كرة القدم: الفرجة والأفيون والارباح
جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8403 - 2025 / 7 / 14 - 04:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تشارف البطولة العالمية لفرق كرة القدم التي تحتضنُها الولايات المتّحدة الامريكية مِنْ يوم 14 جوان الماضي على النهاية. وكما هو مبرمج سيكون يوم 13 جويلية الجاري تاريخَ الدّور النّهائي لهذه البطولة لتعيين الفريق البطل الذي سيحمل الكأس حتى موعد حلول الدورة القادمة.
انطلقت هذه البطولة كما هو معلوم يومَ 13جوان الماضي وتَنَافَسَ خلالها، وعلى مدى شهرٍ، ولأوّل مرّة في التّاريخ، 32 فريقا موزّعين على كلّ القارّات بشكل غير متساوي – بطبيعة الحال – ولاقت كل المقابلات إقبالا جماهيريا كبيرا ما يؤكّد أَكْثَرَ فأكثرَ شعبية هذه اللعبة في كل البلدان.
معطيات وأرقام مذهلة
خصّص الاتّحاد الدّولي لكرة القدم لهذه البطولة حوالي مليارين من الدّولارات. ولأول مرّة سيجني الفائز بكأسِهَا أكثر من 35 مليون دولار (أي حوالي 100 مليار من الملّيمات التونسية) بينما بلغتْ مُكافأة المشاركة (والمشاركة فقط) مليون يورو أيْ أكثر من 3 مليارات ملّيمات. ففريق مثل التّرجي الّرياضي التّونسي الذي شارك في هذه البطولة وخرج من دور المجْموعات الأوّل، بعد فوزٍ وهزيمتين، سيعود إلى تونس وفي جيبه حوالي 11 مليار من المليمات التونسية.
إضافة إلى ما ستجنيه الفرق المشاركة فإنّ الاقتصاد الأمريكي سيجني هو الآخر أرباحًا طائلة. ففي تقدير أولي عند تنظيم هذه البطولة تذهب التقارير الاقتصادية إلى التكّهن بخلقِ ما يزيد عن 105 ألف موطن شغل في الإحدى عشر مدينة أمريكية التي ستحتضن مختلف المباريات، فيما قد تبلغ قيمة الإيرادات المالية إلى ما يزيد عن 7 مليار دولار في قطاعات الخدمات (تجارة الجملة والتجزئة والعقارات والإقامات والإشْهار والتأمينات الخ...). ومن المتوقع أن تمتد فوائد هذه الدّورة في قطاعات الخدمات حتى خارج أمريكا لتمس الصين (2.1 مليار دولار) واليابان وألمانيا وغيرها من بلدان أوروبا خاصة.
اقتصرنا على ذكر بعض الأرقام الخاصة بهذه البطولة والحقيقة أن عالم كرة القدم يحفل بأرقام كثيرة مذهلة سواء في البطولات الأخرى (كأس العالم وبطولة أوروبا للأمم وكأس افريقيا وبطولة آسيا وكوبا أمريكا) أو في أشهر الدوريات المحلية في العديد من البلدان الأوروبية وخاصة اسبانيا وانجلترا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا (big 5) وفي البرازيل. وقد انتقلت حمى الشراء والبيع والمنافسة والإشهار وكل ما يتّصل باللعبة إلى بلدان كانت حتى الامس القريب لا تقاليد لها في هذا الميدان، ولكنها أصبحت بفضل الأموال الطائلة التي تصرفها من أكثر ساحات الشهرة والربح والاثراء. من أبرز هذه البلدان التي صرفت مبالغ لا تصدق، لجلب نجوم كبار في كرة القدم من الدوريات الأوروبية، قطر والسعودية حيثُ يمثّلُ اللاعبون الأجانب ربع الناشطين في البطولة المحلية. وجاء في تقرير للاتّحاد الدّولي لكرة القدم أنّ البطولة السّعودية هي الثّانية وراء البطولة الإنجليزية من حيثُ حَجْم نفقاتها. وللتّذكير، فقد بلغ ما صرفته الأندية السعودية سنة 2024 لجلب لاعبين أجانب 900 مليون دولار. فعلى غرار البرتغالي كريستيانو رونالدو والفرنسي كريم بنزيما والبرازيلي نيمار والفرنسي كانطي يجري الآن الحديث حثيثا عن صفقات جديدة مشابهة سيقع الإعلان عنها قريبا مع أبرز النجوم الذين تألقوا في البطولة الحالية.
إننا على موعد في الأيام القليلة القادمة مع أنباء عن تنقّلات وصفقات ومبالغ ستظلّ موضوع حديث وتعاليق لأشهر أو ربما لسنوات طويلة.
الفرجة والافيون والأرباح
بدأت كرة القدم في كل أنحاء العالم كلعبة شعبية وعرفت سيرورة من التطور انتهت إلى ظهور نوادي كرة القدم. وانتشرت اللعبة نتيجة ولع الناس بها وتشجيعاتهم لها ثم لاحقا بفضل اهتمام النظم الحاكمة بها التي وفرت لها الملاعب وسهرت على تنظيمها وسَخّرتْ لها كل الإمكانيات المادية واللامادية، حتى أصبحت اللعبة الشعبية الأولى في العالم. فوجدت فيها الرأسمالية مجالا للاستثمار والربح. ومنذ أن اقتحم أصحاب رأس المال ميدان الرياضة بشكل عام وميدان كرة القدم بشكل خاص اتخذت هذه اللعبة أبعادا كثيرة ومتنوعة.
لا جدال في أن كرة القدم توفّر مجالا للفرجة والترفيه. وقد ازدادت إمتاعا نتيجة التّطوّر الهائل الذي عرفته كرة القدم في نظم اللّعب وأساليبه وتقنيات الهجوم والدفاع. ومنذ أن ظهر نظام الاحتراف جرى تطوير سريع جدّا في نظم اللعبة بكل جوانبها الفنية وفي الاحاطة بحياة اللاعب وطاقاته البدنية والذهنية خلال المقابلات وفي التمارين وحتى في بقية تفاصيل حياته العائلية والخاصة (توزيع ساعات اليوم، النظام الغذائي الخ...).
لقد لمعت في هذه السيرورة أسماء مدربين مشهود لكل واحد منهم بالطريقة الخاصة به في تنظيم اللعب والارتقاء بأداء اللاعب/الفرد إلى مستويات غير مسبوقة من حيث المردودية والجمالية. ويذكر في ذلك أسماء كثيرة لعل أبرزهم الهولندي كرويف والبرتغالي مورينو والاسباني قوارديولا الخ...
نحن اليوم حيال نشاط لم يعد في الحقيقة مجرد لعبة للهو والترفيه. بل أصبحت اللعبة رهن الكثير من قيود الحسابات والرسوم التكتيكية وقواعد الانضباط ومقاييس الأداء والعطا البدني والذهني. إننا في عصر "صناعة كرة القدم". ومع ذلك تبقى هذه اللعبة، لا محالة، لعبة ممتعة وجالبة لمئات الملايين من المتابعين والمغرمين قلّ أنْ اجتمعوا حول شيء آخر مثلما التقوا على محبة كرة القدم.
لقد أصبحت أكثر الأنشطة التي تعبئ حولها جماهير واسعة من الشباب والكهول وحتى الأطفال، إناثا وذكورا، في أشكال تنظيم متنوعة فاقت في جماهيريتها وفي وزنها السياسي والاجتماعي الأحزاب السياسية والنقابات والوداديات وغيرها من التنظيمات التقليدية. لقد تحولت إلى أفنيون يحقن الجماهير بأعلى درجات المتعة والنشوة ويخدّرها دون انقطاع وينسيها عذاباتها وآلامها ويفجر لديها طاقات ضخمة لابتداع أشكال لا حصر لها في الدعم والمساندة (كرنفالات وأهازيج وجمعيات أحباء في كل اصقاع الدنيا ومجموعات الكترونية الخ...).
في كلمة، وكما قال رئيس أحد النوادي الأوروبية الكبرى (نابولي) شقّت كرة القدم "رحلة من المتعة إلى الواجب".
لقد وجدت فيها الرأسمالية مجالا للاستثمار والرّبح فتحوّلت نوادي كرة القدم إلى شركات خاصة تَحكُمُها نفسُ قواعد التّصرّف الّتي تَحْكُمُ عمل الشركات والاحتكارات الكبرى من أجل الربح. وانخرطت هذه الشركات في أكبر البورصات وفي شتى الأنشطة والمضاربات المالية. لذلك أصبح للنوادي "قيمة تسويقية" يقع تعييرها وفق جملة من المعايير الفنية والمالية. ثم وفي وقت لاحق أصبح للاعبين أنفسهم "قيمة تسويقية" تحدد أسعار التنقلات بين الفرق.
ككل القطاعات والأنشطة الاقتصادية المُدِرّة للأرباح تخْضَعُ النّوادي/الشّركات لنفس مُقوّمات مسار المراكمة الرأسمالية والمركزة. فتكونت الوحدات المالية العملاقة التي تنظم أنشطة النوادي/الشركات وترعى أعمالها التي ليس النّشاط الرياضي (البطولة المحلية أو القارية أو العالمية) إلا واجهة لها لا غير.
ويُعتبر ما عُرِفَ في السنوات الأخيرة بـ"الملكية الجماعية للنوادي" MCO أي Multi-Club Ownership آخر ما توصلت إليه عملية مركزة رأس المال في الاستثمارات الكروية. ففي هذا الإطار (MCO) لم تعد النوادي تنشط اقتصاديا وماليا بشكل منعزل وإنّما ضِمْنَ شبكة منظّمة هي بمثابة امبراطوريّة كرويّة وماليّة مترامية الأطراف في كل أركان العالم. فنادي مانشستير سيتي الإنجليزي ونادي خيرونا الاسباني ونادي باهيا البرازيلي يتقاسمون إيراداتهم لصالح مالك وحيد مشترك. وكذلك الأمر بالنسبة لعدد من النوادي الأخرى مثل نادي ساليسبورغ النمساوي ولايبزيخ الألماني ونادي راد بولز النيويوركي الأمريكي.
هذا النمط من الملكية والتنظيم أدخل تغييرات جذرية على طرق عمل النّوادي وتسييرها وانتداباتها وضبط استراتيجياتها على المدى المباشر والبعيد. ويقوم هذا النّمط على تقاسُمِ الإيرادات (المداخيل) وتطوير استراتيجيات مشتركة وتشابك الأعمال المالية بين النوادي. وفي إطار الاستراتيجيات المشتركة أصبحت الجمعيات الكبرى المنتمية لنفس MCO تنظم شبكة واسعة من الجمعيات الصغرى في المنطقة المحيطة بها أو تتبنى شبكة جمعيات ونوادي من منطقة أخرى في العالم (إفريقيا مثلا) ومنها تشكل أكاديميات لفرز نجوم المستقبل.
تمثل هذه المراكز والاكاديميات خزانا لبيع "المهارات" و"النجوم" تحقق منها هذه الاتحادات الرأسمالية أرباحا طائلة. مثال ذلك المدافع الفرنسي أوباميكانو Upamecano الذي نشأ وترعرع في عدد من الجمعيات الصغرى في فرنسا (انجيAngers ، افرو Evreux، فالنسيان Valencienne) اشتراه نادي سالزبورغ RB Salzbourg النمساوي سنة 2016 بما قيمته 2.2 مليون أورو وباعه إلى نادي لايبزيخ RB Leipzig الأماني بما قيمته 18.5 مليون أورو وانتقل سنة 2021 إلى نادي بايرن مونيخ بمبلغ 42.5 مليون يورو كل ذلك في ظرف ست سنوات فقط.
إن صفقات مماثلة، تعد بالآلاف، تجري اليوم في عالم كرة القدم الذي تحول إلى سوق شاسعة وضخمة يجني من ورائها أباطرة رأس المال أرباحا طائلة بينما لا يرى منها المتفرجون غير إبداعات هذا المهاجم أو المدافع أو حارس المرمى.
بعد أن انتشر هذا النمط من الملكية MCO انطلق مسار جديد للمركزة في ظل منافسة حامية الوطيس وقاسية. فبحسب تقرير لفريق SportBusiness نشر في ديسمبر 2023 مرّ عدد الـ MCO من 18 وحدة تضم 40 نادي كرة قدم سنة 2012 إلى 124 سنة 2023 تضم 301 نادي كرة قدم. وبعد رسوخ هذا الانتشار كظاهرة غير قابلة للانتكاس اتجهت حمى المنافسة إلى نوع من الاقتتال بين كبريات الـ MCO للفوز بالوحدات الصغيرة وضمها استعدادا للمرحلة القادمة من السباق. وإلى جانب ذلك وكما جاء في التقرير المذكور فإن نموذج MCO "يوفر العديد من المزايا المنجرة عن الشبكة والتي بإمكان كل نادي عضو الاستفادة منها لتحسين أدائه داخل وخارج الملعب. لكنه كنموذج يثير مشاكل رئيسية في حوكمة كرة القدم بدءا من النزاهة وصولا إلى "الروح الرياضة" المالية. كما يؤدي إلى المزيد من التوترات بين النوادي المنضوية في MCO والنوادي غير المنضوية"
لذلك علينا أن ننتظر إلام ستؤدي هذه الحروب الضروس بين كبريات الاحتكارات المالية المتنكرة في نوادي رياضية لخداع الناس واستجلاب المزيد من الاحباء المغفلين.
في الاثناء ستظل الفرجة مستمرة في تخدير مئات الملايين من الناس بينما يستمر مصاصو الدماء في استغلال هذه الفرجة ليلهفوا ملايين الملايين من الدولارات.
تونس في 11 جويلية 2025