محمد السيد اسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 1965 - 2007 / 7 / 3 - 06:05
المحور:
الادب والفن
مهدي بندق : وضعية المثقف الضد
لا يقتصر إبداع مهدي بندق على الكتابة الشعرية فحسب، بل يمتد الى الكتابة المسرحية، والنقد الأدبي، والكتابة الفكرية والسياسية بشكل عام؛ فمن دواوينه الشعرية "امتحان بن حنبل" و "حصان على صهوة رجل" و "يا أورفيوس" و "مقتل هيباشيا الجميلة" واستقالة من ديوان العرب" و "في شطح الغياب" ومن مسرحياته الشعرية " " مقتل هيباشا الجميلة " و "ريم على الدم" و "السلطانة هند" و "غيلان الدمشقي" و" هل أنت الملك تيتي " و "بسماتيك وبسماتيك " و " الشريفة بنت صاحب السبيل ". ومن كتبه النقدية " المسرح وتحولات العقل العربي" و
" حداثتنا المعاصرة " و " تفكيك الثقافة العربية " و "سوسيولوجيا المسرح الشعري في مصر".
ومن خلال ملاحظة عناوين الدواوين الشعرية والمسرحيات يتضح اهتمامه بالتراث وتوظيفه فنياً ، سواء أكان تراثاً عربياً أم إسلامياً أم فرعونياً أم عالمياً ، وهى رؤية تم تأكيدها وتوظيفها منذ بدايات حركة الشعر الحر، حيث تعامل شعراء هذه المدرسة مع التراث الإنساني على رحابته بوصفه تراثاًَ إنسانياً لا يخص جنساً دون الآخر ومن هنا جاءت هذه الرحابة والعمق التى رأيناها في شعر السياب والبياتي وصلاح عبد الصبور واحمد عبد المعطي حجازي، ومن الطبيعي أن يتوقف هؤلاء الشعراء أمام النماذج التراثية الحالمة بالتغيير والتى دفعت ثمن تمردها على الظلم والقهر والاستبداد، وهكذا شاعت نماذج الحلاج والسهروردي وغيلان الدمشقي ؛ وهذا ما نلاحظ نظيره في ديوان مهدي بندق الأخير "المدخل الى عالم الإهانة" حيث يتوقف أمام نموذجين متمردين، ينتمي الأول الى العصر الجاهلي وهو الشاعر طرفة بن العبد الذي كان أبرز صوت وجودي ظهر في بدايات القصيدة العربية، يتوقف مهدي بندق أمام هذه الشخصية لا لكى يحكي سيرتها أو يعيد إنتاج ما قامت به بل لكى يقدم صورة أخرى لها تقترب من صورة الشاعر المعاصر الذي يتخذ وضعية الشاعر الضد أو المثقف الضد، ففي معلقة طرفة نجد وضعية الشاعر الذي تفرده القبيلة وتبتعد عنه نتيجة أفعاله التى تخرج على تقاليدها حين يقول " "ومازال تشرابي الخمور ولذتي – وبيعي وانفاقي طريفي ومتلدي / إلى أن تحامتني العشيرة كلها – وأفردت إفراد البعير المعبد "وذلك على العكس مما يقوله مهدي بندق في قصيدة "بطاقة أخرى لطرفه بن العبد " حيث نجد الشاعر هو الذي يتحامى القبيلة ويفردها مثل البعير المعبد حيث يقول : "وكنت تحاميت العشيرة كلها / وأخلفتها مثل البعير المعبد " أما لماذا يتحامى الشاعر عشيرته كلها فهذا ما تجيب عنه هذه القصيدة كما يجيب عنه العديد من قصائد الديوان ؛ ففي القصيدة الأولى يتضح التمايز بين موقف الشاعر وموقف الآخرين من "الفاعل" الذي يقهرهم بمستوياته السياسية والاجتماعية حين يقول حين يقول " ماذا فعل الفاعل بالمفعولين هنالك / في النسق السفلىِّ الأعمى / علمهم أن الصمت هو الفضل الأسمى / وأن الأقوال خيانات عظمى / فلماذا وحدي أتقول بالضد من المهد من اللحد"
واستخدام المصطلحات النحوية من قبل مهدي بندق ليس بغرض التقية بكل تأكيد فهى رموز واضحة الدلالة حيث نجد ثنائية "الفاعل " الفرد و "المفعولين" الجماعة ؛ كما نجد فعل التلقي الصادر من أعلى الى أسفل ؛ هذا الفعل الذي يؤكد أهمية "الصمت" ويصف الأقوال بالخيانات العظمى؛ في هذه الحالة من التلقي والصمت يبرز نموذج الشاعر الضد الذي يجترح الصمت؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يوصف من قبل الآخرين بالوغد حين "صاحوا : من هذا الوغد / فقلت الضد ُ وميلادي الفقد ُ / ونوعي جزر لا يعقبه المد ُ / ومعتقدي لما يعرف بعد ُ" والحقيقة أن طبيعة ما يسمى بـ "البطل الوغد ُ" قد شاعت كثيراً في السرد الروائي وفي الشعر الحديث على السواء؛ هذا البطل الذي تخلى عن صفات النبوة والحكمة؛ البطل الذي يكفيه أن يكشف الزيف ويجترح الصمت دون إدعاء بطولات تتجاوز القدرة الإنسانية.
أما النموذج المتمرد الثاني فهو عماد الدين لنسيمي الذي ولد بأذربيجان وصار تلميذاً للصوفي الكبير فريد الدين العطار ثم انتمى الى فرقة الحروفيين الذين كانوا يقولون بأن أسماء الله الحسنى منقوشة على أكف البشر، وقد أعدمه السلطان المحمودي الملقب بالملك المؤيد صلباً على باب حلب عام 1417م؛ وقد استوقفتني الصورة الشعرية التى قدمها عماد الدين للملك "المؤيد" لأنها تقترب به من نموذج "الشخصية النمط" التى تصدق على المؤيد وغيره من الحكام المستبدين حين يقول : "جاء المؤيد بالزمان الملتبس / الشمس في كفيه قنبلة يخبئها الدمقس / فتيلها الفضي طابور اغتيال كلما دار الحرس " وبين هذه الشخصية السلطوية وشخصية الشاعر الضد تكمن درامية العديد من قصائد هذا الديوان كما تكمن شعريتها ، التى نتمنى من الشاعر أن يحررها كثيراً من أسر القافية وغلبة المباشرة على بعض الصور الشعرية تحقيقاً لدلالتها المتعددة ورحابتها الفنية.
د. محمد السيد إسماعيل
ـــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التجمع المصرية بتاريخ 27/5/2006
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟