احمد جابر
الحوار المتمدن-العدد: 80 - 2002 / 3 / 4 - 17:02
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
ودع بعض اللبنانيين شهر شباط، بصيحات غضب، وباستيحاء قرقعة طناجر. في المظهر الاول تعبير اصيل عن امتلاء النفوس بصنوف الاسى والضيق من الحالة العامة السائدة، وفي التعبير الثاني ((تقليد دخيل)) لمماثلة البطون الخاوية هنا بمثيلاتها في مطرح آخر. وبعيداً عن الصخب والحركية العالية، قبيل التحرك المطلبي الاخير، وخلاله، يفترض الفهم لما جرى، ملامسة جوانب ((الحدث)) بهدوء، من زاوية رؤية اهل الحدث لأنفسهم، فيه ومن خلاله، كما من زاوية المراقبين والمتابعين، على صعيد وطني اشمل.
تقريباً لموضوع الفهم، واختصاراً لمسافة المباشرة فيه، ننزل تحرك الثامن والعشرين من شباط الفائت في خانة ((اليسار)) عموما، ونحيل مرجعيته العامة الى الحزب الشيوعي اللبناني خصوصا. هذا التحديد الاولي، لا يقطع وشائج صلة التحرك المطلبي وأهله، باللوحة السياسية العامة، لكنه يسهل استيعابه اولا، ويفسح في المجال لقراءة دلالات الخاص بارتباطها بالوقائع الاعم ثانيا. إذن، ماذا أراد ((اليسار)) من تمسكه بموعد الثامن والعشرين من شباط، بعد ان تراجع الاتحاد العمالي العام عنه؟ وما مدى توفقه في الوصول الى ما رمى إليه؟ بجواب بسيط، يمكن القول، ان ((اليسار)) اراد اثبات وجوده في الشارع، واعادة ضخ الحيوية في خانته الاجتماعية والسياسية الشاغرة، وذلك في مواجهة، او في موازاة، الحيوية الطوائفية اللبنانية الفائضة على مختلف الخانات. بمقياس الحشد الذي ضمته التظاهرة، نجح ((اليسار)) في شد الانتباه الى وجوده، يساعده في ذلك غطاء وطني عام كان في اصل الدعوة (رغم التراجع عنها)، واحتقان شامل، لدى اهل موقع اجتماعي لبناني خاص، هالهم ما يتعرض له الوضع اللبناني من افناء لكل فضاءات تنفسه الجامعة.
إلا ان غطاء الحشد، المشدود الى موقع اجتماعي اصيل في الحياة اللبنانية، لا يستر المعضلات القديمة الجديدة، التي ما زالت تلقي بقفاز التحدي في وجه قوى ((اليسار)) في البلد. والتحدي هنا هو القدرة المتنامية على الخروج المطرد من احكام الماضي الى خيارات المستقبل. على هذا الصعيد جاءت التظاهرة في بعض دلالاتها وكأنها صوت من الماضي، خاصة لجهة بعض شعاراتها وهتافاتها التي ما زالت تتكئ على ذاكرة سابقة، ولجهة تداخل مستويات قواها النقابية والسياسية الى حد ملامسة عدم التمييز، اي تكرار مسلك حكم اليسار عموما في علاقته بالنقابي، حيث كان الراجح هو إلحاق هذا الاخير، الى حد إلغائه ((فعليا)) من معادلة الحضور الوازن المستقل كنقابي، له بعده الاجتماعي الضاغط بثقله على مجمل الاداء السياسي الرسمي منه والشعبي. لا يعني ذلك انه يمكن القفز من فوق حقائق واقعية عنيدة، وأحيانا قاهرة، في الوضع اللبناني، لكن الاشارة ضرورية حتى لا يتحول امر مناقشة التحرك الى احتفالية بحتة. واذا كانت الاحتفالية غير محمودة في هذا المجال، فإن التنافسية التي حاول بعض الاعلام اغراق التحرك في متاهاتها، غير جائزة، بل هي لا تستند الى اساس حقيقي، اذا كان الحقيقي في هذا المجال، يعني القوى الاجتماعية النابضة والوازنة التي يقف على أرضيتها اي تحرك. هنا نستطيع القول ان من التعسف غير المجدي اقامة موازنة بين الحزب الشيوعي، كفصيل اساسي لليسار وفيه، وبين سواه من المتفرعات. بل لعل رحلة السنوات الاخيرة حسمت في صالح موقع الحزب الشيوعي، باستمرار انشداد كتلته الاجتماعية الى مسقط رأسها الاصلي، في حين اشكل الامر على من حاولوا ((بديلا)) او ((تطويرا))، فقفزوا في السياسة قفزات غير صائبة اجمالا، مما سهل تصنيفهم في هذه الجهة السياسية الطائفية او تلك. في مجال سياسي آخر، بدا التحرك، قراراً ومحتوى حشد، وكأنه يستعيد سياسوية ماضية جرى تجريبها إبان تولي السيد الياس ابو رزق رئاسة الاتحاد. لقد أدت تلك الممارسة الى حجب المعضلة النقابية يومها، كما افضت الى ستر عجز القوى التي تكوكبت تحت لافتة الاتحاد العمالي العام. وبرغم الحضور السياسي الصاخب والمشاكس، إلا ان نتائجها جاءت في غير مصلحة طرفي معادلتها: الحزبي والنقابي. لسنا هنا في صدد استعادة مكونات الهجمة الشرسة التي تعرض لها ((تمرد)) الاتحاد العمالي، لكننا في وارد التنبيه من النيل من موقع نقابي أساسي، هو موقع الاتحاد الوطني للنقابات، بسياسوية فقدت الكثير من زخمها بتخلي اطراف أساسية عنها في السياسة، وبرفع غطاء الاتحاد العمالي العام عنها.
وما يصح على الاتحاد الوطني للنقابات، يصح على هيئات نقابية وديموقراطية اخرى، فالمصلحة العامة تقتضي تعزيز استقلاليتها، وعدم الزج بها، كملاحق، في معارك إثبات وجود، قد تنجح مرة، لكن لا يمكن تكرارها كل المرات. إن من شأن تظهير الاستقلالية النقابية عموما، ان يضع الجسم النقابي امام اشكالات تمثيله، وأمام مصاعب تعبيره، وأمام العوائق المنتصبة موضوعيا وذاتيا في وجه تحركاته، بمضامينها الخاصة والعامة، كذلك فإن من شأن احترام هذه الاستقلالية، الوقوف من جانب ((اليسار)) امام معضلة قواه الفعلية، ومدى اتساع دوائر طرحه السياسي والبرنامجي ضمن دوائر اجتماعية تتوسع باستمرار، هكذا لا يجري ستر النقابي بالحزبي ولا يتم العكس.
إذا كان هذا هو بعض شأن التحرك في ساحة ((اليسار))، فإن التوجس والتردد و((نفض)) اليد كان سمة لدى بعض من اعتادوا النطق بالاعتراض. وعليه شهد التحرك في 28 شباط، مواكبة بيانات من بعض اهل ((الاعتراض)) هؤلاء، كما شهد مرافقة تخريجات لبعضهم الاخر، لأن حسابات حقل القيّمين على التحرك، لا تتناسب وحسابات بيدر هؤلاء، عندما يحين أوان التوظيف السياسي في المعادلة الطوائفية المعمول بها. في هذا المضمار بدا التحرك المطلبي وكأنه لم يستطع ان يشكل نقطة اهتمام جامع، على الاقل في نفحته الانقاذية المطلبية. اي بكلمة، بقي ((اليمين يمينا)) في مكانه، وظل ((اليسار يسارا)) في موضعه. ويظل السائد، حتى إشعار آخر، مصالح الطوائف بتعبيراتها المختلفة، ما يدفع الى التساؤل: متى يستعيد كل من اليمين واليسار انتسابه حقا الى مهمة الانقاذ في لبنان؟.
كاتب لبناني
©2002 جريدة السفير
#احمد_جابر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟