أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود محمد ياسين - الطريقة المادية وعلا قات الارض فى السودان:تعليق على كتاب -أصيل الماركسية: النهضة والمقاومة فى ممارسة الحزب الشيوعى السودانى*















المزيد.....

الطريقة المادية وعلا قات الارض فى السودان:تعليق على كتاب -أصيل الماركسية: النهضة والمقاومة فى ممارسة الحزب الشيوعى السودانى*


محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)


الحوار المتمدن-العدد: 1957 - 2007 / 6 / 25 - 11:07
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


كتاب د. عبد الله على ابراهيم تحت العنوان أعلاه، الذى جعله مؤلفه متاحا الكترونيا للقراء على صفحات موقع سودانايل فى خمس حلقات خلال الفترة ياناير/مارس2007، لهو كتاب جدير بالقراءة. فالكتاب يعالج مسألة الارض وتملُكها فى السودان كمسالة اساسية أدى نكوص الحزب الشيوعى السودانى عن استقصاء مكوناتها وعلاقاتها ماديًا، لقصور فى نشاطه تاكتيكيا واستراتيجيا. والمؤلِف ليس أول من من نظر لاعتلال نشاط هذا الحزب من هذه الزاوية، الا انه استطاع ان يقدم حول هذه المسألة تحليلا تضمن آراء جريئة، خاصة فى اطار نزاع دارفور وبعض مناطق الزراعة الآلية فى البلاد. وتجىء هذه الآراء فى نطاق محاولة الكاتب "تزكية التفسير المادى لتحليل الخصومات الساسية" كمنهج مغاير لعمل الحزب الشيوعى السودانى الذى ادت الانتقائية الى القصور فى نشاطه. فالكاتب اوضح من خلال الفحص والتحليل المنطقى لمواقفه من النزاعات الاقليمية فى السودان، ان الحزب الشيوعى السودانى قد ركن للنظرة الثقافية فى تناوله لتلك النزاعات متخليا عن النظرة المادية التى روج لها منذ نشأته فى 1946. ويعزى الكاتب هذا لعزلة الحزب الطويلة عن الريف التى لم تمكنه، عندما "أخرجت علاقات الأرض في ريف السودان أثقالها"، من السباحة ضد تيار تنظيمات أبناء القبائل التى " شقّت بشعوبها طريقاً للنهضة غلبت فيه سياسة الأرومة على سياسة الطبقة بما لا يتفق مع صور الممارسة المثلى لدى الحزب الشيوعي. وحوّل أبناء الريف المتعلمين (دار القبيلة) إلي أمة قائمة بذاتها. وخاضوا في مجاز عرقي إثني للدفاع عن أمتهم هذه مما حول هذه الأمم إلى (كنتونات) في الوطن السوداني-ص 63".

ويطرح الكاتب موضوع التغيير الجذرى كمهمة مركزية لعمل الماركسية تجعل سياسة معارضة الانظمة السياسية كيفما اتفق، التى سار عليها الحزب الشيوعى السودانى، لا جدوى منها. واذا كان الكاتب قد تمكن من الغوص فى عمق بعض نزاعات البلاد الريفية واستجلاء كنهها ماديا، كما ذكرنا آنفا، ببصيرة ذهنية تجعل قرآءة الكتاب نزهة ممتعة رغما عن الموضوع الشائك الذى يتناوله، الا اننا نعتقد انه عندما ياتى لموضوع التغيير لم يسر بالمنهج المذكور على نفس الوتيرة لكى يصل به الى نهاياته المنطقية. والآن نمضى لتناول الافكار الرئيسية للكتاب، حسب قرآءتنا له، والتعليق على المنهج الذى سار عليه الكاتب فى مبحثه، وهو المنهج المغاير الذى يقترحه الكاتب لنشاط الماركسية.




-1-
نزاعات الارياف السودانية والدفع الراسمالى

يقول الكاتب "جاء نزاع دارفور إلى المائدة، في عبارة للفرنجة، بالاقتصاد السياسي لتحليل حروب السودان الأهلية.............. النزاع دار وسيدور حول حقوق تملك الأرض والانتفاع منها مما يعرف ب (الحاكورة) . فقد تضرر عرب وأفارقة معاً في دارفور من إرث الحاكورة. وهو نظام متوارث في ملكية الأرض قصر ملكية الأرض المعلومة لجماعة (قبلية) معلومة وحرم الجماعات الأخرى من الانتفاع الطليق المتساو منها إلا بشروط التباعة المهينة لصاحب الملك ولقاء رسوم معلومة – ص3". ياتى هذا الراى من الكاتب فى مقابل آراء الحزب الشيوعى القائلة بعدم المساس بنظام الحواكير وبضرورة الالتزام بأعرافها المستقرة والكف عن الزعيق بشعارات مثل )الأرض لم يفلحها( التي ستخلخل هذه الأعراف بثمن فادح وبلا نتيجة؛ وان النزاع فى دارفور تسببت فيه سلطة ليس لها وازع من ضمير وما هى الا نظام " رأسمالي طفيلي يمكن له أن يزهق ثلث شعب السودان (دون أن يطرف له جفن أو يهتز له ضمير أو يلجمه وازع ديني أو أخلاقي. فهم طفيليون غرباء على شعب السودان)-ص 31"؛ وان هدف هذه السلطة من اثارة هذا النزاع هو " إنشاء حزام أمني عربي إسلامي على حساب أفارقة دارفور".

خلافا لنعرة نصرة الزرقة على العرب, يرى الكاتب وبدون التقليل من مسالة العرق والهوية، ان نزاع دارفور تخلّق من صراع مديد وسط القبائل حول الموارد، فالجنجويد ( وهي المليشيات المنسوبة إلى عرب دارفور وشاد التي أخرجت أكثر سكان دارفور الافريقيين من أرضهم بسياسة الترويع والتذبيح والأرض المحروقة) كانت بدايات تكوينها ترجع لما قبل حكم الانقاذ الحالى عندما لجأت الى للاستقرار فى ارآضى الحواكير الخصبة عنوة بعد ان صدهم اصحابها. وفى هذا الخصوص يقول الكاتب " جهلنا بحقائق الموارد في دارفور ونظم تداولها هو جذر أكثر ضوضائنا وضلالنا عن الحق في مسألة دارفور. فنظام تملك الأرض على إرث الحاكورة أصل عميق في النزاع الدارفوري. وعليه فالجنجويد والحاكورة وجها عملة واحدة وفي الترويج لأحدهما دون الآخر تلبيس. وإنني لأجرؤ بالقول، في الملابسات التراجيدية التي حفت بنشاط الجنجويد، إنه كان طاقة معارضة مشروعة لبث الديمقراطية في حياة الريف. وهي ديمقراطية يحول دونها نظام الحاكورة الذي أقصاهم كمواطنين عن موارد دارفورية سائغة- ص53". هذا الرأى فى مسألة الجنجويد من قبل الكاتب يتفرع من الربط الصائب الذى قام به الكاتب بين متاعب الارياف السودانية ومظالمها والدفع الراسمالى فى البلاد. فهناك مؤشرات كثيرة الى ان السلطة المركزية ساندت الرعاة (اصحاب المواشى) العرب على حساب المزارعين الأفارقة فى دارفور لاسباب اقتصادية؛ وكمثال لهذا يذكر الكاتب سياسات الإنقاذ التى جاءت تحت غطاء استرجاع نظام الادارة الاهلية لمنح بعض القبائل العربية سلطات وصلاحيات كما حدث فى دار المساليت بدارفور لا تقع إلا لمالك الحاكورة، وكل ذلك بدون مشورة ااصحاب الحوكير الاصليين.
ويمضى الكاتب، وفى اطار تناوله للتمدد الراسمالى فى الارياف السودانية يعطى صورة جلية للكيفية التى استولى بها الرأسماليون في قطاع الزراعة الآلية على أراضى صغار المزارعين وكيف "تفاقم الأمر في أواخر الثمانينات حين قامت الدولة بنزع ملكية معظم الأراضي وتأجيرها للشركات والملاك والأفراد بهدف زيادة الإنتاج الزراعي مما ادى الى نشوء منازعات حول تطفل القطعان على زرع الملاك. فالزراعة الآلية والحرب والجفاف أخرجت هامشاً واسعاً من الأرض كان الرعاة-الزراع ينتفعون به لتأمين رأس مالهم البشري والحيواني. واضطر الرعاة بسبب هذا النقص في مراعيهم إلى إعادة رسم مساراتهم- ص59" ويعطى الكاتب امثلة لتسبب تغيير المسارات هذا فى بقاء بعض القبائل بموضع ما أكثر مما تعودت مما قادها إلى نزاع في الموارد مع القبائل التي ترعى في نفس المنطقة.
وهكذا توفق الكاتب فى تبيان دور الدفع الراسمالى فى النزاعات الاقليمية فى السودان، ونستبين من عرضه لهذا الموضوع ان نموء الراسمالية شيئا طبيعيا على عكس النزعة البائسة المكتفية بالزعيق بشعارات الراسمالية الطفيلية لوصف مجمل هذا الدفع . ولكن لم يفت على الكاتب البحث عن الطبيعة الحقيقية للتمدد الراسمالى فى البلاد. فمن خلال تناوله النقدى للنظرة والممارسة-السائدتين- لسياسة الرق المعزولة عن التحليل الاجتماعى والطبقى والغير مربوطة بالواقع الحالى، القى الكاتب ضوءاً على اشكال العبودية الجديدة فى الارياف السودانية؛ عبودية فرضها، بجانب ملابسات الحرب الأهلية، الزحف الرأسمالى المرتبط بروؤس الاموال الاجنبية والمدعوم بمؤسسات التمويل الدولية. فمن خلال تجييش اصحاب العمل لقوى العمل في مثل العمل القسري والعمل المأجور والعمل لحل الدين والعمل الجماعي، ظل اصحاب العمل يحققون الارباح التى تفوق الوصف. وهنا تظهر الصورة الشبه- راسمالية لذلك النشاط الاقتصادى، فبدلا عن عمال يبيعون قوة عملهم (كقيمة متداولة) فى السوق بشكل حر كما هو حادث فى الراسمالية النموذجية proper، نجد حالات وحالات للأًجراء فى الارياف السودانية يرهنون قوة عملهم الاستعمالية لصاحب العمل الذى يمتلكها حتى يسترد دينه!
-2-
المنهج ومسالة التغيير
اثار الكاتب مسالة التغيير كمسالة جوهرية عندما ذكر ان مبحثه يرمى لفحص نشاط الحزب الشيوعى السودانى " ليخلص إلى أن مقاومة الحزب الماهرة المكلفة للنظام حالت دون تطبيق خلاق ماركسي يحيط بمجتمع السودان إحاطة ينفذ بها الحزب إلى عتبة النهضة التي هي البعث الوطني الديمقراطي في مصطلحة-ص 1"؛ وكذلك يذكر الكاتب ان النهج الصحيح للشيوعيين يكمن فى اللجوء " إلى المعارضة ال"طَوِيلة"، كما نقول، التي لا تنتهي بسقوط النظم الردئية فحسب بل تتدرج بنا في مدارج النهضة- ص 5. "
وعن النهج المغاير يقول الكاتب " ونهج الأرومة هو الذي تنعقد عنده هوية الجماعة على معطيات أو مسلّمات في وحدة الدم والثقافة والتاريخ والإقليم. وهي معطيات يٌولد المرء فيها وهي تدمغه فلا فكاك لأنها تؤثر عليه بصورة مستقلة وغلابة لا يملك لها رداً. فلا يتواشج الناس في أرومتهم بعاطفة فردية أو نتيجة ضرورة ملجئة أو مصلحة ملزمة. فالأرومة بهذا التعريف لا تصدر عن تفاعل اجتماعي لأنها سابقة للتجربة الاجتماعية. وكل ما بوسع المرء أن يفعله حيالها أن يحملها طائعاً مختاراً إلى بؤر خلطته مع الآخرين وتدافعه معهم. ومنهج الاقتصاد السياسي من الجهة الأخرى، في صوره المٌحسنة ، لا ينكر معطيات الهوية وميثاقها الروحي والتاريخي ولكنها عنده مصادر تتخلق منها الهوية في التفاعل الاجتماعي في عملية الإنتاج المادي والتناسل وعلاقتهما الإنتاجية. وعليه فمنهج الاقتصاد السياسي للهوية يعتبر الثقافة، ومنها الأرومة، بصورة أكثر جدية مما فعلت الماركسية التقليدية حين خفضت الثقافة إلى مجرد انعكاس للإنتاج المادي وعلاقته. فالاقتصاد السياسي يأخذ في تحليله للسياسات والمؤسسات بحقيقة الطبقة، كمحصلة للإنتاج المادي وتدافع الناس فيه، على قدم المساواة مع العرق-ص18"
قبل النظر فى نهج التغيير، لا بد من بعض الملاحظات العامة حول المنهج. اولا، ميل الكاتب الى عدم تسمية الاشياء باسمائها. فليس واضحا لماذا جاء الكاتب بمصطلحى "منهج الارومة" و" نهج الجنجويد" واستعملهما كمرادفان للطريقة الذاتية او الثقافية فى تحليل الظاهرات الاجتماعية، ومصطلح "منهج الحاكورة" كمرادف للتفسير اوالطريقة المادية. ثانيا، نعتقد ان تعبير "منهج الاقتصاد السياسي" يثير تساؤلا مشروعا وهو هل هنالك ما يسمى بمنهج الاقتصاد السياسي؟ فعلم الاقتصاد هو العلم الذي يدرس قوانين الانتاج والتوزيع الاجتماعي للقيم المادية في مختلف مراحل تطور المجتمع البشري، وهذه القوانين تتم دراستها بمناهج مختلفة؛ فالمثاليون بمنهجهم الميتافيزيقى ينظرون لها كقوانين ثابته تصلح لكل زمنا ومكان، بينما ينظر لها الماديون بمنهجهم الديالكتيكى كقوانين مؤقتة تعمل لفترة تاريخية محددة، ثم تختفى مفسحة المجال لقوانين جديدة لم تخلق بارادة الانسان بل تنشأ عن ظروف اقتصادية جديدة. والاصرار على تسمية الطريقة المادية بالمنهج الاقتصادى يفرغها من محتواها المفاهيمى. فالطريقة المادية تؤكد على ان طريقة انتاج الحياة المادية هى التى تحدد ، فى النهاية، سير الحياة الاجتماعى والسياسى والروحى فى كليته، ولكنها لاتنفى ان الجانب الاقتصادى يخضع لتغييرات كثيرة تنجم عن الاحوال الطبيعية، وعن التاثيرات الثقافية والتاريخية. فهذه التغييرات والتاثيرات تتفاعل جدليا مع الاقتصاد (طريقة انتاج الحياة المادية)، الذى يشكل العامل النهائى، لتحديد شكل الظاهرات الاجتماعية. ثالثا، وانطلاقا من النقطة السابقة، نعتقد ان طريقة الاقتصاد المُحسنة التى اقترحها الكاتب فى مقابل ما سماه بالماركسية التقليدية، لاتقود الا للمثالية لعدم اقرارها بأولية الاوضاع الاقتصادية.
يدعو الكاتب، خلافا لمقاومة الانظمة البغيضه والتعجيل لسقوطها كيفما اتفق، للنهضة التى يعنى بها " التغيير الاجتماعي المفضي للبعث الوطني". فالنهضة هى العمل وسط الستضعفين واستخدام لغتهم والعيش وسطهم "كبؤرة يكتشفون بها أنفسهم بأنفسهم ويستردون بها عافيتهم التاريخية". وهنا يقف المنهج ولا يسير ابعد من تربية الناس وحشدهم حول الدعوة لإقامة نظام يحقق آمالهم وامانيهم. ولكن من منطلق الطريقة المادية فان النهضة بهذا المفهوم تصير مجرد عقيدة أو دوقما. وذلك ببساطة لان التغيير مسالة موضوعية، فهو يحدث بصورة موضوعية وفق قوانين معينة، ورغما عن انها لا تحمل دقة قوانين العلوم الطبيعية، الا انها تحمل الصفات العامة للقوانين الطبيعية. فالتغيير مسألة طبيعية لخلق واقع مغاير للوضع القائم الذى يصبح عبئا على تطور القوى المنتجة (اى الناس والادوات الى يشتغلون عليها) التى تلعب الدور الرئيسى فى الدفع الاقتصادى. فعندما تبلغ القوى المنتجة مستوىً معين من التطور، تدخل فى تناقض مع علاقات الانتاج القائمة بين الناس التى يتجسد شكلها الحقوقى فى نظام الملكية؛ فتطور قوى الانتاج بشكل شامل، فى مرحلة ما، قد يتوقف اذا لم تتطابق علاقات انتاج جديده معها. وهذا يعنى ان علاقات الانتاج اذا لم تتغيرستصبح قيودا امام نمؤ القوى المنتجة مما يجعل الانتاج يعيش ازمة لا يمكن الخروج منها الا عن طريق التغيير الذى يحطم علاقات الانتاج القديمة فاتحاً الطريق امام علاقات انتاج جديده تتناسب مع قوى الانتاج. والمثال الساطع لهذا من التجربة المحلية، هو كيف فى مرحلة معينة صار نظام الملكية الخاص بالحاكورة (علاقات الانتاج) فى بعض مناطق دارفور، عائقا امام ازدهار مشاريع تصدير الثروة الحيوانية الراسمالية التى اخذت فى التوسع منذ السبعينات من القرن الماضى فى عهد مايو حيث كان اصحاب الحواكير يمنعون الرعاة، خاصة فى ايام الجفاف، من الدخول للمزارع لتعليف مواشيهم. ونتيجة لهذا كان الصراع الدامى فى تلك المناطق بين الدفع الراسمالى وشكل الملكية البالى.
كما ان النهضة التى يقترحها الكاتب تصمت عن تحديد القوى الاجتماعية التى يمكنها الاضطلاع بمهمة قيادة التغيير. فتناول قضية الارض فى السودان يثير مسالة طبيعة المرحلة الى يمر بها السودان، وبالتالى كيفية التغيير والقوى الاجتماعية المؤهلة لاحداثه. فرغما من ان الكاتب سلط علي ملامح علاقات الارض بالسودان ضوءا مهما وكاشفاً يساعد على استبانة طبيعة المرحلة، الا انه لم يشر الى مسالة على عاتق من تقع مهمة التغيير. ان التمهيد لطريق النهضة الاقتصادية /الاجتماعية الشاملة يستوجب الحل الجذرى لمسالة الارض وذلك بتفكيك الاشكال الملكية البالية فيها. والسودان كبقية الدول المتخلفة لا يستطيع حل هذه المسالة كما فعلت اوربا بانتصارها التاريخى على الاقطاع فى اواخر القرن السابع عشر واوائل القرن الثامن عشر. فالتغيير على النمط الرأسمالي ( عهد الثورة البرجوازية) قد ولى عهده مند زمن بعيد. فبعد وقوع الحربين العالميتين واقتسام العالم، صارت اقتصاديات الدول الراسمالية الكبرى تعتمد فى بقائها على المستعمرات وشبه – المستعمرات التى توفر الارباح الفاحشة الضرورية لتعويض تناقص الربح (الذى تمليه ظروف اقتصادية موضوعية) بتلك الدول. ولهذا اصبحت مهمة التغيير فى البلدان المستعمرة وشبه-المستعمرة ذات شقين: اولا، حل علاقات الارض, وثانيا، القضاء على الهيمنة الاقتصادية للدول الكبرى. ولكن لان ممثلى الراسمالية فى البلدان التابعة يعتمدون اقتصاديا على رؤس الاموال الاجنبية، ليس لديهم الرغبة فى مناهضة التبعية للدول الكبرى واكثر ما يمكن ان يقوموا به هو التذبذب حيال هذه المسألة على حسب مسار مصالحهم. كما ان ضعف تلك البرجوازيات المحلية سياسيا واقتصاديا لا يؤهلها للتصدى لقيادة التغيير الجذرى لعلاقات الارض فى بلدانها. ولهذا، فان عملية التغيير من زاوية طبعيتها الاجتماعية فى البلدان المستعمرة وشبه- المستعمرة، هى الثورة الوطنية-الديمقراطية التى رغما من أن ازالة العقبات امام الدفع الراسمالى يمثل رسالتها الموضوعية، الا انها تهدف لتمهيد الطريق لتطبيق الاشتراكية التى تعنى فى محصلتها النهائية القضاء الكامل على نظام الانتاج السلعى، وليست شيئاً آخر. وهكذا خلافا للنمط القديم للثورة البرجوازية، فان التغيير فى البلدان التابعة يضطلع به تحالف الطبقات الشعبية والوطنية فى هذه البلدان تحت قيادة العمال ليس فقط لانها اكثر الطبقات وعياً واحسنها تنظيماً، بل ايضا لان وضعها كصاحبة عمل مأجور -لاتملك غيره شيئا- يجعلها أكثر الطبقات ثورية.
ان الواقع المعاش بكل المتاعب والمحن التى جرها على الجماهير الشعبية فى السودان، يمثل ضرورة تاريخية فرضها التطور الاجتماعى/ الاقتصادى للبلاد وطبيعة الظروف العالمية السائدة. فمن ناحية التاريخ فان تطور هذا الواقع منطقى، لتضمنه على علاقات اجتماعية جديده، ولمحاولاته تفكيك الاشكال الملكية القديمة فى علاقات الارض، ولخلخلته لواقع التشبث القبلى بالارض، والابواب التى تفتحتها هذه الخلخلة - فالسودان لايعانى من اسراف او افراط تنموى راسمالى - الملامح، بل من شح فى التطور الراسمالى؛ ومن الناحية الاقتصادية، فهو ردئ فى استغلاله البشع للناس، وفى جشعه، وفى فساده وافساده. كما ان النظام الحالى يحمل فى احشائه الشروط المادية التى تُشكل النظام القادم كشىء طبيعى يخرج من رحمه، لا كنظام مرغوب فيه اوآفاق من البعث الوطنى او الجدة مُتمناة. ولهذا، وفى ما يتعلق بموضوع العمل وسط الجماهير السودانية الكادحة، لا ننسى ان الممارسة النضالية لهذه الجماهير ماضيا وحاضرا ومستقبلا هى، وهى وحدها، التى تحدد مآل التغيير - فالتاريخ تصنعه الجماهير. وهكذا فان مهمة الماركسيين تتقوم فى التعلُُم من الجماهير ومساعدتها فى رفع الشعارات الصحيحة، فانت لا تقول لها " كفى عن نضالك فهو هراء باطل- وانما توضح لها مغزى نضالها وتعطيها الشعار الحقيقى للنضال". والشعار الصحيح يتضمن مساعدة الجماهير المظلومة لكى تعرف ان متاعبها والآمها ما هى الا نتيجة نظام معين من علاقات الانتاج، وان تكشف لها طبيعة الاستغلال حيثما تستره العلاقات الاجتماعية والاوهام النظرية السائدة؛ كما يتضمن الاشارة الى الحل الذى يوحيه التطور الاقتصادى العام للخروج من مازق العلاقات الافتصادية الراهنة.

* المقتطفات الوارده فى هذا المقال ماخوذه من نسخة كتاب "أصيل الماركسية: النهضة والمقاومة فى ممارسة الحزب الشيوعى السودانى" المنشورة على صفحات موقع سودانايل؛
وعليه فان الاشارة الى الصفحات تتبع توالى المقتطفات على صفحات تلك النسخة.
كاتب وسياسى من السودان



#محمود_محمد_ياسين (هاشتاغ)       Mahmoud_Yassin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول ملكية 2% من البشر لثروات العالم
- القيمة وسقوط الاتحاد السوڤيتى
- فى الذكرى الستين لتأسيسه: الحزب الشيوعى السودانى والعمل النظ ...


المزيد.....




- ماذا قالت إسرائيل و-حماس-عن الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين ف ...
- صنع في روسيا.. منتدى تحتضنه دبي
- -الاتحاد الأوروبي وسيادة القانون-.. 7 مرشحين يتنافسون في انت ...
- روسيا: تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة مستحيل في ظل استم ...
- -بوليتيكو-: البيت الأبيض يشكك بعد تسلم حزمة المساعدات في قدر ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من رمايات صاروخية ضد أهداف إسرائيلية م ...
- تونس.. سجن نائب سابق وآخر نقابي أمني معزول
- البيت الأبيض يزعم أن روسيا تطور قمرا صناعيا قادرا على حمل رأ ...
- -بلومبرغ-: فرنسا تطلب من الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة ض ...
- علماء: 25% من المصابين بعدم انتظام ضربات القلب أعمارهم تقل ع ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمود محمد ياسين - الطريقة المادية وعلا قات الارض فى السودان:تعليق على كتاب -أصيل الماركسية: النهضة والمقاومة فى ممارسة الحزب الشيوعى السودانى*