جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الثاني والأربعون)
أحمد رباص
الحوار المتمدن
-
العدد: 8134 - 2024 / 10 / 18 - 07:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إن الحقيقة من حيث هي لاتحجب ليست سوى الوجود، وهو ما بيناه قبلا في علاقة وجود-حقيقة؛ قبل كل شيء، هي ليست شيئا "فوق الوجود"، ولكنها بالعكس هي الوجود ذاته، ما ينشر جوهره في الوجود (الحضور كلاتحجب). غير أن الحرية، بقدر ما تهيمن (Waltenlassen) على العالم، هي أصل الأساس بشكل مطلق. لكنها منتهية، "مهملة": ليس من اختصاث تصرفها الحر أن تكون وتتحقق ببساطة كتعال. من حيث كونها أساس الأساس، فهي أيضا تفتقر إلى أساس من اجل وجودها الأساس: بلا قعر. لهذا يؤول "في ماهية الحقيقة" الحرية ك"تحرر" سعيا إلى ما هو ظاهر في المفتوح، كترك الموجود يوجد" وبالتالي كواقعة الانعطاء لمنفتح اللاتحجب ولامتحجبه. باعتباره هجرانا للاتحجب، الذي ينفتح وينعرض، يحافظ الانعطاء بهذه الطريقة على اللاتحجب. علما بأن الحرية في دراسة "في ماهية الأساس"، مفهومة كأساس لا قعر له، يكون هجران الحرية نحو الحقيقة كلاتحجب ملزما بإستعادة الهاوية، غياب الأساس في التأسيس.
لأن الوجود يثيرها، تأتي الحقيقة من حيث هي لاتحجب مما هو حر، تذهب إلى ما هو حر وتؤدي إلى ما هو حر". لذلك يمكننا أن نقول إن هناك علاقة جوهرية بين الوجود-الحقيقة-الحرية. الحرية، مفهومة على أنها ترك الموجود يوجد، تستكمل وتنجز ماهية الحقيقة بمعنى لاتحجب الموجود. باعتبار أنها تجعل الانفتاح ممكنًا، والحرية هي "إلى جانب الوجود"؛ باعتبارها صيرت ممكنة بهذا الافتتاح نفسه، تكون الحرية "إلى جانب الموجود". هل هناك تناسق أم لاتناسق؟ وهذا ما يجب تبياته الآن في هذه المرحلة الثانية الخاصة بتناسق الفكر الهايدجري. إن لاتحجب الوجود هو دائمًا، حسب هايدجر، حقيقة وجود الموجود؛ على العكس في لاتحجب الموجود، ينعقد دائمًا لاتحجب وجوده. في تحليلنا، بالاعتماد فقط على نصي هايدجر الرئيسين، وهما: "الوجود والزمان"، و"في ماهية الحقيقة"، سنقتصر على ملاحظة نقاط الاتصال والاختلاف التي تجمع أو تفصل بين رسالة الحرية ورسالة الحقيقة. لقد اختزل "الوجود والزمان" التصور الكلاسيكي للحقيقة إلى التأكيد المزدوج على أن الحقيقة تجد مكانها في الحكم وماهيتها في توافق الحكم مع موضوعه.
لم يشك هايدجر قط في أن هاتين الأطروحتين كانتا بحد ذاتهما نتيجة المواقف الميتافيزيقية، الضمنية في أغلب الأحيان لدى كبار الكلاسيكيين، التي ناقشها وشرحها. واصل "في ماهية الحقيقة" تفسير هاتين الأطروحتين حول ماهية الحقيقة. "الوجود والزمان" و"في ماهية الحقيقة" يتفقان على القول بأن مطابقة الحكم لموضوعه، المطابقة التي تكمن فيها، بالنسبة للكلاسيكيين، ماهية الحقيقة، لا يمكن أن تكون إلاىنسبية في بعض الجوانب. إنها تهدف إلى أن تصبح الشيء الذي تعبر عنه، وإلى تسليم هذا الأخير كما هو. سبق لهايدجر أن دان، وما زال يدين بصرامة أكثر من أي وقت مضى، أي تصور للحكم يقوم بحمل الأخير على محتوى محايث للذات الحاكمة، على تمثيل. لكن هيدجر، وهو يتساءل عما يسمح بإقامة التوافق بين الحكم والموجود الذي وقع عليه الحكم، وجد أن هذا الإمكان يقتضي، في المقام الأول، أن وجود الموجود الذي وقع عليه الحكم ينكشف كما هو في ذاته ويمكننا اكتشافه. وجود الحكم يجد جذره في الموقف الذي يهدف إلى اكتشاف الموجود أو، وفقا للغة "الوجود والزمان"، إلى "اتركه-يوجد". لأسباب لا مجال للتفصيل فيها هنا، وضع "الوجود والزمان" على عاتقها مهمة إيجاد مدخل إلى مشكلة الوجود، لكنه في الواقع اهتم بشكل رئيسي بتحليل الوجود الإنساني، الدازاين. كل ما يعلمناإياه الكتاب عن الموجود، يتم دائمًا النظر إلى الأخير طبقا لنتائج التحليل.
لكن التحليل الوجودي يهدف إلى إثبات وجود الإنسان على جهتين أساسيتين، إحداهما الأكثر ممارسة كذلك، تميل إلى وضع الموجود الإنساني في حالة من عدم الوضوح والوهم تجاه ذاته، وبالتالي تجاه الأشياء. "في ماهية الحقيقة" يؤكد ذلك بصريح العبارة، فالطريقة التي يكون بها الدازاين منفتحا، تقرر أيضًا ما في قدرته على الحضور أمام نفسه. من ناحية أخرى، يتجاوز "في ماهية الحقيقة" التحليل الوجودي ويدرس بشكل مباشر علاقة الموجود، من حيث هو قابل لأن يعرف ومعروف، بالبنية غير المتميزة للدازاين. وهذه العلاقة تعلمنا أن الإنسان في الأصل قريب من الأشياء، لأنه هو أيضًا في الأصل موجود منفتح، أي موجود عليه أن يجد دائما وجوده موضوعا خارج ذاته، وهو ما يعود إلى البنية الوجودية في "الوجود والزمان". فكرة الوجود المنفتح حلت محل فكرة الوجود-- في-العالم. الإنسان في العالم لا يعني أنه يجد ذاته إلى جانب الأشياء والنوضوعات، بل إنه يفهم هذه الأخيرة في بنية مرجعية، لأنه في حد ذاته خارج ذاته وقريب من تلك الاشياء والنوضوعات. ولذلك يبقى صحيحا الادعاء بأن الوجود-في-العالم والوجود المنفتح مكونان للحقيقة.
(يتبع)
نفس المرجع