أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكامل)


جيلاني الهمامي
الحوار المتمدن - العدد: 8300 - 2025 / 4 / 2 - 00:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات
جديدة في عالم متحوّل
(النص الكامل)

هذا هو الانطباع الذي يبقى لدى كل من يتابع التطورات الأخيرة وخاصة تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وردود قادة بلدان أوروبا. وبعلاقة بهذا الانطباع تطرح أسئلة كثيرة حول ما إذا كانت هذه التصريحات تؤشر على "تصدع" قادم في صفوف التكتل الامبريالي الغربي وما إذا كان هذا التصدع جديا ولا رجعة فيه أم أنه مجرد "سوء تفاهم" ظرفي. وما هذه الأسئلة غير قليل مما يثير حيرة العالم حيال هذا التسارع الجنوني في الاحداث والتطورات. واحد من الأكثر إثارة للحيرة والانشغال هو هل فعلا بات استخدام الأسلحة النووية كما ألمح إلى ذلك الرئيس الفرنسي أمرا واردا في الاستراتيجيات الدفاعية الجديدة أم أن المسألة لا تعدو ان تكون سوى تهديدات تكتيكية لإعادة ترتيب العلاقات بين أمريكا وأوروبا؟

إن الإجابة عن هكذا أسئلة تستوجب بعض المقدمات لتفكيك معاني الرسائل التي أطلقها ترامب بخصوص العلاقات الامريكية الأوروبية والردود التي ردت بها أوروبا. لذلك سنحاول أولا استقراء هذا السيل الهائل من التصريحات والبلاغات والبيانات الصادرة من هنا وهناك في وقت وجيز لا يزيد عن شهرين منذ تولي ترامب الرئاسة.

هل تخلت أمريكا عن القارة العجوز ولماذا؟
وكمقدمة لكل الأسئلة التي تطرحها التطورات الأخيرة سؤال مفتاح وهو هل قررت أمريكا فعلا التخلي عن القارة العجوز؟ لأن ما يستشف من سلسلة التصريحات النارية للرئيس الأمريكي بخصوص أوروبا هو ذهاب الولايات المتحدة الامريكية باتجاه صرف اهتمامها عن القارة الأوروبية لصالح أولويات جيو-استراتيجية جديدة. وحتى ردود الفعل الأوروبية رغم كل التحفظات التي تميزت بها ومنها تصريحات الرئيس الفرنسي التي كانت أكثر جرأة فهي تؤدي أيضا إلى نفس المعنى تقريبا. والواضح أن الامر ليس مجرد خطاب شعبوي بين زعيمين شعبويين ترامب وماكرون، فالرئيس الأمريكي يعتبر أن بفضل ضغوطه هو شخصيا أجبر قادة الغالبية العظمى من بلدان أوروبا (23 بلدا من أصل 32 عضو في الناتو) على تخصيص 2 % من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري. الامر الذي اعتبره مع ذلك غير كافٍ وطالب بالترفيع في هذه النسبة إلى 5 % هذه المرة مهددا بالانسحاب من الناتو وفي أقل الأحوال بعدم التقيد بأحكام البند الخامس من اتفاقية الحلف في إطار مواصلة الضغوط على البلدان الأوروبية الأعضاء من أجل "إعادة النظر في استراتيجيتهم الدفاعية". ودائما في إطار التهديد قال "إذا لم يدفعوا فلن أدافع عنهم" مشككا في جدوى التحالف بين بلاده وأوروبا قائلا "إن المشكل الأكبر بالنسبة إلي مع الناتو هو لو فرضنا وقعت الولايات المتحدة في إشكال ودعت فرنسا أو بلدان أخرى لا فائدة في ذكرها وقالت لهم إني في مشكل فهل تعتقدون أنهم سيهبون لمساعدتنا؟ لست واثقا من ذلك". لذلك نبّه ترامب أن بلاده لن تتدخل لنصرة أي بلد أوروبي في حالة ما إذا تعرض إلى هجوم من أي جهة كانت. بل أكثر من ذلك عبر عن استعداد بلاده للانسحاب من حلف الناتو كما سبق ان قرر بخصوص عديد الهيئات والمؤسسات الدولية الأخرى (منظمة الصحة العالمي، اتفاقية باريس حول المناخ الخ...). والحقيقة أن الولايات المتحدة الامريكية بدأت تفكر في الامر منذ مدة ذلك أن الرئيس الأسبق باراك أوباما تحدث منذ سنة 2011 عن أهمية منطقة المحيط الهادي الهندي لمستقبل المصالح الامريكية وطلب صراحة من الأوروبيين البدء بالتفكير في التعويل على قواهم للدفاع عن أنفسهم وكشف في سنة 2014 عن النسبة الكبيرة من ميزانية الدفاع التي تخصصها بلاده للمصاريف العسكرية الامريكية في أوروبا وللدفاع عن أوروبا ودعا وقتها إلى ضرورة وضع حد لهذه الوضعية. وكان الرئيس الحالي دونالد ترامب وعد ضمن حملته الرئاسية سنة 2016 بخفض حجم القوات الامريكية في أوروبا وهدد في ماي 2020، أي في رئاسته الأولى، بسحب القوات الامريكية من أوروبا. وهو ما يحمل الأوروبيون كل يوم أكثر على الاعتقاد في أن التحالف الغربي مقدم على تصدع حقيقي وأنهم مطالبون بالإسراع في إعادة النظر في استراتيجيتهم الدفاعية في ضوء هذه التحولات وكذلك في ضوء التغيرات الجارية على مشهد القوى الجديد في العالم. مؤشرات أخرى كثيرة تؤيد هذه الحقائق منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض أهمها الموقف من الحرب الروسية على أوكرانيا ومنها أيضا المعاملة المهينة للرئيس الاوكراني على الهواء أمام وسائل الاعلام والتصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة جنبا إلى جنب مع روسيا ضد مشروع قرار اوكراني-أوروبي. وهي سابقة لم تحصل منذ عقود من الزمن. وفوق كل ذلك الضغوط التي تمارسها إدارة ترامب على أوكرانيا للقبول بالتنازل عن نصف مدخراتها من المعادن الثمينة لفائدة أمريكا من جهة وللقبول بالتنازلات المطلوب من أوكرانيا تقديمها لروسيا والتي يجري الآن صياغتها في محادثات السعودية التمهيدية للقمة المرتقبة بين ترامب وبوتين والتي ستضع خطة وقف إطلاق النار ووقف الحرب الأوكرانية الروسية.

وفي ضوء كل هذه الاعتبارات وغيرها يعلق المفكر الأميركي ستيفن والت Stephen M Walt الجامعي الأمريكي ممثل مدرسة "الواقعية الجديدة في العلاقات الدولية"، على ما يجري الآن بالقول إن "معظم الزعماء الأوروبيين، وخاصة أولئك الذين حضروا مؤتمر ميونيخ للأمن في نسخته الـ61 يرون أنه لأول مرة منذ عام 1949 (عام تأسيس حلف الأطلسي)، أصبحت هناك أسباب قوية للاعتقاد بأن ترامب ليس فقط غير مبال بحلف شمال الأطلسي ويتجاهل زعماء أوروبا، بل إنه معادٍ لمعظم الدول الأوروبية، وبدلا من التفكير في دول أوروبا باعتبارها أهم شركاء أميركا، يبدو أن ترامب قد غير موقفه ويرى في روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين رهانًا أفضل في الأمد البعيد".

وإذا كان التفكير الأمريكي في مراجعة التزامات القوة الأعظم حيال الحلفاء الأوروبيين ليس بجديد فإنه أيضا يستند إلى اعتبارات كثيرة ومتنوعة فالأمر لا يتعلق حصرا بالجوانب الأمنية والعسكرية. إن الولايات المتحدة الامريكية في عهد ترامب – في السابق كما في الوقت الحالي – غير مرتاحة للوزن الاقتصادي الذي يمثله الاتحاد الأوروبي والذي بات يضاهي حجم الاقتصاد الأمريكي (17 ترليون دولار حجم الناتج المحلي الإجمالي الأوروبي مقابل 20 تريليون للجانب الأمريكي). وفي هذا يرى ترامب بعين الغضب حالة المبادلات التجارية بين الجانبين والتي تسجل فيها أوروبا فائضا ضخما بالنظر لتفوق حجم صادراتها إلى أمريكا.

وللتذكير فقد كان ترامب في ولايته الأولى فرض رسوما قمرقية على المواد الفلاحية الأوروبية وعلى منتوجات الحديد والصلب. وها هو اليوم يقرر مرة أخرى فرض رسوم قمرقية في مستوى 25 % على مواد الحديد والصلب والاليمنيوم. ومما يثير عدم رضى ترامب أيضا التدابير الأوروبية الموضوعة في وجه الشركات الأميركية في القطاع الرقمي والتشريعات الأوروبية بشأن الخدمات والأسواق الرقمية والبيانات والذكاء الاصطناعي والتي هي في نظر إدارة ترامب بمثابة حواجز غير جمركية تضيق على صادرات أمريكا في هذا القطاع. علما وأنه إذا كانت أوروبا تتفوق في تصدير السيارات والمواد المصنعة والمعملية فإن الولايات المتحدة تتفوق بالمقابل في كل ما هو خدمات وتكنولوجيا الرقميات. ولكن مقارنة عائدات الصادرات من هذا الجانب وذاك ترجح الكفة لصالح أوروبا بشكل واضح.

هذا ما يعني ان الولايات المتحدة الامريكية التي دأبت على التعاطي مع أوروبا على كونها "مستعمرة" تابعة لها واعتمدتها منذ ما بعد انتهاء مخطط مارشال لإعادة الاعمار فضاء حيويا للاستثمار وسوقا للترويج لم تعد مستعدة للاكتفاء بذلك وتريد اليوم في ضوء تغيّر ملامح السوق العالمية وتبدّل خريطة الصراعات الاقتصادية والتجارية (مع الصين خاصة) أن تتمتع بامتيازات أكبر في علاقتها مع أوروبا.

في كلمة يمكن القول إن الامبريالية الامريكية بصدد إعادة صياغة استراتيجيتها الهيمنية على النطاق العالمي والتي ضمنها ستتخلى عن دورها الأبوي الذي اتبعته طوال الحرب الباردة وحتى في فترة القطب الواحد في علاقة بالقارة العجوز. في مقابل ذلك لم تتأخر أوروبا كثيرا في الرد بشكل جماعي في إطار "الاتحاد الأوروبي" أو بشكل منفرد في بعض الحالات (فرنسا، ألمانيا...) وفق الحسابات الخاصة للقوى السياسية والاقتصادية المؤثرة صلب المجموعة الأوروبية.

لقد تابع قادة البلدان الأوروبية الانتخابات الأمريكية والبعض منهم يمنّي النّفس بصعود ممثّلة الحزب الديمقراطي خشية عودة ترامب إلى البيت الأبيض وخوفا مما كان يردده في حملته الانتخابية (وكان سبق له أن وضع البعض منه موضع تنفيذ في ولايته الأولى). بينما كان الشعبويون واليمينيون المتطرفون من أمثال أوربان (Urban) المجر وميلوني (Meloni) إيطاليا وخيرط فيلدرز (Geert (Wilders زعيم حزب اليمين المتطرف (وتحالف اليمين) في هولندا وغيرهم يأملون صعود ترامب الذي يرون فيه انتصارا إضافيا له وزن خاص في توسع "الأممية اليمينية المتطرفة" في العالم. وكان لهم فعلا ما انتظروه ولكن لا أحد منهم كان توقّع أن يقطع ترامب في وقت قياسي كل هذه المسافة في الموقف من أوروبا وعلاقة أمريكا بها في المستقبل.

الردود الأوروبية: وحدة ظاهرة وانقسامات خفية
لقد أصاب الذهول العديد من قادة البلدان الأوروبية حيال ما أعلنه ترامب تباعا في إطلالاته الإعلامية إبان دخوله البيت الأبيض، فيما ظل البعض الآخر مترددا في انتظار أن تتوضح الصورة أكثر. ولم ينتظروا كثيرا حتى يتبيّنوا أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ذاهبة باتجاه فكّ الارتباط والانصراف عن أوروبا إلى فضاءات جيو-استراتيجية تكتسي أهمية أكبر في أجندة الامبريالية الأمريكية.

وكان لتصريحات وزير الدفاع بيت هيجسيث في مؤتمر صحفي في بروكسيل بأنّ "الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد الضامن الأساسي للأمن الأوروبي" مفعول الصدمة في كل العواصم الأوروبية التي أيقنت أنه ولأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يطرح على أوروبا بتمام الصراحة والوضوح أن تتحمل مسؤولية أمنها بنفسها. وحيال ذلك تحرك المسؤولون الأوروبيون في اتجاهات متعددة للرد على هذه "المفاجأة غير السارة"، معبّرين عن حجم الشكوك والمخاوف التي كانت في الحقيقة تراودهم منذ سنة 2014 وتحوّلت اليوم إلى واقع. وللتذكير فإنه في سياق تلك المخاوف صادق الاتحاد الأوروبي سنة 2016 على “الاستراتيجية الأوروبية الشاملة” لتطوير الجاهزية العسكرية الأوروبية وانبثقت عنها "خطة العمل الأوروبية في مجال الدفاع" التي اعتمدتها المفوضية الأوروبية وهي "تتضمن صندوقا دفاعيا أوروبيا وخطوات أخرى لمساعدة الدول الأعضاء على تعزيز البحث والإنفاق بفاعلية أكبر على القدرات الدفاعية المشتركة، وتاليا تحفيز قاعدة صناعية دفاعية تنافسية ومبتكرة والمساهمة في تعزيز أمن المواطنين الأوروبيين". وفي نفس السياق جاءت "مبادرة الدفاع الأوروبية" التي ضمت عشرة بلدان أوروبية "تتمتع بقدرات عسكرية وإرادة سياسية لأداء دورها على الساحة الدولية، وهي ألمانيا وبلجيكا والدانمرك وإسبانيا وإستونيا وفنلندا وفرنسا وهولندا والبرتغال والمملكة المتحدة، وذلك بغية تعزيز قدرة الأوروبيّين على تنفيذ عمليات ومهام عسكرية في إطار متعدد الأطراف (الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي ومنظمة الأمم المتحدة) أو متخصص لهذا الغرض، على صعيد جميع الأزمات التي قد تضرّ بأمن القارة الأوروبية". وعلى هذه الخطوات التي قطعتها خلال العشر السنوات الماضية مدفوعة بهواجس تأمين المستقبل وضمان القدرة على الدفاع الذاتي وتحقيق الأمن من جهة تحدوها مطامح التوسع في الجوار القريب منها شرقا وجنوبا من جهة ثانية تجد أوروبا نفسها هكذا فجأة مدعوة إلى بناء خطة حماية نفسها بنفسها.

غير أنّ كل هذا النسق المتسارع لم يبلغ درجة الحسم في تبعية أوروبا لأمريكا من الناحية العسكرية وتعويلها الكامل على "مظلة الدفاع الأطلسي" بل ظلت، أي أوروبا، طوال هذه المدة مترددة بين السعي إلى الاستقلال الأمني والدفاعي التام عن واشنطن وبين التسليم بقدر الاحتماء بها. لذلك وكردّ فعل على تصريحات ترامب ووزرائه لم يكن الموقف الأوروبي في عمقه موحدا. فما جاء في التصريحات الرسمية للمؤسسات الأوروبية (الاتحاد الأوروبي والمفوضية الخ...) كان يمثل الحد الأدنى المتفق عليه والذي تستوجبه مقتضيات الديبلوماسية وضرورات المصالح المشتركة، لكن الحسابات "الضيقة" لكل دولة تخفي حقائق أخرى. وتعود الخلافات التي لم تنكشف بشكل كامل في مواقف الدول الأوروبية من أمريكا/ترامب إلى أسباب كثيرة منها التقارب الأيديولوجي والاشتراك في جملة من "قيم" المشروع الشعبوي الفاشستي بالنسبة إلى البعض أو الحسابات النفعية المباشرة أو المطامح الخاصة لدى بعض الدول وخاصة الامبرياليات القديمة (فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا).

من المرجح نظريا أن يدفع الشعبويون في إيطاليا والمجر وسلوفاكيا وبولونيا إلى مزيد تمتين العلاقة مع الإدارة الأمريكية الحالية والسعي إلى نيل بعض المكاسب السياسية والاقتصادية بالنظر إلى التقارب الايديولوجي وتقاسم الكثير من القيم اليمينية المحافظة مع ترامب. هذه المجموعة يمكن أن تكون من عناصر الشد إلى الوراء وفرملة أيّ سعي نحو "قطع شعرة معاوية" مع أمريكا. على النقيض من ذلك تعمل فرنسا على استغلال هذه الفرصة التاريخية لدفع أوروبا نحو الاقتناع بضرورة بناء نموذجها الأوروبي الخاص في مجالات السياسة والاقتصاد والعلاقات التجارية، نموذج يدشّن "عصرا أوروبيا جديدا" يضمن للقارة العجوز الاستقلال الاستراتيجي والأمن والرخاء الاقتصادي والنجاح التجاري ويبوّئها مكانة أكثر وزنا في السياسة الدولية. وتلقى فرنسا في هذا المضمار منافسة جدية من طرف بريطانيا. لكن ذلك لا يمنع هذين الامبرياليتين القديمتين عرض قدراتهما العسكرية والنووية كمظلة لحماية أوروبا واسترداد موقع الريادة في المرحلة الجديدة، مرحلة "ما بعد أمريكا".

وما بين هؤلاء وأولئك تقف مجموعة أخرى من أعضاء الاتحاد الأوروبي موقف المساند على الملأ للقرارات الأمريكية وضمن هذه المجموعة بولونيا وبلدان البلطيق وكذلك بلدان إسكندينافيا التي سارعت بالإعلان عن تأييدها مطلب ترامب بالترفيع في نفقات التسلح إلى 5% من الناتج الإجمالي المحلي. فهذه المجموعة تعتبر أنّ الدور الأميركي حيوي ولا يمكن الاستغناء عنه أو استبداله في وجه التهديدات الروسية ولذلك لا ترى مانعا في الاستجابة إلى الشروط الأمريكية مهما كانت قساوتها.

إنّ هذه التباينات في مقاربات أعضاء الاتحاد الأوروبي لكيفية التعاطي مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لم يمنع لا محالة من أن تعبّر مؤسسات الاتحاد الأوروبي عن انتقادها – وبشدة أحيانا - لتصريحات ترامب ووزرائه (نائب الرئيس ووزير الدفاع ووزير "الدوج" DOGE إيلون ماسك الخ ...) وقد أمكن في هذه المرحلة الحفاظ على وحدة الصف الأوروبي في جملة من القضايا والملفات، من ذلك الاتفاق على الاستمرار في دعم أوكرانيا والاستعداد للتكفل بما يترتب عن ذلك عسكريا. فقد قدّم الاتحاد الأوروبي مساعدات عسكرية واقتصادية بقيمة 138 مليار دولار وأعلنت بريطانيا إثر المشادة بين ترامب وزيلنسكي عن تقديم مساعدة عسكرية لأوكرانيا تتمثل في خمسة آلاف صاروخ دفاعي أرض – جو. وأصبح الحماس الذي يحدو الأوروبيين لمزيد التسلح سياسة رسمية للاتحاد الأوروبي ليس من موقع الاستجابة لطلب ترامب وإنما في إطار رغبة أوروبية خالصة لتطوير قدرات الاتحاد الدفاعية بعيدا عن المظلة الأمريكية. وفي هذا الإطار يعتزم خوض مسارات مستقلة في مجالات المعلومات الاستخبارية العسكرية والمراقبة الفضائية وتنويع التنسيق والتعاون في مجال الصناعات العسكرية مع قوى من خارج الناتو. وقد تقرر أيضا العودة إلى العمل بالتجنيد الإجباري في عموم الاتحاد والزيادة في حجم الجيوش في كل من فرنسا وبريطانيا وبولونيا وألمانيا.

وإلى ذلك حصل الاتفاق على تخصيص نحو 800 مليار يورو لتعزيز الدفاعات الأوروبية وتمويل مبادرة درع السماء الأوروبية التي اقترحتها ألمانيا وانضمت إليها زهاء 20 دولة أوروبية لتطوير أنظمة الدفاع الجوي متعدد المديات (الطويلة والمتوسطة القصيرة). وقد اقترح الرئيس الفرنسي ماكرون بغاية استباق احتمال تفكك حلف الناتو وردا على قرار إقامة "القبة الحديدية الأمريكية" التي أعلن عنها ترامب وتحسبا لانسحاب 100 ألف جندي أمريكي من أوروبا، إقامة درع نووي لكامل أوروبا اعتمادا على المظلة النووية الفرنسية وقد لاقى هذا الاقتراح ترحيب بعض الدول مثل بريطانيا وألمانيا (المستشار الجديد).

بصرف النظر عن هذه التفاصيل وغيرها كثير فالثابت أنّ تحولات عميقة بصدد الحدوث على التكتل الامبريالي الغربي الذي صمد طوال ثمانية عقود. وبقدر ما يبدو ترامب الذي بات يمثل الاحتكارات العظمى في العالم في مجال التكنولوجيا الحديثة مصمما على إعادة هندسة مشهد العلاقات بين القوى الكبرى مازال من غير الواضح إلام سيتجه القرار الأوروبي. ما يعني مسار التحولات سيحتاج لبعض الوقت لتتشكل معالم المشهد الجديد ونوعية الصراع الذي سينظم علاقات مكوناته الأساسية، الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا ولكن أيضا الاتحاد الأوروبي في نسخته الجديدة.

استمرت في المدة الأخيرة لغة التصعيد من الجانبين، الأمريكي والاوروبي، وانتهت الأمور حسبما يبدو إلى قبولهما بالطلاق بعد حوالي ثمانية عقود من "الوئام الامبريالي" إذا جاز القول. وهكذا انصرف ترامب عن أوروبا نحو الشرق، روسيا ثم الصين، وانكبت أوروبا مذعنة على التفكير في الاستعداد إلى الوضع الجديد ومراجعة استراتيجيتها الدفاعية. ويدرك الطرفان تماما كما يدرك كل من يتابع هذه التطورات أن الأمر لا يتعلق حصرا بانفصام العلاقة بين أمريكا وأوروبا بقدر ما يخفي – بهذه الدرجة أو تلك لأن جوانب عديدة من المسألة ما عادت خافية – تحولات أعمق وأشمل في المنظومة الرأسمالية والامبريالية الغربية وبالتالي في منظومة العلاقات الدولية في أواخر عهد "القطب الواحد".

وبتدقيق النظر فيما يجري يمكن رصد ثلاثة عناصر كبرى في التحولات الناجمة عن الاختيارات "الجديدة" للإدارة الامريكية بقيادة ترامب وهي المتغيرات الجارية على مشهد الصراع بين الامبرياليات في العالم اليوم والانتقال إلى طور جديد من النيوليبرالية في النمط الرأسمالي والاستعدادات الحثيثة للحرب تحت شعار "دولة الحرب بدل دولة الرعاية" الذي أطلقه المنظرون اليمينيون المتطرفون على الحقبة الجديدة من تاريخ الرأسمالية.

مشهد جديد للصراع الامبريالي - امبريالي
ما من شك أن قرار ترامب بتخلي بلاده عن مهمة الدفاع عن أوروبا ستكون له تداعيات مباشرة ومتوسطة المدى منها ما نقلته التصريحات الأوربية الأخيرة والتي تصب في الاعتراف بتصدع صفوف التكتل الامبريالي الأطلسي. ومنها أيضا اتجاه النظر لدى قادة القارة العجوز إلى اتباع خطة دفاعية الهدف منها بناء قطب عسكري جديد في حجم روسيا وأمريكا وبقية الأقطاب الامبريالية الكبرى. ومن الوارد أن تكون لتصريحاته، أي ترامب، تداعيات أخرى. ففي صورة ما لم يلتزم أعضاء حلف الناتو الأوروبيين بتخصيص 5 % من الناتج المحلي الإجمالي للنفقات الدفاعية، وهو أمر وارد بالنسبة إلى الكثير منهم، قد يقدم ترامب فعلا على الانسحاب من الحلف الأطلسي وستكون خطوة عملاقة باتجاه تفكيك التكتل الامبريالي الغربي. وقد لعب هذا التكتل أدوارا محورية في الصراعات بين القوى العظمى زمن الحرب الباردة كما في زمن القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وجنت من ورائه الامبريالية الامريكية، من وجهة نظر توسعية، "فوائد" كثيرة وبواسطته مارست وصايتها على العالم وأدارت كل النزاعات التي عرفتها مناطق متعددة من الكرة الارضية. وتبدو هذه "الفوائد" اليوم غير مرضية ودون المطلوب بالنسبة إلى ترامب والفريق اليميني المتطرف المحيط به.

لا شك أن الإدارة الامريكية تحرص على أن تستمر في احتكار القوة وإخضاع العالم إلى إرادتها ولكن ليس على الصورة القديمة. فهي تريد أن تجني فوائد أكبر بكثير مما تعودت على جنيه حتى الآن. وما عاد مالكو الاحتكارات الكبرى الذين، ولأول مرة، تقلدوا مناصب الحكم بأنفسهم لإدارة شؤون المرحلة، قابلين بنظام توزيع الأرباح والامتيازات القديم. إن إدارة ترامب تريد السيطرة وحدها على العالم دون شريك ولكن سيطرة كاملة ومطلقة. وفي هذا الصدد تريد الاستمرار في نظام البترودولار أي نظام ربط سعر النفط بالدولار واعتماده دون سواه في المعاملات النفطية بما انجرّ عنه تعزيز نفوذ الدولار كعملة احتياطية دولية وهو الامر الذي منح للاقتصاد الأمريكي تفوقا على بقية الاقتصاديات. وهي تريد أيضا قلب موازين القوى التجارية وذلك بسن رسوم قمرقية على المواد الواردة من الاقتصاديات المنافسة، من الصين ومن أوروبا، بغاية التخفيض في كلفة انتاج الشركات الامريكية مقارنة بالشركات المنافسة من البلدان الاخرى. وتريد كذلك الزيادة في إنتاج الطاقة (استغلال المناطق البحرية والقطب الشمالي وقروينلاند الخ) والتخفيض في كلفة الإنتاج عبر الضغط على النفقات البيئية والتفصّي من التزاماتها الدولية في هذا الباب (الانسحاب من ميثاق باريس للمناخ الخ) كل ذلك من أجل السيطرة على السوق العالمية والتحكم فيها. ولن تتوانى عن استعمال القوة من أجل استجلاب الاستثمارات الأجنبية وإجبار بلدان كالسعودية والامارات مثلا على ضخ فائض البترودولار في المصاريف الامريكية وفي شراء سندات الخزينة (1.5 تريليون دولار من الامارات و450 مليار دولار من السعودية) وإجبارهم على تمويل عجز الميزانية وإسناد سعر الفائدة الامريكي.

بهذه الإجراءات وغيرها كثير تريد الامبريالية الامريكية أن تدير نظام القطب الواحد اليوم وبما يدرّ على حفنة مالكي أعظم الاحتكارات أكبر حجم ممكن من الأرباح وبأسرع الأوقات.

ولبلوغ هذا الهدف وجب إعادة ترتيب العلاقات مع المنافسين المباشرين في المجالين الاقتصادي والتجاري وبالأخص الصين والاتحاد الأوروبي من جهة ومع المنافسين في المجال العسكري وخاصة روسيا من جهة ثانية. في هذا الإطار يتنزل توجه ترامب نحو الشرق، إلى روسيا لتوفير فترة "هدنة" في الصراع ريثما يستكمل الخطوات التمهيدية قبل الدخول لاحقا في مرحلة الصراع المفتوح ضد الجميع من أجل إجبار كل العالم على القبول بسيادة فريق ترامب صاحب "تروث ساوشل" Truth Socialوإيلون ماسك Musk صاحب"سبيس ايكس SpaceXوتسلا ومارك زوكربيرغ Zuckerberg صاحب العملاق ميتا Meta ودجيف بيزوس Jeff Bezzos صاحب أمازون Amazon وبيتر تيال Peter Thiel صاحب PayPal ولاري بايج Larry Page صاحب قوقل Google وغيرهم من أصحاب كبرى الاحتكارات من مركب السيليكون فالي Silicon Valley والاحتكارات الأخرى العاملة في مجالات الصناعات الحربية والمضاربات العقارية والسياحية (Wework لصاحبها الصهيوني حامل الامريكية الإسرائيلية أدام نيومان) .

إن إيهام العالم بالتفاهم مع روسيا وإحلال علاقات "وئام" محل العلاقات القديمة المتسمة بالتنافس والتوتر وبهدوء العلاقات مع الصين ليست غير استراتيجية مؤقتة لمرحلة انتقالية ستنتهي بانتهاء إعادة ترتيب موازين القوى وفق مخطط ترامب. وبانتهائها ستعود الصراعات على أشدها، إلى ما كانت عليه وأكثر، ولا شيء سيمنع وقتها أن تتخذ طابعا عنيفا ومدمرا.

النيوليبرالية الجديدة والتحرير المطلق أو إلغاء القيود la dérèglementation
ملمح آخر يشير إلى أن الإدارة الامريكية الجديدة جاءت ومعها " نظرية" تؤسس لطور جديد في الرأسمالية، نظرية تحرير النشاط الاقتصادي والتجاري من كل القيود السياسية والقانونية والأخلاقية وتسهيل سبل تحقيق الأرباح دون عوائق.
يتعاطى ترامب مع النشاط الاقتصادي والتجاري بروح المقاول أو رجل الاعمال وذهنية التاجر المضارب ومع المعاملات الاقتصادية والتجارية على انها عملية تخضع لقواعد "المفاوضة" ولا يرى وظيفته على رأس الدولة إلا كرئيس مدير عام PDG لـ"شركة" أو "مقاولة" ضخمة. ذاك ما خصص له مؤلفه "فن المفاوضة" أو "the art of the deal". ولا يهمه، إجمالا كرأسمالي، إلا تحقيق الأرباح ونسف أي حاجز يقف في وجه "الشركة" في مسعاها إلى ذلك. وعليه ينبغي ألا تُعْنى "الشركة" بـأي وجه من الوجوه بالعوامل الخارجية (les externalités). لذلك لا بد من إلغاء كل المصاريف الزائدة سواء بعنوان "تحفيز العمال" أو لدواعي مناخية وحماية البيئة أو بغاية الوقاية من حوادث الشغل أو التأمين على الصحة والشيخوخة الخ... ولا بد أيضا من التخفيض من الضرائب على المداخيل والارباح والحرص على التضييق على "الشركات" المنافسة (أي الاقتصاديات والبلدان الاخرى) ومحاصرتها في السوق وعلى توجيه الاستثمارات إلى القطاعات ذات القيمة المضافة العالية.

كل ذلك يتطلب إذن تحرير "الشركة" la dérèglementation من القيود "السخيفة" التي جاءت بها السياسات القديمة والتي أصبحت بمثابة عقيدة مقدسة آن الأوان لنسفها. فقواعد السلامة في العمل والإنتاج والقوانين ضد الفساد والإجراءات المانعة للمنافسة غير الشريفة أو قوانين حماية المستهلكين من الغش والسرقة وقواعد مراقبة السمسرة المالية الخطرة مثل المضاربة بالعملات الافتراضية crypto monnaies وقوانين منع التهرب الضريبي والجنات الضريبية كلها باتت من تقاليد الماضي البغيض التي تكبح ملكات الخلق والابداع وتعطّل "الشركة" عن القيام بدورها ألا وهو "تحقيق الأرباح". لذلك وجب تحريرها من هذه الكوابح. ويمثل هذا "التحرير" بالنسبة إلى ترامب والفريق الحاكم الجديد مفتاح النجاح في شعار "GAMA" Making America Great Again.

لذلك ما أن استلم الرئاسة حتى قرر إلغاء جملة من القوانين وأعطى تعليماته لوزير العدل بتعليق العمل بالقوانين المضادة للفساد وقواعد العمليات الحسابية المتصلة بالمعاملات التجارية. وأصدر قرارا بعزل رئيس مكتب الحماية المالية للمستهلك Consumer Financial Protection Bureau الذي تم إنشاءه إثر أزمة أكتوبر 2008 وكان الهدف منه وضع قواعد عمل البنوك والمؤسسات المالية وحماية المستهلكين والمقترضين. ومن جهة أخرى أسدى التعليمات بتسهيل الإجراءات المحاسبية في مسك العملات الافتراضية في إطار التشجيع على هذه المشاريع (والتي ينشط فيها أبناؤه بقوة) وتمهيدا إلى إدماجها تدريجيا في المنظومة النقدية الامريكية والعالمية.

نحن اليوم إزاء نسخة ثانية من التحول النيوليبرالي الذي أتى به رونالد ريغن ولكن على نحو مفرط حد التطرف والاجحاف. ومثلما سارعت مارغريت تاتشر في السابق إلى الانخراط في السياسات الريغنية سارع اليوم رئيس الحكومة البريطاني كير ستارمر Keir Starmer ووزيرة المالية رشال ريفز Rachel Reeves إلى السير على خطى ترامب فأصدرت أوامرها بـ"إسقاط القيود التي تعطل النمو" واتخذت قراراتها بعزل رئيسة "هيئة الأسواق والمنافسة" la Competition and Markets Authority وتعويضها بالمدير السابق لشركة أمازون الامريكية.

ويتجه خيار "التحرير وإلغاء القيود" هذا إلى الانتشار في كامل الاتحاد الأوروبي حيث أصبحت عبرت حكومات اليمين المتطرف أو المحافظ في عديد البلدان عن نواياها في اعتماد هذه السياسية الليبرالية المتوحشة. فتحت شعار توفير المناخ لتحقيق النمو بدأت الحكومات الأوروبية، في إطار المؤسسات المشتركة أو بشكل منفرد، في التخفيف من القيود المضروبة على التلاعب والفساد المالي والأنشطة المخلّة بحماية البيئة والمناخ. ومن الأكيد أن موضة الليبرالية الجديدة المتوحشة على النحو الذي يدفع إليه ترامب لن تتأخر عن أن تصبح أقوم السياسات التي يوصى بها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وكبريات البنوك والمؤسسات المالية العالمية كأفضل السبل لتحقيق النمو وتجاوز الركود الاقتصادي والركود التضخمي.

وعلى العالم أن ينتظر فترة من الزمن ليرى ما إذا سيكتب لهذا الخيار الاستمرار تماما كما كان الامر زمن الموجة النيوليبرالية الأولى التي انطلقت مع رئاسة دونالد ريغن في أمريكا وحكومة المحافظين في بريطانيا بزعامة "المرأة الحديدة". والاقرب للظن أن مصير الليبرالية المتوحشة الترامبية لن يختلف عن مصير ليبرالية أسلافه.

دولة الحرب بدل دولة الرعاية
هذا ما صار رائجا في الصحف الغربية المعروفة والتي لها نفوذ في عالم المال والاعمال في أمريكا وأوروبا مثل "الفينينشال تامز وول ستريت جورنال وغيرهما وحتى لدى السياسيين في اعلى مستوى مثل رئيسة الاتحاد الأوروبي فندار لاين Ursula von der Leyen ورئيس الحكومة البولوني توسك Donald Tusk ووزير الدفاع البريطاني جون هيلاي John Healey والمستشار الألماني الجديد مارتس Friedrich Merz وطائفة واسعة من القادة الأوروبيين الذين باتوا يرددون بصوت واحد "يجب على أوروبا أن تقلل من دولة الرعاية وبناء دولة الحرب". ويجري تبرير ذلك بتضخيم التهديد الروسي الذي يقف خلف الباب للانفضاض على أوروبا أو كما قال رئيس الحكومة البريطاني ستارمر "إني استمع إلى خطواتهم في شوارع بريطانيا". قد يكون في ذلك شيء من الحقيقة ولكن الأكيد أنه يقع تضخيم هذا التهديد بغاية تبرير النزوع إلى التسليح والاستعداد للحرب. ويمكن القول ان البرجوازية الأوروبية قد وجدت في تصريحات ترامب بخصوص حماية أوروبا الذريعة المناسبة للتغطية على هذا النزوع. وفي محاولة لتبريره يقول المرجع الروحي للمدرسة الكينيزية الليبرالية في صحيفة فينينشال تايمز مارتن وولف Martin Wolf "إذا لم تتجند أوروبا بسرعة للدفاع عن نفسها، فقد تنهار الديمقراطية الليبرالية تماما. اليوم، يبدو الأمر أشبه بثلاثينيات القرن العشرين. لكن هذه المرة، للأسف، يبدو أن الولايات المتحدة تقف في الجانب الخطأ".

لذلك سارع الأوروبيون إلى تنشيط آلة التصنيع الحربي فاقترحت رئيسة المفوضية الأوروبية برنامجا بعنوان "أعادة تسليح أوروبا" Rearm Europe سيرصد له مبلغ 800 مليار يورو معللة ذلك "إننا في عصر إعادة التسلح، وأوروبا مستعدة لزيادة إنفاقها الدفاعي بشكل كبير، للاستجابة للحاجة الملحة على المدى القصير للتحرك ودعم أوكرانيا، ولكن أيضا للاستجابة لاحتياجاتنا بعيدة الأجل لتحمل المزيد من المسؤولية عن أمننا الأوروبي". ونادت باتخاذ الإجراءات الاستثنائية وخرق قواعد الميزانية عند الاقتضاء والزيادة في حجم النفقات الدفاعية في البلدان المنضوية في الاتحاد، ووعدت بتوفير 150 مليار يورو فورا لمساعدة البلدان التي في حاجة لتمويل استثماراتها الدفاعية "لتطوير الأسلحة الجوية والدفاعات المضادة للصواريخ وتصنيع الصواريخ والذخيرة وأنظمة المدفعية والمسيرات والدفاعات المضادة للمسيرات الخ...". وفي المقابل من ذلك حذرت أنه "لن يكون هناك تمويل إضافي للاستثمارات أو مشاريع البنية التحتية أو الخدمات العامة، حيث يتعين على أوروبا تكريس مواردها للاستعداد للحرب".

وفي ألمانيا صادق الرايخستاغ الجديد ذو الأغلبية اليمينية واليمينية المتطرفة على قانون يقضي بإلغاء "الكوابح القانونية" المفروضة على الميزانية والتي تمنع على الحكومة الاقتراض أكثر مما ضبطته الميزانية. فصار اليوم مسموحا بتخطي هذه "الكوابح" والاقتراض فوق الحدود القانونية كلماتعلق الامر بمصاريف إضافية للتسلح.

وقال وزير الدفاع البريطاني إن الترفيع في ميزانية التسليح "سيجعل من صناعة الدفاع محركا للنمو الاقتصادي للبلاد". وذهب رئيس الحكومة البولونية إلى أبعد من ذلك حيث أكد أن بلاده "يجب ان تبلغ أحدث الإمكانيات في مجال التسليح بما في ذلك الأسلحة النووية والأسلحة غير التقليدية الحديثة".

وفي ظل انتشار المفاهيم النظرية للمدرسة الاقتصادية التي يصطلح عليها البعض بـ"الكينيزية العسكرية" keynésianisme militaireراجت مقولات جديدة من قبيل أن الانفاق على التصنيع الحربي يمكن أن يساعد على الإنعاش الاقتصادي ومعالجة الازمة وتوفير الشغل الكامل وارتفاع الطلب وبالتالي تحقيق النمو. ويذهب البعض إلى القول إن "الحروب هي ام التجديد".

لقد ركزنا هنا على التوجهات الجديدة في أوروبا لأنها بصدد التحول إلى تغيرات أساسية لا فقط في مجرى الاحداث وإنما في سيرورة التطور وما تنطوي عليه من صراعات بين أقطاب امبريالية ستحتل المشهد في المستقبل هي الولايات المتحدة الامريكية وروسيا والصين وأوروبا الساعية إلى افتكاك موقعها ضمن هذا المشهد.