سوريا الجديدة التي نحتاج إليها /*/


عبدالله تركماني
الحوار المتمدن - العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 14:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

بالرغم من النجاح النسبي المشروط لقيادة المرحلة الانتقالية في إعادة تموضع سوريا في المجتمع الدولي، بعدما كانت دولة مارقة طوال 54 سنة من سلطة آل الأسد، حيث كانت تتدخل في دول الجوار، كما هو الحال في لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية وإرسال "الجهاديين" إلى العراق، وفي الوقت نفسه لم تُحسن توظيف الإمكانيات الاقتصادية والبشرية والموقع الجيو–استراتيجي لتلبية حاجات الشعب السوري وتقدّمه، إذ راعت مصالح استمرار سلطتها على حساب مأسسة الدولة في اتجاه الحق والقانون. لذلك عقد الشعب السوري العزم على أن يخرج من حياة العبودية التي تخبّط في أوحالها وظلماتها في ظل الدولة التسلطية، فقام بحراكه الثوري في عام 2011 بهدف الحرية والكرامة.
واليوم، بعد أحد عشر شهرًا على تغيير 8 كانون الأول/ديسمبر، ما الذي ينبغي تغييره؟ وما الذي ينبغي الإبقاء عليه؟ وكيف نضمن التطورات المستقبلية؟ وماذا نفعل بالثقافة السلطوية الجديدة؟ وهل يحدث التغيير من تلقاء نفسه أم لابد من إدارته بعقلانية تتطلبها الحوكمة الرشيدة؟
والسؤال الرئيسي هو: كيف يُعاد إنتاج النظام السياسي على نحو يؤسس لتشاركية تشكل أساسًا للتغيير بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من إعادة بناء الدولة السورية الحديثة؟
إنّ سوريا أحوج ما تكون إلى الدولة التشاركية القادرة والعادلة والفاعلة، دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية والتنمية الشاملة المستدامة، حقوق المواطنين فيها هي واجبات الدولة.
لا شك أن تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة مُلِحّة، ليتم التركيز على متطلبات بناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشكلات المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرات السورية. خاصة بعد تفاقم غير مسبوق للفقر والبطالة، ونظام الامتيازات الاجتماعية لأهل الولاء من "أخوة المنهج السلفي"، مما يعكس الخلل العميق في تركيبته الداخلية نفسها، وطريقة فهمه لدوره وموقعه من الدولة السورية، ولطبيعة الهياكل التي أنشأها انسجامًا مع تلك التركيبة وهذا الفهم. فقد ثار السوريون في وجه سلطة بشار الأسد الهارب التي استبدّت في كل مجالات عيشهم، وقرروا أنه لا بد من التغيير على كل المستويات الوطنية، في ظل علاقة قائمة على القناعة والثقة والتفاعل الحر، علاقة مقنّنة في إطار عقد اجتماعي جديد يوفّر الشفافية والمؤسسية والقانون.
إنّ سوريا أحوج ما تكون إلى الدولة التشاركية القادرة والعادلة والفاعلة، دولة الحق والقانون والمؤسسات الدستورية والتنمية الشاملة المستدامة، حقوق المواطنين فيها هي واجبات الدولة، بما هي دولة الكلّ الاجتماعي. هي دولة كلّ مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز، يشارك فيها الأفراد والفئات الاجتماعية مشاركة فعلية من خلال المؤسسات. والحل المجدي الوحيد يكمن في قيام الدولة التي عمادها المواطنة المتساوية، ليس على أساس ديني أو مذهبي أو قومي، بل على أساس الكفاءة.
ولا شك أن التقدم لا يمكن تحقيقه واستمراره في ظل غياب التغيير السياسي، والاستناد إلى قاعدة ديمقراطية أوسع وتمتّع فعّال بالحريات السياسية والفكرية. فقد صارت الديمقراطية ضرورة لا غنى عنها، واختيارًا لا مفر منه، فهي معيار صلاحية الاختيارات الأخرى على صعيد السياسة والمجتمع والاقتصاد والثقافة. إنها ما يمنح هذه الاختيارات جميعها بعدها الإنساني التشاركي. ولا يمكن تمثّل هذه التحولات بعمق إلا في إطار الدولة الحديثة التي تقوم على أسس ثلاثة: فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ورقابة المجتمع على سلطة الدولة، وخضوع سلطة الدولة نفسها للقوانين التي تسنّها.
هل يكون النظام الانتقالي مفتاحًا لتوافق سوري عام على محتوى التغيير المقبل؟ وهل يُعاد النظر بالإعلان الدستوري الذي جمع كل السلطات بأيدي الرئيس المؤقت؟
ومن غير الممكن تصور سوريا لكلّ مواطنيها بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع حراكه السياسي والثقافي بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة. وفي كل الأحوال، وطالما أنّ كرامة وحرية الإنسان هما اللتان تشكلان أساس تطور أي مجتمع، فإن الرقابة المُـمأسسة، التي تمكّن من وضع الإنسان السوري المناسب في المكان المناسب، تشكل أحد أهم الشروط لتحقيق الانتقال من الاستبداد إلى الدولة المدنية الديمقراطية التعددية بأقل الخسائر، واستئصال شأفة العنف من العلاقات الاجتماعية والسياسية، وتجاوز آثار مجزرتي الساحل والسويداء. كما أنها تقتضي القطيعة مع ثقافة سياسية شعاراتية، خالية من أية مضامين عملية ذات صلة بالسياسات المعاصرة، طبقًا لاشتراطات قرار مجلس الأمن الدولي ذي الرقم 2799. وفي هذا السياق لا ينبغي توجيه طاقات الشعب السوري لتصفية الحساب مع الماضي وإهمال تحديات الحاضر وتأجيل التفكير في آفاق المستقبل، لأنّ تصفية الحساب مع الماضي ينبغي، استعانة بخبرات الدول الأخرى التي نجحت في الانتقال السياسي، ألا تؤدي في النهاية إلى تفكيك الدولة ذاتها إلى مكوّناتها المتنوعة.
ففي المرحلة الجديدة لن يقبل السوريون بعدم المشاركة في صياغة مستقبلهم، بل سيتصرفون انطلاقًا من حقهم الطبيعي في الكرامة والعدالة والمساواة التامة في وطنهم. وهذا سيعني اعتبار الوطن ملكًا لجميع مكوّناته، وليس لـ"من يحرّر يقرّر".
وتبقى أسئلة المرحلة هي: هل يكون النظام الانتقالي مفتاحًا لتوافق سوري عام على محتوى التغيير المقبل؟ وهل يُعاد النظر بالإعلان الدستوري الذي جمع كل السلطات بأيدي الرئيس المؤقت؟
مما يتطلب الدعوة إلى مؤتمر وطني عام تشارك فيه كل المكوّنات الوطنية الناشطة والفاعلة، تحت إشراف لجنة تحضيرية نزيهة، تنتج عنه حكومة انتقالية مكوّنة من كفاءات وطنية مستقلة تعمل على متابعة وضمان الانتقال السلمي للسلطة، وصياغة دستور جديد يؤسس لدولة مدنية مبنية على الحرية والعدالة والديمقراطية تُتداول فيها السلطة سلمًا، ويؤصّل لإصدار قانون للأحزاب السياسية يؤسس لحركة سياسية مدنية ديمقراطية تداولية، وانتخابات برلمانية حرة.

/*/ - نُشرت في موقع " تلفزيون سوريا " – 15 نوفمبر 2025.