تونس: كيف يمكن للأغلبية الانتظام والمقاومة لصالحها وليس لصالح أعدائها؟


بشير الحامدي
الحوار المتمدن - العدد: 7841 - 2023 / 12 / 30 - 14:24
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

هذا المقال إجابة عن سؤال من صديقة: كيف يمكن للأغلبية الانتظام والمقاومة لصالحها؟
طبعا هذا الطرح يتناقض كليا مع بعض الأفكار التي نسمعها هنا وهناك والتي ترحّل هذه الأطروحات إلى حقل اللبرالية وتستبدل عبرها الثورة بالدولة ورؤيتنا التي عبرنا عنها ومازلنا عن كيف نؤسس للتغيير الجذري ليس باستبدال الثورة بالدولة بل بالإطاحة بالسيستام وبدولة رأس المال وكل أجهزتها.
ــــــــــــــــــ
ـ 1 ـ
إن أهم ما فجره 17 ديسمبر والسيرورة المتواصلة منذ ذلك التاريخ والتي ستتواصل هو أنه أفضى بالأغلبية التي لا تملك والمتناقضة مصالحها تاريخيا مع مصالح النظام الرأسمالي إلى خوض معركة طبقية ثبت بالملموس أنها معركة تنبذ كل الحلول التلفيقية.
معركة لا حل فيها إلا الاطاحة بالنظام الرأسمالي.
لقد تكشف صراع "وجها لوجه" بين رأس المال الذي بيد الأقلية الحائزة على السلاح والمتفوقة بالتكنولوجيا والحرب وآليات الاستغلال الناعم والأغلبية التي لا تملك غير المنظمة في تنظيمات طبقية المشتتة المنقسمة والمهيمن عليها بواسطة جمعيات ونقابات وأحزاب وأطر ورموز لا تفعل غير تحسين شروط استغلالها وإبقائها في وضعها الدوني العبودي لرأس المال.
وضع الأغلبية في القرن الواحد والعشرين كم هو شبيه بوضع الأغلبية في روما القديمة مع فارق فقط هو أن عبيد العصر الحديث عبيد رأس المال على عكس عبيد روما لا يعيشون على حساب المجتمع بل على العكس فعلى قوة عملهم هم وحدهم يعيش الكل في مجتمع الفوضى الرأسمالية.
وضع الأغلبية في عصرنا وتحديدا في السنوات هذه التي نجتاز وحقيقة الصراع الذي تخوضه ومجرياته سواء في أطراف الصراع أم في مراكزه تجعلنا نؤكد على أن أول معيقات عمل ونضال هذه الأغلبية هو بالأساس عدم قدرتها على الاستقلال تنظيميا وسياسيا عن قوى رأس المال.
الاستقلالية هي اليوم الشرط الأبرز لنضال اللأغلبية ضد رأس المال وضد ديكتاتورية أجهزته.
الاستقلالية تنظيميا وسياسيا هي شرط الانتصار على الفوضى الرأسمالية.
الاستقلالية تنظيميا وسياسيا هي ضد التكيف والمساومة وضد الإصلاحية والارتباط والاستبدال.
الاستقلالية تنظيميا وسياسيا هي الترجمة التنظيمية والسياسية للمقاومة من موقع طبقي لا يساوم.
الاستقلالية تنظيميا وسياسيا هي سلاح الأغلبية في النضال وشرط الانتصار.
لا مجال لأي حق ولأي سيادة دون الاستقلالية تنظيميا وسياسيا.
تحقيق الاستقلال التنظيمي والسياسي عن النظام الرأسمالي وعن أجهزة دولته وخوض المعركة ضده على قاعدة الحق في السيادة على القرار وعلى الثروات وعلى التخطيط وعلى العمل وعلى الإنتاج ...إلخ هو الجذرية [Radicalisation]التي تتطلبها عملية المقاومة اليوم والمعارك الطبقية للأغلبية اليوم حيث لم يعد من توفيق بين مصالح الطبقات لأنه في الحقيقة ومع عولمة رأس المال و هيمنة ديكتاتورية الأسواق لم يعد من مصلحة غير مصلحة طبقتين متضادتين الأغلبية التي لا تملك و الأقلية المسيطرة بالمال والسلاح والصراع في حقيقته وفي كليته يجري بين هتين الطبقتين وطبعا هذا لا ينفي صراع التناقضات داخل كل طرف من أطراف هذا الصراع وهي تناقضات في الغالب يجري حلها من داخل بنية الصراع ذاته وهو يتقدم.
صراع القطبين الطبقين والذي أصبح مفتوحا وسافرا في أطراف النظام الرأسمالي [المنطقة العربية] بداية من 17 ديسمبر بدأ يراكم توجها لم يكن في السابق بالوضوح الكافي لدى قوى رأس المال وتحديدا لدى الفئات المهيمنة والأكثر تمركزا طغم المال والمخابرات صاحبة النفوذ والقرار وهو الحرب على الأغلبية وتدميرها بواسطة الأغلبية نفسها وإن ما يحدث بشكل مسلح في سوريا وليبيا واليمن وغزّة وبشكل صراع سافر غير مسلح إلى حد اليوم في تونس ومصر هو التطبيق العملي لهذه الحرب التي يشنها رأس المال على الأغلبية بواسطة الأغلبية نفسها حيث تمكن من تشتيتها و تقسيمها وجرها بعيدا عن تمثل حقوقها.
ـ 2 ـ
وكما هو دائما لا يتوانى رأس المال عن ارتكاب أكبر الجرائم في سبيل ضمان مصلحته.
قد يكون أنه لم يعد من إمكانية تاريخية لتفجير حروب نظامية وحروب قومية وفي إطار اشتعالها يتجدد رأس المال وتدور عجلة إنتاج مصانعه من الطاقة إلى صناعة الطائرات.
حروب رأس المال لم تكن كلها سوى وجه من وجو جشع الرأسمالي والتروست الرأسمالي.
قد تكون انتفت الحاجة تاريخا لحروب كهذه لكن المؤكد أنه حلت محلها حروب طبقية تدميرية في شكل هولوكوستات ضد الأغلبية في كل بلد وربما في كل إقليم حروب رأس المال ضد الأغلبية أقل كلفة له في كل الأحوال ولكنها وسيلة ناجعة لإدارة أزمته ومواصلة التنفس.
الرأسمالية في هذا الطور ولا أتحدث عن الأطراف فقط بل عن النظام ككل هي الرجل المريض الذي لا يمكن أن يواصل الحياة خارج غرفة الإنعاش.
ووضع أن يظل مريضا في الأطراف أفضل كثيرا من أن تنتقل العلة إليه في المركز.
هكذا يفكرون و لأجل ذلك يفجرون الحروب الصغيرة المنحصرة ولكنها الكبيرة في آثارها.
الرجل المريض مقتله في تجريده من السيطرة على منابع الطاقة وعلى قوة العمل وملايين المستهلكين في الأطراف.
منابع الطاقة وقوة العمل وملايين المستهلكين هي أساس حياة الرجل المريض المسلح لأخمص قدميه لذلك نراه وفي الصراع الدائر في بعض أجزاء المنطقة العربية يرمي بكل ثقله في الصراع من أجل المحافظة على مصالحه ومواصلة الهيمنة. غزة المثال الساطع لمن لم يستوعب أصل المعركة بعد.
وهنا بالضبط يبرز الشرط الأهم في النضال في إطار هذا الوضع ألا وهو الاستقلالية التنظيمية والسياسية عن النظام وأجهزة النظام.
النظام هنا أجهزة ومؤسسات وحتى منظمات تدّعي المقاومة وتلعب لعبة الأنظمة.
فالثوريون الحاملون لمشروع تغيير ثوري المنادون بالثورة التي تقلب الأمور جميعا لا يحتاجون لتنظيمات فوقية سواء في شكل جبهة أو حزب ولا مقاومة تحت راية تدعو لخلاص من نوع خلاص المستعمر ولا لبرنامج حد أدنى وحد أقصى إنهم يعملون من أجل أن تنبثق تنظيمات قاعدية ثورية مواطنية مقاومة من داخل الجماهير ويبذلون كل مجهودهم لتصليب عود هذه المقاومات الثورية وينخرطون من داخلها في صراعها مع نظام رأس المال ودولة رأس المال على قاعدة طبقية وباستقلال تام عن كل المضطهدين.
إنهم أساس تنظيمات المقاومة والتسيير الذاتي القاعدية ينشرونها ويشكلونها كتنظيمات تقاوم من أسفل وديمقراطية تنظيمات تكون أنوية ثورية مواطنية للحكم الثوري اللامركزي على أنقاض النظام الاستبدادي القائم.
إن هدفهم هو الحكم المشكل منهم وجدهم والذي تنبثق عنه حكومة ثورية لامركزية مسؤولة على أنقاض السلطة القائمة.
ليس هناك من حد أدنى وحد أقصى في استرتيجية الانتظام المجالسي القاعدي بل هناك مقاومة وصراع طبقي وليس هناك حقل للحق وحقل للثورة بل هناك حق بمشروعية تاريخية هو الحق في السيادة على القرار وعلى الثروات والموارد والتخطيط والعمل ...إلخ. إنه الحق في قلب الأمور جميعا والحق في الحياة والاستقلال ذاتيا بمعنى l’autonomie لذلك فالوضع في بلادنا يتطلب أن تتمكن الجماهير من تحقيق استقلالها الذاتي التنظيمي والسياسي عن قوى الانقلاب وقوى رأس المال وكل البيروقراطيين ومن يدّعون تمثيلها عبر تنظيماتها هي في البلدات الصغيرة وفي القرى وفي الجهات وفي القطاعات كل القطاعات وفي الأحياء وأينما هناك إمكانية للتنظم الذاتي.
إن الاستقلال ذاتيا هو ألا نعتقد أننا أحرار لما نمنح حقنا في القرار الخاص بنا لممثلين عنا يقع تقديمهم لنا لنختارهم بالتصويت على أساس أنهم سيمثلوننا.
الاستقلال ذاتيا هو ألا تعتقد أن انتماءنا السياسي كشراء بطاقة انخراط في حزب أو جمعية أو اتجاه سياسي هلامي هو كل ما هو مطلوب منا للتنظم أو أن ننتمي لعصبيات وفرق سواء على قاعدة دينية أو قومية أو أيديولوجية بوهم أن ذلك هو الامكانية الوحيدة للمشاركة والانخراط في الممارسة السياسة.
الاستقلال ذاتيا ليس تحقيق الانتماء لحزب على قاعدة أيديولوجية.
الاستقلال ذاتيا ليس تحقيق الانتماء لفئة أو شريحة اجتماعية ما أو فئة عمرية ما .
الاستقلال ذاتيا ليس تحقيق الانتماء لقطاع مهني ما أو وظيفي ما.
الاستقلال ذاتيا ليس الانتماء على أساس الجنس أو العقيدة أو الجهة لعصبة ما.
الاستقلال ذاتيا ليس تحقيق الانتماء الاثني العرقي.
الاستقلال ذاتيا ليس استبدال الثورة بالدولة.
هذه كلها انتماءات تحقق تنظيم الأقليات السلطوية أو الأقليات المقموعة التي لا بدائل بحوزتها تجعلها تختلف عن قامعيها وأقصى ما يمكن أن تكونه هو أن تكون سائدة وهو ما يتنافى في الأساس مع كل ديمقراطية ومع كل اختلاف ولمع كل مشاركة.
إنها انتظامات ما قبل الاستقلالية.
إن الاستقلال ذاتيا هو تحقيق أفضل شروط ـ لأن العملية تاريخية ـ تجاوز كل أشكال التنظم السكتارية والإيديولوجية والعقائدية والعرقية والاثنية والجهوية والقطاعية والعمرية والمهنية لصالح انتظام على قاعدة مواطنية طبقية تشاركية شبكية مقاومة غير كابحة للمشاركة الواسعة في أخذ القرار وتنفيذه ومتابعته.
الاستقلال ذاتيا هو الكف عن منح قرارانا ليتخذه بدلنا ممثلون عنا لا يمثلون في الحقيقة غير أنفسهم ومصالحهم أو مصالح أسيادهم.
الاستقلالية الذاتية هي تحيق تنظيم الأغلبية على قاعدة مصالحها الطبقية في تنظيمات أفقية شبكية مقاومة.
الاستقلال ذاتيا هو مواجهة وإسقاط كل السياسات التي تفرض علينا ديمقراطية تمثيلية سقفها الأكثر عدلا منطقه ـ من أجل شر أقل ـ لصالح سياسة أخرى على قاعدة منطق آخر نكثفهما في ـ لننتظم بشكل مستقل ونقاوم ـ.
ـ 3 ـ
كذلك فأطروحة التنظم الذاتي تقوم على اعتبار مسألة التنظيم مسألة أولا طبيعية ذاتية مقاومة وثانيا ضرورية تاريخيا وثالثا سيادية ورابعا أفقية غير مرتبطة نافية لكل بيروقراطية وكل سلطوية.
ولنشرح كل ذلك.
طبيعية ذاتية مقاومة أي تعبير عن التقاء جماعي ذاتي مقاوم على قاعدة مصلحة طبقية من أجل تنفيذ مهمة من المهمات في الواقع بشكل مشترك يفرضها العيش المشترك والمصلحة المشتركة.
ضرورية تاريخيا أي أن أمر تحقيقها صار شرطا للتقدم التاريخي وللخروج من الأزمة التي انتهت إليها أشكال التنظم السابقة ـ الحزب الجمعية النقابة ـ التي هيمن عليها رأس المال وخنقها ثم ابتلعها فصارت تدور في فلكه وتدير أزمته كأجهزة للضبط والتوجيه عبر الشرائح البيروقراطية المتنفذة فيها والتي صارت تلعب دورا رئيسا كواسطات بيروقراطية سلطوية مرتبطة برأس المال في فرض وتمرير سياساته على الأغلبية المكونة من المنتجين والمعطلين وكل المفقرين في المدن والأرياف و مأجوري الدولة من موظفين ومدرسين ومن الباعة من أصحاب الدكاكين باعة التفصيل وغيرهم ومن الشباب المدرسي والجامعي.
سيادية أي عبرها يمكن فرض السيادة والسيادة هنا المقصود بها السيادة على القرار كل قرار أي كان سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو أمنيا أو عسكريا أو دبلوماسيا يعني أن الشأن العام كقرار وكسياسة وكتنفيذ هو شأن من مشمولات المواطنين المنظمين في مجالس مواطنية ولا يفوض إلى أي هيئة أو جهة أخرى. إن القرار بهذه الصورة ستكون المشاركة في صنعه وتنفيذه ومتابعته ومراجعته إن كان ذلك ضروريا مشاركة قاعدية واسعة وديمقراطية حقا. سيادية يعني تحقق مجتمع التسيير الذاتي والإدارة الذاتية - الذين يتحققان بتحقق مهمة التنظم الذاتي.
أفقية غير مرتبطة نافية لكل بيروقراطية وكل سلطوية يعنى أنها تنظيمات تحقق تنظم الأغلبية بشكل أفقي شبكي غير مرتبط برأس المال وبأجهزة رأس المال وبأدوات رأس المال. الأغلبية هي التسع أعشار أو أكثر من المواطنين الذي تطحنهم سياسات رأس المال وقمع بيروقراطياته و أجهزته لقد تبين الآن وبعد 3 قرون من محاولات الانتظام من داخل النظام الرأسمالي لتغييره أن المواصلة في نفس النهج عمل سقط تاريخيا في إعادة إنتاج الاستغلال والقمع والفوضى لقد تبين أن كل التنظيمات وحتى التي تقول عن نفسها شيوعية ناهيك عن النقابات والجمعيات والأحزاب القومية أو التي تسمي نفسها إسلامية صارت كلها لا قدرة لها غير ادارة أزمة رأس المال أي التداول على الحكم باسم البنوك والبورصات ولتنفيذ سياساتهم ضد الأغلبية المنتجة لفائض القيمة.
أفقية غير مرتبطة نافية لكل بيروقراطية وكل سلطوية تعني تنظيمات لإسقاط النظام وليس للتوافق معه.
أفقية غير مرتبطة نافية لكل بيروقراطية وكل سلطوية يعني تنظيمات تقويض لنظام العبودية الحديثة السائد نظام رأس المال ودولته وأجهزته وتنظيماته البيروقراطية.
تنظيمات أفقية غير مرتبطة نافية لكل بيروقراطية وكل سلطوية يعني تنظيمات ستجعلها مهامها ـ السيادة على القرار والموارد والمحاسبة والتسيير الذاتي والادارة الذاتية ـ قوة البناء الوحيدة التي يتيحها الحاضر والمستقبل على أنقاض تنظيمات الضبط والتوجيه البيروقراطية وعلى أنقاض ديكتاتورية حكومات السوق أجهزة تعميم الاستغلال والقمع والرعب مقابل مجرد العيش كعبيد.

30 ديسمبر 2023