يوم بكى الوالي بكاء شديدا...!
محمد يعقوب الهنداوي
الحوار المتمدن
-
العدد: 8150 - 2024 / 11 / 3 - 09:53
المحور:
كتابات ساخرة
كنا نبحث عن قاعة لمحاضرة في "تاريخ المسرح" فوجدنا أجهزة التبريد لا تعمل في عدد من الغرف.
كانت الحرارة مرتفعة والهواء خانقاً فطقس العراق تغيّر كثيرا منذ أمر الرئيس الاسبق حفظه الله في الحفرة بتجفيف الأهوار ولم تسلم من شروره حتى الطبيعة والماء والهواء والطيور المهاجرة.
كان الطلاب يتذمرون من غزارة العرق وركود الهواء، فقال رمزي إنه قد يستطيع تشغيل جهاز التبريد حيث يعمل مع أبيه في هذا المجال...
وبينما كان يفحص الجهاز صاح فجأة: هذا بلا ماطور (محرك) ...
ومضى ليرى أجهزة التبريد في بقية الغرف وعاد ليقول أنها كلها كانت بلا (ماطورات)!
فتطوع أحد الطلاب بالقول انه رأى رئيس القسم الدكتور محمد الجبوري يأخذ (الماطورات) من الغرف فظن أنه يقوم باستبدالها لكنها اختفت نهائيا...
وأدلى الآخرون بدلوهم حتى سادت الفوضى، فقلت:
- سأحكي لكم قصة تعجبكم على أن تستمعوا بعدها للمحاضرة ... فوافقوا، وحكيت لهم قصة الوالي ولماذا بكى بكاءا شديدا:
قيل إنه كان في العهد العثماني قاضٍ في بغداد، وكان هذا القاضي مؤمنا مشهورا بالتدين والورع ومخافة الخالق يهتم بأمور الرعية ويتفقد شؤونها باستمرار، وقيل أنه كان من آل السيستاني أو الصدر أو الحكيم وربما كان مبتعثا من الحورة العلمية الشريفة في ايران ومدعوما من بلاط الشاه العظيم.
وكان من عادته أن يصلي الجمعة في أحد المساجد القريبة من بيته... وقيل في رواية أنه جامع الخلاني المعمور الى اليوم.
وأثناء صلواته كان يلاحظ دائما صبيا صغيرا يجلس بجوار منبر الجامع وبجانبه عدة صرر مهلهلة،
فساورته نفسه يوما بأن يسأل عن هذا الصبي. فقيل له أنه يتيم ليس له أحد وأنه يعيش في الجامع وعلى بركاته وينام فيه ويدرس في المدرسة القريبة، وأنه شديد الذكاء متفوق في دراسته.
قال جناب القاضي العامر بالايمان والورع:
- أنا متزوج لكن الله لم يمن عليّ بطفل ولهذا أريد أن أتبنى هذا الصبي لينعم بالخير في بيتي.
فقيل له:
- بارك الله بك يا حضرة القاضي فمن أولى منك بهذا وأي بيت أفضل من بيت قاضي الأمة وخير علمائها والناطق بحكم وحكمة أئمتها!
انتقل الطفل الى بيت القاضي الذي تبناه فشعر بالراحة والاطمئنان إذ تحسن طعامه ونومه ولباسه وظروف حياته. ودأب على النجاح بتفوق في المدرسة كما اعتاد.
وكان كلما مرت الايام ازداد تفتحا وجمالا بفضل من الله حتى بدأ الشيطان يراود القاضي بالسوء ويغويه بفعل شائن مع الصبي...
وفي أحد الأيام اعتدى القاضي على الصبي فعلا بقبيح الفعال.
لكن رغم الصدمة المؤلمة كان الصبي بلا حول ولا قوة، ولم يكن أمامه من حل فتقبل الأمر كأنه قدر من الله وواصل حياته وكأن شيئا لم يكن.
وفي إحدى جلسات السمر في بيته انتشى القاضي وتعتعه السكر يوما فباح بسر اعتدائه على الطفل لسمّاره ثم تكرم بدعوة أصدقائه الى الاعتداء على الصبي أيضا،
ففعلوا...
وظل الصبي ساكتا بلا حول ولا قوة وواصل حياته ودروسه ونجاحه بتفوق... الى أن تخرج من المدرسة،
ولأنه كان الأول على مدارس العراق فقد تقرر ايفاده الى الباب العالي في الأستانة (استانبول) آنذاك لاكمال دراساته العليا هناك،
وهناك واصل الصبي تفوقه ونجاحه حتى تخرج أولاً على الجامعة،
فاستقبله السلطان في قصره اعجابا منه بكفاءته وتفوقه...
وتقديرا له أمر بتعيينه والياً على العراق.
وحين سمع قاضي بغداد بتعيين الصبي والياً على العراق خاف على نفسه وتأكد من أن الصبي سينتقم منه ولابدّ،
فصار يصارح أصحابه بهمومه ومخاوفه،
فأشاروا عليه بخطة يتيمة وهي أن يبعث وفدا يستقبل فخامة الوالي عند حدود ولاية الموصل الغراء ويسلمه هدية من القاضي ويقول له أنها من أبيك، ويدعوه للعشاء في بيت القاضي في أول أيام وصوله بغداد.
وافق الوالي الجديد على الدعوة وتوجه فور وصوله بغداد الى بيت القاضي وهو يقول:
- بأبي أنت وامي. هذا والدي الذي رباني وشرفني بالعيش في بيته فكيف لا أقبل دعوته؟
وأعدّ عدّته القاضي وأقام وليمة عظيمة دعا اليها كل اشراف البلاد ووجهائها.
وليلة الوليمة التقى الرجلان في مدخل الفسطاط وسارا معا الى مكان الصدارة وجلسا معا في رابية المجلس كما يليق بالوالي والقاضي.
ووفقا للخطة ونصيحة أصحابه بدأ القاضي بإظهار حزنه وأخذ بالبكاء.
لكنه ما ان بكى حتى سحب الوالي منديله وراح يبكي بحرقة شديدة ويبصق ويتمخط ويلطم على رأسه بيديه ويضرب الأرض بقدميه.
اضطرب القاضي وهو يرى الوالي يبكي بحرارة وحرقة أكثر منه، فتوقف وسأله:
- مولانا الوالي... أنا أبكي لأني نادم على فعلة سوء فعلتها بك حين كنت صغيرا وأريد أن أتوسل عفوك وارجوك بحق كل من في هذا المجلس من الوجهاء والاشراف أن تسامحني...
فقال الوالي وهو يضحك:
- أنت تبكي على ذنب جنته يداك وعقابك عند ربك...
لكني أبكي على هذه الأمة اللي واليها (منيو...) وقاضيها (قوا...) ...