هل هناك استبداد ديني؟


محمد علي مقلد
الحوار المتمدن - العدد: 7845 - 2024 / 1 / 3 - 20:53
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


لا يخترع أحدنا البارود حين يتحدث عن أهمية الدولة. هي موجودة في مصر وفي الحضارات الدينية منذ آلاف السنين. غيابها يعني شريعة الغاب. لكن الدولة التي نكرر الكلام عنها ونطالب بقيامها ليست دولة الفراعنة ولا دولة هارون الرشيد، بل التي نشأت في الغرب الأوروبي بعد الثورة الفرنسية على وجه التحديد، ومعها بدأت عملية الانتقال من أنظمة الاستبداد إلى الديمقراطية.
روجت المركزية الأوروبية إشاعة عن"الاستبداد الشرقي" فصار المصطلح نوعاً من العرف تم التداول به كأنه من البداهات، مقابل اعتقاد مغلوط بأن الديمقراطية صناعة غربية. مع أن الثورة الفرنسية قامت ضد النظام الاستبدادي في أوروبا كلها على اختلاف ألقاب الحاكم، الملك أو القيصر أو الأمبراطور ، أو في البلاد الممتدة من المغرب العربي حتى الصين، كالسلطان والأمير والخليفة والشاه.
"الغرب"مسؤول، من أرسطو حتى هيغل وماركس، عن إطلاق "الإشاعة" والفكر الاستبدادي مسؤول عن ترويج الاعتقاد المغلوط. القارة الأوروبية نفسها قاومت تعميم الديمقراطية في داخلها طيلة قرنين ولم تقتنع بضرورتها إلا بعد حروب بين القوميات داخل القارة وحربين عالميتين. الرأسمالية الأوروبية أساءت إلى الديمقراطية حين أهملتها لتركز على الجانب الاقتصادي بحثاً عن استثمارات ومواد أولية وأسواق جديدة خارج الحدود، فغلب وجهها الاستعماري على وجهها كحضارة.
يقول الكواكبي "المستبد هو الذي ينفرد برأيه وأنّ أصل الدّاء هو الاستبداد السّياسي". الانفراد بالرأي يعني عدم قبول الرأي الآخر. إذن العلاج بسيط نظرياً: الاعتراف بالرأي الآخر والتشاور معه. قبل الكواكبي، قال الإمام الشافعي"رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي سواي خطأ يحتمل الصواب". هذا هو الأساس التي تبنى عليه عمارة الديمقراطية.
الاستبداد مصطلح سياسي، ما يظهر منه في المجتمع والدين والعائلة ليس سوى انعكاس لمنبعه السياسي. والاستبداد له أدوات. مثقف البلاط وفيلسوف القصر وكاتب السلطان ومفتي الديار في أيام السلطنة. من لا يتطابق عقله مع عقل السلطة يلقَ مصير ابن المقفع أو ابن حنبل أو غاليليه، والمعترضون إلى المنافي أو إلى السجون.
كاتب السلطان والعاملون في الحقل الديني، بحسب تعبير خالد زيادة، مهيأون أكثر من سواهم لخدمة المستبد لأنهم يستثمرون في الدين ويستظلون سلطة الحاكم. المستبد هو الإنسان لا الأفكار، رجال الدين وليس الدين. الأفكار وسائل إقناع، ينسب إلى الإمام علي قوله إن القرآن لا ينطق بنفسه بل يحتاج إلى رجال. هناك قرّاء ربّوا أجيالاً على التقوى وقراء صنعوا إرهاباً داعشياً. وقد أثبت التاريخ أن أديان الشرق كانت وما زالت أكثر تسامحاً من الأديان السماوية وأقل مدعاة وتبريراً للعنف.
الدولة الحديثة نجحت جزئياً في أن تضع بالديمقراطية حداً للاستبداد السياسي، لكنها عجزت أمام قوانين اقتصاد السوق. في الماضي حروب الأساطيل والحرير والتوابل والاستعمار، واليوم حروب التحرر وصراعات على مصادر الطاقة. استبداد اليوم مموه: حكام طائفيون وحروب أهلية وميليشيات ومافيات ونهب منظم وانتهاك للدستور. من الآن وإلى أجل غير مسمى لا حل متخيل خارج خيمة الديمقراطية.
المستبد المعاصر كقارئ النصوص الدينية. يستخدم التأويل والاجتهاد. الديمقراطية عنده أكثرية وأقلية وصندوقة اقتراع. والصحيح أن جوهرها ومنطلقها هو مبدأ الاعتراف بالآخر. بغيابه لا تكون انتخابات حرة، خصوصاً في مجتمعات يسودها الجهل وثقافة القطيع.
لا ديمقراطية من غير الحرية. الكواكبي مات مسموماً بسبب أفكاره. قتله الاستبداد السياسي الذي لا يقبل من أصحاب الرأي إلا من كان تابعاً أو أداة. في كتابه"طبائع الاستبداد" يتصدر سؤال الكلب للغزال، لماذا أنت تسبقني دوماً، وجوابه أنا أركض لنفسي وأنت تركض لصاحبك.