روزنامة الأسبوع: مَعَاكْ بِنْ لَادِنْ!


كمال الجزولي
الحوار المتمدن - العدد: 6935 - 2021 / 6 / 21 - 01:39
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

الإثنين
وطَّد من علاقاتنا انخراطنا الطلابي في ثورة أكتوبر المجيدة 1964م. كان ذكيَّاً، وسيماً، أنيقاً، خفيف الظِّلِّ، هاديء الطبع، حلو المعشر. التحق بالعمل، باكراً، مطالع السَّبعينات، في بعض المصالح الحكوميَّة ذات الصِّلة باقتضاء رسوم ماليَّة على بعض الملكيَّات العقاريَّة. لكنه اشتهر، رغم تعامله اللطيف، بأنه لا يجامل، البتَّة، في تطبيق القوانين واللوائح، بالغاً ما بلغت علاقته بالعميل، فارتفى بتلك الأمانة المشهودة سلم التَّراتبيَّة الوظيفيَّة، حتَّى جاء نظام الاسلامويِّين على صهوة انقلاب الثَّلاثين من يونيو 1989م المشؤوم، فوجده يشغل منصب نائب المدير العام. كان ديدنهم في تخريب الخدمة المدنيَّة إغواء كلِّ من يلمسون في عشرته لطفاً، وفي تعامله ليناً، بتنكُّب الاستقامة، مفسِّرين طيب الخصال بهشاشة الخُلق، وبالاستعداد الفطري للانحراف، فيجعلون مبلغ همِّهم تلويث صاحبها بالفساد، خدمة للمصالح الشَّخصيَّة لقادتهم ورموزهم الذين لا يملأ أعينهم سوى التُّراب! هكذا قصده، ذات صباح، أحد دهاقنتهم، مِمَّن يعملون، في الظَّاهر، بالقانون، ويتاجرون، خفية، في العملة! وبعد أن أخذ ضيافته فاتحه بأنه جاءه في شأن أحد كبارهم، واصفاً إيَّاه بـ «القدِّيس!» قائلاً:
ــ «لقد أمضى حياته يجاهد في سبيل الله، لذا لا يملك حتَّى بيتاً لأولاده، فاكتتبنا، وجمعنا مبلغاً اشترينا له به واحداً في أطراف الخرطوم، لكنه لا يملك رسوم تسجيله؛ ففكَّرنا في إشراكك معنا في عمل طيِّب يُكتب لك، حتماً، في ميزان حسناتك»!
وعندما علم الرَّجل من محدِّثه أن العمل «الطَّيِّب» هو إعفاء ذلك «القدِّيس» من تلك الرُّسوم، قال له بكلِّ لطف:
ــ «لو عرفت قانوناً واحداً يبيح إعفاء (القدِّيسين) من الرُّسوم، لسارعت لنيل الأجر»!
خلال الأيَّام التَّالية لم يترك الاسلاموي الكبير وسيلة لم يستخدمها لإقناع الرَّجل بألا يفوِّت اكتساب الأجر السَّماوي! على أنه، وقد خابت مساعيه جميعها، لجأ، ومن معه، إلى إغواء موظَّفة في أدنى السلم بأن «تقفز بالعمود» إلى منصب الرَّجل، بعد أن يزيحوه عنه، شريطة إعفاء «القدِّيس» من الرُّسوم! فقالت لهم، على الفور، «هيت لكم»، وفعلت! وخلال أيَّام «قفزت» إلى المكتب الفاخر، بعد إجلائه هو إلى «مكيتب» متواضع في طرف سوق شعبي، ليقضي فيه ما تبقَّى من مدَّة خدمته، والابتسامة الودودة تكاد لا تفارق شفتيه!
بعد الثَّورة حاولت استئذانه لأنشر حكايته، علَّ الغافلين، المتزاحمين بالمناكب، المتكأكئين على المناصب، ينتبهون إلى أن ثمَّة من هو أجدر منهم، أجمعين، بخدمة الثَّورة، لكنه استحلفني بالله، وبأولادي، ألا أفعل، فلم أملك سوى أن أرضخ. ولئن عدتُّ، اليوم، لأكتب حكايته بخلاف ما وعدتُّه، فلأنه ودَّع الفانية، في صمت، قبل أيَّام!

الثُّلاثاء
خلال حقبتي مايو ويونيو المظلمتين، عانى الإعلام والصَّحافة عموماً، والثَّقافة خصوصاً، من القمع، والتَّضييق، والتَّسخير، والاستغلال في خدمة الشموليَّتين، بحزبيهما المتسلِّطين، وأيديولوجيَّتيهما المتكلِّستين. وقبلهما عمد نظام نوفمبر إلى سدِّ جميع المنافذ في وجه حريَّة التَّعبير، بل ولم يستح من عقد مؤتمر صحفي صريح، في نفس يوم الانقلاب، تمَّ بثُّه للدَّاخل والخارج، حذَّر عبره الفريق عبود الإعلاميِّين والصَّحفيِّين، دون أدنى حياء، من تناول جمهرة موضوعات، بينها حتى أخبار الدُّول الأخرى!
في 3 مايو المنصرم احتفل العالم، وعلى رأسه الأوساط الصَّحفيَّة، باليوم العالمي للصَّحافة. وكان «إعلان ويندهوك» الذي نظَّمته اليونسكو في ناميبيا عام 1991م قد نصَّ على أنه لا يمكن تحقيق حريَّة الصَّحافة، وحريَّة التَّعبير، إلا في بيئة إعلاميَّة متكاملة تتمتَّع، أساساً، بالطلاقة والاستقلاليَّة.
في المستوى الشَّخصي، ومنذ عودتي إلى الوطن، عام 1973م، بعد تخرُّجي في كليَّة القانون الدَّولي والعلاقات الدَّوليَّة بجامعة كييف، في الاتِّحاد السُّوفييني «سابقاً»، ناصبني جهاز الأمن المايوي العداء، بسبب قصائد كنت نشرتها وأنا بالخارج، ورفض أن يتيح لي فرصة العمل بتخصُّصي في وزارة الخارجيَّة، كما رفض التَّعليم العالي، ابتداءً، اعتماد درجة الماجستير التي كنت حصلت عليها، بل اعتبروها، «فيرست»، في الحد الأقصى، ثمَّ تواصلت ملاحقتي حتى بعد أن اتجهت للعمل بالصَّحافة والتَّرجمة في «وكالة نوفوستي»؛ ثمَّ ما لبثت الملاحقة أن شملت برنامج «مشاوير» الذي كنت بدأت أقدِّمه من إذاعة أم درمان. وفي تحقيقاته مع مختلف المبدعين كان الجهاز يعمد إلى الإيعاز بالحذر من التَّعامل مع بعض الأسماء، ومن بينهم شخصي، وكمثال حاول الجِّهاز، في 1974م، دقَّ إسفين في العلاقة بين المرحوم الطيِّب محمَّد الطيِّب، وبين شوقي عز الدِّين وشخصي، لمَّا سعى للاستعانة بنا، في برنامجه التِّلفزيوني «صور شعبيَّة»، لمناقشة ما إن كانت الممارسة الإبداعيَّة للمرحوم حاج الصِّديق، بقرية الكسمبر، تمثِّل ضرباً سودانيَّاً من «مسرح الشَّخص الواحد»! وعندما يئس الجِّهاز من إمكانيَّة الحدِّ من نشاطي الثَّقافي، لجأ لاعتقالي، أواخر 1974م، ومعي شقيقي حسن طالب الثَّانوي، آنذاك، مِمَّا أدَّى إلى حرمانه من الجلوس لامتحان الشِّهادة السُّودانيَّة، ثمَّ فبركة قضيَّة ضدي حُكم عليَّ فيها، بموجب بيِّنات مختلقة، بالسِّجن عاماً ونصف، الأمر الذي احتجَّ ضدَّه صديقي الشَّاعر والمسرحي هاشم صدِّيق، مدرجاً إيَّاه ضمن أسباب استقالته من عمله أستاذاً بمعهد الموسيقى والمسرح، وكان، وقتها، في بعثة للدِّراسات العليا بكليَّة «E 15» بلندن. استمرَّت محاولة إرهاب زملائي في ندوة المرحوم عبد الله حامد الأمين الأدبيَّة بأم درمان، بسبب مشاركتي معهم، عام 1975م، في محاولة تأسيس أوَّل اتِّحاد للكتَّاب، فأشاع وزير الثَّقافة وثلة من عملائه، آنذاك، أن الحزب الشِّـيوعي يقف وراء المشروع، وأنني مكلف به، الأمر الذي أخَّر تنفيذه حتَّى ما بعد انتفاضـة أبريل 1985م! وفي 1976م طلب الصَّديق محمَّد عوض عبوش، مدير تحرير مجلة «الثَّقافة السُّودانيَّة» آنذاك، منِّي ومن الصَّديق الفنَّان التَّشكيلي محمَّد عمر بشارة، نشر قصيدتي «أضعفُ العشَّاق في الدُّنيا وأقواهم أنا»، مصحوبة بـ «النَّص البصري» الموازي لها من أعمال بشارة. لكن فنَّاناً تشكيليَّاً آخر يعمل، في ذات الوقت، أستاذاً بكليَّة الفنون، وربَّما متعاوناً، أيضاً، مع جهة ما (!) لعب في أذن اسماعيل الحاج موسى، وزير الثَّقافة والإعلام، بتأويل سياسي للعملين جعله يأمر عبوش بعدم نشرهما. بعد بضعة أشهر من ذلك زارني في البيت الصَّديق محرِّر الملحق الثَّقافي لصحيفة «الأيَّام»، وقتها، الرِّوائي والنَّاقد عيسى الحلو، واطلع على العملين، فعبَّر عن إعجابه بهما، وقرَّر نشرهما، ولم يكن على علم بتجربة «الثَّقافة السُّودانيَّة». فلم تكد تمض أيَّام حتَّى بعث الوزير، مجدَّداً، يستدعي عيسى، ويأمره بعدم النشر، منبِّهاً له بأن كلي الصَّحيفة والمجلة مملوكتان لـ «الاتِّحاد الاشتراكي»، فلا يجوز أن تنشر إحداهما مادَّة حُظر نشرها في الأخرى!
أمَّا النِّظام البائد فتجاربي معه عديدة، أغربها ليلة «زارني» ثلاثة من عتاة أمنه عبر منور ضيِّق أعلى باب حديدي لزنزانة خرصانيَّة كنت محبوساً بها انفراديَّاً، عام 1992م، في «بيت أشباح» شارع البلديَّة بالخرطوم! كان الوقت صيفاً، والسُّحائي يتهدَّدنا بـ «فرَّاره»، والسَّخانة تكاد تجدع الأنوف الشُّمَّ، وتثقب العيون المتلهِّبة، حين أطلت الوجوه الثَّلاثة من المنور، آخر الليل، تزعم أنها مكلفة بـ «محاورتي»، بل وبعرض «الوزارة» عليَّ .. كدا عدييييل: «اختر أيَّ وزارة، وسنأخذك إلى بيتك، وفي نشرة الثالثة بعد الظهر ستسمع خبر تعيينك»! ولمَّا رآني أضحك حسبني أستكثر المنصب على نفسي، فقال لي أطولهم وأنحفهم: «ولِمَ تستبعد ذلك؟! ألا ترى إلى فلان وقد صار وزيراً»؟! أغضبني سوء تفسيرهم لردِّ فعلي؛ فقلت لهم: «لعلمكم، أنا أعرف قدر نفسي جيِّداً، ولا أحبُّ ادِّعاء التَّواضع الزَّائف، كلُّ ما في الأمر أنني أستغرب هذا الحوار، وهذا العرض، في هذا المكان، وهذا الزمان، فلو قبلت ستقولون جبان، ولو رفضت ستقولون أحمق»! وبعد برهة صمت واصلت: «الأوفق إطلاق سراحي بلا شروط. وبعدها اعرضوا ما تريدون، وساعتها يمكنني أن أختار بحريَّة»! لم تجز عليهم تلك الحيلة، فتبادلوا ابتسامات خبيثة، وغلدروا مع آذان الفجر!
تلك بعض نماذج ما خبرت، شخصيَّاً، من الأنظمة الشُّموليَّة. أمَّا الوضع الانتقالي الحالي فبسبيله للتَّحسُّن رغم البطء والتَّراخي. وفي مناسبة 3 مايو حيَّا الرَّئيس حمدوك الإعلاميِّين عموماً، والصحفيِّين خصوصاً، بما يشمل، دون شك، المفكِّرين وكتَّاب الرأي، مؤكِّداً ألا عودة إلى عهود معاناتهم من قتل، وتعذيب، واعتقال، وسجن، وتشريد، وملاحقة، لا لشئ سوى عدم قدرة الأنظمة الشُّموليَّة على إدراك أهميَّة الرأي الآخر. وإلى ذلك تباهى حمدوك، والحقُّ معه، بالقفزة الواسعة التي حقَّقها السُّودان، هذا العام (2020م ــ 2021م)، بتقدُّمه 16 مرتبة إلى الأمام في مؤشِّر حريَّة الصَّحافة العالمي، ليحتل الموقع 159، مقارنة بموقعه العام الماضي، حسب منظَّمة «مراسلون بلا حدود» العالميَّة المستقلة. وكان من الممكن، يقيناً، أن يحرز موقعاً أكثر تقدُّماً، لولا ملاحظة المنظمة استمرار «كتائب الجِّهاد الصَّحفي» في مراقبة الصَّحفيِّين، والكتَّاب، والتَّجسُّس عليهم، وهي فلول تَّابعة للنِّظام البائد، ولا تمتُّ لمهنة الصَّحافة بصلة، وتتكوَّن من عناصر أمنيَّة سابقة تنشط، حاليَّاً، في صفوف الثَّورة المضادَّة!

الأربعاء
كلما مررت بشارع النيل بأم درمان، قبالة المسرح القومي، دقَّ قلبي بذكرى الفكي عبد الرحمـن عمـر الشِّـبلي الذي وُلد بتنقاسـي في 1933م، وتوفي ببحـري عام 2002م.
غادر الفكي تنقاسي، مع أسرته، إلى عطبرة في 1937م، والتحق بالدِّراسة في بخت الرضا في 1944م، وعيِّن مدرِّساً فيه عام 1950م، وابتعث إلى مصر لدراسة المسرح في 1953م، وإلى بريطانيا لدراسة التربية في 1956م، وعيِّن مديراً للمسرح القومي في 1967م، وطوال مشواره المهني، ظلَّ يتَّسم بالكاريزميَّة الرَّفيعة، والمعرفة الواسعة، والخبرة الثَّريَّة، واقترن تعيينه مديراً للمسرح القومي بتحوُّل هائل في تاريخ هذه المؤسَّسة شكلاً ومضموناً.
منذ اليوم الأوَّل لتسنُّمه ذلك العمل شُغل الفكي بتصحيح أرضيَّة المنصَّة، بتحويلها إلى خشبة بدلاً من بلاط، الأمر الذي كان له أكبر الأثر على نقاء الصَّوت، ووضوحه؛ كما اهتمَّ بتحسين الإضاءة، واستجلاب ستارة احترافيَّة من الصِّين. أمَّا الصَّالة فقد عُني بديموقراطيَّة المشاهدة منها، حيث أزال الفوارق الطبقيَّة بين الألواج ومقاعد التِرسو، واحتفظ، فقط، ببضعة مقاعد أماميَّة لكبار الضِّيوف والزُّوَّار مِمَّا كانت تقتضي الضَّرورة. ومنع أصطحاب الأطفال، كما حظر إدخال الأكل، أو التسالي، أو زجاجات البارد إلى الصَّالة، وإلى ذلك شيَّد مكاتب العاملين، والمطعم، والمرافق الأخرى التي يحتاجها الجُمهور. كما أفرز مسطبة شهيرة كانت تُعقد فيها النَّدوات لمناقشة العروض، وإجراء الحوارات الجَّادة حول المدارس والتَّيَّارات المسرحيَّة المختلفة.
من جهة المضمون يعود الفضل للفكي، منذ توليه الإدارة عام 1967م، في العمل بنظام المواسم المسرحيَّة المعمول به في كبريات المسارح العالميَّة. وأولى اهتمامه للعمليَّات الفنيَّة التي استهدفت النصوص السُّودانيَّة في المقام الأوَّل، من حيث التَّمويل، وتوفير الإمكانيَّات، الأمر الذي ساعد على إنتاج مسرحيَّات ذات قيمة رمزيَّة تاريخيَّة، كـ «المك نمر» لابراهيم العبَّادي، و«خراب سوبا» لخالد ابو الرُّوس، جنباً إلى جنب مع مسرحيَّات معاصرة وحديثة، كـ «نبتة حبيبتي» لهاشم صدِّيق، و«حصان البيَّاحة» ليوسف عايدابي، على سبيل المثال، فضلاً عن اهتمامه بالمسرح العربي، مثال «حفلة سمر لأجل 5 حزيران» لسعد الله ونُّوس، والأفريقي، مثال «الأسد والجَّوهرة» لوولي شوينكا، والعالمي، مثال «بيت برناردا ألبا» لغارسيا لوركا.
إلى ذلك عمل الفكي على اجتذاب العناصر المثقَّفة الشَّابَّة من المسرح الجَّامعي، خصوصاً، للعمل بالمسرح القومي، كعثمان جعفر النِّصيري، وعلي عبد القيُّوم، فانطلقت حركة مسرحية منهجيَّة جادة. كما اتاح فرص الدِّراسة والتَّدريب للعاملين، من خلال البعثات التَّخصُّصيَّة.
ولأن ذلك التَّاريخ الوضَّاء ما كان له أن يُكتب لولا الفكي، فقد ظللت اقترح، المرَّة تلو المرَّة، إطلاق اسمه على المسرح القومي، من باب الوفاء، وهأنذا أفعل للمرَّة الألف .. لو ناديت حيَّا!

الخميس
عندما قررت، الأسبوع الماضي، استبدال هذه الرُّوزنامة بروزنامة «وداع الأمير»، كنت قد خصَّصت، أصلاً، هذا اليوم لمفاوضات جوبا. فسجَّلت ما بدا لي من أن الأمور لم تكن تمضي على أفضل ما يرام، بل وربَّما ليس على أقلِّ من ذلك بكثير! ففضلاً عن الخلاف حول التَّرتيبات الأمنيَّة، ليس ثمَّة من يستطيع أن يحدِّد مصدر الغضبة التي أعادت الرَّفيق عبد العزيز الحلو إلى حديث «العلمانيَّة» بعد أن «انتهينا» منه في أديس مرَّة، ثمَّ في جوبا مرَّتين، وبوجه خاص ضمن مخرجات ورشة «الدِّين والدَّولة»، بما قرَّبنا كثيراً من فرادة نموذج الإجماع الذي كان حقَّقه، قبل زهاء ربع قرن، مؤتمر أسمرا للقضايا المصيريَّة، بمشاركة الرَّاحل جون قرنق! دع تلويح وفد الحركة بـ «تقرير المصير»، و«الوحدة الجَّاذبة»، و«المشورة الشَّعبيَّة»، كأنَّنا ما غادرنا محطة «نيفاشا» قيد أنملة، بل وطرحوا من الأجندة ما لا يملك أيٌّ من الطرفين تفويضاً، قدر قلامة ظفر، لحسمها، كتـسمية جـنوب كـردفان «جبال النُّوبا»، والنِّيل الأزرق «الفـونج»، وهلمَّجرَّا!
وفي السِّياق لم تفتنا الإشارة إلى أن جوبا التي فيها ما يكفيها، باتت تدفع لـ «التَّشاؤم» من عدم كفاية تمديد التَّفاوض أسبوعاً، حسبما قرَّرت الوساطة أوَّل الأسبوع الماضي، رغم «تفاؤل» الفريق توت قلواك! فمساعِدتَا فوكلر في بعثة يونيتامس الأمميَّة كريستين وستيفاني، أصرَّتا على الانضياف إلى عوامل «التَّشاؤم»، ضغثاً على إبالة، بقرارهما إقصاء «خبيرة شِّيوعيَّة»، دون وجه حق، من طاولة المشاركة في مناقشة القضايا النِّسائيَّة، ما دفعها للعودة إلى الخرطوم، احتجاجاً، قبل، حتَّى، بدء الجَّولة، وذلك حتف أنف محدوديَّة دور البعثة الأمميَّة الذي لا يسمح للمساعِدتين بأن «تنحشرا» في «أزقَّة» الصِّراعات الحزبيَّة الضَّيِّقة!
على العموم ما كادت تنقضي سوى بضعة أيَّام حتَّى اضطرَّ الطرفان إلى تعليق التَّفاوض، حسبما أعلنت الوساطة بالثُّلاثاء 15 يونيو 2021م. ولا نحتاج لأن «نرمي الودع»، أو «نضرب الرَّمل»، كي ندرك أن أهمَّ الأسباب هي: غياب الإرادة السِّياسيَّة، وتناقضات المكوِّنين المدني والعسكري، وانعدام ثقة كلِّ طرف في الآخر!
الشَّاهد أن الجَّولة فشلت، رغم أنها لم تهدف، أصلاً، لغير «اتِّفاق إطاري». أمَّا ما ذكره البيان الختامي حول بلوغها تفاهمات على معظم المحاور، فمجرَّد .. طق حنك!

الجُّمعة
نهاية الأسبوع الأوَّل من يونيو الجَّاري، قامت عناصر من جيش الاحتلال الاسرائيلي في القدس بتقديم أحد أبأس «عروضها» التي تعكس الخسَّة، والجُّبن، والانحطاط الأخلاقي، وذلك لمَّا تكأكأوا، مجنَّدين ومجنَّدات، كما الكلاب المسعورة، أمام أنظار العالم أجمع، على الإعلاميَّة الفلسطينيَّة المعروفة، مراسلة قناة الجَّزيرة، جيفارا البديري، العزلاء إلا من كاميرتها وأوراقها، زاعمين، بلا ذرَّة حياء، أنها اعتدت على إحدى المجنَّدات الإسرائيليَّات! والواقع أنه لم يعُد خافيا لدى كلِّ ذي بصيرة، منذ أن بدأت إسرائيل، خلال الأسابيع الماضية، هجماتها الوحشيَّة على الفلسطينيِّين، أنها أضحت تخسر، يوميَّاً، على غير العادة، ذلك التَّعاطف التَّقليدي القديم لأجهزة الإعلام الغربيَّة، بل والأعجب .. حتَّى الإسرائيليَّة! فبالتَّزامن، على صفحتيهما الأوليين، نشرت «النيويورك تايمز» الأمريكيَّة، بعنوان «كانوا مجرَّد أطفال»، و«هآراتس» الإسرائيليَّة، بعنوان «هذا ثمن الحرب»، صور الأطفال الفلسطينيِّين الشُّهداء، الذين تتراوح أعمارهم بين 5 ـ 16 عاماً، والذين تسـاقطوا، كأزهار الرَّبيع الملوَّنة، أمام قصـف الآلة الحربيَّة الصَّهيونيَّة!
أعظم ما في الهبَّة الفلسطينيَّة الأخيرة أمور ثلاثة دون مفاضلة: وحدتها، من القدس، إلى غزَّة، إلى الضِّفَّة، إلى أراضي 1948م، برغم سنوات التَّشرذم التي فرضها عليها التَّحالف الصُّهيوني الإمبريالي؛ وعفويَّتها التي أكَّدت أن قرار الحراك الجَّماعي يظلُّ معقوداً بإرادة الشَّعب وحده، وسلميَّتها المحروسة بعنف القوَّة الثَّوريَّة المنظَّمة!

السَّبت
تشكِّل الأمثال خلاصة تجارب الشُّعوب، وحكمتها المتوارثة. وكلما زاوج المثل بين البلاغة والبساطة، كلما ارتفع شأنه، وازداد تأثيره، وعظمت حُجَّته في دعم وجهة نظر من يستعين به، ولذا تقوم الأمثال دليلاً على حيويَّة الشَّعب، ورفعة ثقافته، ورجاحة عقله، وعمق إحساسه. ومن يتأمَّل أمثال دارفور، سرعان ما يدرك فداحة الجرائم المرتكبة بحق شعوب تتحلى حكمتها بمثل هذه العراقة. ومن هذه الأمثال عميقة الدَّلالة:
«لصِّيق الطين في الرِّجلين ولا ببقى نعلين ـ جراداي في سروال ولا بأدّي (يعضِّي)، إلا قؤادو (قعاده) ولا هلو (حلو) ـ نيَّة كن في، ناس بنومو في عوداي، وبغطو بي خيطاي ـ شدر ولا بهوزز برا، يا أبلاي يا هبباي - دنيا دبنقا، دردقي بشيش (الدبنقا إناء من القش والطين توضع فيه الغلال، لكنه هشٌّ سهل الكسر) ـ بِغطي نارو بالعويش (يقولونها لمن يحل المشكلة بمشكلة) ـ آريِّي ما بدوم لأشيّ (العاريَّة لا تدوم للعشيَّة) ـ شدرة كان وقأت بتكي فوق إخيُّو (الشجرة في طريق السُّقوط تتكئ علي أختها) ـ القنطـور اصلو تراب ـ أرنب السُّلطان بقود الفيل ـ جبل من بئيد (بعيد) املس ـ الما إندو (عنده) سروال ولا بفنقل»!

الأحد
مولانا عبد الرءوف ملاسي، قاضي المحكمة العليا، ورئيس الجِّهاز القضائي بالبحر الأحمر، رجلٌّ يتَّسم، على رفعة منصبه، بالزُّهد، ويتحلى، على وقاره، بحبِّ الطُّرَف. أحرص، كلما أخذني العمل إلى بورسودان، أن أزوره، فأجده بالعرَّاقي والسروال السَّاكوبيس، يفترش أرض مكتبه، وحوله أكداس من الملفَّات والمستندات، إذ لم يعُد، بسبب الغضروف اللعين، مستطيعاً العمل، منذ سنوات طوال، إلا على ذلك النَّحو! وظلَّ، لورعه، لا يكتفي بإرسال عمل المحكمة، دوريَّاً، بالسِّرك، إلى رئاسة السُّلطة القضائيَّة في الخرطوم، إنَّما يأخذه بعربة الجِّهاز ليسلمه هناك بنفسه!
في إحدى زياراتي له، خلال منتصف التِّسعينات، وكانت شوارع المدينة متروسة، وقتها، بنقاط التفتيش، روى لي كيف أن عسكريَّاً هدندويَّاً مدجَّجاً بالكلاش أوقفهم، في بداية إحدى رحلاته إلى الخرطوم، وسأل السَّائق عن هويَّتهم ووجهتهم، رغم أن العربة رسميَّة، بل وعلى جنبتيها اسم الجِّهاز القضائي. لكن العسكري لم يكتف بإجابة السَّائق، وإنما انحنى يحدِّق في ملامح مولانا الشَّرقأوسطيَّة، وبشرته البيضاء، ولحيته الكثَّة الطويلة يخالط سوادها الشيب، سائلاً إيَّاه عمَّن يكون؛ فتلبَّست مولانا، لحظتها، روح النُّكتة، فأجابه مداعباً: «معاك أسامة بن لادن»! غير أنه فوجئ بالعسكري يضرب له تعظيماً شديداً، ويفسح للعربة، صائحاً بأعلى ما في حباله الصَّوتيَّة من حماس: «إتفضَّل يا شيخنا»!

***