الشرق الأوسط، 17/9/2003
هل أبدأ بإزجاء التهنئة أم بالتعبير عن القلق؟ كلاهما ضروريان، في الوقت الحاضر على الأقل.
وجوب التهنئة أن تكون أنت، ابن العائلة الفقيرة، الشخص الذي أمضى حياته مناضلا وطنيا نزيها، مطاردا ومنفيا لأكثر من ثلاثين عاما، وبدلا من قبو النضال وظلام العمل السري ومشقة المنفى تعود الى الوطن ولم يدر بمخيلتك بأنك ستصبح وزيرا ذات يوم، فمعدن المناضل النقي لا يحتمل أوضار المنصب الكبير، ومن هنا فهي مسؤولية شاقة أن يكون أحد منا، أو من يشبهنا، وزيرا في بلد كان فيه الوزير شريكا في القتل والقمع، حتى لو كان وزير ثقافة يشترط فيه، في عهد صدام على الأقل، أن يكون أميا قبل كل شيء!
الأمية، رديفة الجهل، تجعل من الأمي الذي يتبوأ منصبا كبيرا، خادما للحاكم، خنوعا، أعمى لا يرى غير الهدف المعادي: الآخر المثقف.
لطيف نصيف جاسم، النموذج الفاقع على هذا الوزير، ولكنه وجد شاعرا عربيا كبيرا، مثل محمود درويش، يطلق عليه لقب «وزير الشعراء»!
إنها المرة الأولى في حياتي، وأنا أزعم بأني من زمرة المثقفين، التي أتعرف فيها على وزير حكومة بلادي الجديدة فاجده صديقي، اقتسمنا معا اللقمة البسيطة والشراب المتوفر، وعندما نام في شقتي كان سعيدا بأن نام على الكنبة في الصالون.
بل تعرفت، لأول مرة في حياتي، على وزراء آخرين كنت أعرفهم قبل أن يكونوا وزراء، لكن مفيد الجزائري (ولن استخدم كلمة السيد أو الأستاذ كي لا أبدو مضحكا بالنسبة له) كان صديقا، أعني أن يعرف المرء شخصيا عددا من الوزراء في حكومة بلاده، هي إشارة على أن الفجوة المخيفة بين مواطن مثلي ووزير مدجج بالشوارب والمسدس وربطة العنق البراقة لم تعد موجودة وهي بادرة خير، ولنقل فأل حسن.
وأنا أستعد للذهاب الى العراق، بعد حوالي ربع القرن من المنفى، خطرت في بالي فكرة أن أزور صديقي الوزير، ومن تداعيات الفكرة ثمة أسئلة صغيرة تناثرت وتلملمت، أسئلة ضاحكة وأخرى متجهمة مثل: هل يتعين علي أن آخذ موعدا مسبقا؟
وإذا حان الموعد، هل يتعين علي المرور بأكثر من نقطة تفتيش؟ كيف سأقنع الحراس بأنه مفيد، صديقي الذي أصبح وزيرا؟ هل سأحمل له هدية من لندن، أم سأكتفي بباقة ورد؟ لعلهم يضعون على طاولته باقة ورد ضخمة، فما الذي ستعنيه باقة وردي؟ أيمكن أن تتغير لغتنا المشتركة، بين مواطن فقير ووزير كبير؟
ماذا لو اعتذر عن لقائي بسبب مشاغله الكثيرة، هل هي كثيرة حقا أم حسن تخلص؟
هل سيلبي دعوتي على الغداء أو العشاء في بيت أخي في بغداد؟ ستهتف زوجة أخي أم سعدون غير مصدقة: «في بيتنا.. وزير!».
إن مفيد وزير قابل للمخاطبة، على الأقل، عدا عن كونه صديقا. لكن، والمثقفون، كثيرو الاعتراض، قد استعير تعبير عمنا الراحل اميل حبيبي «المتشائل»، وأنا في معرض الحديث عن دور الثقافة ووزيرها في بلد كالعراق، خارج من فم الحوت قبل أشهر قليلة.
يفرق السياسيون والمراقبون بين وزارة ووزارة، فمنهم من لا يعتبر وزارة الثقافة بأهمية وزارات كالنفط والخارجية والمالية والداخلية. إنه تفريق يفتقر للدقة والحصافة. أعتقد بأن وزارة الثقافة هي بمنزلة الجامعة التي تتولى إعداد الكادر البشري لخدمة البلد. وما وزارة التربية أو التعليم إلا بمثابة المدرسة الثانوية. أي أن نصف المعرفة الأكاديمية لا يكتمل إلا بنصفه الآخر: الجامعة.
لا تهتم يا مفيد، لأنك، كما أعرف، مدرك لأهمية الثقافة في حياة الناس، خصوصا في هذه المرحلة التي ما يزالون فيها جرحى أنياب ذلك الحوت الذي لم يزل فارا.
الثقافة هي المستوى المعرفي العالي لأي شعب من الشعوب، بدءا بطرق الطبخ وانتهاء بالفلسفة.
إنها لمهمة شاقة جدا أن تعيد الملايين من الناس الذين غسلت أدمغتهم الى المستوى الثقافي الذي يجب أن يكونوا عليه. تخيل معي، يامفيد، أن يكون وزير النفط أو المالية أو الداخلية أو الخارجية شخصا أميا، بمعنى يفتقر الى الحد المطلوب من المعرفة حتى في مجال اختصاصه، ماذا ستكون النتيجة؟
إنه لا يختلف عن حمار داخل قاعة مليئة بمختلف أنواع الكومبيوترات عالية البرمجة والتجهيز. بالمناسبة، لم يزل العقل البشري كومبيوتر عالي البرمجة والتجهيز، وعالي التعقيد بما لا يقاس بأحدث كومبيوتر، أو ليس الإنسان هو مخترع الكومبيوتر وقائده ومستخدمه؟
من السهل «توفير» وزير للثقافة، ولكن ليس سهلا «توفير» ثقافة للوزير.
إن مصدر«تشاؤلي» هو أن تأهيل الناس لمرحلة ما بعد الحوت الهارب، أمر في غاية الصعوبة. إن البلد، أرضا وشعبا، يمتلئ بحقول الألغام، بالمفهومين العسكري والذهني.
لعلك تتذكر نقاشنا، يا مفيد، عندما شبهت لك بريسترويكا الرفيق غورباتشوف بأنها تشبه من يغسل السلم بادئا بدرجاته السفلية.
إن ذاك المثال يصح على حالتنا. علينا فعلا أن نغسل الدرج من درجاته السفلية.. من قاع المدينة. ربما هي بعض ما علق في دماغي من مثاليات فكرية. لكن المرء «يتشاءل» حقا، وهو يرى أزقة العراق وأرصفته تغرق بالمستنقعات والبعوض والذباب والرماد، وهي أزقة لا يفصلها عن الذهب الأسود إلا بعض مئات من الأمتار. أم ترانا ما زلنا أطفالا نمد أيدينا في ليالي بغداد البليلة الى القمر والنجوم، فهي في متناول اليد أكثر من مصباح كهربائي يعيننا على أداء واجباتنا المدرسية؟
كيف سنقيم أمسياتنا الشعرية في أحياء شعبية لم يشملها صدام حسين بذاكرته إلا باعتبارها تجمعات خطيرة على الأمن القومي؟ هل سيأتي يوم تعلق فيه قصائد الشعراء في مترو بغداد، وبقية المدن، كما يحدث في بريطانيا؟
هل ستحل تلك اللحظة التي يصعب فيها على مواطن عراقي الحصول على تذكرة حفل الفرقة السمفونية الوطنية، ليس بفعل استحواذ الأرستقراطيين على جميع المقاعد، بل بسبب كون الموسيقى حاجة ثقافية شعبية؟
هل شطحت بعيدا؟
لقد تعودت أن أفكر معك بصوت عال، فاعذر أحلامي التي تعطلت طويلا بفعل اليأس والأرق معا، لكني أفضل حالا اليوم لأني لم أعد يائسا، بل «متشائل» فحسب.