أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم مالك - حقا هذّ بت براغ عقلي















المزيد.....



حقا هذّ بت براغ عقلي


ابراهيم مالك

الحوار المتمدن-العدد: 1994 - 2007 / 8 / 1 - 06:10
المحور: الادب والفن
    


( فصل قصير من كتاب " نتف من الذاكرة " ، آمل الانتهاء من إعداده للطباعة قريبا )
حدث ذلك في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي.عملت يومها ممثلا للحزب الشيوعي الاسرائيلي في مركز الحركة الشيوعية العالميةالمرتبطة بالاتحاد السوفييتي،آنذاك،وممثلا له في مجلة الأحزاب الشيوعية المذكورة:" قضايا السلم والاشتراكية ".
كان وصولي الى براغ حلا ًلمشكلة وقعت لي في كفرياسيف.أشعربخطأ كبيرارتكبته يومها،فقد دفعني بعض الغرور،الذي كان لا يزال عالقا فيّ من نزق الشباب،وداعبت عواطفي فكرةأن أرضخ لضغوط أصدقاء وآخرين، وأقبل بترشيح نفسي لرئاسة المجلس المحلي.فنشأ خلاف مع بعض قيادات الحزب،التي كانت ترى أنّ وعي الناس في القرية لم ينضج بمافيه الكفاية لينتخبوا من هو لاجىء،غريب عن القرية،ومن هو ليس من أبناء الأكثرية الد ينية –المسيحية- في القرية. يومها نرفزت وشكوت أمري لمن كان رئيس تحرير"الاتحاد"،الدكتور اميل توما،الذي كنت أحترم عقله،حسّه الانساني،دماثته الخلقية وصبره،ونائبه في هيئة التحرير،طيب الذكرعلي عاشور،الذي كنت أرى في عينيه وأحاديثه مأساة وحنين الانسان الفلسطيني المبعد عن أهله ووطنه الصغير والكبير،غزّة وفلسطين.
اكتشفت يومها ما لم ألتفت اليه من قبل ولم يعنِني:كنت تاريخيا وبالوراثة ابنا لعائلة مسلمة.وكان كثيرون من أهل القرية لا يعون ويعرفون حقيقة هذا الانتماءالتاريخي العرضي،فكنت مذ وعيت وفي تربيتي العائلية والحزبية أعتمد صراحةالانتماء الأكبر والأساس:انتمائي القومي – الوطني، الانساني والاجتماعي.
فوجئت يومها،لسببين ـاوّلهما تأصّل وعمق مفهوم الانتماء الضيق بين جماهير شعبنا:مفهوم الانتماء الانساني وحصره،أساسا،في مفهوم الطائفة أوالحمولة والعائلة والقرية والحي،وثانيهما أن ّشيوعيين كثيرين لم يخلصوا من هذا المفهوم المسيء والمكرِّس للتخلف الذي نحن فيه.
...
أذكر،حين حدثت توما وعاشور،نصحاني بالابتعاد عن مشاكل القرية وأهلها والسفر الى براغ. وقال لي علي عاشور،وكنا في خلوة،وحدنا في المكتب،ما لا أزال أذكره جيدا:خذ العبرة مني، فأناتركت أهلي في غزّةوقبلت البقاء في حيفا،بفعل الاحتلال،الذي ظنته سيكون بداية لعالم جديد كنت أحلم به ولمصلحة الحزب،لكنني بقيت فيها غريبا،وأنت غريب من سمخ ولاجىْ في كفرياسيف وحتى أبوك من الجزائر،من بلاد بعيدة،لاعائلة كبيرة لك والمسلمون،كثيرمنهم،لا يرون فيك مسلما. وقا ل:لاتنرفز فواقع الحياة أليم وما أصعب أن يتغير وعي الناس فلا يكفي أن يعلن المرء أ نّه شيوعي، ليتخلص من كل رواسب مجتمعه،كذلك هم قيادة قريتك،فكّر قليلاوهادئا فلربّما رفاقك على حق فيما يرون؟من يدري، تسا ءل.مؤسف حقا،ولكن هذه هي وقائع مجتمعنا، ختم حديثه.
أشعر اليوم أ نّ حظّي أسعفني كثيرا،ابتسم لي عندها،وأ نّ من اعترض على ترشيحي ممن كانوا رفاقي آنذاك،أحسنوا معي صنيعا،فلو قُبِلَ ترشيحي،كان سيتغيّر مسار حياتي كليا وجذريا وربما أفسدتني السلطة واغراءاتها الكثيرة وشوّهت دسائسهاومكائدها انسانيتي،التي هي من أثمن ما أملك وكم أنا فخور بها.فالسلطة،د لّت التجربة الحياتية والمعرفية،مُفسِدَة ٌوقد جُنّبتها يا لسعادتي.
وكم كنت سأشعربندم حقيقي لو أنّني حبست عقلي بين جدران هموم قرية صغيرة،مع حبي لها وتقديري لطيبة الكثيرين من ناسها،الاّ أنّ رياسة المجلس لن تكون،في نظري وفي ظروف السياسة المركزية القمعية والمتخلفة حقا،أكثر من ديك فوق مزبلة،يعجبه لون ريشه، فيحسب أنه الطاووس منفوش الريش،ولا يسمع صدى صوته المخنوق والمبحوح،فينسى حقيقة ما هو عليه وما هو فوقه.
...
لكن أسأل نفسي كثيرا ،حين أجلس الى ذاتي،أنقّب عن الخطأ والصوا ب في مسلكياتي:ماالخطأ في أنّني رغبت ، ذات يوم،في تجنيب الانسان في قريتي وبالتالي تجنيب القرية وناسها،الطيبين في معدنهم الانساني،ما آل اليه الوضع اليوم،كنت أحلم بتغيير القيادة المتحجرة والمتخلفة،في نظري،قيادة تربطها ببعض روابط عائلية ( نجحت في تحويل الحزب الى عزبة عائلية) وتغيير نمط توزيع وظا ئف السلطة المحلية،الوظائف الادارية،وهو نمط التوزيع القائم على التوزيعة الطائفية لتركيب سكان القرية.
ظننت يومها أنّني سأنجح في اقناع قيادة الحزب المحلية والقطرية بأن تبادرهي وبجرأة لتغيير الوضع السائد لما فيه مصلحة الجميع حقا،فالوظائف الاداريّة لا يجوزأن يتحكّم في تحديدها تركيبة طائفيّةأو غيرها،قلت يومها: نضع الشخص المنا سب في المكان المناسب.وكان المثال اللبناني يخيفني كثيرا وتخيفني ممارساته ونتائجه.فقد قبل به الاقطاع الماروني ،الشيعي ، الدرزي،السنّي وغيره،اذا جاز هذا التقسيم،فالاقطاع هوالاقطاع،بعقليته وممارساته وجوهره الاجتماعي بغض النظر عن خلفيته الطائفية والدينية!
واليوم حين أ نظر متأملا ما يجرى في العراق ولبنان وما كان ولا يزال في صربياوغيرها،أخاف هول هذا البعبع الكامن في عتمات النفوس، فبعد سنوات وقرون من التعا يش الأخوي بين الطوائف والاعراق في ذاك البلد،استحال التعا يش الى صراع دموي منفلت وفي غاية الوحشية.
سألت نفسي كثيرا،يومها وبعدها، ولا زلت أسألها:أين الخطأ في تفكيري ذاك؟
ولاأخفي حقيقة أنّني ومن يومها بدأت أسأل نفسي عن ظاهرة ارتداد الفكر الى نقيضه ، حين يصبح جزءا من مؤسسة كالحزب حين يصل بعض قادته الى السلطة(والمجلس المحلي سلطة وإن تكن سلطة هزيلة)وحين تتحكم به مصالح شخصية.ما كان في كفرياسيف كان مؤشرا لمسار طال في نظري ،يوصلني الى الخروج من الحزب الشيوعي.وكم أنا سعيد،إذ وجدت المعادلة السليمة ، حفظت لنفسي ما كان من فكر ، ألتزم به،لكن أفحص دائما ما علق فيه من هنات ٍ معرفية ومسلكية وأطمح لتطويره. بقيت أعتمد الفكر الطامح لعدالة اجتماعية وإنسانية ،لكنَّني رفضت حبس عقلي وسط شبلونة تنظيمية ضيقة.
...
وفي براغ بدأت أكتشف أنّ القسم المتنفّذ في قيادة المنظمة الفلسطينية وبعض قيادات"فتح"خاصة بدأيترهَّل ويفسد،تنظيميا وفكريا،وبدأ يفقد أصوله الوطنية وجذوره الشعبية،تفسده أموال الصمود المشبعة برائحة النفط والاستيلاء على أموال(نقدا) في بيروت،غير سبائك الذهب.وهي الأموال التي بدأت تفسد بعضنا في الداخل وفي قيادة الحزب وقيادة" فتح" واليسار الفلسطيني عامة، وهو ما نعيش ظواهره اليوم ونتائجه الكارثية.
فالتجربة علّمت أنّ المال ،سيان كان سوفييتيا أو من منظمة التحريرأوأمريكاوغيرها،يكون مُفسِدا،في نهاية كل مطاف.وهو شرّ يجب الحذر منه عند الاقتراب اليه.ويحسن التدقيق في مصادره ومعرفة حقيقة رائحته.
...
وكانت براغ محطّة جميلة في حياتي،وسّعت أفقي الفكري وهذبت نفسي كثيرا وفتحت المدينة الجميلة ،بكنوزها المعمارية والحضارية ولطف ناسها ومرحهم المرير وسعة معرفتهم ،آفاقا جديدة أمام عقلي،وراحت تحدث بي تغييرا بطيئا ولكن ملحوظا. براغ عمّقت ووطّدت،للحقيقة، انحيازي للتعددية الفكرية،وأرست قناعتي،التي قويت مع التجربة الحياتية، بأن لا أحد َيحتكر الحقيقة المعرفية وأ نّ جمال وجودنا بتعدّد الوانه وتجلياته وأنّ الموجودات في عالمنا لا تتحمل النظرة الثنائيّة للأشياء المتأصّلة في أذهاننا،من مثل خير وشر،وكأن الخيرلا يكون ولا يمكن أن نتلمسه الاّ اذا وجد نقيضه–الشر– وكذلك معادلة الحرب والسلام وغيرهما،وقد نمّت حسّي بالعدالة الاجتماعية ونصرة المغبون انطلاقا من قناعاتي الانسانية والأمميّة الصادقة وبقناعة ظلّت تلازمني"أنّ الشكل الذي فرضت به الاشتراكية على الشعب التشيكي أساء له كثيرا"، فالطريق الى الجنة والسعادةالانسانية المرجوة لا تمرّ عبر الدبابات ومن خلال الدموع.ومنحتني براغ بداية وعيي بأن ما تحدّث عنه ماركس وانجلس ولينين وستالين في وقت لاحق وغيرهم، عن التناقض العدائي،المرتكزالى الديلكتيك وفهم مخطوء لجدلية الحياة ومظاهرها الطبيعية، يمكن أن يؤوّل ويشكّل مدخلا فكريا للاستئصال الاجتماعي–مفهوم الطبقة العاملة كحفار قبر الرأسمالية–ونبذ فكرة التعاون بدلا من ا لتنافس وكل ماعرفناه لاحِقا من جرائم اقترفها عهد ستالين وتحدّث عنها ،صراحة،خروتشيف في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي.
وقد ازددت قناعة،مع مرورالوقت واتساع معلوماتي من أكثرمن مصدرورسوخ تجربتي الحياتية وتشعب مداركي،أنّه لن تستطيع حركة النهوض بمهام انسانية،كالمطروحة في عالمنا اليوم وخصوصا مهام التحرير المجتمعي ،على الصعيد المحلي أوالعالمي،وحفظ السلم العالمي وحماية البيئة الانسانية والطبيعية المحيطة بنا،لن تستطيع ذلك ما لم تحد ث قطيعة جدّية،جريئة ومعلنة جهارا مع ما كان من ممارسات قمعية ووحشية منافية لأبسط الحقوق الانسانية،فيما كانه "العالم الاشتراكي"من كمبوتشيا بول بوت،مرورا بالاتحاد السوفييتي ورومانيا.ولا تعني هذه القطيعة التنكّر لكل ما كان أو التهليل لما حل مكانه،بل دراسة جريئة وتلخيص جدّي لحقيقة ما كان وكيف كان ذلك ممكنا؟.فما كان، يمكن أن يشكل درسا انسا نيا نستفيد منه،ويمكنأن ينضم الى تجارب انسانية عظيمة،بكل سلبيّاتها وايجا بيّاتها،كثورة العبيدبقيادة سبارتاكوس في روما أو ثورة الزنج والقرامطة من تاريخنا القريب،وغيرها .
...
وحين أستعيد في ذاكرتي ما كان في كفرياسيف ،آنذاك، يغلب علي احساسان: كم أشعر بالخجل من اساءات،قد أكون ارتكبتها،بحق ناس في القرية،ابّان المعارك الانتخابية،واحساس ثان متناقض،وهو أن قيادة الحزب ربما أصابت يومها(لا أعني القيادة لمحليّة المتنفّذة في حينه،فكان يغلب عليها ويتحكّم بهاعقليات شبه اقطاعية استبدادية مغلَّفة بمسوح انسانية مدّعاة وتقشّف ظاهريّ، عقليّات غريبة عن كل تفكيرشيوعي حقيقي)وكنت على خطأ في موقفي ،لا تفكيري،فلم أع ِكفاية،في حينه،حقيقة أمزجة الناس ومدى وعيهم.ربّما كان ذلك صحيحا وسابقا لزمنه ما "حلمت"فيه ، فالناس على طيبتهم وبساطتهم وبسب من تدنّي وعيهم الاجتماعي،لن يختاروا مَن كان لاجئا ومِن غير دين الأكثرية السكانية.ولكنّي أشعرأنّ مجرد التلويح بالفكرة يشكل اساءة لكثيرين من السكان المسيحيين،الذ ين عرفتهم،آنذاك، خلا ف ذلك.
لكن ما أحزنني ،يومها وبعدها، أنّ بعض قيادةالحزب المتنفذة محليا وقطريا،الحزب الذي يفترض فكره رفض ومكافحة مثل هذا التفكير،المسيء وغيرالسليم، في الممارسة اليومية والحياتية كرّس نهجا يعتمد العائلية–الحمائلية، القبلية،في بعدها الاجتماعي ،وغذىالطائفيّة.
أعي جيّداأنَّ الانتماء الحزبي الشيوعي يفترض به أن يكون نقيض كل عصبويّة ضيّقة ونقيض العصبويّة الطائفية، لكن الكثيرين من قيادات الحزب الشيوعي المتنفذين لم يلتزمواالحذرَ الكافي في لعبة الاقتتال على مراكز السلطة المحلية ومواقع القوى المحلية،ذات الصبغة الحمائلية والطائفية، ولم يبذلواعملا تربويا وخلقيا كافيا ولم يقد ّمواالمثا ل المهذِّب لمواجهة ما يستشري في بلداتنا وقرانا من تعصب ضيّق، فئوي وعائلي وطائفي.
أنا لا أحمّل الحزب الشيوعي وقياداته كلها مسؤولية تفشّي العصبوية الضيقة في مجتمعنا.لو قلتُ ذلك،كان ذلك تجنّيا على الحقيقة وبعيدا عن كل انصاف واستغباء ًلعقلي وتجربتي.فلتفشّي العصبوية الضيقة وبروزالانتماءات الصغيرة ، ذات الطبيعةالعائليةأو الطائفية والفردية،أسباب ذاتية وتاريخية،اضافة لمكائد السلطة المتعمدة، وهذاالأمر(أي الطائفية والعائلية) في حقيقته منوط بمسألة الوعي ودرجة نضوجه،لكن ماأراه وقد دلّت عليه التجربة الحياتية أنّ بعض كوادرالحزب القيادية أسهمت بسلوكياتها وممارساتها اليومية بانعاش التربة الموجودة أصلاوالملائمة لاستفحال هذه الآفة الاجتماعية ولم تتصدَّ كفاية وحقيقة لذلك.
وحين أتأمل مسار الحياة الحزبية،أرى بذهول كيف أنّ أعدادا كبيرة وجدت نفسها وخلافا لرغباتها الحقيقية خارج الحزب في كفرياسيف مثلا وفي غيرها،وكيف انتهى التمثيل الحزبي في المجلس الى وضعية تقارب الصفر.في مثل هذه الحالة كان من الطبيعي دراسة ظاهرة التراجع هذه بعمق وجرأة واستخلاص النتائج الصحيحة،لا الركون الىالقاء التهم على الآخرين،تحميلهم
المسؤولية عن فشل القيادة،توزيع الألقا ب والتهرب من المسؤولية.
وكم أشعربالخجل،يغمرني،حين أتذكّر أنني قبلت أن تناط بي مهمة تصفية خليةشباب شيوعيين، ولد أكثرهم في بيوت شيوعية مكافحة من كفرياسيف،تصفيتهااداريا.وقد دفعنا، كما أذكر،أعضاء الخلية المذكورة الى ترك صفوف الحزب والشبيبة،بدل الروية والاصغاء وحسن الاستماع اليهم ومناقشتهم بهدوء ومسؤولية،بعيدا عن الأحكام المسبقة والجاهزة.
ولا أبالغ اذا ما قلت إنّ هذه الخطوة التعسفية كانت بداية تراجع تأثير الحزب في القرية.
...
ما أود أن أشيراليه نّ سفري الى براغ،رغم ما فيه من راحة،جماليات واثراء فكري واكتساب خبرة ومعرفة،كان في الحقيقة نفيا، قبلتُ به،وحلا لأزمة محلية وهروبا من وا قع.
حين أذكر براغ،أذكر دائما أصدقاء من اليمن الجنوبي الذي كان يحكمه الشيوعيون اليمنيون من الجنوب والشمال.كانت علاقاتي بهم وبممثلي الأحزاب الشيوعية العربيّة خاصة علاقات حميمة ودافئة،وبشكل خاص مع ممثل الحزب الشيوعي الفلسطيني،نعيم الأشهب،الذي أعانني كثيرا ومشكورا في توسيع علاقاتي مع كثيرين وتقديم النصح السديد لي في كثير من حراكي الاجتماعي والسياسي وسوف أظلّ أذكره، ما حييت،بالخير والاقرار بالجميل.
...
وحين أذكر براغ،كيف لاأذكرتلك الليلة المعتمة والمخيفة.
كان الشاعر سميح القاسم في زيارة الى براغ، دعينا يومها الى احتفال يعدّه،سنويا،الشيوعيون العراقيون.وكان معنا مدعوّا أيضا القائد الشيوعي الفلسطيني،نعيم الأشهب.
كانت قاعة "سلوفنسكي دوم"(البيت السلوفاكي)،حيث عقد الاحتفال،غاصّة بالمحتفلين.فكانت أعداد كثيرة من الشيوعيين والطلبة العراقيين مبعدة عن العراق، قسرا وتعسّفا،وتسكن في براغ. وكان الاحتفال مهيبا وواسعا،يجمّله الغناء العراقي(الموال البغدادي والمقامات العراقية) والرقص الشعبي العراقي الجميل ويعكس تظاهرة صداقة ،خاصة عربية- كردية.وقد ألقى فيه الشاعر سميح القاسم قصيدة قصيرة،أذكر منها تساؤله المؤلم:
أبكي عراقي أم أبكي فلسطيني ؟.

تساؤل سميح يهدهد في أذنيّ اليوم أكثر من ذي قبل،وأنا أرقب ما آلى اليه البلد،الذي ربطتنا به وبناسه وشائج انسانية لا تنفصم،وأرقب في هلع المفزوع ما أصا ب شعبنا في الضفّة والقطاع!. فأردّد سؤال سميح:
أبكي عراقي أم أبكي فلسطيني ؟ .
وبينما نحن في أجواء احتفا ليّة وحماسية مبهجة،وصلنا ، خفية من الرفاق التشيكيين،نبأ أن المخابرات التشيكية قبضت في منطقة الاحتفال على من كان مبعوثا من "أبونضال" المعروف، آنذاك،باتصالاته المشبوهة مع مخابرات صدّام العراقية ونظامه الدموي.وكان يستهدف قتل أحد اثنين من القادة الشيوعيين العراقيين:زكي خيري وأبو حسان،ثابت العاني .
للحقيقة بدأنا نتخوف مما يمكن أن يقع،وبدأالضيوف من قادة الأحزاب الشيوعية،بما في ذلك الحزب الشيوعي العراقي،ينسحبون من القاعة،ولكن بدون هلع وخوف ظاهر،فكنا ننسحب من القاعة وكلنا ثقة أنّ الرفاق التشيكيين يرعون انسحابنا الهادىء.
في تلك الأيام قُتِلَ فلسطينيون مثقفون ومتنورون وعراقيون كثيرون.كنّا نعرف من تملي مصلحته سفك المزيد من الدم الفلسطيني أوالعراقي،كما هو حال اليوم،لكنّا لم نكن ندري أيّة يد هي التي أريد لها أن تحمل كاتم الصوت!
وللحقيقة أنّ رعب تلك الليلة ظلّ يلاحقني طويلا في براغ في تلك السنوات،التي نحصد في هذه الأيام (منتصف النصف الأول من العقد الأوّل للقرن ا لجاري) ثمارها المسمومة وخيبات أملها المريعة.
كلّما تذكّرت تلك الليلة وغيرها من أحداث،يقفز في ذهني سؤال:أي عالم أبقته لنا الأنظمة القمعية ،على تسمياتها المختلفة،البائدة والتي لا تزا ل سائدة؟ وأي حلم انسانيّ،جميل شوّهوه وقتلوه؟.
...
في أحد الأيام من صيف 1983 دعيت الى لقاء مع ضيف،ينزل في براغ،هو وزيردفاع اليمن الجنوبي،علي عنتر،دعيت بمعيّة ممثلي الأحزاب الشيوعية العربية.
تحدّث عنتر باسهاب ومطولا عن الصراع بين الشيوعيين اليمنيين في السلطة والحزب.حقيقة لا أذكر أكثر ما رواه،لكن بعض ما قاله ظل عالقافي ذهني،لكثرة ما أخافني،قال لرفيقه الأمين العام للحزب،عبدالفتاح اسماعيل :يا عبد الفتاح،احذر،والاّسأذبحك.
هذا ما قاله لنا حرفيا.
مثل آخرين حضروا الاجتماع،ذلك المساء،لم يصدّ ق عقلي ما سمعت.أيعقل حقا أن تصل
الخلافات بين رفاق درب هذا المستوى من الكراهية والعنف المتبادل؟.فماالذي بقي يجمع بينهم من رؤية اجتماعيّة وفكرية مشتركة وحسّ انسانيّ مشترك؟.
أذكرأنَّ أحداً من الحضور لم يبدِ احتجاجا أو سؤالاً حول ما سمع ، كأن الأمر لا يعنينا !.سألت نفسي مرارا كثيرة أية تربية مدجِّنة حوَّلتنا الى مجرد آذان مصغية.حقيقة لا زلت أخجل من نفسي ومن بلادة الحسِّ التي كنتها.تحت اسم الاستقلالية التنظيمية الوهمية ، كان يتاح لقيادة حزب ما ارتكاب أفظع الموبقات وأخطرها وأشدَّها أثرا تدميريا على مجمل الحركة ،التي نقشت على أعلامها وفي برامجها الاجتماعية خلاص الانسان من كل عسف وجور!.
كان يجب حينها أن أتوصَّل الى الاستنتاج الحقيقي : أن حركة تبيح لبعض قادتها باسم الاستقلالية وعدم التدخل أن يتفوَّهوا بهذه العقلية وينفذوا ما هدَّدوا به لا يمكن أن تحقِّق ما نثرته من وعود !.
وفعلا قتل عبد الفتاح وقتل علي عنتر وقتل كثيرون. وقتل،أجهض، ما اصطلح على تسميته بالثورة الاشتراكية في اليمن الجنوبي.أنهتها العصبيات القبلية،التي ما زا لت معشّشة في كثيرمن مجتمعاتنا العربية،المحلية وفي الخارج. وما أحوج شعوبنا للتخلص،حقيقة وجذريا،من هذه العصبيا ت والتجلّيات الأخرى المشابهة لها،كالحمائليّة والطائفية والعصبويّة الضيقة.
فالشيوعيون اليمنيون لم يخلوا من هذه العصبيات.وقد أكّدت تجربة الشيوعيين في اليمن الجنوبي ما كان معروفا أن مجرد الاعلان:أنّ المرء شيوعي لا يكفي،فكثيرمن الرواسب والعقليات القبلية والطائفية والفئوية تظلّ عالقة وماثلة"والأصولية"الشيوعية تكون أحيانا أشدّ خطرا،من أيّة أصولية أخرى، خاصة حين تكون في السلطة وتتحكم فيها نزعات الفرديّة والاستئصا ل وعدم احترام الآخر وعدم مراعاة التعددية والقناعة القاتلة والقائلة بأن الحقيقة التاريخية والمعرفية في حوزتي وفي حوزتي فقط.وأخطر ماتكون،حين تغذّي ذلك عصبيات قبليّة،غريبة في الحقيقة عن الفكر الشيوعي الصحيح.
وفي صيف ذلك العام كنت في عطلة صيفية في بحر الشمال،أنا وزوجتي والراحل جمال موسى (كان قائد منطقة عكا الحزبية)وزوجته(طال عمرها).وكان معنا ضيوف مستجمون،مثلنا،من لوكسومبورغ والمغرب والجزائر وتونس واليمن الجنوبي.
كان الجوّ حميميا ،مبهجا وغنيا بالحد يث الفكه والمثمر النا فع وبالراحة،الجسديةوالنفسيّة.
لكن فوجئنا في أحد ى الأمسيات بزوجة أحد الرفيقين اليمنيين تبدو في حالة مضطربة ومربكة.
وحين استجلينا الحقيقة،انتهى الى علمنا أن زوجها العضو في لجنة الحزب المركزيةاستدعي، على وجه السرعة،الى عدن وطلب اليه ورفيقه أن يقطعا عطلتهما الصيفية ويعودا سريعا الى العاصمة.ولم تخف الزوجة قلقها،فأنباء الصراع والتصفية الجسدية المتبادلة لكوادرالحزب المتخاصمة لم تعد سرا.
وقد علمت في وقت لاحق أنّهما لم يبقيا بين الأحياء،فالاحتكام الى السلاح والعنف القاتل لم يرحمهما ولم يرحم الكثيرين،ففوررجوعهما اتهما بالتكتل والخيانة الحزبية وسيقا الى موتهما.
كان ذلك الصراع فاتحة لما شهدته جمهورية اليمن الجنوبي من مآس سببها الاحتكام لمنطق العنف والعداوات القبلية السابقة ورفض الاحتكام لمنطق العقل والاقرار بحقالاختلاف، فالاختلاف في الرأي ووجهات النظر وفهم الأشياء،هومن طبيعة الحياة ولا يعني خلافا،وحتّى حين يصير خلافا لا يجد حلّه في الاستئصال الدموي العنيف والقمعي،انما بالحوار والاقناع،غير القسري.
أذكر براغ كثيرا وكلما ذكرتها في عقلي،أطلّت عليَّ،بحزنها الشديد، وجوهُ مَن أعرفهم ولا يُعقل أن أنساهم من الشيوعيين في اليمن الجنوبي،الّذي لم يعد للأسف قائما،وغيره.
وكان عقلي حدّثني كثيرا:
أنّ بعض ما كان،كان يجب ألاّ يكون.
أحس بالقشعريرة الممزوجة بالخوف،كلما تذكّرت ما كان في اليمن الجنوبي وغيره.
سألت نفسي بعدها،خائفا ولكن بأ لم،ماذا كان سيكون مصيري ومصيرآخرين لوأنّ بعض القادة، وكنت منهم،امتلكوا(امتلكنا)سلاحا بحكم السلطة والقوة.
كم هو محزن حقا أن يحسم خلاف،أيا كان سببه وجوهره،بالتخوين والتشكيك وكيل الاتهامات المختلقة جُزافاً وبالعنف!هذا ما حدث في اليمن وفي أماكن عديدة من عالمنا،الصغيروالكبي،وقد حان الوقت لنتعلّم،تتعلّم الانسانية،كي نخلص من كلِّ هذه الشرور.
ربّما أكون ارتكبت أخطاء،هي جزء من نمط ما كان متعارفاً،لكنها لا تقارن بحدّة الهجمة التجريحية والتصفوية الشخصية عليَّ (النيل من شخصي وخصالي بكل وسيلة متاحة).
...
وكلما ذكرت براغ وجدتها تنغرزعميقا في الذاكرة.
وصلتها أول مرة في عام 1964في اكتوبرمن ذلك العام. وكنت في طريقي للدراسة الجامعية في برلين. قال لي رفيق مسؤول:ستجد تذكرتك من براغ الى برلين في سفارة ألمانيا الشرقية،لكن حين وصلت براغ كانت السفارة لا تعرف شيئا من أمري، كان علي الانتظار ثلاثة أيام في المدينة، فألمانيا الديموقراطية تحتفل في تلك الأيّام بعيدها الوطني،وكانت جيبي شبه فارغة من النقود،فكلّ ما كان يسمح بأخذه في ذلك الوقت،عبر المطار ولأغراض شخصية،لا يزيد عن ثمانية عشر دولارا،أنفقت ثلاثة منها في أ ثينا،محطتي الأولى في الطريق الى برلين.وحين ذهبت سدى محاولات العثور على ممثل الشبيبة الأردنية(الفلسطيني مازن حسيني)في اتحاد الشباب العالمي،وقد أُعطيت ُ اسمُهُ ، تحسبا،ليساعدني عند الضرورة،نقلت الى فندق" انترناشينا ل" الفخم في المدين.وهناك بقيت ثلاثة أيام،آكل الساندويشات الباردة،مدّخرا آخر قروشي.وكنت أقضي يومي وأمسياتي في حديقة"لتنا" الجميلة والرحبة المطلة على نهر فولتافا الجميل والواقعة في منتصف الطريق بين مدينة براغ القديمة وبين الفندق. قضيت الأيّام الثلا ثة متسكعا،كصعلوك معدم وفقي،لايجد في جيبه ما يكفي لدخول مطعم شعبيّ بسيط،أوالتمتّع بجمال المدينة الغافية في حضن واد جميل، بخضرة شجره وعذب مائه وهوائه المنعش،والشهيرة بخمرتها المنعشة وسحر صباياها الحلوات.
وفي اليوم الثالث كان الفرج،ظهر من كان رفيقي من حيفا،وجيه سمعان،فلم يكن غادر براغ،كما أخبرتُ في حينه.شعرت به منقذامما أنا فيه، كان قشّة الانقاذ،فكنت غريقا وضائعا في تلك المدينة. يومها وفي تلك الأيّام القصيرة ،بدأت أعي معنى الضياع والغربة في مدينة لا تعرف ناسها ولا لغتها.
اطمأن قلبي كثيرا،حين رأيت وجيه سمعان،فكان سألني،أول ما رآني،عما ارغب،قلت بلا حرج:
أريد أن آكل.
وفي منتصف تلك الليلة،التي وجدت فيها وجيه،شعرت بسعادة بالغة،فكان القطارالليلي يحملني الى مبتغاي–برلين.
...
وان كنت أنسى،فالنسيان صفة انسا نية،فلا يمكن أن أنسى ما حدث لي شخصياولزوجتي في صيف 1968.كنت طالبا يومها في برلين،وكانت تربطني بداية صداقة شخصية مع القائد الشيوعي والكاتب صليبا خميس،طيّب الذكر(الذي أبعد عن الحزب أيضا بمختلف التهم الجائرة) وكان يعمل في براغ ممثّلا للحزب فيها.قرّرنا،زوجتي وأنا، زيارته في تلك السنة في براغ،حدّدنا موعد السفرواشترينا تذاكرالقطاروفي صبيحة اليوم المحدّد حزمنا حقائب السفروكان فرح شديد يغمر زوجتي،فكانت تلك أول مرة تغادرفيها برلين في رحلة عبر الحدود المسموح بها للألمان الشرقيين يومها.ومثل عادتي،آنذاك ،استيقظت مبكرا،حلقت ذقني وفركت أسناني وغسلت وجهي بالماء البارد.وجلست أصغي لنشرة الأخبارالصباحية،فكانت أخبارا مقلقة.ذلك الصباح،تحرّكت قوّات من حلف وارسوواحتلت المدينة العاصمة،براغ،وفرضت حالة من الطوارىء فيها وبدأت في تصفية ما عرف لاحقا بربيع براغ.فعدت الى النوم.وحين عرفت زوجتي حقيقة ما كان،بكت طويلا.
وللحقيقة،التي أعترف بها بألم وخجل،أنّني وخلافا لصليبا خميس،الّذي أيّد،هووزوجته،آرنا خميس وأولاده بحرارة وحماس،الاصلاحيين في براغ،أيدت يومها الغزو السوفييتي وقادة حلف وارسو لبراغ،فكنت مقتنعا وملتزما برأي الحزب يومها و"منضبطا"،وقد اختلفت،حينها،كثيرامع صليبا،سمحت ذلك لنفسي،رغم فارق السنّ بيننا وفلرق المكانة الحزبية،وكنت من ضمن كثيرين قبلوا،في حينه،التأثّر بحملة غسل الدماغ القوية في جامعات برلين وغيرها والتي استهدفت النيل من اصلاحيي براغ.وبعد وصولي الى براغ واحتكاكي بناسها،بدأت سرا وبالخفاء مع ذاتي وعقلي أكتشف حقيقة ما كان،وليس فقط في براغ.
ومن يومها كبر شخص صليبا في عيني ولم أكتم مرة أمر صداقتنا واحترامي لعقله وشخصه. ويحزنني أنّه سقط في عام 1948 وبعده في الوهم الذي سقط فيه الحزب، آنذاك وخاصة في السنوات الأولىلقيام اسرائيل،فلم يكتشف(لا هو ولا قيادة الحزب–باستثناء اميل توما)حقيقةالدولة الجديدة ،التي قامت على خرائب ومآسي الشعب الفلسطيني.
وشاءت الصدف أن قرأت قبل فترة قريبة رواية الكاتب التشيكي كونديرا المترجمة الى العربية واسمها"المزحة"،فانفتحت أمامي آفاق جديدة واسعة لمعرفة حقيقة ما كان في براغ،قبل وبعد 1968،وكم هو مرير عامل الشك والاتهام في بلدان تحكمها قيادات وعقليات تتنكّرلأبسط ما علّمته الحياة:لا أحد يستطيع احتكار الحقيقة.ولا يمكن التوصل اليها إلاَّ بالاجتهاد الفكري وحق البحث للكشف غنها أو عمَّا يقاربها.
وازددت قناعة أنّ الفكرة،مهما تكن عظيمة في نبلها الانساني وحرارة استهدافها الصدق، تتقزّم في أعين المعنيين بها حقا،اذا ما اعتمدت الترهيب الاستخباراتي والاحتكام لمنطق القوة العنيف ، وسيلة لبقائها .
حين أتأمل حقيقة ما كان في براغ،يومها،وعرفت مثيله قبلها مدينتا برلين وبودابست،أدرك بعمق أنّ الحلم الانساني الجميل،الذي كناه،الحلم بعالم ينعم بالعدالةالاجتماعية والانسانية وتحرّرالانسان الحقيقي،داسته بكل فظاظة دبابات القيادات المتغطرسة والمشوّهة الحاكمة باسم هذا الحلم والتي أثبت الواقع المرير أنّها قيادات فاشلة.ولن تنجح حركة،مهما يكن اسمها،ما لم تحدث قطيعة جريئة،ناقدة بصدق وواعية،قطيعةمع هذه التجارب وما كانته.لا أعني التنكر لكلّ ما كانته هذه التجارب بقياداتها،بل الاستفادةممّا كان،لا الترقيع الفكري والتحايل بواسطة الشكليات، بل النقد الجدّي لمعرفة حقيقة ما كان،احداث قطيعة جريئة،واعية وناقدة.
وأنا حين أقول ذلك،أدرك عميقا وبا لتجربة المعاشة أنّ ما كان لم يكن عقلانيّا في ممارساته،أقول ذلك مع ادراكي العميق لحقيقة أ نّ ما خلفه يفوقه لا عقلانيّة.فالرأسمالية المتستّرة بأزياء اللبرالية الملوّنة ليست البديل ولم تكن كذلك ولن توصل يوما الى حياة انسانيّة عادلة.فالانسانية،هذا أملي، ستخلص ذات يوم ممّا هو حاصل الآن وستجد طريقها الى عالم خال من كل أورام المجتمعات الراهنة والسابقة.
ولكن،أعترف وان يكن متأخرا قليلا، أ نّ من المؤسف في حينه،أنني لم أكتشف أنّ مَن يجعل الديموقراطية ممركزة(المركزية الديموقراطية) ولا يتحمّل بين صفوفه التنظيميّة وبين مجتمعه رأيا مغايرا ومخالفا،لا يختلف في نهاية المطاف عن أحزاب البرجوازيةمتعددة الأسماء والتجليات،ولايكون اليوم بعيدا عن تحوله الى أصولية بشعة ومنغلقة،ونقيض ما كان يحلم به ماركس حقيقة ويحلم به نا س متنوّعون،متنوّرون وشيوعيون كثيرون،مخلصون لحلمهم،غدهم وانسانيتهم.
...
ولكن بعيدا عن كل هذه الهموم،والتي اختلط فيها الهمّ المحلّي بالهمّ الأكبر والأوسع،الأساس،كان الشاعرالعراقي الكبيرالذي ارتحل في دمشق،محمّد مهدي الجواهري،يعيش في براغ،وكان من سعادتي،أن التقيته،اكثر من مرة، في جلسات ضيقة وخاصة برفقة أصدقاء عراقيين وغيرهم،لا أزال أحمل لهم حبا لا ينال منه الزمن.وكان معروفا أن الجواهري يؤثر الجلوس ، وحده،تحيط به صبايا براغ الجميلات،فلا يقربه أحد من معارفه ومحبِّي.وقد كتب في براغ كثيرا من روائع شعره في هذه المدينة الجميلة بكل ما فيها،ومن بينها رائعتاه الجميلتان "يا دجلة الخير" و"بائعة السمك".وقد روى للجالسين اليه،في واحد من تلك اللقاءات الجميلة بثرائها الانساني والثقافي،أنه استوحى هذه القصيدة من فتاة تشيكية جميلة،أدهشته بالصورة المتناقضة التي ظهرت له ساعتها: فتاةجميلة تبيع السمك،في سوق من أسواق براغ،وشاهدها تقطع السمك،فتمتلىء يدها شديدة البياض والفتنة الأنثوية،الآخذة بالعقول،برشق الدم،فدهش من هذه المفارقة وودّ لو أنّها تريق دمه بجمالها الذي يسلب العقول.وبعد برهة صمت،قال: حقا،فتيات براغ جميلات،وقد هذّبنه، هذّبن مشاعره،وانفجر ضاحكاعلى طريقته العراقية، وهو يضبط قبعته ،التي اشتهر بها،ويعدّل قعدتها فوق رأسه،وأضاف يأتي واحدنا الى براغ جلفا وخشن الطباع، لكن براغ بوداعة جميلاتها ومذاق خمرها ودماثة خلق ناسها وفرادة عمرانها، يهذبنه، فيصيرغير ما كان.
كان من عادتي المشاركة في الحديث،لكنني لحظتها هربت الى الصمت،فكنت أفتى الجالسين سنا، وخفت أن يخونني لساني.
ولا يزال لسان عقلي يهمس:
حقاهذّبتني براغ.
ابراهيم مالك
شاعر وكاتب فلسطيني



#ابراهيم_مالك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ايه دانتي


المزيد.....




- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم مالك - حقا هذّ بت براغ عقلي