله ناجم عن عدم قدرته على فلسفة السياسة لا في الخطاب ولا في الجواب ولا في عبور الشوارع .
إمتلك عن جدارة صولجان توحده في معترك الفكر التحريضي ، والركض الأمين وسط ألغام الثقافة وتحولات الرأي وتنوير الزوايا التي يعتريها منطق الشك والفضيلة معا ، ليسقط بعضها ويدفع ببعضها إلى صلاحية الاستخدام والتحليل ، وكان يحمل في جعبته صيدلية إبن سينا وإصرار إبن تيمية ومفارقات الغزالي ، ليشكل نسيجا للفيلسوف المعاصر الذي يحفر في ملاعب الثقافة عن الفحم والقصدير والذهب والضفادع ، ويحدد موقفه الصارم من إدانة الفكرة الفاسدة وإنبهاره المتواصل بالفكرة النيّرة والسؤال عن الخير ، ولو بالمقلوب .
لقد قرر أن يركن سيارته في فسحة داره المتواضع جدا ، حين أصاب العراق جوع الحرب وحصار الجوع خلال أعوام التسعينيات ، بعد أن عجز عن شراء بطارية جديدة لها ، فراح يقضي مشاويره الثقافية والعلمية والحياتية بين الباصات والمصاعب والتعليقات ، وحاولت تخليصه من هذا الحال الذي وجدته متعبا له ، إذْ قلت له حين إقترابنا من موقف باصات باب المعظم ، عقب خروجنا سيرا من كلية الآداب عند الظهيرة :
- سأجلب لك بطارية جديدة لتعود إلى سيارتك ، وأنا متبرع لك بها .
فضحك ضحكة طويلة بعد أن أفرد ذراعيه في الهواء ، وانحرف عن موازاتي له ، وقال بصوت لا أنسى تقطّع نبراته :
- هل تحسب يا فهمي بأنَّ المشكلة متعلقة بي وبسيارتي التي تعوزها بطارية ...؟
قلت بسرعة :
- وكيف إذن ...؟
فقال وعيناه تتسعان ، وكان حقا فيلسوف الشارع والنظافة والحياة ، وفيلسوف النقد السياسي الفخم في سخريته ومعانية الشاهقة ، قال :
- العراق بأسره يحتاج إلى بطارية وليس مدني صالح فقط ...!
شعرت بالحزن لحظتها ، وودت البكاء علنا وليس كتمانا ، وصاح بي وسط المتزاحمين وهو يحجز لكلينا مقعدين في باص عتيق :
- هيا _ هيا تسلق دابة العصر .
وحين كنت إلى جانبه في الباص ، وما أن تحرك وسط فوضى الزحام ، همس بأذني واثقا :
- أريد أن أكتب كتابا عنوانه : محمد في نهايات القرن العشرين .
فهمت على الفور ماذا يهدف من وراء كتابه المأمول ، وكان هذا الحوار قد جرى في شتاء سنة 1994 .
لقد أحبَّ الناس هذا الفيلسوف الشامخ ، وأحبَّه طلابه وتلامذته وقراؤه وشباب المثقفين وشيوخهم ، وشكّل في مسيرة حياتهم الثقافية والمعرفية تأثيرا ومرجعية واحتراما طيلة ربع قرن ، دون أن تسنح للغالبية منهم فرصة الالتقاء المباشر معه .
كان واحدا من القليلين المؤثرين عن بُعد في العقل الثقافي العراقي ، برغم المعارك الحامية التي كان يخوضها مع معارضيه وخصومه وبعض الحاسدين والحاقدين عليه وعلى منهجه في العلم والفن والمعرفة والتفلسف ، فكانت له جولات وصولات في هذا المضمار ، ولم يجد خصومه إلاّ فخرا في كون أسماءهم وآراءهم ومنجزاتهم مثار تناول قلمه الزاخر بالحكمة الساخرة والشواهد المترابطة في المقارنات والاستنتاجات .
لقد تعايش الفيلسوف مع الجاحظ والفراهيدي والمتنبي ، وكان معجبا بالحسن البصري ، وله صحبة تاريخية مع الشاعرين الكبيرين السياب والبياتي ، وخص كلا منهما بكتاب يبحث في الشاعرية وتحليل المضامين الفلسفية والمعاناة الحياتية في قصائدهما ، ومع الشاعر اللبناني خليل حاوي ، كما له آراء في أفضلية النقد والملكة النقدية التي وجدها في رفيق دربه الناقد الدكتور جلال الخياط ، فأشاد بها ، كما أشاد بمسطرة اللغة والعُدّة النقدية الكلاسيكبة الهادرة عند صديق عمره منذ الطفولة الناقد يوسف نمر ذياب ، وأثنى على مدخل النقد النفسي للشعر ، الذي أطلقة الدكتور ريكان إبراهيم مشروعا في الحقل الثقافي العراقي ، وقال عنه : بأنَّه قاطرة لاختبار الشعر الجيد من الغثاء ، وطالما كان معجبا وعبر مقالاته الصحفية بالشاعر عدنان الصائع وتغنى بمقاطعه الشعرية ذات المسحة المتضمنة بؤس الإنسان وكفاحه وتأملاته المنكسرة .
لقد كان الفيلسوف سيدا أديبا ، وأديبا سيدا ، وشاعر الفلسفة بإطلاق ، يفلسف الشعر قريبا من مساحات الحياة ، فيرجع به إلى عباءة سقراط وأفلاطون والفارابي وابن رشد وهيجل ورسل ، ويقوّل شعراء المعلقاة ما يمكن أن يستخرج من أبياتها كلاما عجيبا ، يحاكي من خلالها بائع الخبز ورجل الطريق وجابي المصلحة وبائع الحلاوة ، وله قدرة مثيرة للدهشة في اختزال المقاصد المعرفية ، فهو يرى بأنَّ القرآن الكريم دليل وحدة العرب والمسلمين ، وما عدا ذلك مما ينتجه العقل الوضعي يعدُّ ضرب أخماس بأسداس في مضمار الوحدة والاتحاد والتلاحم ، ويؤكد لدعاة الوحدة من الأيديولوجين المعاصرين ، بأن ثمة أكثر من ثابت عقلي - تاريخي يدلل على قيام الوحدة ، منذ رحلتي الشتاء والصيف ومناوشات الصعاليك وتجاذبات الخلفاء بين دمشق وبغداد وما بينهما وحولهما من القلاع والمدن والمياه .
ها هو الفيلسوف الجميل قد غادر قبح ما وجد في أواخر أيام سنينه من خراب المدنية وتمزيق صفحاتها الأنيسة في بغداد والأنبار والعراق ، ومما جرى للعراقيين من الاحتلال بكل مقاييس الخروج عن الضوابط في الفلسفة والجمال والروح .
ها هو الإنسان الذي ظل قويا فلم يشهق في سعال ولا شكوى لأيما مخلوق يمشي على الأرض ، يغادر معبره بصمت المتلهفين والحزانى والبعيدين دون وداع .
ها هو علم يمضي بكل معانيه ومميزاته في الوجود والإنسانية والإيمان ، ليتوارى طي غياب أحزنني وأورثني بالدعاء الطيب له في قابل الأيام ، مقامة مرثية أخيرة لفيلسوف عصره الذي أصبح عصرا ليس جميلا ، يُعذرُ فيه الغائبون والراحلون والمبتعدون نحو غاياتهم الشتى .
عذرا – عذرا صديقي الفيلسوف ، فقد إنطفأت كهرباء الحقيقة في هذه الأوقات ، فلترحل جذوة الفلسفة عن هذا الوباء ...!
بقلم : د . فهمي الفهداوي
مدير مركز الحكم الصالح للدراسات الإستراتيجية
#فهمي_الفهداوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟