الإرهاب يهدد السلم الأهلي في سوريا الجديدة


عبدالله تركماني
الحوار المتمدن - العدد: 8406 - 2025 / 7 / 17 - 20:50
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الإرهاب يهدد السلم الأهلي في سوريا الجديدة /*/
حمل تفجير كنيسة مار الياس في ريف دمشق دلالات عديدة، فقد كان اختباراً أمنياً جديداً لقيادة المرحلة الانتقالية من جهة، وأخطاراً محدقة بالسلم الأهلي بين السوريين من جهة ثانية، وتهديداً مباشراً لقيادة المرحلة الانتقالية من جهة ثالثة، ممّا ينطوي على مخاطر على مستقبل التغيير المنشود في سوريا.
ويبدو أنّ هناك فصائل متطرفة مسلحة ذات إيديولوجيات سلفية جهادية تعمل في إطار مقولة "الولاء والبراء"، ترفض الانخراط في المؤسسات الأمنية للدولة السورية الجديدة، ممّا يعكس عجزاً لسلطة المرحلة الانتقالية عن السيطرة على هذه الفصائل، ويهدد بالمزيد من المخاطر الأمنية.
وفي هذا السياق، ثمة تساؤلات للرئيس الانتقالي أحمد الشرع، الذي تعهد بأن ينال مفجّرو الكنيسة "جزاءهم العادل": أليس هؤلاء هم رفاق الأمس في "داعش" و"أنصار السنّة "؟ وهل يكفي أن تتحول أنت إلى الوطنية السورية الجامعة، بينما يبقى أغلب حاضنتك من " السلفية الجهادية " على مواقفهم السابقة؟ أليسوا هؤلاء هم الذين حاولوا اغتيالك؟ وهل تعتقد أنّ الدولة " الموازية " للمشايخ الذين يتحكمون في أغلب مؤسسات الدولة يمكن أن يسهموا في بناء دولة الحق والقانون التي أعلنتَ عن نيتك في بنائها؟
نشهد تصاعداً لخطاب السلفية الجهادية برعاية مسؤولين من سلطة المرحلة الانتقالية، بعدما تمَّ تنصيب بعض رموزهم في مواقع تقريرية بمؤسسات الدولة. وعليه، فإنّ التحدي يكمن في إعادة الاعتبار لهيبة الدولة
إننا نشهد تصاعداً لخطاب السلفية الجهادية برعاية مسؤولين من سلطة المرحلة الانتقالية، بعدما تمَّ تنصيب بعض رموزهم في مواقع تقريرية بمؤسسات الدولة. وعليه، فإنّ التحدي يكمن في إعادة الاعتبار لهيبة الدولة، باعتبارها فضاءً عاماً للحق والقانون لكل المواطنين السوريين، وهذا يقتضي الاعتماد على كفاءات وطنية وتفعيل القضاء العادل، ومكافحة الحواضن الثقافية للتطرف.
مع العلم أنّ التاريخ السوري المعاصر يشير إلى أنّ الفكر السلفي الجهادي غريب عن البنية الثقافية لمسلمي المجتمع السوري، وممّا يؤسف له أنّ العديد من المشايخ والأمراء في مواقع المسؤولية، بعد التغيير في 8 كانون الأول (ديسمبر)، يبررون القتل الطائفي بوصفه سلوكاً فردياً لعناصر غير منضبطة، بالرغم من تهديده للسلم الأهلي ولمستقبل سوريا الجديدة، خاصة أنّ الأوضاع الأمنية، في العديد من المناطق، مثل جرائم خطف النساء وطلب الفدية، لا تسير في اتجاه التهدئة والمحاسبة المعلنة لمرتكبيها.
في حين أنّ بناء دولة الحق والقانون المستقرة يتطلب الالتزام بمبادئ الحوكمة الرشيدة، بما تقتضيه من تطبيق القانون على الحاكمين والمحكومين بلا استثناء، على طريق بناء دولة مدنية حديثة، حيادية عن جميع الأديان والإيديولوجيات والأحزاب، تضمن التقدم والازدهار لجميع المواطنين دون استثناء أحد.
التاريخ السوري المعاصر يشير إلى أنّ الفكر السلفي الجهادي غريب عن البنية الثقافية لمسلمي المجتمع السوري، وممّا يؤسف له أنّ العديد من المشايخ والأمراء في مواقع المسؤولية
إنّ قيادة المرحلة الانتقالية أمام امتحان حقيقي لبناء هذه الدولة، مستفيدة من كل ما هو متوفر من إمكانيات اقتصادية وبشرية سورية، إضافة إلى توظيف الاحتضان الإقليمي والدولي من أجل استكمال هذا البناء.
ولا شكَّ أنّ عدم حيادية سلطة الدولة تجاه مكوّنات الشعب السوري يعظّم من تداعيات أيّ عمل إرهابي، كما شهدناه بعد مجزرة كنيسة مار الياس، خاصة بعد الارتباك الذي ظهر واضحاً على السلطات الأمنية في تحديد مسؤولي الانفجار، أهو "داعش" أم "سرايا أنصار السنّة "؟ خاصة أنّ الأخيرة أعلنت مسؤوليتها، بعد يومين من التفجير في 24 حزيران (يونيو)، إذ أعلنت أنّ "الأخ الاستشهادي محمد زين العابدين أبو عثمان أقدم على تفجير كنيسة مار إلياس". ومن المؤسف أنّ السلطات الأمنية تتكتم على هذا التنظيم وتحركاته، بما فيها دوره في مجزرة الساحل في آذار (مارس) الماضي.
خطاب الكراهية الطائفي، الذي تعممه قوى التطرف والإرهاب، ينطوي على مخاطر عديدة على السلم الأهلي، خاصة في ظل عجز المؤسسة الأمنية عن فرض سيطرتها على كامل التراب السوري
في حين أنّ المتحدث باسم وزارة الداخلية أعلن متسرعاً، قبل إجراء أيّ تحقيق: أنّ تنظيم "داعش" يسعى من خلال هذا الهجوم إلى بث الفرقة الطائفية، وتشجيع كل مكوّن في سوريا على حمل السلاح، في محاولة لإظهار الدولة السورية على أنّها عاجزة عن حماية مواطنيها ومكوّناته، ممّا يضع السلطات الأمنية أمام تساؤلات حول هوية الإرهابيين ودوافعهم الحقيقية، ولا يمكن تفسير هذا الارتباك إلا بأنّه يعود إلى التوجهات "السلفية الجهادية" لأغلب سلطات المرحلة الانتقالية. ولعلَّ هذه التساؤلات تشير إلى الاستئثار بالسلطة على قاعدة "من يحرّر يقرّر"، في حين أنّ سوريا الجديدة أحوج ما تكون إلى توظيف كل كفاءاتها العسكرية والأمنية من الضباط المنشقين من أجل الحدِّ من الفلتان الأمني.
إنّ خطاب الكراهية الطائفي، الذي تعممه قوى التطرف والإرهاب، ينطوي على مخاطر عديدة على السلم الأهلي، خاصة في ظل عجز المؤسسة الأمنية عن فرض سيطرتها على كامل التراب السوري، بل أحياناً غضّها الطرف عن بعض قوى التطرف، بما يهدد بمزيد من الصراعات الأهلية.
ومما يؤسف له أنّ السوريين كانوا ينتظرون إعلان هيئة مستقلة للعدالة الانتقالية ذات مصداقية، ولكنّهم فوجئوا بالعفو عن العديد من مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في العهد البائد، بل تعيينهم في لجان السلم الأهلي.
التحدي الكبير الذي يواجه أنصار السلفية الجهادية يتجسد في موقفهم من المساواة بين المواطنين، بغضّ النظر عن أيّ معطى آخر: ديني، أو طائفي، أو قومي
الأمر الذي جعلهم يشككون في احتمال تطبيق مبادئ العدالة على "إخوة المنهج"، والعمل الجدي على منع ازدهار خطاب التطرف، بل التدخل في الحريات الفردية والعامة للمواطنين، بذريعة "الخصوصية الثقافية"، التي تراها قوى التطرف وأجهزة الأمن في ملبس ومشرب السوريين والسوريات، وكأنّ هذه الحريات هي مصدر تهديد السلم الأهلي وليس قوى التطرف والإرهاب. في حين أنّ سوريا الجديدة أحوج ما تكون إلى العودة للاستفادة من الخطاب الديني الوسطي، حيث استطاعت "أم الصبي"، أي سنّة سوريا، المحافظة على وحدة المجتمع السوري، إذ إنّ التوجهات السلفية الجهادية غريبة عن الإسلام السوري المعتدل. ولعلَّ مشاهد التكافل بين المسلمين والمسيحيين وكل مكوّنات الشعب السوري، بعد مجزرة الكنيسة، تشكّل حصانة مجتمعية لضمان الوطنية السورية الجامعة.
إنّ التعرّف الحقيقي على كل المكوّنات الوطنية وعلى ثقافاتها من شأنه أن يؤدي إلى تأكيد قيمة التسامح الإيجابي إزاء الجميع‏،‏ وليس مجرد التسامح الحيادي، وهذا من شأنه أن يقضي على الكثير من الأحكام المسبقة والمفاهيم المغلوطة عن المكوّن الآخر‏.‏ وهكذا فإنّ التحدي الكبير الذي يواجه أنصار السلفية الجهادية يتجسد في موقفهم من المساواة بين المواطنين، بغضّ النظر عن أيّ معطى آخر: ديني، أو طائفي، أو قومي. بما تقتضيه هذه المساواة من أن تكون مرجعيتهم الإسلامية حاضنة حضارية تتسع لجميع صنوف الاختلاف السياسي والديني داخل سوريا الموحدة.
وهكذا، فإنّ دولة الحق والقانون تقوم على المواطنة المتساوية، بحيث يشعر كل مواطن بأنّه محمي من التمييز. والأمر يحتاج إلى عدالة فعّالة وإعلام وطني مسؤول، إضافة إلى منع الانفلات الأمني، وعدم التدخل في معتقدات السوريين ونماذج حياتهم.

/*/ - نُشر في صحيفة " حفريات " – 16 تموز/يوليو 2025.