خلال الفترة الأخيرة، دأب المفوض السامي الأميركي في بغداد على الإعلان عن تأهبه لإعادة إعمار العراق بمشروع من طراز مشروع مارشال الأميركي الذي أعيد بواسطته إعمار اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فما هي حقيقة ذلك المشروع الذي ينظر إليه الكثيرون، بما فيهم أعداء السياسة الأميركية، باعتباره من مآثر واشنطن في اوروبا، ومن أفضالها عليها؟ وإذا كان ذلك المشروع مأثرة وفضلاً (وهو ليس كذلك إطلاقاً) فهل سيتعامل الأميركيون حقاً مع العراق مثلما تعاملوا مع بلدان اوروبا الغربية واليابان؟
الاختلاف الجذري بين مرحلتين
إن أول ما تجب الإشارة إليه، كي ندرك حقيقة ما يردّده المستر بريمر، هو الاختلاف الجذري بين المرحلة التي طبق فيها مشروع مارشال وبين المرحلة الحالية، فقد كانت الحرب العالمية الثانية صراعاً ضارياً بين أطراف رأس المال الرّبوي الدولي، المتحالفة ضدّ الشعوب والمتحاربة في ما بينها من أجل الغنائم، وحينئذ خرج الطرف الأميركي من الحرب منتصراً لوحده تقريباً، ونهض رأس المال الأميركي أعظم قوة ونفوذاً، ليحتل على الفور مركز القيادة الأول في النظام الربوي العالمي، أما في المرحلة الحالية، وعلى مدى ربع القرن الأخير وأكثر، فإن الرأسمال الأميركي يمنى بهزائم متلاحقة، ويحافظ على سيادته الدولية بالاعتماد على مجرّد القوة العسكرية الصماء الباغية. وقد حدث ذلك بعد أن استهلكت الولايات المتحدة مقداراً هائلاً من احتياطياتها، وتحوّلت من بلد دائن إلى بلد مديون ومن بلد مصدّر إلى بلد مستورد، أي أن الولايات المتحدة في مرحلة مشروع مارشال كانت تتربع على القمة، أما في مرحلة العراق الحالية فهي في حالة انحدار.
لقد ترتب على إضعاف وتدمير الجزء الأكبر من رأس المال الأوروبي والياباني، بسبب الحرب الثانية، إضعاف وتدمير البورجوازيات الأوروبية واليابانية. وكانت مقاومة النازية والفاشية قد نهضت على عاتق الأحزاب التقدمية والنقابات العمالية التي أخذت على عاتقها أيضاً مقاومة الخيانات البورجوازية (كما في فرنسا) فكانت النتيجة أن الحرب انتهت والمقاومة هي سيدة المسرح السياسي، لذلك كان ردّ فعل راس المال الأميركي، والبورجوازيات الأوروبية واليابانية التي سلمته زمامها، هو التصدّي الفوري لتلك المقاومة وجماهيرها العريضة، للحيلولة دون خروجها من شبكة العلاقات الرأسمالية، فكان مشروع مارشال أول وأهم أساليب التصدّي. أما اليوم، فإن الأمم جميعها وبمختلف فئاتها تقف من الديكتاتورية الأميركية العالمية موقفاً يتراوح بين التململ والاحتجاج وبين التصدّي والمقاومة.
اتجاهان لضبط اوروبا واليابان
لقد تحركت يومئذ الإدارة الأميركية، ومعها البورجوازيات الأوروبية واليابانية، في اتجاهين:
1- مشروع مارشال لإعادة بناء رأس المال في اوروبا عموماً، بهدف إيقاف المدّ الثوري التحرّري في المقام الأول، وخاصة في فرنسا وإيطاليا، وأيضاً بهدف السيطرة على رأس المال في كل من هذين البلدين.
2- إعادة بناء رأس المال في ألمانيا واليابان اللتين تميزت مجتمعاتهما بالضعف النسبي النقابي والسياسي، الأمر الذي كان يعني مردوداً ربحياً أكبر لرأس المال الأميركي وللبورجوازيتين الألمانية واليابانية، ناهيكم عن توفّر القدرة الأكبر للنمو والتوسع في هذين البلدين.
وبما أن الدولار غدا سيّد العملات، فقد نجحت واشنطن في تحقيق سيطرتها عن طريق الاستثمارات وشراء المشروعات القائمة في تلك البلدان، مقابل وعود بالتسديد بالدولار، ومقابل إعطاء الدائنين شهادات بتلك الوعود، فكانت "برامج الإعمار" العملاقة التي جعلت اوروبا واليابان، بمصانعها وشركاتها وأسواقها، بلداناً تابعة يقتسم الاحتكاريون الأميركيون منافعها وأرباحها! غير أنه من الثابت أن المخصصات الأميركية لم تكن تكفي لإعادة الإعمار، بل هي كانت حقاً الجزء الأصغر من التكاليف، أما الجزء الأكبر فقد وقع على عاتق الشعوب في اوروبا واليابان، وحتى الجزء الأميركي الصغير لم يأت من خزائن الاحتكاريين الأميركيين، بل من مدّخرات المودعين والمساهمين الأميركيين الصغار، ومن دافعي الضرائب، ومن بعض المصارف الأميركية، أي أن المرابين الأميركيين الكبار كانوا يسرقون مواطنيهم، فهم بالإجمال لم يوظفوا من جيوبهم ما يستحق الذكر، وجنوا الفوائد الضخمة والأرباح الطائلة التي عزّزت مواقعهم في النظام الربوي الدولي!
مشروع مارشال عملية احتيالية!
لقد وضعت نتائج الحرب الاحتكاريين الأوروبيين واليابانيين في حالة ذعر شديد من شعوبهم المدمّاة، فدفعهم الذعر إلى الرضى بالتبعية للأميركيين كحماة لأنظمتهم المتهالكة، وقادهم ذعرهم إلى الخيانة الوطنية، حيث مكنوا الأميركيين من الإطلاع بسهولة وبساطة على أسرار صناعاتهم المتفوقة، ووضع يدهم على كنوزهم العلمية والمادية والبشرية التي لا تقدّر بثمن!
لقد توجب على أولئك الأوروبيين واليابانيين الذين قبلوا برامج المساعدات والإعمار الأميركية الخضوع لشروط واشنطن، فانتشرت لجان المراقبة الأميركية في الدوائر الرسمية وفي إدارات الشركات للتدقيق في مدى الالتزام بتنفيذ البرامج، ولم تكن تلك، بالطبع، إلا مظاهر السيطرة الأميركية. أما اليابان فقد غدت مجرّد مستعمرة على مدى عقدين من الزمن، ثم تحوّلت إلى طرف من أطراف رأس المال الدولي الموحّد بزعامة رأس المال الأميركي!
إن ذعر البورجوازيات الأوروبية واليابانية من شعوبها قد دفعها إلى الاستجابة بلا تردّد للإملاءات الأميركية، وإلى الانخراط في الأحلاف، مثل حلف الأطلسي الذي اتسع ليشمل السياسة والاقتصاد والثقافة والمجتمع، وليساعد في توحيد الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة في إمبراطورية جديدة تقودها واشنطن. وقد اقتضى قيام الإمبراطورية الأميركية الجديدة زوال كل أثر من نفوذ منفرد، مستقل، لأية دولة رأسمالية قديمة، غير أنه ما كان باستطاعة واشنطن تحقيق انصهار تلك الدول عن طريق مجرّد العنف والإكراه العسكري، الذي هو خاصية الاستعمار القديم، فكان عليها التوفيق بين حاجتها إلى المستعمرين القدماء كمساهمين في إمبراطوريتها يقفون معها ضدّ الشعوب، وبين نزعتها الاحتكارية التي لا يمكن أن تسمح لهم بالإحتفاظ بسياساتهم الاستعمارية المستقلة عنها. وهكذا فهي دعمتهم بالمال والسلاح لقمع الثورات والمقاومة، وفي الوقت ذاته وضعت نفسها في موقع القادر على توجيه الأحداث كي تخدم في النهاية مصالحها أولاً. إن هذا هو عين ما نراه اليوم يحدث في ليبريا والكونغو والعراق وفلسطين وأفغانستان، وغيرها، فإذا كانت هذه حقيقة مشروع مارشال في اوروبا واليابان، فكيف سيكون في نسخته العراقية الجديدة، المختلفة كل الاختلاف، من حيث الظروف ومن جميع النواحي، عن تلك النسخة الفظيعة اليابانية الأوروبية؟!
عصر مظلم آذن بالأفول!
بعد الحرب الثانية، كانت الولايات المتحدة هي الاحتياطي الهائل للعصر الأوروبي الأميركي ونظامه العالمي، وهو كان الاحتياطي الأخير الذي استنفدوه، وهاهم يتوجهون اليوم بجيوشهم الجرّارة إلى بلادنا العربية والإسلامية ليجعلوا من ثرواتها ركناً أساسياً من احتياطي آخر يحلمون بتوفيره لعصرهم ونظامه المظلم الذي آذن بالأفول! غير أن هذا التوجه لا يمكن أن ينجح إلا باستعبادنا أو بإبادتنا، وهذا ما يفسّر لنا تماديهم في عمليات التدمير والقتل ضدّ الفلسطينيين إلى حدود لم يشهد العالم مثلها من قبل أبداً. إنهم يريدون كسر إرادة المقاومة العربية والإسلامية متجسّدة بالإرادة الفلسطينية، وها هم يتوهمون أن نجاحهم بكسرها في فلسطين سوف يسهّل مهمتهم اللعينة، الربوية، في العراق وغير العراق. إنهم يتوقعون تجنب مواجهة المقاومة المتطوّرة في العراق، ويأملون إخضاع، بل إركاع العرب والمسلمين، بتدمير الفلسطينيين وذبحهم، فهل سينجحون، أم أنهم يخوضون معارك ما قبل انكفائهم التاريخي الذي آن أوانه؟