أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - امجد نجم الزيدي - الرحيل















المزيد.....

الرحيل


امجد نجم الزيدي

الحوار المتمدن-العدد: 1977 - 2007 / 7 / 15 - 06:18
المحور: الادب والفن
    


((يمكنك إن تعاود ارتحالك متى شئت, ولكن ستصل (ترود) أخرى مشابهة تماما, كل
تفاصيلها مثل هذه التفاصيل, العالم تغطيه (ترود) واحدة لا تبدأ ولا تنتهي, الذي يتغير فقط هو اسم المكان))
مدن لا مرئية
ايتالو كالفينو

- هذا الدب الكبير, وهذه بنات نعش, وهذا هو طريقنا...
صرخ الرجل ذو الشارب الكث وقفز إلى عمق الظلام من على ربوة قريبة, تحلقوا حوله وعيناه التائهتان شاخصتان إلى السماء, رفعت رأسي فلم أرى سوى نجوم غائرة في ظلمة حالكة, تدافعوا وحملوا أمتعتهم وانطلقوا وراءه, طفقوا يغنون أغاني حزينة فيها العاشق الحزين, وأصداء صور مموهة لمحبوبة غادرت صوب الجرح, الظلام زرع فينا صمتا مطبقا إلا الأصوات الرتيبة لخطواتنا الغائصة في رمل الصحراء, بين حين وأخر نسمع حشرات الليل الصحراوية تطلق ندائها, وعواء ذئب بعيد مهشما صبرنا الذي تحول إلى جزع, اخذ يستشري بيننا, الرحيل..السفر هي مصائد أغوتنا وتناسينا ما ورثنا من آبائنا من زاد الصبر والتحمل ولم نطق سوى الرحيل والابتعاد, فحملنا ما خف حمله وودعنا الأحبة وانطلقنا صوب المجهول, مبتعدين, موزعين خطواتنا في أماكن عدة, شاطبين كل انتماء لنا مع أي مكان إلا وجهتنا التي نبحث عنها في جنوب الجرح, راسمين خطوطا تدل على يوتوبيا ولدت معنا في أرحام أمهاتنا, لذلك فقد تقاطعت خطوطنا في آراء متضاربة, ألتم جمعنا ونحن نجوس في تلك الأرض العارية على قناعة واحدة وهي وجهتنا التي خضعت إلى حسابات وقوانين فيزيائية في تحديدها, ولكن لكل منا بوصلته التي تقوده من طرف خفي إلى طريق سري معبد بالأحلام والتخيلات والأماني, حرارة الصحراء وأقدامنا التي رسمت خطواتنا الممحوة في الرمال هي شاهد ضعيف على انتمائنا أو وجهتنا, ولا تستطيع أن تثبت وجودنا في أي مكان, حيث نزداد توغلا في غربتنا, مستعينين برؤى وأخبار متواترة نقلها أقوام رحل, ودونتها الكتب القديمة التي تتحدث عن مدن وهمية أناسها يعيشون في وئام متصالحين مع الأشياء ببرود غريب.
كان هاجسا غريبا يعكر صفو رحيلنا ويحيلنا إلى أصوات قديمة وخوف متأصل في عظامنا, لازال رغم رغبة الابتعاد والسفر يربطنا إلى حلقة الفزع من الاعتراف بضياعنا, أو فقدنا لجذورنا, أو أثارنا التي محتها الريح الصحراوية الحارقة, كانت الأصوات تتجاوب مع نغمات مختلفة بأختلاف انتماءاتنا التي أصبحت غير مؤكدة, كانت الأصوات..أصواتي المبحوحة منذ زمن متأخر على سلطة الحكي, تتناغم مع وقع قديم لأقدامي وأنا اجتاز مدينة وهمية مزروعة على جانبي نهر قديم تساقطت أضراسه, ينساب بهدوء جليل بين صخب المدينة المتخمة بحشود من أناس تتزاحم بين فكي شارع طويل يبدأ من شارع أخر يقود إلى مدن أخرى مرسومة بخطوط طفولية مرتبكة بأصباغ (ألماجك), ليتلاشى في الجهة الشرقية بعد أن يخترق كنصل حاد قلب المدينة, تتجمع الحشود فيه بألفة غريبة موزعين في شوارعه الفرعية, وسوقه المسقوف بغيوم سوداء وذكريات حرائق وموت متسولين, وأدعية أناس محنيي الظهور في زمن الجدب الذي رسم على الوجوه بأقلام الرصاص أكياس طحين وأرغفة سمراء. كنت اطوي ذلك الشارع الملطخ بالدكاكين كل يوم, موزعا أقدامي بين أرصفته, أولد من بين مقاهيه وجوها لأناس مترعين بالانتظار تتصاعد فيهم شهقة التوجس, ينتظمون كأحجار الرصيف, أمازحهم, أدللهم, أوقد بينهم بخورا, ومرات أخرى اكنسهم إلى الطرف الأخر, ثم أختم على أقفيتهم (أناس صالحون للانتظار). بين الضفة والأخرى للنهر أشجار منحنية تبحث عن طفل فقد أمه بين بائعات البالات ولغط المتسوقين ودوامة السيارات والشمس الحارقة, واستطالات الأرصفة الضيقة, في لحظات خاطفة, سكون وصمت يكسو كل شيء, وكأنك توقف الصورة لتعيدها مرة أخرى, يبدو المنظر في بعض الأحيان خانقا, وبعض الأحيان مضحكا, وأحيان أخرى مأساويا, بصورة مفجعة, للمدينة طعم غريب غامض حتى أنك تمزق كل الرسومات التي رسمتها لها من قبل, لأنها تبدو لمدينة أخرى, ولا تبقى سوى صورة واحدة, مرتبطة بالرحيل الذي أصاب كل المدن الوهمية التي قد تصادفها في ترحالك, فتعودنا حتى لا نضيع أن نعلق انتماءاتنا على الجدران, والتي قد تبدو في كثير من الأحيان ذاهلة, متلعثمة, كلمات مبتورة, مكتوبة عليها كلمات أخرى, مشتركة مع كلمات عرضية دخلت عليها عنوه, أو وجدت صدفة, كان ركبنا يضم انتماءات غريبة, ولكن هذه الصحراء جمعتنا إلى جهة واحدة, وطريق وهمي يصل بين نقطتين أو نقاط مختلفة مرتبطة بنا, ارتباطنا بمشيماتنا الأولى.
ركبنا الأبكم ذاك قطع مسافة طويلة في الليل الحالك, وأشيائنا الأخرى تدق أجراسا للذكرى, فتمر أطياف ملونة تخترق الصحراء, تقاوم رياح السموم, لتستوطن في بقعة مضيئة مقرونة بشخص ما, لا نشعر بأقدامنا وهي تقودنا نحو المجهول, معلقين حياتنا على نجوم تضللنا وحكم قديمة تركها الأجداد عن الصحراء والنجوم والوحشة, تكاثفت أشلاء الوقت, وامتد خيط النهار في الأفق ينعكس على وجوهنا المتعبة وثيابنا التي حال لونها بسبب الرمال والعرق, وأشيائنا التي أصبحت مرئية تحاكي مناطق غائرة في صحراء أبدية ممتدة في كل الجهات, تحاصرنا الأحراش وتقطع أنفاسنا حرقة في البلعوم.
غبار تعالى في الأفق وأصوات آليات تزمجر في الصحراء, انحدر ركبنا ليختبئ ونحن نتجرع غصة, وقلوبنا تكاد تقفز من مواضعها, محنيين ظهورنا كفئران هاربة من حرارة القيظ, تبتلعنا الرمال وتتخلل بين مساماتنا لتمزج بدمائنا, تتقافز بين البطينين والأذينين, بتقلص وانبساط قلوبنا, الخوف ذلك الالتماع العجيب على ملامحنا يكشف زيف تصنعنا تحت هذه الشمس الحارقة, الغبار والأشياء السابحة في السراب البعيد والأصوات الغريبة, أعطتنا إشارة إلى وجودنا في هذا الفضاء الرملي, وأعادتنا بسلبية صارخة إلى حقيقتنا الكافكوية, قد تمتنع حواسنا من تصنيع بعد وهمي يلفنا كتحصيل حاصل (كما ندعي) لحالة الإيهام التي نعيشها, فليس ناتجا عرضيا أن تشترك حواسنا جميعها في إيهامنا, وإنما هي اغلفة تحيط بحياتنا المهتزة, فالعالم قرية صغيرة محددة الأطراف سابحة في يم الرقمية التي لا نميزها من بين حبات الرمل والأصوات المزمجرة التي بدأت تقترب.
زحفنا وسط الرمال خلف تلة واطئة, يعتصر قلوبنا شيء غامض, ممزوج بخوف, الأصوات أصبحت جد قريبة والوجوه الصفر والأجساد الهزيلة لازالت غارقة في رمالها الساكنة, سكون الموت القريب, وكان أي اختلاف في ذلك الإيقاع الرتيب لزمجرة الآلات يقرب القلب من التوقف, بعد أن مرت الدقائق ثقيلة, وابتعدت الأصوات, رفع صاحبنا ذو الشارب الكث رأسه من فوق التلة الواطئة, وانقلب على ظهره وهو يتنفس الصعداء, لترتفع الدماء إلى وجوهنا, وتتوقف قلوبنا عن الوجيب, نهضت كان جسدي واهنا, تحرك ذو الشارب الكث يهم بمواصلة المسير, بيد إنا لم نستطع المواصلة, وجلسنا في أماكننا نحدق في الطرف الذي غابت فيه الآليات التي زمجرت بموتنا قبل قليل......



#امجد_نجم_الزيدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كانت اشبه بالنبوءة
- القراءة..إعادة لبناء المرجعيات الدلالية - طعنات أليفة-انموذج ...


المزيد.....




- فنانة مصرية شهيرة: سعاد حسني لم تنتحر (فيديو)
- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - امجد نجم الزيدي - الرحيل