تأملات سينمائية


حمدى عبد العزيز
الحوار المتمدن - العدد: 7534 - 2023 / 2 / 26 - 00:01
المحور: الادب والفن     

بالرغم أن علاقة السينما بالتاريخ بأبعاده وتفاعلاته التي تتم في سياقات مراحله المختلفة والمتنوعة ومواضع أحداثه الجغرافية والمكانية ودقة معالجاتها للعلاقات الإجتماعية التي تسود المراحل التاريخية المختلفة والمتباينة هي علاقة حافلة بالإشكاليات واختلاف مدارس المعالجة السينمائية لأحداث التاريخ وتفاعلاتها المجتمعية والتعامل مع تفاصيلها وماإلى ذلك من أمور ربما تستدعي الكثير من الجدل والمناقشات التي لاتنتهي .
.. إلا أن السينما بوجه عام تصلح كديوان للحياة المجتمعية بغض النظر عن طرق المعالجات أو ماتريد أن تقوله الأفلام السينمائية فرغم عن صناع الفيلم أو بإرادتهم أو حتى رؤيتهم الذين يريدون توصيلها من خلال استخدام إمكانات استخدام الآدوات البصرية والسمعية التأثيرية للسينما فإن الفيلم السينمائي يقدم لنا فكرة عن مفردات الحياة الإجتماعية للناس عبر التقاط كاميرات صناعه لتفاصيل صغيرة أثناء تصوير مشاهده بشكل اقرب إلى الحتمية السينمائية ..
فعندما تشاهد مثلاً فيلماً يرجع تاريخ صناعته إلى خمسينيات القرن الماضي فسترى أزياء هذا الوقت والآدوات التي يستخدمها الإنسان وطبيعة الشوارع والمباني وكذلك مفردات اللغة التي تنطق بها شخوص الفيلم وعناصره الثانوية لأن اللغة في النهاية كائن اجتماعي من حيث كونها تخضع لقوانين الواقع وشروطه ومتغيراته عبر التاريخ في التطور والتحور واتخاذ مسارات ناتجة ومعبرة عن طبيعة مسارات الحياة ذاتها ..
وكمجرد واحد من الأمثلة اللامتناهية في هذا الصدد .. اتذكر في أحد مشاهد فيلم (البنات والصيف) الذي انتج في 1960 نرى عبد الحليم حافظ يجلس إلى مكتبه ليكتب خطاب إلى حبيبته فنجد في يده قلم حبر وأمامه (دواية الحبر) وهذا مشهد يرتد بذاكرة من عاشوا في هذه الفترة ومابعدها بحوالي عشرة سنوات حيث كان القلم الحبر (الذي كان يملأ بالحبر السائل الأزرق سواء كان القلم بمكبس أو بشفاطة مطاطية) هو القلم المستخدم في الكتابة منذ تخطي التلميذ مرحلة الكتابة بالقلم الرصاص (ابتداء من الصف الثالث الإبتدائي تقريباً) بحيث كان امتحان الشهادة الإبتدائية لايسمح فيه إلاباستخدام القلم الحبر وبالطبع كان يسمح للطلاب ابتداءً من هذه المرحلة ومابعدها باصطحاب الدوايات (قنينة الحبر الزجاجية) وقطع النشاف الورقي لمعالجة حالات سيلان الحبر الزائد من القلم ، تذكرت كيف كنا عند انتهاء اليوم الدراسي نعود إلى منازلنا وأصابعنا مبقعة بالحبر الأزرق ، وهكذا حتى ظهر (القلم الجاف الحبر) الذي نعرفه الآن وظل لفترة طويلة يستخدم بالتوازي مع القلم الحبر السائل وإن كان لم يكن يسمح به في الإمتحانات والإختبارات والمكاتبات الرسمية حتى طغي استخدامه منذ اقتراب منتصف سبعينيات القرن الماضي وحتى تاريخه ..
القميص الذي يرتديه عبد الحليم حافظ في هذا المشهد كان قميصاً يحب أن يرتديه غالبية الصبية والشباب في مصر الستينيات إلى بدايات السبعينيات وكنا نسميه (الفانلة الهولانكا) ، وأنا شخصياً كافأني والدي بعد نجاحي في الشهادة الإبتدائية بأن اشترى لي (فانلتين هولانكا) بناءً على تحديدي لنوع المكافأة التي أفضلها وكان التيشرت الأول برتقالي والتيشرت الآخر أزرق (لاحظوا اللغة هنا تتطور وتتحور مابين مفرد فانلة وتيشرت وقميص) ..
ولنا أن نتخيل ماذا لو كان سيتم انتاج هذا المشهد في اللحظة الزمنية التي نعيشها .. بالطبع سترتدي الشخصية التي مثلها عبد الحليم حافظ ثياباً مختلفة (غالباً تيشرت مطبوع عليه كلمات بالإنجليزية فالهولانكا ومن بعدها المانجيتوه عفا عليهما الزمن) ، ومنطقياً لن تكون آدوات التخاطب ليست هى الورقة والقلم وقنينة الحبر وبالتالي لن تظهر في المشهد وسيظهر بدلاً من ذلك جهاز الموبايل أو اللاب توب وسيكون (الشات) بديلاً لخطاب الورقة والقلم ، أما عن الغناء فسيتخذ طريقة تصوير اقرب إلى (الكليب) والإيقاعات ستكون أسرع والموسيقي ستختلف لتكون موسيقي اللحظة الزمنية التي نعيشها ..
وبالطبع فيما لو تم انتاج فيلم سينمائي عن فترة زمنية سابقة فالبديهية ستقتضي الإلتزام بالتفاصيل المكانية والزمانية والسلوكيات المجتمعية السائدة في هذه الفترة الزمنية وطرزها المعمارية والملابس السائدة في ذلك. الوقت والآدوات المنزلية والشخصية المستخدمة وطريقة هندمة الناس لأنفسهم وحال الطبقات المجتمعية المختلفة وقتها وتعدد وسائل الحياة وآدواتها طبقاً للموقع الإجتماعي للشخوص وانواع السيارات ووسائل النقل التي كانت تستخدم في هذه الفترة وماإلى ذلك من سياقات تتعلق بالفترة الزمنية والتاريخية ومواضعها الجغرافية والمكانية ، وهذا موضوع آخر يتعلق بالمعالجات التاريخية للسينما والدراما ..
أخلص القول بأن السينما في كل أحوالها بغض النظر عن القيمة الفنية أو موضوعات أفلامها ومستوباتها فإنها تقدم دون قصد أو بقصد من صناعها فكرة عن مفردات الحياة الإجتماعية للفترة التاريخية التي انتج فيها الفيلم
، ومن هذه الزاوية تكمن أهمية بل وضرورة فن السينما في حياتنا ..