قصة (سيارة سوداء قبعة بيضاء) لصلاح زنكنه / قراءة الناقد علي سعدون


صلاح زنكنه
الحوار المتمدن - العدد: 7961 - 2024 / 4 / 28 - 00:14
المحور: الادب والفن     

في قصة "سيارة سوداء.. قبعة بيضاء" للقاص صلاح زنكنه، سيقف القارئ حيال اللغة التي تعتمد الحبكة كخصيصة فنية وكعمود رئيس لأهمية الحدث، لغة هذه القصة بوليسية بامتياز، لغة تجعل القارئ يترقّب الحدث ويلاحق فعل السرد بقوة. وبالتالي نحن أمام لغةٍ مكثفة وخالية من العبث والاستطراد والتداعي. تتلخص فكرتُها برجل يعيش حالة من حالات الهلع بسبب مطاردةٍ في ليل بهيم. ويتزامن ذلك الرعب مع أيام مطاردات ثوار تشرين الذين قتلوا على أيدي مجهولين.
تجيء هذه اللغة الضاجة بمشهد متصل من بداية القصة إلى نهايتها دون انقطاع، ودون وجل أو حالة من حالات التروي, كل شيء تصنعه هذه اللغة هو مدعاة للخوف والرعب الهائلين :
"أنظرُ بفزعٍ عبر المرآة صوبَ صاحب القبعةِ البيضاء والنظارةِ الداكنة الذي لم يحرّك ساكنا ولم يهبط من سيارته لكي يقتلَني بمسدسهِ الكاتم كما خيّل لي في هذه اللحظة الحرجة الصاخبة هلعا ورعبا".
على هذا المنوال ظلّت لغتُه تتراكم وتسرّب ذلك الرعب إلى القارئ مشدود الأعصاب. واعتقد جازما في هذا المفصل أن النهاية جاءت مفارقة لتوقعات القارئ الذي ظنَّ أن ما يقرأه لا يتعدى حدود المطاردة السياسية للمناوئين .. كل شيء في القصة يذهب بهذا الاتجاه.
وكنّا كقرّاء ننتظر اسوة ببطل القصة انطلاق الرصاصة السياسية على جسد هذا المسكين المرعوب أو نجاته بأعجوبة، لكننا سنكون أمام حالة من حالات السخرية الإنسانية عندما نكتشف أن الأمر سيتحول بمهارة القص وقدرته الحاذقة على التهكم في الانهيار الذي يصاحبنا ونحن نرى نهاية المشهد وهي تتحطم أمام واحدة من تخرصات غيرة الزوجةِ على زوجها.
مراقبة ومطاردة بوليسية بمبررات الشك في الخيانة الزوجية المفترضة.. لا وجود إذاً لقاتل مأجور أو سياسي قاتل يطارد الأولاد الفارين ويجهز عليهم بدمٍ بارد. وبالتالي فهذا المشهد المحذوف من متن القصة، ظلَّ يشتغل عند القارئ على طول فعالية السرد – اللغة البوليسية صنعت أفقا لذلك الحذف وارتكنت اليه -. يقول محمد صالح الشطي في كتابه المهم "فن القصة القصيرة المعاصرة" : إنَّ "الحذف المتعمّد من السياق النصي دون أن يكون هناك ما يعوض هذا الحذف أو يغني عنه، يطلق العنان لمخيلة القارئ حتى يجتلب أو يتصور المحذوف من خلال الموقف"
وعلى أية حال سيتساءل القارئ كثيرا عن جدوى التفارق في تحويل موضوعةٍ أثيرة وصاخبة مثل القلق على مصيرنا في تلك الأيام التشرينية إلى مشهدٍ ساخر يحيل إلى الضحك أكثر مما يحيل إلى سواه.
ولهذا أقول إنَّ كسر أفق التوقع لم يكن متناغما على الاطلاق في كتابة قصة تذهب إلى الرعب الذي تسببه زمر المتنفذين في البلاد : عصاباتٍ أو رجال ايديولوجيا وعقائد، إلى واحدة من غرائبيات المشهد برمته؛ ذلك أنَّ لغة القصة، منذ مطلعها إلى ما قبل نهايتها كانت باثّة ومحفّزة على قراءة ثورة تشرين بموجبات الغليان الثوري المعروف، الذي يشحذ المخيلة بواحدة من القضايا المصيرية وهي تصطدم بواقع سياسي مهول، كان قد جاء في قصة "زنكنه" بلغة مكثّفة ومتماسكة إلى حدٍ كبير.
وهذه مناسبة، لافتة للانتباه تفتح الأسئلة على مصراعيها وتدعونا إلى كتابة تشرين بزوايا نظر مغايرة وجديدة من خلال الرؤية المحترفة في كتابة القصة كما عند صلاح زنكنه.
نهايات تتفارق مع المتن لكنها تصنع بديلا في كيان القصة من خلال فعل القراءة المتخيلة، حتى وإن جاءت نتائج السرد بخلاف ذلك.
قصة صلاح زنكنه هذه، تريد أن تؤكد محنة اختيار الثيمات والموضوعات في كتابة القصة القصيرة، وهي مهمة عسيرة بسبب جنوح بعض الكتّاب إلى التغريب والتجريب، في حين أن الحياة على أرض الواقع لا الورق وحده تريد شيئا آخر. وعليه نقول بحتمية ما تفرضه المنعطفات التاريخية على النصوص.
فللقاص حرية اختيار الموضوعات، وهي واحدة من علامات نجاحه المميز والقوي .. الكاتب بسبب نرجسيته ونخبويته يذهب بعيدا في التجريب والكتابة الفخمة، ولأنه ابن الحياة سيخضع مرغما بسبب من قوة وحضور الارهاصات المجتمعية التي تدفع بنا إلى تبني موضوعات بعينها.
نحن نمتلك حرية الأسلوب واللغة وحسّاسية الكتابة التي تتقدمنا فيما نكتب, أما اختيار الموضوعات فلها ارغامات أخرى .
صلاح زنكنه الكاتب الكبير في اشتغالات الفنتازيا، يشير إلى هذه الجزئية بوضوح ويكتب قصة من رحم الواقع، مجسدا أثر ذلك الواقع في روح وذهنية الانسان. وبقطع النظر عن اختلاف وجهات النظر في زوايا الخصائص الفنية، أقول إن هذه القصة ربما تكون من أفضل ما قرأت من القصص التي تتناول موضوعة تشرين.

*مجتزأ من دراسة علي سعدون (اللغة والخصائص النوعية في القصة القصيرة, مقاربات في قصص مختارة) منشورة في مجلة الأقلام العدد الأول 2024.

وأدناه نص قصة (سيارة سوداء .. قبعة بيضاء)
في منتصف الطريق وأنا عائد الى بيتي, بعد أن قضيت أسبوعا كاملا مع أصدقائي المتظاهرين والمعتصمين في ساحة التحرير, لاحظت بهاجسي الصحفي الذي لا يخطئ عادة, سيارة سوداء تسير خلفي مباشرة منذ ربع ساعة, وتحديدا بعد مغادرتي مرأب السيارات في منطقة باب الشرقي, ولما راودني بعض الشك زدت من سرعة سيارتي كي أتحاشى هذه السيارة اللعينة التي تنذر بسوء الفال, لكنها راحت تتبعني بالسرعة نفسها, خففت من سرعة سيارتي عسى أن تتجاوزني بيد أنها تباطأت خلفي, ولم تبارحني.
دب القلق في رأسي وأنا أسرع حينا وأبطئ حينا, وأتفحص عبر المرآة السائق الذي يقود السيارة السوداء خلفي أحيانا, لكنني لم أتبين ملامحه جيدا, كونه يعتمر قبعة بيضاء ويضع نظارة شبه معتمة على عينيه, بالرغم من ظلام الليل مما ضاعف قلقي وريبتي.
ومع ازدياد القلق والريبة, ضغطت على دواسة البنزين وانطلقت بسرعة جنونية شديدة أشق عباب الشارع شبه الخالي من السيارات كي أصل الى بيتي وزوجتي التي كانت تعاتبني وتشكو غيابي وفراقي لها طوال الأسبوع المنصرم, إلا إن السيارة السوداء كانت تنطلق خلفي بوتيرة سرعة سيارتي, حتى كدت أن أفقد زمام نفسي جراء القلق المتزايد الذي داهمني وشتى الأفكار والهواجس التي انتابتني وشلت حواسي, وراحت تنهشني نهشا, ترى من يكون هذا الرجل صاحب القبعة البيضاء والنظارة الداكنة وهو يتبعني كظلي في هذا الليل البهيم؟!
غيرت مجرى مسيري, فغير مجرى مسيره, استدرت وعدت من حيث أتيت, فاستدار خلفي وكأنه رجل آلي مبرمج خصيصا لمتابعتي بمهارة جاسوس محترف, فأينما أسير يسير, ومثلما أجري يجري, وكلما أبطئ وأسرع يفعل مثلي, كأنه يلعب معي لعبة القط والفأر من دون كلل أو ملل.
وأنا في خضم قلقي وهلعي تذكرت فجأة صديقي وزميلي الصحفي عبد الستار الذي يسكن على مقربة من الشارع الذي ولجته توا, خرجت من الشارع العام ودخلت شارعا فرعيا يؤدي الى زقاق بيت صديقي هذا, فتبعني بلا هوادة, وما أن وصلت أمام باب بيته حتى توقفت, فتوقف خلفي, وكاد قلبي أن يتوقف ويقفز من قفصي الصدري وهو يخفق كالطبل بين جنبات أضلعي, والخوف والهلع أخذا مني كل مأخذ, وأنا أنظر بفزع عبر المرآة صوب صاحب القبعة البيضاء والنظارة الداكنة الذي لم يحرك ساكنا ولم يهبط من سيارته لكي يقتلني بمسدسه الكاتم كما خيل لي في هذه اللحظة الحرجة الصاخبة هلعا ورعبا, بل وجدته مسترخيا في مقعده خلف مقود سيارته, منشغلا بهاتفه النقال وهو يصورني على ما بدا لي.
أنزلتُ زجاج باب سيارتي, ومددت ذراعي بتوجس مشوب بألف احتمال واحتمال ودست على زر جرس الباب بأصبع مرتجف, وما أن فتحت زوجة صديقي الباب وهي ترتدي ثوبا منزليا قصيرا حتى قفزتُ كالملسوع الى داخل الدار من دون أن أنبس بكلمة أو ألقي عليها التحية, وأطبقت الباب خلفي بقوة, وشعرت بالاطمئنان بعد أن تنفست الصعداء قليلا, في هذه الأثناء وأنا كلي ارهاق وارباك خرج زوجها من مدخل الصالة مندهشا وهو يحمل طفله الصغير على كتفه وعلامات الاستغراب بادية على وجهه جراء زيارتي غير المعهودة وفي هذا الوقت من الليل.
- ما الذي ذكرك بيّ يا ...
وقبل أن يكمل جملته, وقبل أن أجيبه, سمعت طرقا شديدا على الباب وصوت امرأة يزبد ويرعد.
- افتح الباب يا خائن يا حقير يا .....
ميزت الصوت الغاضب بسهولة وحدثت نفسي في دخيلتي متيقنا من صاحب الصوت .. يا إلهي أنه صوتها .. صوتها الذي أعتدت سماعه منذ سنتين.
عدت الى الخلف وفتحت الباب مسرعا, وإذ بزوجتي ترمي القبعة والنظارة أرضا وتدلف البيت مثل اعصار مدمر أو وحش هائج وهي تصرخ وتندد ...
- أين هي عاهرتك التي تزوجتها سرا أيها الخائن الجبان ؟
أجابها صديقي عبد الستار مندهشا :
- أية عاهرة تعنين يا سيدة سماح ؟
نظرت سماح الى عبد الستار ببرود, ثم الى زوجته, ثم إليّ, ثم أجهشت في البكاء بحسرة وندم بعد أن شعرتْ بالخجل جراء الموقف المحرج والمهين الذي أوقعت نفسها فيه, وهي تردد بلوعة وأسى.
- لقد أتعبتني, أتعبتني والله.
صرخت في وجهها بغضب.
- لقد جعلتِني في رعب حقيقي خلال ساعة, خلته دهرا وأنت تتبعيني كظلي, لماذا؟ لماذا يا مجنونة؟!
- لأني أحبك, ولأني كنت أشك بك, ولأني كنت أعيش في كابوس منذ أسبوع.
ثم أردفت بصوت متهدج.
- سامحني يا حبيبي, سامحني رجاء.
سألتها محتجا :
- ومن أين لكِ هذه السيارة؟
أجابتني متوددة :
- أعرتها من صديقتي نهى.
قلت ساخطا :
- اللعنة عليكِ, وعلى صديقتك, وعلى غيرتكِ الحمقاء أيتها المجنونة, لقد خلتكِ قاتلا مأجورا.
قالت مبتسمة :
- والله أقتلك لو خنتني يا حبيبي.
قهقه صديقي عبد الستار عاليا, وقهقهتْ زوجته معه, فيما أصبتُ أنا بالإجهاد والإعياء بعد هذه المطاردة البوليسية التي طالما شاهدتها في أفلام الهوليود الأمريكية حصرا.