جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الحزء الرابع والأربعون)


أحمد رباص
الحوار المتمدن - العدد: 8138 - 2024 / 10 / 22 - 23:46
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

الوجود إذن حقيقي لأنه حضور خالص معلن عنه بكلمة أوسيا (ousia) (Anwesenheit). كلمة ousia التي تم الترويج لها كجوهر عبر تاريخ الفلسفة لا تعني شيئا آخر غير الحضور بمعنى محدد، يتعلق ب"الإدراك". باتباع مجموع هذه العلاقات بين الوجود، الحقيقة، الحضور، الجوهر. الحرية نجد مشكلة الزمانية التي تركها بيليدور جانبا لأن توضيح هذه المشكلة يمكن أن يقوده إلى الاقتراب من هايدجر الثاني الذي أجل الحديث عنه إلى دراسة أخرى. إن فهم الوجود كحضور وحقيقة يعني فهم الحضور نفسه كخاصية للزمنية. مجموع هذه العلاقات يشكل ما نسميه: تناسق الفكر الهايدجري. ومع ذلك، يريد منا هايدجر أن ندرك أن السؤال الحاسم حول "معنى" الوجود، السؤال الأساسي في "الوجود والزمان"، أي السؤال عن مدى الإسقاط، بكلمات أخرى، عن الانفتاح، أو حتى عن حقيقة الوجود، وليس فقط الوجود، لم يتم تطويره فيه بشكل متعمد.
ومع ذلك، ينعقد فيه الفكر بشكل ظاهر على طريق الميتافيزيقا لكنه لا يحقق بقدر أقل خطواته الحاسمة - عندما ينتقل من الحقيقة كمطابقة إلى الحقيقة المنفتحة ومن هذه إلى اللاحقيقة كإخفاء وتيه، ثورة تؤدي، وفق هابدجر، إلى تجاوز للميتافيزيقا. المعرفة المكتسبة هنا تكمن في هذه التجربة الحاسمة: إنما انطلاقا من الدازاين فقط، الذي ينخرط فيه الإنسان، يتهيأ بالنسبة إلى الإنسان التاريخي القرب من الوجود. تتم متابعة حقيقة الوجود ك"أساس" لموقف تاريخي جديد، غير أن كتاب "في ماهية الحقيقة" يعيد التفكير فيها انطلاقا من هذا الأساس الجديد (من الدازاين). إن الصيغ اللغوية التي جرى بها التساؤل تشكل في ذاتها توجه فكر، بدل ان يمنحنا تمثلات ومفاهيم، يمتحن (مبني على المحهول) ويتعزز كثورة العلاقة بالوجود. في المقدمة حددنا لانفسنا هدفا؛ ألا وهو تبيان أن الحقيقة والحرية من حيث ماهيتهما بحسب هايدجر تكونان نفس الشيء الواحد وتشكلان على نحو مطلق البنية الأنطولوجية للإنسان. هل حققنا هدفنا؟ هذا ما سنحاول البرهنة عليه في الخاتمة التالية.
يريد الكاتب أن يبين، كما وعدنا في ورقته التمهيدية، ان الحقيقة والحرية تشكلان على نحو مطلق البنية الوجودية للإنسان وتكونان الوحدة مأخوذتين في جوهرهما. لتحقيق ذلك سوف نتبتى في هذا الجزء الأخير من هذا الدراسة تمشيا ذا بعدين اثنين (1) بعد أنطولوجي للحرية، و(2) بعد لاهوتي. وفقا للبعد الأول، سنحاول التفكير في جوهر الإنسان، مثل هذا التفكير سيسمح لنا بأن يبين لنا بشكل أفضل بماذا يجد الإنسان بحسب بنيته أساسه في الحقيقة والحرية. وفق البعد الثاني سنقدم من جهة القطب اللاهوتي الذي يحتوي على الرسالة الهايدجرية. باستعمال المنهج المقارن، سوف نبين، دون تفسير مفصل أن رسالته، حتى لما هايدجر، في بحثه عن حقيقة الوجود، لم يضعها نصب عينيه، محور بحثه حول وجود الإله الإنجيلي، تتوافق تماما مع الخطاب الإنجيلي عن الحقيقة. من ناحية أخرى، سوف نتناول التزام هايدجر القومي-الاشتراكي، مع الأخذ في الأعتبار إصرار فكره على العلاقة: الوجود-الحقيقة-الحرية. لنبدأ مقاربتنا بتقديم البعد الأول.
في الفصل الأول قمنا بعرض ثلاثة أنواع من الحقيقة: (1) حقيقة حملية (2) حقيقة قبحملية أو حقيقة أنطيقية و(3) حقيقة وجودية (أنطولوجية). حددنا الأنطيقي كما هو موجود، والأنطولوجي كما بجعل الموجود موجودا. كما قلنا لماذا استخدمنا مصطلحي "الأنطيقي" و"الأنطولوجي". إذا تصورنا الأنطولوجيا (علم الوجود) كسؤال حول وجود الموجود، ومن هنا كقلب الميتافيزيقا، يؤكد ذلك بوجيلر، تكون ميتافيزيقا الميتافيزيقا أساس علم الأنطولوجيا، أنطولوجيا أساسية. هذه الأنطولوجيا الأساسية، يسميها هايدجر في كتابه عن كانط "ميتافيزيقا الوجود-هنا". وفق المنظور المفتوح من قبل كانط، تبحث ميتافيزيقا الوجود-هنا عن وحدة جوهر التعالي في ملكة الخيال وزمانيته. هكذا تتساءل الميتافيزيقا عن الإنسان، ولكن ليس على طريقة الأنثروبولوجيا التي تعتبر الإنسان موجودا من بين موجودات أخرى (حتى ولو كان موجودا خاصاً)، ولا على طريقة النزعة الأنثروبولوجية التي تضع كل الموجود أمام الإنسان وتوجهه نحو ذاته وتشرحه بذاته. بينما تتساءل ميتافيزيقا الوجود-هنا، بخلاف ذلك، عن كيف ينتمي بالضبط سؤال "ما هو الإنسان"؟ إلى السؤال الميتافيزيقي.
(يتبع)
نفس المرجع