فساد الديمقراطية الامريكية
جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8562 - 2025 / 12 / 20 - 21:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
جدت في المدة الأخيرة في الولايات المتحدة الامريكية حادثة بسيطة في حجمها ولكنها معبرة جدا في معناها ومغزاها لفتت انتباه الكثير وجعلت الكثير يعلق عليها بكونها تمثل علامة من علامات فساد و"انهيار" الديمقراطية الامريكية التي تباهى بها الغرب الرأسمالي على أنها "النموذج" الذي ينبغي أن يحتذى به في العالم قاطبة.
صورة الحادثة هو تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الداعية إلى الحكم بالإعدام على عدد من أعضاء الكنغرس الأمريكي إزاء مواقف كانوا عبروا عنها في مداولات المجلس. وبصرف النظر عن الطابع العشوائي والمنفلت والمتهور في تصريحات الرئيس الأمريكي، فإن تصريحاته الأخيرة تكتسي في الحقيقة خطورة خاصة. فهي تؤكد مدى استفحال النزعة الاستبدادية المتسلطة لدى رئيس يفترض أنه يعمل ضمن منظومة محكومة بقواعد وقوانين ومبادئ ومقيد بصلاحيات ضمن توزيع مدروس بين جملة من المؤسسات التي تشكل عماد "النموذج الديمقراطي" الأمريكي المزعوم.
أزمة الديمقراطية الأمريكي أزمة هيكلية
من غير المستبعد أن يصدح ترامب بتصريحاته الأخيرة التي تنسف بكل بساطة مبادئ القانون الدولي الإنساني مثل إعلانه سحب الجنسية من مهاجرين قدامى تحصلوا على الجنسية الامريكية بعد استيفاء الشروط القانونية المستوجبة ومثل إيقاف العمل بقانون الحق في الجنسية بالنسبة إلى المولودين على التراب الأمريكي (le droit de sol) ومثل غلق باب الهجرة جميع شعوب العالم والبلدان المجاورة. هذه القرارات وغيرها تعكس درجة التطرف التي بلغتها النزعة القومية الشوفينية لدى الرئيس الأمريكي وحزبه، الحزب الجمهوري، والفريق المؤلف للحكومة الامريكية والحزام القريب من ترامب. أكثر من ذلك يعكس التوجهات المتطرفة السائدة في أمريكا والتي هي أبعد من أن تكون مجرد أفكار معزولة لدى الرئيس وفريقه الحاكم وإنما هي في الحقيقة ثقافة سياسية منتشرة بقوة في أمريكا كما في العديد من البلدان الأخرى في أوروبا وغيرها من القارات.
يمثل ترامب منتوج مناخات سياسية وفكرية طاغية في أمريكا هي التي مهدت الطريق أمامه كي يفوز بالانتخابات ويصعد للحكم في ولايته الأولى كما في ولايته الثانية. فالسياسيات التي اتبعها قادة الحزبين المتداولين على الحكم، الجمهوري والديمقراطي، خلال الأربعين سنة الماضية أجرت تغييرات كبيرة على مؤسسات الحكم وسياساتها وعلى قناعات القيادات التي أفرزتها هذه المرحلة.
فالأزمة الاقتصادية الحادة التي تعاني منها الرأسمالية الامريكية هي الإطار الطبيعي لظهور النزعة الشعبوية التي تمثل بدورها مقاربة جديدة ولدت على أنقاض السياسات البرجوازية الكلاسيكية وعلى خلفية فشل "الرؤية الديمقراطية التقليدية" التي حكمت أمريكا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويذهب البعض إلى القول بأن فترة رئاسة بوش الابن كانت هي الانطلاقة الحقيقية لظهور ترامب وانطلاقته نحو البيت الأبيض.
والحقيقة أن الازمة الاقتصادية (منذ منتصف السبعينات) التي وجدت في المفاهيم النيوليبرالية لمدرسة شيكاغو في المجال الاقتصادي والتي ترجمها الرئيس الأسبق رونالد ريغن كانت هي نفسها الدواعي للاستعاضة عن "الديمقراطية الامريكية" المتشبعة بالمبادئ الفلسفية والسياسية لرواد فلسفة الانوار (منتسكيو الخ...) بـ"ديمقراطية" ترامب التي لا تعترف بمؤسسات ولا بمبادئ ولا بقيود ومقتضيات قانونية.
نحن الآن بصدد ما أسماه الكاتب الأمريكي ديفيد فروم David Frum بـ"ترامبوقراطية" أي الحكم على طريقة ترامب. ورغم انتمائه إلى نفس الحزب الجمهوري (كان يكتب خطب الرئيس جورج بوش الابن) فإن فروم يعتبر أن صعود ترامب للحكم يحمل في طياته مخاطر كبيرة وتهديدات جدية للديمقراطية في أمريكا وفي الغرب ككل. فترامب هو الحاكم بأمره في أمريكا لا يعبأ ببقية مؤسسات الحكم (مجلس النواب والشيوخ والمحكمة العليا ومحاكم الولايات الخ...) وقد وسّع دائرة صلاحياته مستعملا النفوذ المالي لمعاقبة من يقف في وجهه ويعارض قراراته. ونتذكر هنا موقفه من حاكم ولاية كاليفورنيا وموقفه من انتخابات رئيس بلدية نيويورك. وتأتي كل المبادرات التي أقدم عليها ترامب في فترته الرئاسية الحالية في سياق قديم ذلك أنه لا بد من التذكير بما أقدمت عليه المجموعات المتطرفة التابعة له يوم 6 جانفي 2021 من اقتحام مقر الكونغرس رافضة نتائج الانتخابات ومطالبة بتنصيب ترامب الوحيد الجدير بتقلد رئاسة أمريكا.
وقد أثرت تلك الحادثة سلبا على صورة الولايات المتحدة الامريكية ومست في العمق من مصداقية ما بسمعة بالنموذج الديمقراطي الأمريكي. واستمرت ذيول تلك الحادثة حتى في عهد حكم الحزب الديمقراطي وجون بايدن. وبعودة ترامب للحكم كان إخلاء سبيل كل المحاكمين من أتباعه علامة من علامات الفساد السياسي المستشري في أمريكا.
ومن المعروف أن "الترامبوقراطية" تقوم على تنصيب الموالين والاتباع وذوي القربى الذي لا يمت للديمقراطية بصلة. إن منطق ترامب في إدارة شؤون الدولة أقرب إلى منطق العصابة منه إلى منطق الدولة. إذ يذكر الجميع الدور الذي لعبته ابنته أثناء زيارته إلى بلدان الخليج وجلوسها على مقعده خلال قمة مجموعة السبعة كما يذكر تسمية صهره (كوشنير) في منصب متقدم في الفريق الحاكم وحارسه الشخصي السابق ضمن كبار موظفي البيت الأبيض وغيرها من المظاهر التي تكرس المحاباة وتخالف القانون. وللعلم فقد استصدر ترامب قانونا يضع السلطة التنفيذية (البيت الأبيض) في مأمن من القوانين الاتحادية المتعلقة بالمحاباة.
وكانت الصحيفة الامريكية الشهيرة "نيويورك تايمز" خصصت افتتاحيتها لرصد كل مظاهر الفساد في غدارة ترامب مستشهدة بما قاله المؤرخ ماثيو داليك مؤخرا: "ترامب هو السياسي الوطني الأكثر فسادا في العصر الحديث، وصراحته بشأن ذلك فريدة من نوعها. إنه فخور بجشعه، ويعتبره علامة على النجاح والدهاء".
وبالنظر لكل هذا وغيره تعد تصريحاته الأخيرة المنادية بالحكم بالإعدام على نواب في الكونغرس في تعد واضح على مبدأ الفصل بين السلطات الذي تتغنى به "الديمقراطية الغربية" وفي تجاهل تام للإجراءات القانونية ومقتضيات المحاكمة العادلة على فرض أن تصريحات النواب تستوجب الإحالة على القضاء.
لقد افتضحت الديمقراطية الغربية في أمريكا كما في أوروبا وفي كامل ارجاء العالم على انها مثال للحكم تجاوزه الزمن واهترأ بما بات يستدعي من البشرية تجاوزه واستبداله بنظام ديمقراطي جديد. لقد استنفذ النمط البرجوازي طاقته ولم يعد قابلا لاستيعاب حاجة "المواطنين" لديمقراطية تمثلهم حقا وتعكس اهتماماتهم وحاجياتهم في مأمن جبروت المسؤول الأول في الدولة مهما كانت التسمية "رئيس" أو "ملك" أو "أمير" يختزل سلطة الشعب ويغتصبها ويخضعها لمشيئته ولخدمة مصالحه.
إن الديمقراطية البرجوازية بما في ذلك النموذج الأمريكي بصدد العودة بالمجتمع الإنساني في ظل جبرون الطعم المالية والاحتكارات العابرة للقارات والقوة العسكرية والقمعية إلى أفضع اشكال الاستبداد والقهر. وهو ما يقيم الدليل على أن هذا النموذج فقد الاهلية على أن يقع تسويقه على أنها المثال الأفضل والأكثر كفاءة لحكم الشعوب.
إن سقوط هذا النمط من "الديمقراطية" مسألة وقت لا أكثر بالنظر لما بات عليه من شيخوخة واهتراء وفساد.